وعندما يكون صاحب المدونة، كاتبا وناقدا محترفا، فهو ينشر كتاباته عادة، في جهات عدة، أو من خلال الجهة التي يعمل لها، وباستخدام كل الأشكال المطبوعة والمسموعة والمرئية المتاحة له. لكن المدونة تظل شيئا آخر، فهي فضاء إضافي للتنفس بعيد عن قيود العمل الصحفي التقليدي وحساباته الخاصة، وخارج حدود المسموح والممنوع في كتابة النقد السينمائي والثقافي عموما.
ولذا أصدرت هذه المدونة قبل عام، لأنني باختصار شديد، لا يمكنني نشر كل ما أريده بالطريقة التي أريدها وعلى المساحة التي أتطلع إليها في الصحف والمطبوعات والمواقع الأخرى التي أعمل أو أكتب لها بشكل احترافي، رغم ما أتمتع به أنا شخصيا من حرية أوسع كثيرا من غيري كوني أعمل لمؤسسة لا تتحكم فيها الرقابة العربية أو الحكومات العربية التي لا تطيق أي معارضة تتجاوز نطاق المسموح من طرف أجهزتها.
ومنذ أن صدرت هذه المدونة قبل عام على وجه التحديد (أي في الثاني من أغسطس 2008) وقد أخذت على عاتقي التطرق، بكل حرية، إلى قضايا الفن والفكر والسياسة والمجتمع والسينما، بعيدا عن إرهاب كل من يلوحون لنا بسيوف القهر كونهم نشأوا وتربوا في مجتمعات القهر، ولم يتخلصوا بعد من عقدة "الرقيب" ورجل الأمن.
وقد نشرت في هذه المدونة ومازلت أنشر، مقالات نقدية، ودراسات، وآراء وتعليقات، ونقد للأفلام العربية والأجنبية، كما نشرت مذكرات وذكريات وتأملات شخصية، بحرية تامة، كما كتبت عن رحلاتي ويومياتي من مهرجانات مختلفة، ونشرت انطباعاتي الخاصة، وصوري وصور أصدقائي من أرشيفي الخاص، وهو ما أرى أنه في صلب فكرة التدوين التي تختلف، كما قلت، عن الصحافة "الموضوعية" العامة المقيدة، سواء أعجب هذا البعض أم أثار غيظه!
وقد تناولنا هنا قضايا السينما والنقد، وتعاملنا نقديا مع عشرات الأفلام والقضايا والظواهر، من تاريخ السينما، ومن حاضرها، من مهرجاناتها الدولية والعربية، ومع كتابها ونقادها وذاكرتها وكتبها وصحفها. ولكننا في الوقت نفسه تطرقنا إلى المؤسسات الثقافية والقائمين عليها مثل الرقابة ووزارات الثقافة والمؤسسات السينمائية وبعض المهرجانات الهزلية التي تسيء إلى السينما في رأيي، أكثر مما تفيدها.
وبكل أسف أقول إن هذه المؤسسات الفاسدة، والتظاهرات المتعفنة، يديرها بالضرورة أشخاص، يتحملون مسؤولية أو وزر ما تجود به علينا، وبالتالي ليس هناك مناص من التعرض لهؤلاء الأشخاص، وذلك في إطار نقد الظاهرة الأشمل وليس اهتماما بالاشخاص في حد ذاتهم. فليست هناك قضية مع أشخاص، وفي اليوم التالي الذي يتخلون فيه عن مسؤولية ما يديرون من مواقع، تنتهي قضيتنا معهم لتبدأ مع من يتولون بعدهم مواقع المسؤولية، فالبحث عن الحق والخير لا يجب أن يتوقف، ومقاومة الاستغلال والانتهازية والتخريب والفساد لا يجب أن تنتهي بل إنها مهمة كل كاتب حقيقي ومثقف حقيقي.
وربما تكون كتابات نقدية من هذا النوع قد أزعجت بعض من يقرأون هذه المدونة، دون أن تجعلهم يتوقفون عن التردد عليها يوميا، مرات عدة أيضا كما نعرف جيدا، فهؤلاء يعتبرون "الجرأة" في النقد خروجا عن الحدود التقليدية التي درجوا عليها.. حدود الموالاة والانصياع والتبعية لكل مسؤول حتى يتغير ويأتي غيره فيلحقون بذيل القادم الجديد.
وهنا أود القول إنني لم آت أصلا إلى عالم الكتابة والنقد لكي أرضي المؤسسات السينمائية وغير السينمائية والقائمين عليها، أو الباحثين عن التذيل لها والارتزاق منها، وابتزازها حينا، ثم الممالئة معها حينا آخر. وجزء من مهمتنا تتلخص في فضح مثل هذه المؤسسات والأفراد لذلك كان من الطبيعي أن يغضب علينا هذا الصنف من الكائنات. وغضبهم علينا شهادة لنا بأننا نسير في الاتجاه الصحيح.
لقد جئت أساسا إلى عالم الكتابة، لكي أقلق، وأزعج، وأدعو إلى نسف القديم السائد المتخلف، وإلى تغيير الدنيا والعالم عن طريق الفكر الجديد المتحرر من الأفكار المتعفة الاقطاعية البالية السائدة، وإلى مواكبة التقدم الثقافي الموجود على الساحة العالمية، وإعادة النظر في المسلمات المتخلفة القائمة التي تحكم نظرتنا الثقافية منذ قرون، وتقيدنا وتحول بيننا وبين الانطلاق لكي نصبح جزءا فاعلا من العالم، لا نكتفي بدور المستهلك، أو المتباكي على تاريخه المفقود، والملتحف دائما بلحاف المؤامرة المستمرة ضده وضد وجوده منذ فجر التاريخ حتى الآن.
ومن يريد أن يتفهم هذا ويتعامل معه، فأهلا به إلى هذه المدونة، وسنواصل معا ما بدأناه. أما من يجد نفسه سعيدا في استسلامه للثقافة السائدة، فلديه الكثير جدا من المنابر القائمة التي يمكنه أن يذوب في أحضانها وتذوب هي فيه، فيسعدان ببعضهما البعض.. بعيدا عنا بالطبع.
وأخيرا.. إذا كانت السينما عند البعض، وسيلة للارتزاق والغش والوصولية، فنحن على استعداد لأن نترك لهم تلك السينما.. شريطة.. أن يتركوا لنا الحياة!