الأربعاء، 24 يونيو 2009

خالد يوسف.. ماذا يحدث داخل "دكان شحاتة"؟


المخرج خالد يوسف متهم من قبل "بعض" صناع الأفلام في مصر بـ"إفساد السينما"، وجعلها "مبتذلة"، ومتهم من قبل بعض الذين يكتبون عن السينما أيضا، بأنه لا يصنع سوى أفلام "جنسية"، ويميل إلى الإثارة والمبالغة، وهو بالتالي يقوم بالتضليل بل و"الاستغلال" بمعنى exploitation سواء للذين يظهرون في أفلامه أو للجمهور. من جهة أخرى هناك من يعتبرونه زعيما سياسيا، ومصلحا اجتماعيا، يتناول قضايا المجتمع ويقوم بتشريحها بكل ما في ذلك من قسوة، ويرى هؤلاء أن هذا هو كل ما يهم، أي القدرة على توصيل رسالة سياسية شجاعة.
الجدل الدائر بين أنصار وأعداء خالد يوسف اشتد بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم "حين ميسرة"، ثم "الريس عمر حرب". وقد اتهم الفيلم الأول بتشويه سكان الأحياء العشوائية، والتحامل عليهم، انطلاقا من فكرة "شعباوية" ترى أن الفقراء أو المحرومين أو المهمشين هم بالضرورة، من الملائكة (ولعل المخرج الراحل الكبير صلاح أبو سيف كان مسؤولا على نحو ما عن شيوع تلك الفكرة)، أما الأثرياء فهم من الأشرار بالضرورة، خاصة إذا كانوا من طبقة رجال الأعمال، وهو تبسيط ساذج للأمور، وإن كانت الدراما التليفزيونية تحديدا، قامت ولا تزال على هذا النوع من المعادلات الساذجة.
لم يكن هناك أي استغلال في "حين ميسرة" ولا إساءة، بل "رؤية" تعبر عما يراه صاحبها، تماما كما كانت رؤية مجدي أحمد علي من خلال سيناريو هناء عطية الذي تبناه في "خلطة فوزية" تميل إلى إبراز الجوانب الإيجابية لدى سكان تلك المناطق، دون أن يعني هذا أن هذا على صواب وذاك على خطأ، أو أن هذا يلغي ذاك.
والحقيقة أن خالد يوسف ليس مخرجا "استغلاليا"، على الأقل ليس أكثر استغلالا- إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة أصلا- من غيره من المخرجين، كما انه ليس مصلحا اجتماعيا أو سياسيا، حتى لو كانت أحاديثه تمتليء بالآراء والأفكار السياسية، فهو أساسا، سينمائي، أداته الكاميرا وشريط الفيلم وليس العمل السياسي الحزبي المنظم أو غير المنظم.
وهو ليس من يتسبب في تدهور السينما المصرية، ولا أنه يقصد أن يستخدم الجنس من أجل دغدغة مشاعر الجماهير، بل لأنه يرى أن الجنس مكون أساسي في الإنسان، بل وعند البعض أيضا "هاجس" لا حيلة لهم فيه .
أستطيع القول إن خالد يوسف واحد من أهم المخرجين العاملين اليوم في السينما المصرية، رغم أن ما يقدمه من أفلام يقع في معظمه في دائرة "الميلودراما". وقد كانت معظم أفلام يوسف شاهين من نوع الميلودراما أيضا بل وأفلام صلاح أبو سيف أيضا. وقد أصبح صب اللعنات على خالد يوسف شبيها بما تعرض له في الماضي، المخرج الراحل حسن الإمام، صاحب البصمة المميزة في السينما المصرية بأفلامه الميلودامية الشهيرة، وقد أصبح في فترة ما "المشجب" الذي يعلق عليه السينمائيون خطاياهم.
ومهما قلنا عن أفلام خالد يوسف فهي تعبر عن رؤيته ونظرته للدنيا وللعالم، بصدق، ومن خلال "المنهج" أو الأسلوب السينمائي الذي يفضله. وليس هناك عيب في اختيار الميلودراما أسلوبا في السينما. ولعل أفلام السينمائي الإسباني الأشهر بيدرو ألمودوفار أفضل مثال على ذلك. وربما يمكن أن يصبح خالد يوسف "ألمودوفار السينما المصرية" إذا توخى الحذر في التعامل مع سيناريوهات أفلامه، بحيث يخلصها تماما من الإسقاطات والإحالات السياسية المباشرة، ويكتفي بالتعامل مع "الدراما" الكامنة في شخصياتها وبنيتها، بلغته وأسلوبه، وأن يعرف أين يتوقف ومتى، ويتيح مساحات للتنفس والتأمل في أفلامه.
ولعل هذا المدخل تحديدا ينطبق أفضل ما يكون، على فيلم خالد يوسف الأحدث "دكان شحاتة" الذي يعتمد على سيناريو لناصر عبد الرحمن.

الصراع على الملكية
يروي هذا الفيلم قصة صراع على الملكية: ملكية الدكان وملكية المرأة. هذا الصراع يدور بين ثلاثة أشقاء أصغرهم "شحاتة" الذي كان الأقرب إلى نفس والده "حجاج" البواب الذي يرحل بعد أن يخص ابنه الأثير إلى قلبه بالدكان، فيتآمر الشقيقان سالم وطالب على شقيقهما شحاتة ويلفقان له تهمة يسجن بسببها ثم يخرج بعد سنوات لكي يبحث عنهما، ليس بغرض الانتقام كما يمكن أن نتصور، بل للعودة بشكل ما، إلى كنف الأسرة، لرأب الصدع القائم بينه وبينهما، وتحقيق المصالحة، لكن الدماء تسيل لأن النصالحة بين الخير والشر مستحيلة، وتنتهي حياة شحاتة، كونه لا يدرك عمق ما وقع من تغيير المجتمع والأسرة والدنيا بأسرها.
تدور أحداث الفيلم في الفترة من 1981، أي منذ اعتيال الرئيس أنور السادات، إلى عام 2013 ، أي بعد سنوات قليلة من الزمن الحالي، وعندها يقدم الفيلم رؤيته أو تصوره المستقبلي لمسار الأزمة الاجتماعية في مصر، فنرى الرجال في نهاية الفيلم يتقاتلون في الشوارع بالسكاكين على شحنات القمح ويتصارعون من أجل الحصول على مياه الشرب.
وخلال تلك السنوات الثلاثة والثلاثين أو نحو ذلك، ينتقل السرد السينمائي بين الأزمنة مرات عدة، ويرصد الفيلم ويشير ويتوقف أمام عدد من التطورات أو المتغيرات ذات الطابع السياسي والاجتماعي في مصر، أو يحيلنا إليها: اعتقالات 1981، الانفتاح الاقتصادي وتأثيره على فئة الحرفيين وكيف يتحول شقيقا شحاتة (طالب وسالم) من طبقة بائعي الفاكهة إلى طبقة السمسارة والمقاولين، كيف يتزوج "البلطجي" الجاهل "كرم" من طالبة في الثانوي "إنجي" دلالة على الخلل الاجتماعي الذي حدث، وكيف تصبح هناك سفارة إسرائيلية في القاهرة، وكيف يصبح ابن اليساري المثالي السابق (الدكتور ونيس) وحشا من وحوش الانفتاح بعد وفاة والده، غرق العبارة المصرية في البحر الأحمر ومصرع أكثر من ألف شخص، حريق قصر ثقافة مدينة بني سويف، تزوير الانتخابات في 2005، وصولا إلى جنازة المخرج يوسف شاهين، وغير ذلك.
أما المحور التراجيدي للفيلم فيتركز حول علاقة الحب التي تربط بين شحاتة، والفتاة الحلوة "بيسة" (التي تقوم بدورها هيفاء وهبي)، بينما يرغب شقيق شحاتة "سالم" في بيسة ويريد أن ينتزعها من شقيقه، ويضغط على شقيقها "البلطجي" كرم ويغريه بالمال، لكي يزوجها له بعد أن يسجن شحاتة، ولكن بيسة لا تستسلم لسالم، فلا يصبح أمامه سوى أن ينالها بعد الزواج بالاغتصاب، وفي محاولة للهرب من الزواج الذي أرغمت عليه تحاول الانتحار بالقفز من الطابق السابع لكنها تنجو. وينتهي الفيلم بمقتل شحاتة على يدي شقيقه سالم.

الإحالات السياسية
كان من الممكن أن تنجح هذه "التركيبة" الميلودرامية التي تمتليء بالكثير من مشاهد العنف والمبالغات التي لا يمكن لأحد أن يصدق إمكانية حدوثها في الواقع، لو أن خالد يوسف ابتعد عن "تسييس" وقلص أو ألغى تماما إحالاته السياسية الآلية التي جعلت فيلمه يبدو كسلسلة من "الاسكتشات" المفككة التي لا تضيف جديدا على مستوى الوعي بالموضوع لأنها لا تقدم سوى شذرات عابرة سريعة ربما حتى تتوه من عين المتفرج في خضم المشاهد الكثيرة التي يزدحم بها الفيلم.
إن مشكلة خالد يوسف الحقيقية ليست في قدرته كسينمائي، فهو مخرج يملك بلاشك، القدرة على التعامل الجيد مع الممثلين بسيطرة مدهشة، وكذلك مع الكاميرا ويجيد استغلال امكانيات المكان، كما تتميز اختياراته لزوايا التصوير التي تمنح اللقطة أكبر شحنة عاطفية، ولديه أيضا قدرة على تنفيذ مشاهد العراك والمشاجرات والمشاهد التي يستخدم فيها أعدادا من الممثلين الثانويين (الكومبارس) وتقطيع لقطاتها ببراعة، ومنحها قوة تأثير على الجمهور. وهو أيضا يجيد التعبير عن المشاعر الداخلية كما يتبدى مثلا في مشهد مناجاة الأب "حجاج" (محمود حميدة) لولده شحاتة، حين يدور الحديث بينهما عن الموت، وفيه تتضح براعة الحوار وتلقائيته وجمال الأداء التمثلي بين محمود حميدة الذي يصل في هذا الفيلم إلى قمة النضج الفني، وعمرو سعد الموهية الجديدة الصاعدة بقوة في عالم التمثيل السينمائي.
أما المشكلة الحقيقية فتتجسد في أن خالد يوسف يتبنى نفس الحيلة الدرامية التي كان يتبناها يوسف شاهين في "أفلامه السياسية"- إذا جاز التعبير، مثل "العصفور" و"عودة الإبن الضال" و"اسكندرية ليه". هذه الحيلة تقوم أساسا، على فكرة المعنى المزدوج للشخصيات أو المستوى المتعدد لها، فالشخصيات الرئيسية (وأحيانا الثانوية أيضا) لها بعدين: بعد يتمثل في كونها شخصية تتحرك في الواقع ، وبعد آخر له دلالة رمزية يختزلها عادة في فكرة سياسية أو اجتماعية: هنا مثلا يمكن القول إن حجاج (الأب) هو نموذج لأبناء الطبقة المطحونة التي وجدت مجتمعا ينصفها في عهد جمال عبد الناصر، فقامت بدور إيجابي في ذلك العهد، ثم انحسر دورها في عهد السادات، فأصبح حجاج بوابا في "فيلا" يملكها يساري من الزمن الماضي أيضا هو الدكتور "ونيس". وحجاج يرفع صورة عبد الناصر على جدار الدكان زيادة في التأكيد على انتمائه. أما شحاتة الإبن المفضل عند حجاج الذي أنجبه من الزوجة الثانية بعد أن خانته الزوجة الأولى التي أنجب منها الشقيقان سالم وطالب، فهو امتداد لوعي حجاج الاجتماعي أيضا، في حين أن سالم وطالب: ابنا الخائنة، نموذجان للصعود الطبقي الشبق في زمن الانفتاح في عصر السادات. أما كرم غباوة الذي يردد أمثلة شعبية مبتورة لا يفهم معناها معظم الوقت، فهو نموذج العصر الحالي الذي لا يطرح رؤية ولا رؤية مضادة بل يسير سيرا عشوائيا تماما مثل كرم. وهو على استعداد لبيع شقيقته لمن يدفع أكثر، (أو من يملك العقد الصحيح للدكان.. الملكية.. المال). ويعرف كيف يلعب ويستغل الواقع المتحول الجديد في مصر، كما أنه على استعداد لتوظيف عنفه في خدمة الحكومة من أجل تزوير الانتخابات.
أما "بيسة" الحلوة الجذابة، فهي رمز البراءة المعتدى عليها في مصر، وإن كانت لا ترقى إلى أن تصبح رمزا لمصر نفسها على شاكلة بهية مثلا في "العصفور".
إن "دكان شحاتة" أقرب في إطاره العام إلى "عودة الإبن الضال" فهو مثله، صراع داخل أفراد أسرة واحدة تحت وطأة التحولات الاجتماعية أو بالأحرى هنا، التدهور الاجتماعي، كما كان فيلم يوسف شاهين صراعا داخل أسرة في اطار سياسي واضح بعد أن غاب الزعيم وضاعت البوصلة، وعاد الإبن الواعد الحالم مهزوما محطما عاجزا، وصعدت طبقة محل أخرى.
لكن الفرق أن شاهين كان يعرف كيف ينتقل بين الرمز والواقع، بين المعنى المباشر إلى الدلالة الرمزية، من الاجتماعي إلى السياسي، بعيدا عن المبالغات وعن الإحالات المباشرة، كما كان يعرف أيضا كيف يصوغ أفكارع في بناء سينمائي متماسك يملك، رغم إطاره الميلودرامي العام، لحظات تألق شعري أيضا خاصة في "عودة الإبن الضال" الذي اعتبره من أفضل أفلامه.

البطل والملحمة
أما خالد يوسف في "دكان شحاتة" فهو يلجأ إلى الإحالات السياسية المباشرة لكي يجعل فيلمه هذا أسهل في الوصول للجمهور، لكنه من الناحية الفنية يفقد تماسكه ويصبح أشبه بالتعليق الدرامي الثقيل على التطورات السياسية والاجتماعية، وعملا يفتقد رونق السينما وجمالها، الذي يكمن في الإيحاء، والهمس، والتوقف للتنفس والتأمل، كما أن حشد عشرات الشخصيات دون أي داع، فقط من أجل تأكيد الفكرة نفسها مجددا، يخرج الفيلم عن محوره الدرامي. هناك مثلا شخصيات لا أرى لها أي ضرورة في سياق الفيلم مثل الشقيقة نجاح (غادة عبد الرازق)، وشخصية "البرص" ومحاولته الاعتداء على شحاتة أولا ثم مصادقته له ودوره في المذبحة النهائية.
وهناك أيضا الكثير الاستطرادات والثرثرة البصرية تتمثل في عدد من المشاهد الزائدة عن الحاجة خصوصا مشهد العودة إلى الماضي أو المشاهد المتخيلة بين حجاج وشحاتة (في القبر بعد دفن الأب) كمثال. وهناك أيضا الكثير جدا من الصراخ والعويل والهستيريا والمبالغات في الأداء، وتكرار الرغبة في الاضحاك عن طريق تكرار التأكيد على غباء "كرم" وهو ما ينقلب إلى عكس المقصود فتصبح الشخصية محببة للجمهور، وبعض المشاهد الساذجة التي كان يتعين استبعادها في المونتاج مثل تهديد بيسة بالانتحار بصب الكيروسين على جسدها أكثر من مرة، والمبارزة بالتحطيب بين كرم وشحاتة قبل أن يوافق على زواجهما، بينما التعامل بلعبة التحطيب بهذا الشكل اختبار للرجولة في الأصل، في حين أنه ليس من الممكن اعتبار كرم "البلطجي" رمزا لأي رجولة بل للخسة والنذالة.
أعود مرة أخرى لكي أقول إن خالد يوسف يكون في أضعف أحواله، وهو يمزج أو بالأحرى، يقحم السياسي بالاجتماعي، وعندما يخلط بين الشخصية الواقعية والشخصية الرمزية.
وإذا كان خالد يوسف قد اتبع هذا الأسلوب من أجل صنع عمل ملحمي أقرب إلى السيرة الشعبية مثلا فهو لم يوفق في هذا. ومرجع ذلك أن السيرة الشعبية أو الملحمة، لا تصنع في سياق سردي narrative من هذا النوع أو على هذا النسق، بل يجب أن تروى في سياق له طابع واحد، وباستخدام الموسيقى والغناء بطل مختلف تماما، دون انتقالات وقفزات بين الأزمنة، ودون افراط في استخدام مشاهد الماضي، بل من الأفضل أن تسير الدراما دائما إلى الأمام، ومن المهم أن يتضح البعد الرمزي في الشخصية من البداية، وأن يتماثل المتفرج معه ويتوحد: فهل يمكن اعتبار "شحاتة" في إطار هذا الفيلم "بطلا شعبيا" يتوحد معه المتفرج بينما وعيه بالمحيط الاجتماعي مجرد صفر كبير، حتى بعد مروره بتجربة السجن؟
إنه لا يقاتل ضد أعداء طبقيين، ولا يتحدى سلطة ظالمة، ولا يرغب في الحصول على الحق لأصحابه، بل هو متنازل سلفا عن حقه حتى في الحب، فكل ما يريده هو الانتماء لأسرة تفككت بالفعل بعد موت الأب، بل إن كراهية أخويه له كانت واضحة من البداية. فعن أي شيء يدافع بطل خالد يوسف هذه المرة؟
إنه ليس "المخلص" الذي نعرفه في السيرة أو الملحمة الشعبية، فمن هو؟ إنه لا يخرج عن إطار "الضحية".. ضحية الظلم والتحولات.. فهل يصنع البطل- الضعيف- – الضحية- الذي لا يتطور وعيه بالدنيا من حوله، بطلا شعبيا في عمل ملحمي.
إنني مازلت بعد هذا كله، على قناعة بأن خالد يوسف مخرج جيد، يثير من خلال أفلامه الكثير من النقاش والفكر، ويجتريء على الكثير من المحرمات في السينما السائدة، وإن كان يعمل من داخل هذه السينما نفسها. ولو كان قد اكتفى فقط بالجانب الاجتماعي الذي يتعلق بالصراع داخل العائلة في فيلمه لربما جاء الفيلم أكثر قوة في دلالاته السياسية مما حدث بعد أن مزجه بالتعليقات والإحالات السياسية المباشرة، التي لم تأت من داخل العمل، ولا من بفعل الحتمية الدرامية للفيلم نفسه، بل من ذهنية خالد يوسف السينمائي "المثقف".
وأنا أخيرا، على قناعة بأن خالد يوسف سوف يصل إلى السيطرة على الأسلوب ويصبح مخرجا متفردا عندما يعثر على لغته الخاصة التي تعبر عنه بصدق، بعيدا عن أي إحالات قسرية.

إقرأ أيضا في هذه المدونة: عن خالد يوسف وافلامه الجنسية


((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))

الأحد، 21 يونيو 2009

ماذا بعد أن غرقت السفينة؟

هذه اللقطة من فيلم "دكان شحاتة"


((هذه الرسالة تلقيتها أخيرا وأثارت في الكثير من الشجون والآلام لذا رأيت أن أخصص لها مكانا بارزا وأن أرد عليها بقليل من الاستفاضة)).

تحياتى أستاذ أمير:
انطلاقا من مقالاتك عن جماعة سينما الغد والحركة الطلابية فى السبعينات مع الوجود الحالى لمحاولة الوزير فاروق حسنى الترشح لمنصب اليونسكو اسمح لى أن أشارك حضرتك بهذه التساؤلات (أو الهواجس) عن مستقبل الثقافة المصرية , هل هناك أمل أن تعود نوادى السينما فى جامعاتنا الى وضعها الذى كانت عليه فى السابق. إن كانت كل المشاريع الثقافية قد اجهضت فى زمن الانفتاح فهل جيل الشباب الحالى قادر على تكوين جيل جديد يكمل مسيرة سابقيه. قضيت عاما كاملا- بلا رجعة - فى كلية حقوق القاهرة وكل ما أستطيع قوله أنه فى ظل هذا الجيل قد نجد فى خلال العشرين عاما القادمة مشروع قانون لتحريم السينما وسائر (الأعمال الوثنية الاخرى) يكفى أن تفتح حوارا جانبيا مع شخص يفترض أنه فى اتحاد الطلبة (مسؤول عن الأنشطة الثقافية) بشأن ناد للسينما، ليحدثك عن الذنوب والاختلاط والعرى وتشويش عقل الشباب (أو يريح دماغه ويقولك ايه الكلام الفاضى ده .. احنا ناقصين فنانات ومسخرة) فهل أصبح السبيل الوحيد للعودة هو حدوث ثورة تعصف بكل شئ، أم هناك - ربما -حل أخر؟
فى النهاية حديثى هذا لا يخص اتجاه واحد بل يعنى بالحركة الثقافية المستقبلية فى بلادنا. وهدفى هو فتح تصور عام لما يمكن أن يكون عليه الوضع وطرق المواجهة باعتبار حضرتك صاحب تجربة داخل الأوساط الطلابية وفيما بعد الأوساط الثقافية العامة.

خالص التحية
عمر منجونة

** الصديق العزيز عمر يطلب مني ربما أكبر مما أملك.. أسئلة كبيرة قد تحتاج إلى كتاب كامل لاستعرض تدهور النخبة المثقفة وتدهور الوعي الطلابي بعد أن كان صوت الطلاب يهز عرش السادات ونظامه في السبعينيات ثم استشراف مستقبل الثقافة المصرية. لكن المشكلة أنه حتى الكتاب في حالة ما استطعنا انجازه، لن يصل إلى الطلاب والشباب والمتطلعين إلى حركة جديدة للوعي لأسباب كثيرة، وحتى إذا اقترضنا أنه وصل وقرأه المعنيون بالأمر، فلن نسمع بعد ذلك أكثر من "الله ياأستاذ.. هذا كتاب جميل فعلا.. أعطانا صورة شاملة لما حدث".. وسيظل السؤال قائما: وماذا بعد؟ أي ماذا سيحدث بعد صدور الكتاب وبعد انتهاء التشخيص؟
كان لدى أنور السادات، تعبير أثير يردده في قمة الأزمات والتحديات التي يواجهها نظامه دائما، فقد كان يردد والغضب يرتسم على ملامح وجهه: أنا بطبعي متفائل!
وأنا لن أردد هنا مقولة السادات الزائفة، فلست من أنصار التفاؤل الزائف، ولا الإيحاء بالأمل الخادع، فالواقع نفسه لا يدعو إلى التفاؤل على المدى القريب على الأقل، بل إنني أرى مزيدا من التدهور والانهيار في الطريق حتى تستقر السفينة الغارقة على القاع تماما، ثم يبدأ الباقون على قيد الحياة في داخلها في البحث عن طوق للنجاة أو عن مخرج لهم، وساعتها لن يتشبثوا بالأسباب التي كانت وراء الغرق.. وإن كنت لست على ثقة من ذلك تماما، فسيظل هناك دائما بعض الذين يدمنون خداع الذات بالأوهام.
إن ما نراه حاليا يشير إلى عدة أسباب لهذا الغرق:
1- طبقة حاكمة فاسدة حتى النخاع، رموز هذه الطبقة يسترون فسادهم بادعاء أنهم يعملون من أجل الشعب وإنهم ليسوا في حاجة أصلا إلى مناصب الوزراء وغيرها فلديهم أعمالهم التي تدر المليارات، وأنهم ينفقون من جيوبهم على الوزارة.
2- طبقة وسطى (عمود أي مجتمع) متدهورة، متلاشية، فاسدة، فاقدة كل القيم الحقيقية، متلحفة بمظاهر اللوثة الدينية (لم يعد غريبا أن ترى أطباء ينصرفون عن المرضى الذين يحتاجون إلى اسعافات عاجلة من أجل أداء الصلاة.. فهل يجرؤ أحد من أهالي المرضى على نهرهم). هذه الطبقة فقدت الثقة بنفسها، كما فقدت الثقة بالعالم، وأصبح اهتمامها بالثقافة هامشي أو شبه منعدم، فهي مشغولة أكثر بالبحث عن لقمة العيش بأي طريقة حتى لو كانت الرشوة، وتبرير تقاعسها عن القيام بدورها حيال النخبة الحاكمة الفاسدة.
3- نخبة مثقفة مصابة بفصام الشخصية، أصبح أهم شيء عندها هو الصراخ ضد أمريكا وإسرائيل، واستعراض قوة حنجرتها في التظاهر من أجل العراق وفلسطين، لكنها لا تثور ولا تتظاهر بشكل جاد من أجل قضايا الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة والتقدم في الداخل، ولا تسعى حتى في أحلامها المؤجلة إلى تغيير النظام الحاكم.
4- احتلال مباشر للشارع من قبل قوة تتلحف بالدين بينما هي قوة سياسية فاشية، يدعمها الكثير من أعضاء النخبة حتى من القوى الوطنية الديمقراطية بدعوى: فلنعطها فرصة.. هي أحسن من السلطة لأنها ليست فاسدة.. من غيرها يمكنه أن يكون البديل.. هم لم يجربوا الحكم دعهم يجربون ثم يفشلون..إلخ
بدون أسلحة ولا دبابات ولا مدرعات، ولا أجهزة مخابرات كما حدث في إيران مثلا، سقط الشارع المصري بمفاهيمه وأفكاره واستنام لحزب سياسي فاشي وتبنى دون أن يدري شعاراته لأنها "مريحة" مثل الأدوية المنومة، فأنت عندما تعلن فشلك في العثور على أي حل لقضايا مجتمعك وتحيله إلى الله وحده عز وجل، لكي يتولى نيابة عنك النزول من عرشه والتدخل المباشر في التاريخ الأرضي، فأنت تعلن الاستسلام التام والتخلي عن القيام بأي دور فاعل في التاريخ الأرضي وهو ما يناقض كل التعاليم السماوية التي تحض على العمل وعلى الجد والاجتهاد (بل لقد بتنا نرى من يستدعي الله في مباريات كرة القدم لكي ينصر مثلا فريق الزمالك على الأهلي، وعندما يفوز الأهلي يقول أنصاره إن الله كان يريد أن ينتصر الأهلي.. وهذه كلمات نسمعها يوميا في إعلام الدولة المفككة، يبتلعها المثقفون والمتثاقفون بدون إبداء أي استغراب.. وكأن الله ينزل عن عرشه لكي يتدخل بنفسه في تحديد نتيجة مبارة كرة قدم.. فمن الذي يملك الاعتراض على أي عبارات يرد فيها اسم الله)!
في إيران نجح هذا الحزب في أن يحكم السيطرة على رقاب العباد رغما عنهم إلى أن فاض الكيل وطفح بالإيرانيين، فخرجوا إلى الشوارع أخيرا في انتفاضة أظن أنها ستستمر حتى الإطاحة بنظام غير طبيعي، في حين أنه نجح في مصر بدون أي حاجة إلى قهر ولا دبابات ولا مخابرات وقبل أن يصل إلى السلطة الفعلية بل يدعي أنه مازال في المعارضة.. لذلك فالأمر أكثر تغلغلا وأكثر خطورة، والأمل أضعف كثيرا في الانتفاضة على هذا الحزب الفاشي وتعاليمه بل وكل الأحزاب الأحادية المشابهة وعلى رأسها الحزب الحاكم بأمره!
طبيعي إذن أنك عندما تطالب بناد للسينما أن يصبح هذا معادلا لنشر الفجور والعري والإباحية.. والشباب في معظمه، حتى من يدرس منهم علوم الكومبيوتر والتكنولوجيا الحديثة، أصبح يعتنق أكثر الأفكار جنوحا إلى الغيبية واللامنطق بل إن أي محاولة لدفعهم للتفكير مرفوضة سلفا، وأي شيء "مختلف" عما اعتادوا عليه يرفضونه بل ويرفضون مناقشته، فهذا "خارج عن الجماعة" أو عن الفكر السائد، لأنه يهز القناعات السائدة، أو "مستورد" ووراءه "مؤامرة غربية".. وطبيعي أن مجتمعا بأسره يخضع لفكرة المؤامرة المستمرة ضده لا يمكن أن يصنع التقدم.. فهناك تصور خرافي يتمثل في أن الأنظمة الغربية لا تنام الليل قبل أن ترسم مؤامرة ضدنا، تستهدف قيمنا وعقائدنا (بينما عقائدنا هذه مستقرة لا يمسها أحد منذ أكثر من 14 قرنا). هذا الفكر الذي يعبر على نحو ما، عن الهزيمة العميقة والشعور بالدونية، يخضع في الوقت نفسه لأفكار أخرى تغالي في التطرف الشوفيني مثل فكرة أننا "الأفضل والأعظم والأعرق والأكثر تحضرا" في حين أننا فشلنا حتى في ضبط نظام البالوعات في شوارعنا بحيث لا تحتك بها السيارات أو تنقلب عجلاتها داخلها!
الحركة الطلابية القائمة حاليا هي حركة تعبر عن فقدان البوصلة والهدف بل والاتزان لأن السفينة غرقت بالفعل.. فهي حركة ضد التقدم، وضد العقل، وضد التاريخ، توهم نفسها بأنها جزء من الحركة الوطنية بينما هي جزء من الحركة النازية المعادية لمسار الحركة الوطنية تاريخيا، التي لم تعرف هذا الارتداد ولا هذا التردي ولا هذه الدروشة، ولا هذا العداء الشرس للحداثة والعقل باسم الدين بينما تتناقض كل السلوكيات اليومية مع منهج الدين وجوهره. لقد تحول طلاب العلم إلى رقباء على الفكر والفن باسم الأخلاق القويمة والقيم، وأصبحوا يشهرون كتاب الله في وجه كل من يخالفهم، فهل يقدر أحد أن يخالفهم!
عن أي سينما إذن نتكلم.. وعن أي نواد للسينما في الجامعة.. وقد أصبحت الجامعة مكانا للقبح في المظهر والسلوك بل والأفكار.
لا أنس أبدا شخصيا منظرا رأيته بنفسي وأنا أحاضر ذات يوم من عام 2002 في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وأمامي صف كامل من الطالبات المنقبات.. تصدر عنهن بين الحين والآخر ضحكات جريئة.. فأي اغتراب وأي اغتراب.. جامعة بمثابة نافذة للنور.. أصبحت مكانا للظلام.. ثقبان يلمعان من وراء حجب سميكة باسم تجنب العورة والحرام والشيطان والشهوة والمعصيات. ومجتمع بهذا النفاق لا يمكن له أن يتقدم.. فقط يتعين علينا أن ننتظر إلى حين تستقر السفينة فوق القاع.

الجمعة، 19 يونيو 2009

فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية": إشارات ومفردات ما بعد الحداثة

تقديم:
((كتبت عن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" من قبل مقالا عند عرض الفيلم في مهرجان لندن السينمائي (2006) لكني أعدت الكتابة عنه بطريقة أكثر تعمقا وتفصيلا ضمن فصل من كتاب جاهز للنشر حاليا لدي باسم "سينما الخوف والقلق". ورأيت بعد نشر مقالي التحليلي لفيلم إيليا سليمان "الزمن الباقي" أن أنشر هذا المقال الذي يسبح في الاتجاه المعاكس للمقال السابق ويوضح للقارئ الفرق بين فيلم حداثي وآخر تنطبق عليه بشكل مدهش أهم مفردات ما بعد الحداثة وهو مدخل نقدي ربما لم يتطرق إليه النقاد الغربيون الذين تناولوا هذا الفيلم، فقد انصب اهتمامهم أساسا على الجانب السياسي الذي بدا معتدلا- أمير العمري)).
(1)

أثار الفيلم الإسرائيلي "زيارة الفرقة الموسيقية" The Band's Visit اهتماما نقديا كبيرا منذ عرضه في الدورة الستين لمهرجان كان السينمائي (مايو 2007).
وقد حصل الفيلم على جائزة فرعية في كان، هي الجائزة الثالثة التي تمنح للأفلام التي تعرض خارج المسابقة الرسمية في قسم "نظرة خاصة" أي خارج المسابقة، تسمى جائزة أكثر الأفلام المؤثرة عاطفيا Coup de Coeur .
أما في إسرائيل فقد حصد الفيلم 8 جوائز من بين 14 جائزة في المسابقة السنوية الرسمية للسينما الإسرائيلية التي تقام على غرار الأوسكار، منها جائزة أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن تمثيل وموسيقى، كما حصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان القدس السينمائي.
ولعل ما أثير من ضجة واهتمام كبير في الصحافة العربية، وما أثاره الفيلم من جدل في الأوساط السينمائية في مصر وغيرها، يعود أساسا إلى التصريحات التي أطلقها مخرجه عيران كويليرين، حينما أكد مرارا أنه يرغب في عرض فيلمه في العالم العربي، وأنه يعتبره "فيلما عربيا" على نحو ما، وأنه صنعه من أجل التقارب مع الآخر وتحقيق التفاهم، بل وإنه على استعداد لنزع كل عناوين الفيلم وأسماء العاملين فيه باللغة العبرية ووضعها بالعربية من أجل أن يعرض "كفيلم عربي" على حد قوله.
الزاوية "السياسية" في التعامل مع فيلم "زيارة الفرقة" ليس من السهل تجاهلها، فهذا أساسا فيلم إسرائيلي تظهر فيه شخصيات مصرية وإسرائيلية داخل إسرائيل، في إطار من الموسيقى والشعر والبوح، والتعبير المتبادل عن مكنونات الذات، وكلمات الحب، والانتصار في النهاية للتواصل وضرورة الفهم المشترك وعبور الماضي.
ولكن ما الذي يستند إليه الفيلم في طرحه لهذا الموضوع الواضح تماما منذ أول لقطة من لقطاته؟
يصور الفيلم كيف تصل فرقة موسيقية مصرية إلى إسرائيل ولا تجد أحدا في انتظارها في المطار، ثم تضل طريقها في أحد ايام السبت، العطلة الأسبوعية اليهودية، وبدلا من أن تبلغ مقصدها وهو بلدة بتاح تيكفاه، حيث تقصد مركزا ثقافيا عربيا بدعوة لإقامة حفل موسيقي هناك، تجد نفسها في قرية إسرائيلية تدعى بيتا تيكفا تقع في منطقة صحراوية معزولة.
الفرقة مكونة من 8 أفراد يرتدون ملابس عسكرية زرقاء لا نظير لها في الواقع في مصر، ويطلق عليها في الفيلم "فرقة شرطة الإسكندرية للموسيقى الكلاسيكية" وهي أيضا فرقة متخيلة تماما حيث لا نظير لها في الواقع المصري.
وبعد أن يدرك الجميع المأزق، يحاول رئيس الفرقة اللواء توفيق زكريا (ساسون جاباي) تدبر الأمر، فيتجه إلى مقهى تملكه امرأة إسرائيلية تدعى دينا لكي ترشده إلى الطريق فتقول له إنهم لا يستطيعون التوجه إلى البلدة الأخرى اليوم لأن المواصلات انقطعت، ولا توجد فنادق في هذه القرية، ثم سرعان ما تبدي كرما وأريحية مدهشة عندما تستضيف أولا أفراد الفرقة على الغذاء، ثم تدبر لهم أماكن للإقامة في بيتها وبيت أحد معارفها.
وخلال اليوم تقترب الشخصيات العربية والإسرائيلية من بعضها البعض، يتعرف توفيق على حقيقة "دينا" الإسرائيلية التي تعاني من الوحدة والملل في تلك القرية المعزولة في الصحراء، وتتعرف هي إلى ما يكمن وراء شخصيته من حزن نبيل.
من جهة أخرى يقيم العازف الشاب في الفرقة ويدعى خالد، علاقة صداقة مع شابين إسرائيليين أحدهما عاجز عن التعامل مع الفتيات، يعلمه خالد كيف يتعامل مع فتاة تحاول الاقتراب منه، ويعطيه درسا في الحب من خلال الشعر الصوفي العربي القديم.
اللواء توفيق قائد الفرقة يقضي المساء مع دينا التي تصحبه إلى الخارج، وتتجول معه في البلدة الصغيرة، وتحدثه عن اعجابها بالأفلام المصرية القديمة التي اعتادت مشاهدتها، وتروي له كيف كانت الشوارع تخلو من الناس في اسرائيل وقت عرض الأفلام المصرية بعد ظهر يوم الجمعة من كل اسبوع، وكيف أصبحت تعشق كلمات الغزل والحب في تلك الأفلام، وكيف تأثرت بأداء فاتن حمامة وعمر الشريف، حتى أصبحت حياتها - كما تقول- فيلما عربيا.
إنها دعوة إلى ليلة من الحب لا يستطيع اللواء بتكوينه المحافظ الذي ينتمي إلى الماضي قبولها، بينما يقبلها خالد الشاب المتحرر من قيود الماضي.
بعد أحداث ذلك اليوم وتلك الليلة، لا تعود الشخصيات إلى ما كانت عليه، بل تصبح أكثر فهما لبعضها البعض، وأكثر قدرة على الاستمتاع بطعم الحياة، ولو من خلال الموسيقى والشعر والغناء. وفي النهاية يرحل أفراد الفرقة نحو هدفهم، وتبقى كلمات الحب التي نستمع إليها من خلال الغناء الجميل.

(2)
المغزى الأساسي للفيلم هو الدعوة إلى ضرورة التقارب والفهم المشترك، ونبذ الماضي القائم على الحروب والصراع والكراهية والأحقاد. لهذا السبب، ولأن هذه "الرسالة" تأتي من الطرف الأقوى، الذي يفرض إرادته يوميا في الواقع على الأطراف الأخرى، فإنها تجد كل هذا الاستقبال الحماسي من جانب الجمهور في المهرجانات الغربية، فياله من "تسامح جميل"، بل و"تنازل" من جانب الطرف الأقوى للطرف الأضعف.
إلا أن الاستقبال النقدي المبالغ فيه للفيلم يستند أساسا، إلى رسالته "الإنسانية"، وإلى محاولته الموازنة بين الطرفين: من طرف هناك التعاطف الإنساني والرغبة في التقارب (لدى الطرف الإسرائيلي)، وهناك، لدى الطرف الآخر، العربي، التاريخ والفن والحس الفني الصوفي والغناء.
إن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" من نوع الأفلام التي توصف في أدبيات النقد السينمائي بالـ miniature أي الأفلام الصغيرة البسيطة المحدودة التي لا تقوم على بناء مركب من الشخصيات والتفاصيل الفنية المعقدة فشخصياته محدودة، فالبناء فيه أقرب إلى "الاسكتشات" المسرحية، التي تعتمد على الأداء، وتغيب عنه "الحبكة" تماما، فهو يعرض للشخصيات دون أن يهتم بخلق أي صراع درامي بينها، لكنه مع ذلك، يصدر الكثير من الإشارات التي تتولد من خلال العلاقات الخفية بين الشخصيات التي تسري تحت جلد السطح الساكن للفيلم، المجرد من الأحداث الكبيرة.
يقص الفيلم حكاية بسيطة مفترضة، لا علاقة لها بالواقع بل تعكس ما يتمناه صانعه وما يحلم به، في شكل سردي تقليدي، تلتقي فيه الشخصيات وتفترق خلال يوم وليلة.
ويتعمد المخرج تجريد الموضوع من الجوانب الأساسية في العلاقة بين العرب والإسرائيليين عموما، أي السياسة والتاريخ، تاريخ الحروب والنزاعات المسلحة، فالشخصيات لا تقترب من السياسة أو الحديث عن الماضي وآثار الماضي، لا من قريب ولا من بعيد.
والمجتمع الإسرائيلي، من خلال تلك البلدة الصغيرة أو المستوطنة، لا تتبدى فيه أي آثار للعسكرة أو لوجود الدولة من خلال الشرطة مثلا، حتى مع وجود فرقة من الغرباء تسير في شوارع البلدة يرتدي أفرادها الملابس العسكرية، ويحملون حقائب ضخمة منتفخة.
كذلك ليس هناك أي مظهر من مظاهر الرفض أو العنصرية تجاه الغرباء أو حتى مجرد حب الاستطلاع الذي قد يدفع البعض من سكان البلدة إلى التعرض لهؤلاء العرب الغرباء بأي شكل من الأشكال، والشخصيات الإسرائيلية التي تتكلم في الفيلم لا تعبر عن القلق أو عن الخوف من تجدد الحروب أو من صواريخ تنطلق من قطاع غزة على قريتهم الجنوبية.. لا شئ سوى السكون والحياة العائلية التي تعاني من الملل والرتابة وقد تسبب بعض المشاحنات بين الأزواج.

(3)
هذه "اليوتوبيا" مقصودة تماما لتبيان التناقض: أولا هناك التناقض بين المظهر الخشن لأفراد الفرقة الموسيقية بملابسهم العسكرية، والاسترخاء الناعم في الطرف الاسرائيلي من خلال شخصية المرأة (دينا).
فرقة "الذكور" المصرية يحمل أفرادها آلاتهم الموسيقية الطويلة المنتصبة، فهم "الذكر" القادم من الخارج، المقتحم فجأة ودون سابق إنذار، لم يكن مقصده إسرائيل بل ما يسمى بأراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
أما إسرائيل فهي ليست مجتمع الكيبوتز الخشن الذي تشارك نساؤه بالسلاح في حراسته مع الرجال، بل واحة سلام ودفء، يعادلها المطعم والمقهى، ترعاها إمراة ناعمة متفتحة للحب والحياة، تفور بالرغبة، في الذوبان داخل ذلك الآخر.
هناك من ناحية إذن مصر، العرب، الآخر، العدو السابق الذي لا يزال مترددا في مد يد الصداقة، وهو هنا "مذكر" متجهم، الجيل القديم فيه عاجز عن الفعل (العجز الجنسي عند توفيق)، في مقابل الجيل الجديد الذي يبدو أنه ولد بعد اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل، وهو يتمثل في "خالد"، المتطلع إلى الحياة بقوة، المتحرر من قيود الماضي وعداءاته، الراغب من طرفه أيضا في الاقتراب من الآخر الإسرائيلي والامتزاج معه وكأنه يلتقي بأصدقاء جدد يحملون ملامح إنسانية خالصة.
وهناك من ناحية أخرى الاسرائيليون الذين يتجسدون إما في شباب يتطلع إلى اللهو والعبث والسهر واللعب مثل اي شباب في العالم (لا أحد يبدو أنه يخدم إجباريا في الجيش أو يتدرب على مواجهة اي عدو بل يرحب ببساطة بالغرباء ويسعى لاقامة علاقات معهم)، أو مثل ذلك الشاب العاجز بدوره عن فهم الجنس الآخر أو التعامل معه على الصعيد العاطفي، أو يتجسدون في أزواج يعيشون حياة "عادية" طبيعية، يتشاجرون ويختلفون معا، لكنهم على استعداد للاستماع والانصات إلى صوت الآخر ورسالته.
وتتمثل الرسالة القادمة من ذلك الآخر في الموسيقى والغناء الرومانسي الشاعري. لكن النغمة الجديدة التي يسعى للوصول إليها ذلك العازف المصري الذي تستضيفه أسرة إسرائيلية في منزلها لقضاء الليلة، ظلت – كما يقول- تخذله طيلة سنوات. إلا أنه يدرك، بمساعدة اصدقائه الجدد، أن ما أبدعه منها قد يكون كافيا، قد يكون هو النغمة الكاملة التي يتعين عليه التوقف عندها وعدم تعذيب نفسه بفكرة أنها ناقصة.
إنها إيحاءات غير مباشرة وتنويعات على فكرة قبول الأمر الواقع، القناعة بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، التصالح مع النفس كبداية للتصالح مع الآخر.
هنا يتدخل ذلك العربي الغريب (خالد) بثقافته الرومانسية، لكي يعطيه درسا في الحب. وخالد هو نفسه الذي يقيم علاقة جنسية واضحة وصريحة مع دينا الإسرائيلية، التي تختصر وتلخص هنا إسرائيل نفسها.
فعلى العكس من "ذكورة" المصريين، هنا إسرائيل هي الأنثى المسالمة الوديعة المعطاءة، التي ترحب بالغريب وتمنحه كل وسائل الأمان: الطعام والشراب والفراش بل والحب أيضا.
لكن الجنرال توفيق عاجز عن الحب، بسبب مشاكل الماضي المؤلمة: انتحار ابنه واحساسه بالذنب نتيجة لذلك. وهو جزء من ذلك الماضي، ماضي الصراع والتوتر والقلق، لكنه لا يستطيع التخلص منه بسهولة، وما حوار "دينا" معه طيلة الأمسية التي تقضيها معه، في المقهى ثم في مكان شاعري على مقعد تحت الأشجار على إضاءة رومانسية، إلا دعوة لنسيان الماضي، ودرس في الأمل والتفاؤل والقدرة على الحب، ولذلك يقول لها توفيق في نهاية الأمسية وهما في الطريق إلى بيتها: "أنت امرأة عظيمة حقا".
إنه فقط يصل إلى حالة تصالح مع نفسه بعد تلك الأمسية التي يقضيها في الخارج مع المرأة الإسرائيلية "دينا" التي تعطيه بدورها، درسا في الإقبال على الحياة، في التخلص من الماضي، في التطلع إلى مستقبل يمتلئ بالحب والأمل.
وعندما يتطلع توفيق في وقت لاحق من تلك الليلة فيرى دينا تمارس الجنس مع خالد، ينفجر في الغناء العاطفي بسعادة غامرة "أنا أحببت" دلالة على استعادته توازنه العاطفي والنفسي.
إنها صورة مجردة لمجتمع إسرائيلي خيالي بالطبع، يتعامل معه المخرج كلوحة يرص فوقها شخصيات تحمل الكثير من الإشارات التي تحمل في النهاية "رسالة" الفيلم السياسية.

(4)


رغم أن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" فيلم تقليدي في بنائه، إلا أنه يحمل الكثير من مفردات سينما ما بعد الحداثة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تصوير ما لا يمكن تخيله في الواقع: أفراد فرقة موسيقية عسكرية من مصر يسيرون في طريق تحيط به الصحراء في بلدة إسرائيلية، بدون دعوة ولا شرطة ولا أمن ولا أي تدخل من أي طرف مؤسساتي، فالمؤسسة تبدو وقد انسحبت من ذلك العالم المصغر الذي يخلقه المخرج.

2- الحنين أو النوستالجيا: المرأة الإسرائيلية، "دينا"، تتفجر، في أحد أهم مشاهد الفيلم بل وذروته، في شبه "مونولوج" عاطفي، تستدعي خلاله الماضي، وتتذكر عندما كانت الشوارع تخلو عند عرض فيلم مصري من أفلام الماضي الرومانسي في التليفزيون الإسرائيلي، وكيف أنها وقعت في غرام الشخصيات المصرية من خلال تلك الأفلام.
3- خلط أساليب متعددة معا في وعاء واحد: هنا خلط بين الكوميديا الخفيفة التي تعتمد على الكاريكاتورية أي المبالغة في رسم الشخصيات، والدراما النفسية التي تكتشف عبرها الشخصيات بعض الأشياء عن نفسها، وأسلوب الفيلم الرومانسي، والفيلم الموسيقي الغنائي وخلط الأداء التمثيلي بالغناء المفاجئ والتعبير الموسيقي، مع لمحات من سينما التشويق والإثارة أيضا.
4- التلصص والتعبير المباشر عن الرغبة الجنسية وتجسيد الجنس: توفيق ينهض من فراشه، لكي يتلصص على ما يجري في الغرفة الأخرى بين خالد ودينا في حين نسمع أصوات الممارسة الجنسية بينهما. والجنس هنا شكل طبيعي للتواصل، وليس عملا منافيا للأخلاق، بل وحتى اللواء توفيق، يراه طبيعيا بعد أن كان يستنكره في البداية. ورموز الجنس واضحة منذ المشهد الأول لدخول توفيق وخالد إلى بيت "دينا" حيث يجلسان في المطبخ، ويكون أول ما تفعله هي أن تشق بطيخة حمراء شهية تبدو مثيرة للشهية في ذلك المناخ الصحراوي الحار.
5- الصورة المغايرة للمرأة: فشخصية "دينا" هنا هي شخصية مقتحمة، مبادرة، مغوية، أكثر قوة في شخصيتها من ذلك "الجنرال" الذي يفترض أن يكون هو القائد بحكم تكوينه العسكري، لكنه على النقيض: ضعيف، مهتز، وجل متردد، عاجز عن الفعل، متلعثم في التعبير عما يجيش في صدره.
من ناحية التمثيل فشل صانع الفيلم في العثور على ممثلين يجيدون الحديث باللهجة العامية المصرية، فاستعان بعدد من الممثلين الفلسطينيين وبالممثل اليهودي العراقي ساسون جاباي في دور اللواء، واستخدم هؤلاء اللهجة المصرية بدون إقناع، وبشكل مبالغ فيه، ولكن هذا الجانب لا يلحظه بالطبع الجمهور "الأجنبي" الذي يستقبل الفيلم عبر الترجمة.
ولكن لاشك أن المخرج يجيد التعامل مع الممثلين، ولا شك أيضا في تميز الأداء التمثيلي للممثل ساسون جاباي، وكذلك الممثلة الإسرائيلية رونيت الكابيتز في دور دينا التي ملأت الفيلم بالحيوية وبلمسة خاصة من الرقة والنعومة والبساطة.
"زيارة الفرقة"، بفكرته البسيطة الخيالية، ينتهي، رغم كل ما توفر لصانعه من نوايا طيبة، إلى أن يصبح فيلما من أفلام "الرسالة" الرومانسية، التي تتلخص في دعوته إلى ضرورة التعايش، بغض النظر عن الماضي، وبغض النظر عن الحاضر أيضا، وبعيدا عن التعقيدات السياسية القائمة، غير أنها دعوة يهزمها الواقع نفسه يوميا مرات ومرات.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))

الثلاثاء، 16 يونيو 2009

الفيلم الفرنسي "نبي" هل هو فيلم عنصري؟

من أهم وأفضل الأفلام التي عرضت في مسابقة مهرجان كان الأخير الفيلم الفرنسي "نبي" A Prophet للمخرج جاك أوديار.
كان هذا الفيلم، عن حق، من أكثر الأفلام ترشيحا للفوز بالسعفة الذهبية، إلا أن السعفة ذهبت إلى "الشريط الأبيض"، ليحصل "نبي" على الجائزة التالية في الأهمية، أي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم.
وقد بلغ الأمر حد أن كتب أحد النقاد في إحدى المطبوعات التي تصدر خلال المهرجان يقول إنه إذا لم يحصل هذا الفيلم على جائزة رئيسية في كان "فسيشهد شاطيء الكروازيت أعمال شغب"!
كنت من المعجبين بالفيلم لأسباب عديدة، تتلخص في أنه جاء متكاملا في بنائه ومستوى إخراجه وتمثيله، ورغم أنه أحد "أفلام السجن" التي يمكن عادة توقع ما سيحدث فيها إلا أن مدخله إلى موضوعه وطريقة معالجته له تحقق المتعة والترقب وإثارة الفكر أيضا، فهو، يتيح مساحات جيدة للتفكير والتأمل.
هذا فيلم عن شاب من عرب فرنسا (جزائري الأصل) يدعى "مالك" يدخل السجن بتهمة لا نعرفها، لكي يقضي ست سنوات، حيث يصبح عرضة لاضطهاد بشع من جانب عصبة إجرامية كورسيكية يتزعمها "قيصر" الذي يرغمه على القيام بكل الأعمال القذرة بل وحتى التجسس لحسابه على الفئات الأخرى من المجرمين، ويحظر عليه الاختلاط بأقرانه من العرب أو المسلمين الذين يقضون عقوبات داخل السجن.
"مالك" من الأصل، يبدو نموذجا للامنتمي، بل هو أقرب إلى طفل ولد وألقي به داخل العالم "الحقيقي" لكي يتعلم كيف ينجو ويستمر في الحياة.

الإنسان والهوية
وهو يبدو منفصلا عن جذوره الثقافية، لا يتشبث أصلا بالتقاليد والقيم الإسلامية. وعندما يسأله الحارس عند استكمال إجراءات إدخاله السجن، ضمن أسئلة أخرى بالطبع: هل تأكل لحم الخنزير؟ يتردد في البداية، ثم يوافق.
إنه الإنسان العربي فاقد هويته، الذي يريد أن يحيا وأن يتجاوز محنة السجن بأي ثمن، لكنه أيضا يتمتع بذكاء من نوع خاص، ويتعلم من خلال الإنصات والاحتكاك كيف يستغل الثغرات لحسابه، ثم يحقق انتقامه الشخصي من الذين أهانوه وأذلوه ويوجه لهم الضربة القاضية. وفي هذا السياق أيضا هو فيلم عن "البقاء" بالمعنى الوجودي.
يكلفه "قيصر" زعيم الكورسيكيون بقتل سجين عربي يدعى "رجب"، باستغلال شذوذه الجنسي وميله نحو "مالك". وتهدده عصبة الكورسيكيين بالقتل في حالة تخاذله. ويحاول مالك تنبيه إدارة السجن لكنهم يسلمونه لقيصر لكي ينال عقابا بدنيا كفيلا بإقناعه بالقيام بالمهمة البشعة. ويضطر بالتالي، في أحد أكثر مشاهد السينما عنفا، إلى قتل مالك رجب بشيفرة حادة صغيرة كان يخفيها داخل فمه كما دربه على استخدامها الكورسيكيون، فيقطع الشريان الأكبر في رقبة رجب ويتناثر الدم في أرجاء الزنزانة.
لا أريد أن أستطرد في سرد أحداث هذا الفيلم المثير، لكن "مالك" يصبح عين الكورسيكي "قيصر" على السجناء خاصة السجناء العرب، بل ويحصل له الكورسيكي الذي يسيطر بنفوذه على إدارة السجن، على تصاريح بالخروج من السجن من وقت لآخر، لقضاء يوم واحد في الخارج حيث يقوم بمهام لحسابه، لكنه ينجح في استغلال الفرصة المتاحة للقيام بأعمال لحسابه الخاص أيضا بالاشتراك مع صديقه "رياض" الذي كان زميلا له في السجن ثم خرج. ويتعرف مالك على أسرة رياض: زوجته وابنته، ويوصيه رياض بهما خيرا في حالة وفاته وهو المريض بسرطان البروستاتا.
وينتهي الفيلم بعد أن يتحول مالك من سجين مبتديء يرضخ كعبد ذليل لعصابة الكورسيكيين، إلى إمبراطور في عالم الإجرام، تخشاه العصابات المنافسة، بعد أن يقضي تماما على نفوذ "قيصر" ويذله.
ويكون مالك خلال رحلته في العالم السفلي، وتعرض حياته للخطر المميت أكثر من مرة، قد اكتشف تدريجيا أن ولاءه الحقيقي هو لثقافته ولرفاقه ولأبناء جلدته، فيترك في النهاية حقيبة تمتليء بعشرات الآلاف من الدولارات استولى عليها من إحدى عصابات تجارة المخدرات بعد معركة دموية، في المسجد الذي يؤمه رفاقه في الدين، فربما يكون في هذا سبيله إلى الخلاص.
فيلم "نبي" جاء اسمه بعد أن يتنبأ مالك بمهاجمة حيوان بري (غزال) السيارة التي كان يستقلها مع صديقه رياض وهو ما يتحقق بالفعل، وبذلك ينجو رياض من الموت، فيتساءل بدهشة: هل أنت نبي لكي تعرف ما سيحدث.

الفيلم والعنصرية
هذا فيلم عن البحث عن الهوية، عن العنصرية المقيتة التي تجعل السجن رمزا مصغرا للمجتمع في الخارج حيث يمارس الأقوياء القهر على الضعفاء، كما يمارس الآخرون (الكورسيكيون) عدوانهم العنصري الفظ بتعليقاتهم المهينة لمالك وأصله العربي والإسلامي طوال الوقت وهو أيضا فيلم عن فساد مؤسسة الشرطة والسجون الفرنسية وخضوعها المهين للمجرمين والأشقياء وتجار المخدرات، على نحو يذكرنا بفيلم آخر عظيم هو "انتهى التحقيق المبدئي.. إنس الموضوع" من عام 1972 L'istruttoria è chiusa dimentichi للمخرج الإيطالي داميانو دامياني. ولا أدري كيف يمكن قراءة فيلم كهذا على اعتبار أنه "يكرس" العنصرية في حين أن المتفرج يشاهد الفيلم من زاوية التعاطف التام مع مالك (ضحية العنصرية) من البداية إلى النهاية.
إنه ينجح وهو الأمي، في تعليم نفسه القراءة والكتابة داخل السجن، بل وينجح أيضا في تعلم لغة الكورسيكيين ويتمكن بذكائه الخاص، عن طريق الإنصات إلى أحاديثهم ومراقبة حركات شفاههم، من معرفة نقاط الضعف في علاقاتهم ويستغلها لحسابه الخاص، وهو يغير موقفه في النهاية، فينتقل من معسكر الكورسيكيين إلى معسكر العرب المسلمين داخل السجن الذين كان يرفض أي علاقة بهم في البداية وكانوا هم يعتبرونه "خائنا".
وعندما يغادر السجن في النهاية تكون في انتظاره أرملة صديقه رياض وابنته اللتان سيتولى هو رعايتهما بعد وفاة صديقه في لمسة وفاء جديرة بالإعجاب، بل ويشير الفيلم أيضا إلى أنه سيحقق وصية صديقه الراحل ويتزوج من أرملته ويكفل ابنته.
لهذه الأسباب أظن أن القراءة المحايدة الموضوعية للفيلم تقول إنه فيلم يناهض العنصرية ويستنكرها، ويجعل من شخصية "مالك" شخصية لها جاذبيتها، يتماثل المتفرج معها، ويتعاطف، كما يتمنى لو يتمكن من القضاء على حفنة الأشرار العنصريين الذين ظنوه لقمة سائغة يمكنهم أن يفعلوا به ما يشاءون.
الفيلم يدور في أوساط المجرمين داخل السجن، وإن كنا لا نعرف طبيعة الجريمة التي كانت سببا في دخول مالك السجن، ويشير الفيلم على نحو ما، إلى انه ربما يكون قد حكم عليه ظلما بسبب أصله العربي، ويجعله السيناريو شخصية لا تميل في البداية إلى العنف، بل ويرفض بإصرار ارتكاب جريمة قتل، غير أنه يجد نفسه مضطرا إليها اضطرارا بعد أن يتعرض لتهديدات الشيطان الكورسيكي العنصري "قيصر" الذي يدينه الفيلم ويقدمه في أبشع الصور وأكثرها قسوة.
نعم هناك أيضا كلام عن الدين الإسلامي يرد على لسان "رجب" الشاذ الذي قتله مالك، والذي يعود فيظهر له خلال الفيلم في مشاهد شبه سيريالية على هيئة رؤى وأحلام وهواجس وكوابيس، تعكس نوعا من تأنيب الضمير. لكن هذه الأحاديث التي تدور حول كيف كان النبي محمد أميا وكيف تمكن من القراءة بعد أن أمره جبريل (عليه السلام) بذلك مع نزول القرآن، لا يمكن تفسيرها على أنها أحاديث مسيئة للإسلام على أي مستوى، بل هي أحاديث تعكس تغلغل الثقافة الإسلامية في نفوس العرب حتى لو كانوا من السجناء بل وخاصة بعد أن يصبحوا سجناء فيعودون إلى الله وإلى الاحتماء بالدين من الشر المحيط لهم، وليست مشاهد أداء الصلاة جماعة داخل السجن سوى تأكيد على هذه الفكرة، وليس إهانة الإسلام بدوافع عنصرية.

دور المخرج
من الناحية الفنية، نجح المخرج جاك أوديار تماما في خلق الأجواء الخاصة داخل السجن، وتنفيذ المشاهد الصعبة خارجه: المطاردات والاشتباكات العنيفة بالأسلحة، والتصفيات المتبادلة بل إنه يجعل بطله يبدو مثل طفل يشعر بتوتر مشوب بالسعادة، أو الشاب الذي ينمو وعيه بنفسه، بذاته، بحقيقة جذوره وثقافته وانتمائه، ومعرفته بضراوة العالم المحيط به الذي لا يقبل سوى الأقوياء، وهو يركب الطائرة للمرة الأولى في حياته، أثناء إحدى المرات التي يحصل فيها على إفراج مؤقت، لكي يؤدي مهمة خاصة كلفه بها قيصر في مارسيليا، وكأنه يتخلص من أحمال تشده إلى الأرض في اللحظة التي ترتفع فيها الطائرة إلى السماء.
ويستخدم أوديار الإضاءة استخداما مبدعا، فيحيط وجه بطله بالظلال في المشاهد الأولى بعد دخوله السجن، ويركز على نظرات عينيه الطفولية المتطلعة الخائفة، كما يهتم بإبراز تلك الانفعالات من خلال اللقطات القريبة "كلوز اب"، كما ينجح في خلق إيقاع متماسك ومتدفق، وتحقيق توازن داخلي في بناء الفيلم، في انتقالاته بين المشاهد المختلفة: ساحة السجن، الزنازين، خارج السجن، الإدارة.. وغير ذلك، وبما يحافظ على الإيقاع العام للفيلم، فلا يشعر المتفرج بطوله رغم أنه يصل إلى أكثر من ساعتين ونصف الساعة.
ولعل سيطرة أوديار المدهشة على أداء مجموعة الممثلين وراء ذلك الرونق والقوة الكامنين في هذا العمل السينمائي الكبير الذي يعيد للسينما قوة تأثيرها وقدرتها على رواية قصة ذات دلالات شتى بطريقة فنية جذابة.
وقد نجح الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم الذي جاء إلى السينما من خارج عالم التمثيل، ووقف للمرة الأولى أمام الكاميرا في هذا الفيلم، في تقمص الدور الرئيسي، دور مالك، ببراعة جعلت الكثيرين يرشحونه للفوز بجائزة أحسن ممثل في مهرحان كان. وقد نجح رحيم في التعبير بعضلات وجهه ونظراته الطفولية المندهشة التي تزداد ذكاء وتكشف عن نضج شخصيته عبر الفيلم، خاصة في لقطات "الكلوز أب" القريبة التي يهتز أمامها الكثير من الممثلين خاصة المبتدئين والذين لا سابق خبرة لديهم.
وأخيرا، لعل أفضل رد على اتهام هذا الفيلم بالعنصرية أن كاتب السيناريو الأصلي للفيلم هو عبد الرحيم دفري (عربي)، واشترك في كتابة الحوار والتمثيل عدد من الممثلين العرب المحترفين وغير المحترفين مثل عادل بن شريف وهشام يعقوبي ورضا الكاتب وفريد الوردي وسالم كالي وفؤاد ناصح وعلاء أوموزان.

((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger