الجمعة، 12 ديسمبر 2008

رسالة وتعليق

تصلني عشرات التعليقات والرسائل من الأصدقاء والقراء، معظمها عبر البريد الالكيتروني أو الفيس بوك، وليس كتعليقات مباشرة ملحقة بالمواضيع المنشورة عبر الوصلة الخاصة لذلك في أسفل كل موضوع، وهو ما يقتضي مني جهدا إضافيا لإعادة نشرها والتعليق عليها، فالكثير من الأصدقاء يكررون أنهم مازالوا يجدون صعوبة في التعامل مع هذا النوع من كتابة التعليقات ويفضلون إرسالها مباشرة من خلال رسالة. لا بأس على الإطلاق وسأعمل على نشرها والتعليق عليها بانتظام بعد ذلك.
ولنبدأ من الرسالة الأخيرة التي وصلتني، أو بالأحرى الأولى التي جاءت تعليقا على الموضوع المنشور في أعلى الصفحة حول تلك الجلسة التي قضيتها في القاهرة مع لفيف من الأصدقاء ناقشنا فيها موضوع السينما المستقلة.
((مساء الخير.. لم يسعدني الحظ أن أحضر ليلة المناقشة الخاصة بالسينما المستقلة في مصر ولم اعتب سوي علي أصدقائي الذين لم يخبروني بهذه الجلسة ولكن علي اي حال سعدت كثيرا عندما قرأت نتاج هذه المناقشة علي المدونة الخاصة بحضرتك.
مرحبا بك في مصر ومرحبا بك في رحاب هذا الفن الوليد. اسمح لي بتعليق بسيط استخلصته من قراءتي لآراء الأصدقاء بخصوص شيئين الاول هو التمادي في البحث عن مشكلة وضع مصطلح محدد لمعني ما يقدم الان في مصر وما يسموه بالسنما المستقلة.برأيي اننا نستنفذ الكثير من جهدنا تجاه عملية الية مع الوقت هي بنفسها من ستضع لنا مفهوما محددا لنا وهي التي ستفرض علينا مفرداتها وافكارها واشكالها التي سنخضع لها دون عناء البحث عن اسم او قالب محدد لها ، فالبحث عن وسائل وحلول لتطوير هذا الشكل الجديد اعمق بكثير من ان نصرف مجهودنا في البحث عن شكل او قالب او حتي اسم محدد له.
الشيء الثاني الذي لفت نظري في الجلسة وفي آراء الحاضرين هو الاصرار علي وضع السينما المستقلة في صدام وتضاد مع ما يعرف بالسينما التجارية والسينما السائدة. لا يوجد أدني وجه للمقارنة بين النوعين سوي انهم في النهاية يقدمون ابداعا فنيا وبصريا في شكل صورة سينمائية.. لماذا لا نعتبر تيار السينما المستقلة تيارا موازيا للسينما التجارية دون ان نصنفه كتيار معاكس يريد القضاء علي الفشل التجاري للاعمال السينمائية التي نراها الأن؟اعتذر سيدي علي الاطالة، ولكن حقا حزنت كثيرا لعدم حضوري هذه الجلسة ولم استطع أن أري نقاشا يدور حول السينما المستقلة دون ان أبدي رأيي به..اشكرك علي الاهتمام وان شاء الله يكون لي الحظ الاوسع في المشاركة القادمة في مثل هذه الجلسات.. كل عام وأنت بخير)).
رانيا يوسف- كاتبة سينمائية بجريدة القاهرة

تعليقي على رسالة الأستاذة رانيا أولا الشكر الجزيل على اهتمامك بالكتابة والتعليق وهو ما يعكس أهمية الموضوع المطروح نفسه وثانيا: أظن أن جانيا أساسيا من الاهتمام بالظاهرة الجديدة أعني ظاهرة السينما المستقلة، كما أطلق عليها أصحابها وليس النقاد مثلا، يتضمن البحث عن تعريف لها بمعنى: ما هو المفهوم الذي تدور حوله فكرة "الاستقلال" هنا. ونحن طرقنا الباب ولم نصل كما قلت، إلى قناعات أو تفسيرات نهائية. وأظن أخيرا أن هذه الأفلام الجديدة لا تسعى للقضاء على السينما السائدة التجارية وإلا لكان هذا تصورا شديد السذاجة، فمن الذي يمكنه القضاء على صناعة ضخمة بهذا المستوى، وقد أصبت أنت عندما قلت إن الهدف هو صنع تيار مواز لها وأظن أن الجميع يتفقون على هذا بكل تأكيد.مرة أخرى أشكرك على اهتمامك وسأعمل على أن تصلك دعوة مباشرة في المرة القادمة، وبالمناسبة أنا الآن في لندن التي عدت إليها منذ أيام. كل عام أنت بألف خير.

جلسة في القاهرة حول السينما المستقلة

كان هدف اللقاء في أتيلييه القاهرة للفنون مساء الأربعاء 3 ديمسبر مع الأصدقاء من النقاد والسينمائيين والمهتمين من قراء هذه المدونة وأصدقائها يتلخص في المعرفة: معرفة ما هي السينما المستقلة التي يتكلم عنها كثيرون. وهنا كان لابد من الإنصات والتعلم والبحث المشترك عن المعنى والهدف والوسيلة كبداية بالطبع لمناقشات فكرية أكثر عمقا وثراء. ويمكنني القول أنني خرجت من تلك الجلسة التي جمعتني بعدد من أعز الأصدقاء، وعدد آخر من الأصدقاء الجدد الذين لم يسبق لي التشرف بمعرفتهم والذين جاءوا تلبية للدعوة التي وجهتها على هذه المدونة، وأنا أكثر إدراكا لما يدور في عقول السينمائيين الشباب حول السينما المستقلة، وما يدور في عقول المثقفين عن معنى الاستقلالية.
لكن ليس معنى هذا أننا أغلقنا معا الملف، بل لعلنا ساهمنا بقطرة في فتحه وفي تسليط الضوء على المعنى والتعريف، وبدأنا رحلة البحث من أجل المعرفة. ولا أزعم هنا أنني سجلت كل ما قيل في تلك الجلسة الممتعة التي امتدت لأكثر من ثلاث ساعات، بل أسوق فقط ما تمكنت من تسجيله بسرعة وباختصار شديد من ملاحظات قيلت خلال تلك الجلسة، بينما كنت مشغولا أيضا بالانصات والمتابعة وأحيانا بالتدخل والتعليق.


دور التكنولوجيا
كان التساؤل الأولي الذي طرحته عن دور التطور في مجال التكنولوجيا على صناعة الأفلام وعلى وجود هذا التيار الذي أطلق على نفسه السينما المستقلة تحديدا.
المخرج ابراهيم البطوط صاحب فيلمي "إيثاكي" و"عين شمس" اللذين صنعهما بامكانيات محدودة، قال إنه لا يرى أي علاقة بين ما سبق من تراث سينمائي وبين ما هو موجود اليوم عندما يشرع في صنع فيلم جديد فالتكنولوجيا في رأيه غيرت تماما من أشكال التواصل ومن الطريقة التي نستقبل بها الأفلام. وقال إنه لم يعد مضطرا للمرور بسيناريو على الرقابة بل إن أشكال التصوير والعرض الجديدة خلقت نوعا جديدا من المتقلين الذين يفرضون أيضا جماليات جديدة. وضرب ابراهيم مثالا بكيف أصبح بوسع العالم مشاهدة صور إعدام صدام حسين التي تم تصويرها بالموبيل. وقال إن الشخص كان ينتظر لكي يستمع أو يشاهد حفلات أم كلثوم أول كل شهر لم يعد قائما، بل أصبح هناك مشاهد من نوع آخر، ولم يعد يمكن منع عرض الأفلام فهو نوع من الوهم.
الروائية سلوى بكر فاجأتنا فقالت إنها كانت تكتب النقد السينمائي لعدة سنوات عندما كانت تقيم في قبرص وتعمل لإحدى المجلات هناك في الثمانينيات. وهي ترى أن السينما المستقلة مهمة لأنها تتصدى لتيار تزييف الوعي بالحقائق الذي نراه في التليفزيون وأجهزة الإعلام عموما. أما صديقنا مدير تحرير جريدة "الدستور" الصحفي والناقد خالد السرجاني فقد لفت نظرنا إلى ضرورة توخي الحذر في التعامل مع التجارب الجديدة في السينما المستقلة، وعدم الإفراط في التفاؤل بشأنها، فعلى الرغم من إمكانية أن تصدر عنها أفلام جميلة وواضحة المعنى إلا أن من الصعب أن تجد هذه الأفلام طريقها للعرض على الجمهور الذي يجب أن تصل إليه، وإذن فأزمة العرض أمر حقيقي وليس فقط حل مشكلة التصوير أو الإنتاج.
الزميل ضياء حسني اعترض على ما قاله ابراهيم البطوط من نفي تاريخ السينما السابق على التطور التكنولوجي الحالي واستبعاده من الحسبان، وقال إنه لابد من تطور الأفكار حتى يمكننا استخدام الوسيط، وإن التشبع بالكتنولوجيا بدون تاريخ من الأفكار يجعل الأفلام فارغة تماما. وضرب ضياء مثالا بفيلم "نابليون" للمخرج الفرنسي أبيل جانس الذي أخرجه عام 1927 كمثال على تطور الأفكار مع التطور الكتنولوجي وضرورة دراسة مثل هذه التجارب القديمة التي لاتزال تصلح دروسا نتعلم منها.

تعريف المستقلة
الصديق الصحفي محمد فوزي (جريدة الدستور) وهو من المهتمين بالسينما طالبنا بضرورة الخروج من الجلسة بمقترحات محددة تتعلق بتعريف السنيما المستقلة، وحاجة الجمهور إلى معرفة ماهيتها.. أفكارها.. أنماطها.. اهتماماتها.. ما إذا كانت هي الأفضل فنيا، كما طالب بضرورة نشر ثقافة سينمائية جديدة ترتبط بالسينما الجديدة المستقلة والوصول بها إلى الفضائيات، وقال إن من المهم أن يوجد تيار سينمائي مستقل في مصر يغير الواقع ويتصدى للنمط السائد في الإنتاج، ونبدأ في المراهنة على من لديهم نواة صلبة حقيقية وليس على منتجي الأفلام السائدة.
وطالبت سلوى بكر بضرورة بحث سبل وأساليب دعم السينما المستقلة عن طريق دعم وتطوير أشكال النقد المواكبة لها، وقالت إنه لايوجد إبداع في الهواء الطكلق بل إن ظاهرة مثل السينما المستقلة تؤدي للبحث عن أشكال أخرى للتعبير في غير ذلك من المجالات. ولفتت النظر إلى ضرورة أن تتوفر الأفلام المستقلة على نوع من المتعة للجمهور وقالت إن ما شاهدته من أفلام قصيرة لم يكن ممتعا.

بعضنا كان رايه أن السينما المستقلة هي تلك التي تصنع بعيدا عن قيود الإنتاج التقليدي، والبعض الآخر رأى أنها تلك التي تبحث عن أشكال جديدة في التعبير بالضرورة.
خالد السرجاني نبهنا إلى أن أهمية إنتاج سينما عكس التيار قد تتلاقى مع الآخر، وأما صنع فيلم للذهاب به إلى مهرجان سينمائي دولي تحت شعار "الحوار بين الشمال والجنوب" أو اليهود في العالم العربي أو الأقليات فهو موضوع آخر قد يكون قائما في اهتمامات الآخر ولا يمكن أن يكون من أهداف السينما المستقلة.
استغرقنا وقتا طويلا بعد ذلك في محاولة التفكير والبحث عن تعريف مناسب للسنيما المستقلة في مصر تحديدا بحيث نفرق بينها وبين ما أشير إليه في الولايات المتحدة على سبيل المثال. وكان رأي السرجاني أن الأمريكيين المستقلين لا يبتعدون كثيرا في اهتماماتهم عن التيار العريض في السينما الأمريكية بل هم يسعون أصلا إلى النفاذ إليه من خلال استخدام الفيلم المحدود الإمكانيات.
الدكتور ناجي فوزي قال إنه أمر مشروع أن يبدأ السينمائي وعينه على الوصول إلى الإنتاج الكبير أي أن يكون الهدف الانتقال من الأفلام المحدودة التكاليف إلى صنع أفلام كبيرة. وأشار إلى أهمية دور مؤسسات الثقافة السينمائية القائمة في تبني دعوة السينما المستقلة، وقال إنها عجزت حتى الآن عن الترويج للسينما التسجيلية مع أنها موجودة طوال الوقت، وأشار إلى عجز التجمعات الثقافية عن فرض الفيلم التسجيلي منذ ندوة الفيلم المختار التي بدأت قبل أكثر من 50 عاما.. وكان رأيي الشخصي ولايزال، أن العبرة بما يتقدم به السينمائي وما يرغب في تحقيقه فإذا قبلت أي جهة دعم فيلم ما دون أن تطلب أي تنازل من مخرجه ودون أن يكتب صاحب الفيلم مشروعه أصلا ويتقدم به وعينه على أنماط معينة يعتقد أنها سترضي جهات التمويل وتسيل لعابها، فلا تثريب ولا حرج، ولكن المشكلة أن الكثير من السينمائيين العرب تحديدا يتقدمون طواعية بالتنازلات مسبقا للحصول على التمويل. وكان رأيي أيضا أنه لم يعد هناك تمويل من طرف واحد أو سينما "وطنية" تماما مع وجود الأفلام التي تمول من جهات متعددة تشمل عددا من محطات التليفزيون من اليابان وأوروبا ومن الداخل ومن شركات سينمائية وجهات حكومية، وهنا ليس من الممكن القول بتبعية الفيلم المنتج فكريا لجهة ما واحدة محددة بل ربما تتلاقى هذه الأطراف وتتفق دون أي ترتيب، على شكل فني معين طموح تدعمه وتروج له كبديل لما هو سائد ومتخلف.

العامل المشترك
المخرج أحمد رشوان قال إن السينما المستقلة لا تمثل تيارا أو موجة مثل الموجة الجديدة التي كان يجمعها- حسب رأيه- تيار فكري، وأشار إلى غياب المشترك الفكري من أفلام السينما المستقلة في مصر، أما الجامع بينها فهو مجرد الرغبة في التعبير. واتفق مع الرأي القائل بوجود اختلاط في المفاهيم. وأضاف أن التصوير بكاميرا الديجيتال لا يقدم الوصفة السحرية للسينما المستقلة وذكر أن المنتج- الموزع صفوت غطاس وخمسة من المنتجين التقليديين في السوق اشتروا أخيرا كاميرات ديجيتال، فهل ستكون الأفلام التي سينتجها هؤلاء أفلاما مستقلة. وقال رشوان إن الاستقلال ليس ضد الاحتلال بل ضد التبعية أي التبعية للمنتج التاجر. وأشار إلى أن هناك فرقا بين الأفلام التي تصلح للعرض على جمهور عام وتلك التي لا تصلح سوى للعرض على جمهور محدود، وقال إن المشكلة ليست في الدراسة. أي دراسة الجمهور بل في تطوير القدرات الإبداعية. ويرى رشوان أيضا أن معهد السينما يخرج شبانا عيونهم على السوق، في حين تساهم تجارب مثل مدرسة السينما في الجزويت في توفير بديل جيد.
خلال تلك الأمسية استمتعنا أيضا بمداخلات من الصديق الجديد أحمد أبو الفضل وهو طبيب أسنان ومدون لديه مدونة باسم إنكشاريات. وقال أحمد إنه يتابع المدونات السينمائية على شبكة الانترنت وإنه يجد أن ثلاثة أو أربعة منها تقدم خدمة مفيدة وإنه شخصيا تمكن من متابعة الكثير من الأحداث السينمائية من خلالها، ولكنه أشار إلى محدودية جمهور المدونات عموما، وأشار كذلك إلى تجربة قامت بها ساقية الصاوي في مجال عرض الأفلام المجهولة التي يجب أن يلم بها عشاق السينما.
حضرت معنا أيضا الفنانة التشكيلية جيهان جاد التي أبدت حماسا كبيرا للسينما المستقلة وطالبت بوصولها للجمهور وضرورة أن تطور نفسها وآلياتها ولا تقتصر على أن تكون "سينما فقيرة". بالضرورة في مواجهة سينما غنية بالإمكانيات المادية.
كانت الأمسية دون شك، مفيدة لي شخصيا في التعرف على الكثير من الأفكار التي تشغل القريبين من السينما المستقلة في مصر، كما أتاحت لي الفرصة للتعرف على زملاء وزميلات جدد مثل بسمة ياسين الصحفية في جريدة "نهضة مصر" وزينب مصطفى المخرجة بالمركز القومي للسينما وهي فنانة تشكيلية أيضا. وقد تلقيت بعد تلك الأمسية اتصالا هاتفيا من الصحفي الشاب الأستاذ محمد فوزي الذي حضر الجلسة، اقترح علي ضرورة التوصل في مرة قادمة إلى إطار محدد لدعم تيار السينما الجديدة في مصر أو تأسيس كيان ما يجمعنا ويطور أفكارنا. أسعدني كثيرا جدا الحماس، وأتمنى أن نصبح قادرين قريبا، في زيارتي القادمة إلى القاهرة، على الوصول لشئ ملموس في هذا المجال أو على الأقل، في تأصيل ما هو مشترك بيننا، وهذا هو الأهم.. أليس كذلك؟

الجمعة، 5 ديسمبر 2008

يوسف شاهين وسمعة مصر


المقال التالي نشر في عمود أو زاوية "هواء طلق" الموجودة في الصفحة الأخيرة من صحيفة "القدس العربي" الصادرة في لندن في 31 مايو 1991.
هنا نص المقال، أعيد نشره لأن القضية التي يطرحها لاتزال، بكل أسف، قائمة، يعبر عنها كثير من الكتاب والنقاد رغم كل ما وقع من تغيرات في العالم، في الأفكار والقيم والمفاهيم فالتشكك من الآخر هو السمة التي لاتزال تحكم نظرة قطاعات كبيرة من القوميين- البعثيين- اليساريين- الإسلاميين، أو المنتمين لهذه "الخلطة"العجيبة الهجينة من الفكر السياسي التلفيقي. وإذا كان يوسف شاهين قد تعرض لموجة عاتية من الهجوم والاتهامات قبل نحو 17 عاما، فهناك آخرون يتعرضون حاليا لاتهامات مشابهة بسبب خروجهم عن قاموس الدعاية الرسمية، والأيديولوجية الأحادية التي ترفض الاختلاف. والغريب أن الذين طالبوا بمحاكمة شاهين بدعوى إساءته لبلاده هم أنفسهم الذين عادوا فرفعوه إلى عنان السماء عام 1998 عندما حصل على جائزة تكريم من مهرجان كان، فنسبوها لمصر وليس للفنان الفرد الذي حصل عليها بمجهوده الفردي، رغبة منهم في التمسح بالنجاح الذي يحققه الفنان الفرد. هنا نص المقال للتاريخ وحتى يعرف من يريد أن يعرف كيف كان الموقف الشخصي لكاتب هذه السطور، وماذا كان موقفهم هم، وفي أي خندق كانوا يقفون وقتذاك بكل "شجاعة" و"عنترية" المحمي من السلطة الرسمية والذي يأتمر بأمرها:

((بين وقت وآخر تتصاعد حملات الهجوم والتشكيك كلما ظهر فيلم يصور الواقع المصري كما هو، ويحمل رؤية صادقة لمخرجه. حدث هذا قبل أكثر من عشر سنوات عندما ظهر الفيلم التسجيلي الممتع "القاهرة كما لم يرها أحد" إخراج ابراهيم الموجي. وقد منع عرض هذا الفيلم في مصر كما منع تصديره وعرضه في الخارج. وحدث الشئ نفسه مع فيلم المخرج داود عبد السيد التسجيلي "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم"، وكانت الذريعة في كلتا الحالتين "الإساءة إلى سمعة مصر".
ولست أدري حقا كيف يمكن أن يسئ فيلم أيا كان، لسمعة بلد وشعب وتراث وتاريخ وثقافة، هكذا وببساطة تامة إذا ما كان يعرض لجانب أو لعدة جوانب في الواقع!
بل ولست أدري كيف يمكن لصحافة تحترم نفسها وقراءها أن تشن حملات على أفضل ما لدينا من فنانين سينمائيين كان آخرهم يوسف شاهين الذي اتهم فيلمه التسجيلي القصير "القاهرة منورة بأهلها" بالإساءة إلى سمعة مصر والتعريض بها وبشعبها، ووصل الحد أيضا إلى أن تساءل "بعضهم" في الصحافة الرسمية المصرية، عن سر الكراهية العميقة والدفينة التي يكنها يوسف شاهين لمدينة القاهرة، مقارنة بمدينة الاسكندرية التي ولد ونشأ فيها وصورها في عدد من أفلامه في صورة "إيجابية" كما رأى ذلك العبقري الذي كتب كلاما من هذا النوع!
وكان صحفي ناشئ يحمل اسم والده الصحفي الشهير، قد نشر مقالا في إحدى الصحف الدولية الملونة ووضعت الصحيفة صورته في قلب المقال وكأن القائمين على أمر تلك الصحيفة يعتبرونه مفكرا من "المفكرين" الذين نبتلى يوميا بمطالعة مقالاتهم الرنانة على صفحات "الملونة"!
كرر الصحفي الشاب في مقاله نفس ما يقال عن فيلم شاهين- رغم اعترافه بأنه لم يشاهده، مشيرا إلى أن الفقر ليس عيبا، موجها اللوم إلى يوسف شاهين لاظهاره الفقراء المصريين في عاصمة المعز، ولكن دون كلمة واحدة في الدفاع عن حق السينمائي في أن يرى ما يرى، وأن يصوره بأمانة على حقيقته.
وإذا كان من المنطقي أن يستخدم وزراء السياحة وموظفو السياحة تعبيرات من نوع "الإساءة لصورة البلاد" وما شابه من تعبيرات أخلاقية ساذجة، فمن الحمق أن يردد "نقاد" أو رجال إعلام كلاما من نفس النوع، غير مدركين أن ما يرددونه هو في حد ذاته، إساءة لسمعة البلاد، فهو يكشف عن نظرة جاهلة ضيقة الأفق للفنون عموما، وللسينما بوجه خاص، طبيعتها ووظيفتها في العصر الحديث.
إن الأعمال السينمائية المتميزة التي تحقق أصداء طيبة في عروضها الجماهيرية أو في المهرجانات السينمائية الدولية، أغلبها يمتلئ بالنقد الاجتماعي والسياسي القاسي الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى نقد مؤسسات الرئاسة نفسها بصورة موجعة، ومع هذا لا ترتفع أصوات المثقفين والصحفيين والكتاب تطالب بمنع هذه الأفلام أو إيقاف تصديرها وعرضها في الخارج، أو محاكمة صناعها، ودون أن يتهم فنان في ولائه لبلده، ويشكك في انتمائه إلى البلد الذي صنع فيه فيلمه. هذا لا يحدث سوى في مجتمعات القهر والإرهاب والفاشية حالكة السواد، فماذا يضير مجتمع ما أن يراه فنان بعين تنقب في الواقع بمساوئه وحسناته. وإذا كان البعض حريصا على "صورة مصر" فلماذا لا يجندون أقلامهم من أجل إيقاف التدهور، ومقاومة الردة الحالية بدلا من توجيه الاتهامات إلى سينمائي يعبر بالكاميرا عما يراه مهما كان قاسيا في رؤيته!
يوسف شاهين ينتمي إلى القاهرة وناسها، وهو عاش ولايزال يعيش بينهم، يصنع أفلاما قد نتفق أو نختلف مع مضمونها وأفكارها، وقد نناقش مدى تماسك بنائها الفني، وقد نجد خياله يمتد إلى آفاق غير مقبولة من جانب البعض منا بحكم نظرتهم الأخلاقية الجامدة، ولكن دعونا لا نصادر حريته وحقه في التعبير، فهو ابن السينما المصرية والعربية، بل وعلم من أعلامها، فإذا أردتم نقد أفلامه فلتفعلوا، فهذا حقكم، ولكن لا يهيلوا التراب عليها، فليس من حق أحد أن يتشكك في ولائه ومصداقيته، فيوسف شاهين ليس عميلا للغرب، وللصهيونية العالمية – كما ردد أحدهم- بل هو عميل مخلص للفن السينمائي، يدرك جيدا مسؤوليته في المجتمع الذي ينتمي إليه)).

الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

مغزى الحرب القائمة ضد السينما المستقلة


مقال أمير العمري الجديد المنشور في جريدة "البديل"


في كل بلاد الأرض تدرك "النخبة" معنى ومغزى وأهمية وجود جيل آخر جديد من السينمائيين، وأهمية إتاحة كل الفرص أمامهم، للتجريب والسباحة في مناطق غير تقليدية، في ثقافة الصورة، بعيدا عن كل القيود التقليدية التي يفرضها السينمائي عادة على نفسه لكي يتواءم مع ما يسمى بـ"متطلبات السوق".
ومهرجانات السينما الدولية الكبيرة حقا، تاريخا ومقاما، والتي تريد أن يحسب لها أنها لا تستبعد الجديد مهما كان جامحا في تجريبيته وأفكاره، عادة ما تسمح بمساحة على الهامش لتلك "السينما الأخرى".
منذ عام 1969، أي بعد عام على موجة التمرد والثورة والغضب في فرنسا، بدأ اتحاد السينمائيين الفرنسيين تنظيم وإقامة ما يعرف باسم "نصف شهر المخرجين" على هامش مهرجان "كان" السينمائي، وهي تظاهرة خاصة مستقلة تماما عن المهرجان، أو مهرجان مواز للتجارب الابداعية السينمائية الشابة. ومن قلب هذه التظاهرة خرجت إلى العالم عشرات المواهب السينمائية الأصيلة الجامحة التي سرعان ما ذهبت أفلامها فيما بعد للعرض في برنامج مهرجان كان الرسمي لكي تلقى الكثير من الاحتفاء بها وبأعمالها. ويمنح "نصف شهر المخرجين" جوائزه الخاصة، ويصدر مطبوعاته، ويوجه دعوات خاصة للسينمائيين وينظم مناقشات أفلامهم بعيد عن أروقة مهرجان كان الرسمية.
ويوجد على هامش مهرجان برلين حدث مواز للمهرجان الرسمي هو "الفوروم" الذي أقامه عدد من السينمائيين والنقاد الشباب لعرض الأفلام الطليعية التي قد لا يرحب المهرجان الرسمي بضمها إلى مسابقته.
ويقيم شباب السينمائيين الايطاليين ما أطلقوا عليه تظاهرة "أيام فينيسيا" على هامش مهرجان فينيسيا السينمائي سنويا، وهو حدث مشابه لنصف شهر المخرجين، والفوروم، أي أنه "معرض" لأفلام المخرج المؤلف صاحب الرؤية "المستقلة" التي تختلف وتتباين مع المقاييس السائدة.
ولكن الغريب أن يكون في مصر مهرجان سينمائي دولي كبير منذ 32 عاما هو مهرجان القاهرة السينمائي، دون أن يسمح أبدا في أي وقت، بوجود حدث مواز يقام على هامشه للسينما الأخرى، المصرية على الأقل، التي تعكس هموم وأحلام شبباب السينمائيين الذين يتخرجون من مدرس السينما سنويا، ولا يجدون فرصة حقيقية لإخراج أفلامهم في إطار منظمومة السينما السائدة في مصر.
وعندما يحاول تجمع ما يسمى بالسينما المستقلة في مصر إقامة مهرجان خاص بأفلامهم التي تنتج عادة بدون ميزانيات حقيقية، اعتمادا على العمل التطوعي، أو المغامرة عن طريق التمويل الذاتي المحدود، يتدخل المسؤولون في مهرجان القاهرة السينمائي لوقف هذا الحدث وإبادته من أساسه.
ولا يقتصر تدخل المسؤولين في المهرجان الكبير فقط على رفض وجود مهرجان لا ينافس ولا يهدف إلى انتزاع الأضواء من ذلك الحدث الآخر "الكبير" بل لقد وصل الأمر إلى حد إبلاغ الشرطة لكي تتدخل، كما حدث، وتقوم بقطع التيار الكهربائي عن القاعة التي استأجرها السينمائيون الشباب المستقلون لعرض أفلامهم، في حدث هو الأول في العالم، فهل هذه التصرفات البوليسية الإرهابية في صالح مستقبل السينما!
والغريب أن أي منطق في العالم يقول إن الترحيب بمهرجان مستقل للسينما المستقلة في مصر، يضيف إلى مهرجان القاهرة السينمائي، ولا ينتقص منه، ويقويه ويدعمه، لا يضعفه أو يهز صورته أمام ضيوفه. وكان حري بهؤلاء المسؤولين تشجيع ذلك الحدث الموازي لعله يساهم في إضفاء صبغة ما من الجدية على ما يقام في القاهرة في هذا الوقت سنويا!
كيف يمكن أن نبرر "قمع" الصوت الآخر في مجتمع تتردد فيه ليلا ونهارا فكرة التعددية والليبرالية الاقتصادية وحرية السوق، في حين تريد الدولة، ممثلة في مؤسساتها الرسمية ومن ضمنها مهرجان القاهرة السينمائي، احتكار العمل الثقافي ومحاربة العمل المستقل بدلا من دعمه وإعداده لكي يحل محل المؤسسات الرسمية القائمة التي تنوء بموظفيها!
إن موقف مهرجان القاهرة السينمائي لا يعكس فقط رفضا للجديد، وعداء له، ورغبة في استئصاله، بل في محاولة صارخة وفظة للوقوف أيضا في وجه المستقبل، مستقبل السينما، واحتكار الحديث عنه باسم تشجيع تجارب الديجيتال في نفس الإطار الرسمي المتهالك الذي فشل حتى في العثور على فيلم واحد يليق باسم السينما المصرية للعرض في المسابقة الرسمية لهذا المهرجان العجوز الذي آن الأوان لمراجعة أسسه ولائحته بل ووجوده نفسه بهذا الشكل المتهالك الحالي.
ولا ينفصل هذا الحدث المشين الذي تعرض له السينمانيون المستقلون في مصر عما وقع أخيرا من قيام الشرطة بمداهمة منزل بسيط في بلدة العياط أثناء تصوير فيلم قصير عن الحجاج واحتجاز مخرج الفيلم التليفزيوني البراء أشرف، الذى كان يصور فيلماً تسجيلياً مستقلاً عن طقوس الحج عند المصريين، ومظاهر الفرحة بالحج، وقيام الشرطة بمصادرة الشرائط.
هذه الواقعة قد يفسرها البعض في ضوء أن القانون يشترط الحصول على تصريح بالتصوير، لكن في هذه الحالة تحديدا كان التصوير داخل البيوت وليس في الشارع، وهو أمر لا يستلزم الحصل على أي تصريح. ومن جهة أخرى لماذا لا يطالب هؤلاء بتعديل ذلك القانون البالي المتخلف الذي عفا عليه الزمن، ومن قال إن القوانين صنعت لكي تعيش إلى الأبد رغم تغير العالم من حولنا طولا وعرضا!
إن هذه الواقعة المشينة أيضا تعكس حالة الهلع التي أصابت بعض الأجهزة أخيرا من زحف السينما المستقلة بهدوء وإصرار، لكنها تؤكد على نحو ما أيضا، أن السينما المستقلة قادمة، يؤكد وجودها انتصار فيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط، في معركته الدامية مع الرقابة بعد أن رضخت أخيرا للأمر الواقع وقررت السماح بعرضه كفيلم مصري وليس مغربيا، متغاضية عن عدم حصوله على تصريح مسبق على السيناريو أو التصوير، وهو ما يؤرخ لبداية نهاية الرقابة بشكلها القائم المتخلف.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger