الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

من مخزن الذاكرة



الصورة العلوية لي مع المخرج الراحل صلاح أبو سيف في مهرجان قرطاج السينمائي (1986) ومعنا على اليسار المخرج التونسي الطيب لوحيشي، والصورة المنشورة تحتها مع المخرج الصديق خيري بشارة في الدورة نفسها من المهرجان المذكور.
كان صلاح أبو سيف قد جاء إلى مهرجان قرطاج ضمن وفد مصري يضم خيرة السينمائيين، تصور في تلك السنة، أنه صنع عددا من أفضل الأفلام، وجاء بها للعرض داخل وخارج المسابقة.
كان هناك فيلم "البداية" لصلاح أبو سيف وكان يعرض خارج المسابقة ضمن تكريم خاص للمخرج الكبير، وكان هناك فيلم "الجوع" لعلي بدرخان داخل المسابقة، وهو بلاشك من افضل ما أخرجه بدرخان، وآخر أفضل فيلم لسعاد حسني.
وجاء خيري بشارة بتحفته السينمائية "الطوق والإسورة" عن رواية يحيي الطاهر عبد الله وسيناريو يحيى عزمي.
وربما أصبحت الأفلام الثلاثة حاليا من الأعمال الكلاسيكية في السينما المصرية والناطقة بالعربية بوجه عام. ولكن كان هناك أيضا إلى جانب هذه الأفلام الثلاثة فيلم "اليوم السادس" للمخرج الراحل يوسف شاهين، وقد عرض في افتتاح مهرجان قرطاج في تلك الدورة (أعود لحضور المهرجان هذا العام الذي يفتتح بفيلم "هي فوضى" ليوسف شاهين.. آخر أفلام الراحل الكبير).
وقد خرج الفيلمان المصريان من المسابقة دون الحصول على أي جوائز. وفاز بالطانيت الذهبي الفيلم التونسي "ريح السد" الذي اثار وقتها ضجة كبرى في العالم العربي، كما تعرض لحملة هجومية قاسية في الصحافة المصرية بدعوى أنه يفتح الباب للتطبيع مع اسرائيل، أو بسبب تصويره الشخصية اليهودية في صورة ايجابية، والعربية في صورة سلبية- كما قالوا وقتها.
وقد تحدثت في إذاعة بي بي سي وكتبت ونشرت وقتها أكثر من مقال دافعت فيها بشدة عن هذا الفيلم، أقصد فيلم نوري بوزيد واعتبرته عملا فنيا بديعا (المقالات موجودة طبعا في أرشيفي الشخصي)، كما عدت فأرسلت إلى مهرجان القاهرة السينمائي الذي عرض الفيلم في أواخر العام نص مقابلة طويلة أجريتها في مهرجان قرطاج (اكتوبر 1986) مع نوري بوزيد تحدث فيها بإسهاب عن فيلمه، وقدمته باعتباره عملا كبيرا في السينما العربية، وكان هذا رأيي ولايزال. ونشرت المقابلة في النشرة الرسمية للمهرجان باعتبارها حوار بين "الناقد والمخرج". ولعل أبو زيد لا يعرف أنني بسبب نشر هذه المقابلة في القاهرة، نالني هجوم شديد أو وجه بالأحرى، اتهام من ناقدة مصرية معروفة، بأنني صرت من "المدافعين عن اليهود" وبأنهم "خدعوا في"!
إلا أن هذا لم يمنع نوري بوزيد من شن هجوم مضاد على كل النقاد المصريين، واتهامهم بأنهم "يشعرون بالغيرة من كون الأفلام التونسية تحقق نجاحا". وتجاهل تماما وجود "ناقد مصري" (لم يكن وحده على اي حال) دافع عن فيلمه أينما عرض، حتى بعد ذلك حينما منع عرض الفيلم ضمن 5 أفلام تونسية أخرى من العرض في مهرجان دمشق عام 1991. وقد كتبت وانتقدت ما وقع من حظر، على الفيلم وغيره مثل "الحلفاوين" للمخرج فريد بوغدير.
غير أنني عندما عدت بعد سنوات لمشاهدة فيلم نوري بوزيد المسمى "بزناس" في مهرجان كان 1992 كان لي تحفظات كثيرة على مضمونه وطريقة معالجته، واستسلامه للأشكال والكليشيهات التي يغرم بها الممولون والموزعون الفرنسيون والغربيون عموما، وكان هذا رأي اتفق فيه مع معظم النقاد العرب الذين كتبوا عن هذا الفيلم. وكان أهم ماخذ عليه افراطه في استخدام القوالب التي يحبها الغرب أي أنه استسلم لمقتضيات التمويل الأجنبي. والغريب أن بوزيد نفسه عاد بعد سنوات طويلة لكي يعترف بما قدمه من تنازلات في هذا الفيلم بالذات.
إلا أن نوري بوزيد في ذلك الوقت من التسعينيات اعتبر ما نشرته (في نفس المطبوعات التي نشرت فيها من قبل عن ريح السد) "حقدا مصريا" و"رغبة في إخراجه من السينما ودفعه إلى التوقف عن الإخراج" وغير ذلك من الكلمات الكبيرة الصغيرة المضحكة.
وعندما التقيت به مصادفة أمام مدخل الفندق بينما كنت أحضر دورة 1996 من مهرجان قرطاج، استوقفني لكي يقول لي إنه "لايزال موجودا وإنه ماض رغم كل محاولات إخراجه من المجال السينمائي" أو شيئا ساذجا بهذا المعنى!
ولم أحاول أن أشرح له أو أن أبرر، بل شكرته وانصرفت، فليس من الممكن أن يتخيل أي إنسان في العالم أن هدف أي ناقد أن يجعل مخرجا ما يتوقف عن الإخراج السينمائي فهذا كلام لا يصدر إلا بدوافع أخرى. وأنا أفهم الحساسية المرضية عند بعض السينمائيين العرب لما يكتبه النقاد الذين لا حسابات لهم، فبعضهم عندما يفشل تماما في العثور على دوافع "خاصة" تتفق مع تصوراته عن النقاد، يذهب إلى إيهام نفسه بأنهم يكتبون انطلاقا من اعتبارات الجنسية والتعصب القومي. ولو كان هذا صحيحا، لكنت قد اشتركت مع من شاركوا في حملة هائلة ضد مهرجان قرطاج واتهموه بتجاهل السينما المصرية عمدا ومحاولة عزلها، وكان لهم فيما صدر عنهم بعض العذر وقتذاك بسبب ما حدث في المهرجان من خروج الأفلام المصرية الأفضل من أفلام كثيرة غيرها، من سباق الجوائز بل إن الممثلة فردوس عبد الحميد حرمت بشكل ظالم لاشك في ذلك، من جائزة أحسن ممثلة. وقد وقعت مهزلة هناك عندما نودي على فردوس لكي تصعد لاستلام الجائزة لكنها عندما صعدت أمام الجماهير التي حيتها بقوة (وكانت وقتها في عز مجدها) فوجئت بذهاب الجائزة إلى ممثلة أخرى لا أتذكرها الآن!
كان هناك صراع متخلف وقتذاك يغذيه البعض، بين ما اطلقوا عليه سينما المشرق وسينما المغرب، أو تحديدا بين السينما المصرية، والسينما في المغرب العربي. وقد كتبت في هذا الموضوع، وكنت أميل إلى معارضة كلا الطرفين، اللذين كانا يستندان إلى مفاهيم متخلفة، فلم تكن "التقسيمة" صحيحة أصلا، بل الصحيح القول إن السينما الفنية المتميزة في مصر وغير مصر تواجه الكثير من العقبات والمشاكل، وليس صحيحا أن الفيلم المصري مرادف للفيلم التجاري السائد على إطلاقه، وإلا كيف نصنف أفلام محمد خان وعاطف الطيب ويسري نصر الله ورأفت الميهي وخيري بشارة وابراهيم البطوط وأسامة فوزي (والخلط بين الأجيال مقصود تماما).. هل نضعها في نفس الخانة مع أفلام تعرفونها أنتم جيدا؟
في الوقت نفسه ليس صحيحا على إطلاقه أن كل فيلم ينتج في تونس أو سورية أو المغرب هو فيلم فني بالضرروة، بل هناك أفلام مصنوعة أيضا بغرض الوصول إلى الجمهور العريض، أي أفلام تغازل ذلك الجمهور وتتصور أنها تقدم له ما يريده، وليس ما يريده السينمائيون الطموحون أصحاب الرؤية والخيال!
الموضوع خرج قليلا عن إطار الذكريات التي تستدعيها صور من هذا النوع.. لكن ربما يكون من المهم أن أختم بالقول إنني توقفت تماما عن الكتابة عن أفلام نوري بوزيد منذ ذلك الحين، ما أعجبني منها وما لم يعجبني.. ولعل ذلك أفضل له.. وأكثر راحة لي طبعا!

الأحد، 19 أكتوبر 2008

لوي بونويل و"سحر البورجوازية الخفي"


عالم سينمائي لم يكشف كل أسراره بعد

لوي بونويل Luis Bunuel علم من أعلام السينما في العالم. عاش حياة مليئة بالتقلبات والتجارب. عمل في بلدان وظروف مختلفة: في المكسيك والولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا، وعاصر كبار الفناني والسينمائيين والمفكرين والشعراء في عصرنا. كتب وأخرج خلال 50 سنة 35 فيلما.
من أهم أفلامه "تريستانا"، و"يوميات خادمة"، و"حسناء النهار" و"سحر البورجوازية الخفي"، و"شئ ما غامض عن الرغبة"، و"شبح الحرية".
صدرت مذكرات بونويل بعنوان "النفس الأخير Mon Dernier Soupir " عام 1983، بعد أشهر قليلة من وفاته، وتضم سيرته الذاتية وذكرياته الخاصة وعلاقاته والشخصيات المشهورة التي قابلها، ما كان يحبه وما كان يكرهه، تجربته في الحرب الأهلية الإسبانية وعلاقته بسلفادور دالي، وموقفه من الكنيسة والأسرة، في نوع من "أدب الاعترافات" الصريح والجرئ والممتع حقا. وقد ترجم المخرج والناقد السوري مروان حداد مذكرات بونويل عن الطبعة الإنجليزية التي حملت عنوان My Last Breath وصدرت عن منشورات مؤسسة السينما السورية عام 1991.

العلاقة بالسيريالية
التحق بونويل مبكرا بالحركة السيريالية التي ظهرت في الفن كرد فعل غاضب تجاه الواقع في أوائل العشرينيات من القرن الماضي أي بعد الحرب العالمية الأولى وما تركته من إحساس بسقوط القيم القديمة والمفاهيم الاجتماعية التي كان يعتقد أنها ثابتة، عن الحب والأسرة ومؤسسة الزواج وعلاقة الإنسان بالدولة..إلخ.
واشترك بونويل مع صديقه سلفادور دالي في كتابة سيناريو فيلم "كلب أندلسي" (1928) Un Chien Andalou وهو فيلم روائي قصير (26 دقيقة) يصور بشكل خارج كثيرا عن المألوف وصادم للعين، رؤية كابوسية للعلاقة بين الرجل والمرأة. ولا يتضمن الفيلم قصة أو سياقا سرديا واضحا ومحددا بل يقفز من مشهد إلى آخر ومن زمن إلى زمن أخر، دون أي شروح أو حتى تغير في شكل الشخصيات المحدودة التي تظهر فيه. وقد عرض الفيلم للمرة الأولى في باريس عام 1928.
ويقول بونويل في مذكراته إنه وسلفادور دالي كانا يخشيان من رد فعل الجمهور الغاضب إزاء الفيلم الذي كان يتضمن مشهدا يقطع فيه الرجل بالموسى عين المرأة فيخرج منها آلاف النمل.. غير أنهما فوجئا بإعجاب الجمهور بالفيلم.
من عالم الأحلام والهواجس والكوابيس والتحليل النفسي والرعب من المجهول، ومن تخيل ما يمكن أن يكون كامنا فيما وراء الطبيعة، صنع بونويل عالما خاصا يتبدى في معظم أفلامه، خاصة أفلامه الخمسة الأخيرة، التي تظل حتى يومنا هذا، شاهدة على عبقريته الفريدة.
وقد عاد الاهتمام بأفلام بونويل إلى الأوساط السينمائية الشابة في أوروبا خلال العقد الأخير، فأقبل الكثير من شباب نوادي السينما وجمعيات الأفلام وهواة جمع التحف السينمائية على اسطوانات رقمية dvd على الاهتمام بمشاهدة وتحليل أفلامه والاستمتاع بها، والتعلم مما يكمن فيها من أسرار: بصرية وذهنية وفلسفية، ومحاولة الكشف عن أسرارها الخافية التي تطويها اللغة السينمائية الخاصة التي ميزت أسلوبه.

مصادر الرؤية
وربما يمكن رصد المصادر الفنية والفكرية التي ساهمت في تشكيل عالم بونويل السينمائي في النقاط التالية:
1- البيئة الإسبانية بخلفيتها الثقافية: الأساطير، الأدب الخيالي، عالم سرفانتيس، رسوم جويا وفيلا كروز، وأشعار لوركا، وصولا إلى تجربة الثورة والتمرد العام والحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها بونويل إلى جانب الجمهوريين الذين هزموا على أيدي قوات الجنرال فرانكو مما اضطر بونويل للهرب والعيش في المنفى.
2- الحركة السيريالية بكل تمردها وسخطها على ثوابت عالمنا وجموده، التمرد على الواقعية والكلاسيكية كمذهبين يحدان كثيرا من التعبير الفردي لدى الفنان عما يحس به دون أن يملك مفاتيح لتحليله بشكل منهجي.
3- الدين: المسيحية الكاثوليكية بتقاليدها الصارمة، والرغبة في التمرد عليها، مع إيمان دفين وعميق بالوجود، والرغبة الدائمة في طرح التساؤلات المقلقة حول مغزى الوجود، وعلاقة الإنسان بالله.

لوي بونويل بريشة سلفادور دالي

4- التحليل النفسي والعلاقة بين الكبت الاجتماعي والكبت الجنسي، وعلاقة الاثنين بعالم الأحلام، وما يؤدي إليه البحث في هذا الجانب بالضرورة، إلى البحث في مغزى اللذة وعلاقتها بالألم وبفكرة الإثم أيضا. هناك تأثر واضح عند بونويل بكتابات الماركيز دي صاد فيلسوف الحرية المطلقة الذي عرف بكتاباته عن الجنس والعنف واللذة والألم، ورفض كل القيود التي تحد من المتعة الخالصة المطلقة مثل الدين والقوانين والتقاليد. وقد أخرج بونويل فيلمه الروائي الطويل الأول "العصر الذهبي" عام 1930 (63 دقيقة) وكتبه مع سلفادور دالي عن رواية الماركيز دي صاد "120 يوما في حياة سادوم".
5- الطبقة الوسطى بتقاليدها الشكلية الزائفة ومؤسساتها: الزواج والعلاقات الجنسية وقيمة العمل، مع طرح فكرة الظلم الاجتماعي والتمرد على الانتماء الطبقي دون الوقوع في التبسيط الكلاسيكي. هناك أيضا تأثر بونويل بالماركسية (كان لفترة عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي ثم طرد منه) لكن مع مزجها بالتحليل النفسي- وليس بالفرودية فقط- وبالسيريالية. وهناك تناول فريد لفكرة أن الإنسان سجين لأحلامه وكوابيسه وهواجسه الشخصية، وهي رؤية شديدة الثراء عند التعبير عنها بصريا، غير أنها من زاوية التفسير الماركسي، مرفوضة تماما.
إن عالم بونويل محكوم بنسق دقيق من تناقض الثنائيات على نحو جدلي، مما يجعل قراءة أفلامه قراءة أخلاقية مبسطة أمرا مستحيلا. إننا نجد مثلا، أن بونويل يكرر في كل أفلامه اللعب على ثنائيات مثل الخيالي والواقعي، الفردي والاجتماعي، الرقة والخشونة، اللذة والألم، الحب والتمرد. هذه الثنائيات، تدور في مزيج من الفوضوية السياسية والاجتماعية، والسيريالية كمذهب فني، إلى جانب العناصر الرئيسية الثابتة في سينما بونويل، التي يبرز من خلالها هجومه الحاد وهجائيته الشديدة وسخريته من "الثالوث المقدس": الجنس والدين والسياسة.
أفلام بونويل التي أخرجها في المكسيك وفرنسا، منعت من العرض تماما في وطنه إسبانيا طوال عهد الجنرال فرانكو، فقد اعتبرتها الرقابة الإسبانية أفلاما "منافية للآداب"، و"هدامة اجتماعيا"، وهي المفاهيم التي يكررها كل الفاشيين والقمعيين في كل مكان عبر التاريخ.

ا لسحر الخفي
ويكفي أن نتناول فيلما واحدا من أفلام بونويل هو فيلم "سحر البورجوازية الخفي" لندرك لماذا يتحفظ البعض على أفلامه حتى يومنا هذا، ولماذا يعتبرها البعض مغرقة في الغموض، مستغلقة على الفهم، ولنعرف من ناحية أخرى، لماذا يعتبره الكثير من النقاد، ومنهم كاتب هذه السطور، رائدا لتيار الحداثة في السينما العالمية مع قطب آخر من أقطابها البارزين هو الفرنسي جان كوكتو رغم الفارق الكبير بينهما في الأسلوب.
أخرج بونويل "سحر البورجوازية الخفي"Le charm discret de la bourgeoisie عام 1972 وكتبه بالاشتراك مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير الذي رافق رحلة إبداع بونويل واشترك معه في كتابة سيرته الذاتية بعد اعتزاله الإخراج عام 1977.
ويعتبر هذا الفيلم أكثر أفلام مخرجه كمالا وتعبيرا عن رؤيته الشاملة للعالم، كما أنه يحتوي على كل مفردات سينما بونويل. ومشاهدة الفيلم اليوم بعد أكثر من 35 عاما على ظهوره، تكشف لنا عبقرية صاحبه، وتؤكد قدرة أفلامه على الصمود في وجه الزمن، فمن يشاهد الفيلم يدرك أنه لايزال عملا أصيلا، متميزا، بجدته وجرأته، سواء في موضوعه أو في طريقة عرض موضوعه.
ما الموضوع إذن؟ ستة من أفراد الطبقة الوسطى (البورجوازية) هم ثلاثة من النساء وثلاثة من الرجال، يرغبون في قضاء أمسية يتناولون خلالها طعام العشاء معا، لكنهم يفشلون مرة تلو الأخرى، لأسباب مختلفة، ويربط بين مقاطع الفيلم المختلفة مشهد واحد يتكرر ظهوره طوال الوقت، لأفراد المجموعة وهم يذرعون طريقا ريفيا على غير هدي، ربما يسعون نحو تحقيق رغبة لا تتحقق أبدا ففي كل مرة يوشكون على تناول الطعام يحدث شئ أو يأتي أحد الأشخاص أو يستدعى شخص ما حلما من أحلامه يروها لهم، مما يحول دون تناول الطعام: المتعة الأساسية لدى البورجوازية (الفرنسية بشكل خاص) والتي يجري خلالها تبادل الحديث في شتى المواضيع.
من الخارج، ومن حيث المظهر العام، تبدو ثقتهم شديدة في أنفسهم. هناك سحر خاص غامض يجذبنا إليهم، لكن ما يزيح عنه بونويل الستار، يصيبنا بالفزع والنفور. إنه يعريهم ويهتك أسرارهم من خلال عالم الأحلام الذي يصوره بكل تفاصيله كما لم نره من قبل.
في البداية يحل أربعة منهم، بينهم فيليب، هو سفير لدولة "ميراندا"، وهي دولة خيالية بالطبع من دول أمريكا اللاتينية، ضيوفا على الثنائي الأول: رجل وزوجته (تقوم بدور الزوجة الممثلة ستيفان أودران التي عادت لكي تتألق في فيلم "وليمة بابيت" بعد 15 عاما).. لكن الزوجين يرغبان في ممارسة الحب في غرفة النوم. الخادمة تطرق عليهما باب الغرفة لكي تعلن وصول الضيوف الأربعة. يطلبان منها تقديم المشروبات إلى حين نزولهما لاستقبال الضيوف. لكن الأمر يصبح هزليا تماما عندما يقرر الرجل وزوجته، تحت إلحاح الرغبة، الهرب من الغرفة والتسلل مثل اللصوص عبر النافذة والنزول إلى حديقة المنزل، لاستكمال ما بدآه بين الأدغال.
الضيوف يشعرون بسأم من الانتظار الطويل. وعندما تخبرهم الخادمة أن مخدوميها هربا، يخشى السفير وزميله أن تكون الشرطة على وشك مداهمة المنزل فيهربان مع المرأتين، والسبب أن الرجال الثلاثة ضالعون في تجارة المخدرات، والسفير يقوم بتهريبها في الحقيبة الدبلوماسية.
الأحداث كلها تدور في إحدى ضواحي باريس الريفية. أجواء بداية السبعينيات واضحة في الفيلم: التمرد والحروب الشعبية المسلحة في غابات أمريكا اللاتينية انتقلت إلى شوارع باريس. هناك فتاة ثورية من "ميراندا" تطارد سفير بلادها، تريد أن تغتاله بسبب دوره القذر في تمويل العمليات العسكرية التي تشنها الحكومة ضد الثوار، لكنه يتمكن حسب "الأصول" البورجوازية، من إغوائها واصطيادها داخل بيته في باريس، حيث يجردها أولا من سلاحها، ثم يغازلها ويحدثها عن جمالها وتفتح جسدها، ثم يتركها ويهرب، ولكنه يشير بيده إشارة خاصة عبر النافذة يلتقطها حارسان مسلحان تابعان له، فيقبضان على الفتاة عند نزولها ويصطحبانها بطريقة وحشية لكي تلقى مصيرها.

حلم ودماء
في محاولة للاجتماع على مائدة العشاء في قصر أحد البورجوازيين الستة يحضر ضابط ومجموعة من الجنود. يعتذر الضابط للمجموعة بأن مناورات عسكرية على وشك أن تبدأ في المنطقة العسكرية القريبة من القصر. تلح عليه سيدة القصر لكي ينضم للمجموعة على العشاء. يقبل الضابط أن يتناول كأسا من الشراب فقط. يجلس مع جنوده الذين يدخنون الحشيش. يدور حوار حول الحشيش. يقول أحد البورجوازيين إن الجنود الأمريكيين أدمنوا تدخين الحشيش في فيتنام لذا كانوا يقصفون مواقع قواتهم بدلا من مواقع العدو. يحضر جندي شاب يحمل أمرا للضابط القائد بضرورة العودة إلى القيادة فورا. لكن الجندي يرغب في أن يقص على الحاضرين أولا حلما شاهده الليلة الماضية. يوافق الضابط. ودون تردد يقص الجندي الشاب عليهم كيف أنه رأى في المنام أمه المتوفية منذ مدة، وقد عادت لتشكو له خيانة والده لها. يتناول الشاب سكينا ويقتل والده. الدماء تغرق كل شئ، ثم ينتهي الحلم.
الداخل والخارج
الضابط يدعو المجموعة لتناول طعام العشاء في منزله الأسبوع القادم. وفي الموعد المحدد نراهم وقد التفوا حول مائدة الطعام. يقدم لهم جندي طعاما بلاستيكيا، وفجأة ينزاح ستار لكي نكتشف أنهم يجلسون فوق خشبة مسرح أمام جمهور يسخر منهم بسبب عدم حفظهم لأدوارهم!
يقوم ضابط شرطة باعتقال أفراد المجموعة في أمسية ثانية بتهمة حيازة المخدرات. في قسم الشرطة يروي ضابط لزميله قصة الضابط الذي كان يقوم بتعذيب ضحاياه بوحشية إلى أن بدأ يشعر بتأنيب الضمير فانتحر، لكن شبحه وهو ينزف دما يتبدى – كما نرى- كل عام ليلة الرابع عشر من يوليو (عيد سقوط الباستيل).
وفي مشهد سيريالي نرى الضابط المنتحر أمام بيانو، يفتح غطاءه، تظهر الأسلاك، يضع الجنود شابا من الفوضويين متهما بتفجير قنبلة في عمل من أعمال الإرهاب الثوري، فوق أسلاك البيانو البيضاوي. يدير الضابط ذراعيا آليا، تنتشر الكهرباء في الأسلاك ويرتفع الدخان، ويتلوى الشاب من شدة الألم ويصرخ.
في المشهد التالي نكتشف أن أحدهم كان يحلم مرة أخرى، وأن الضابط الدموي الذي يمارس التعذيب مازال يعمل في قسم الشرطة.
تأتي مكالمة هاتفية لمفتش الشرطة الذي اعتقل السفير وأفراد المجموعة. المتحدث على الطرف الآخر هو وزير الداخلية نفسه (يقوم بالدور الممثل ميشيل بيكولي). يأمر الوزير المفتش بإطلاق سراح الجميع فورا لما في اعتقالهم من إضرار بمصالح الدولة العليا. يحاول المفتش أن يتيقن مما يقوله الوزير، لكن صوت طائرة تعبر المجال فوق المنطقة تشوش على كلام الوزير.. ويتكرر السؤال، وفي كل مرة يتكرر صوت الطائرة، ولا يسمع المفتش ما يقوله الوزير على الطرف الآخر. وأخيرا يقول له المفتش إنه فهم دون أن يكون قد فهم شيئا بالطبع، ويأمر بإطلاق سراح المجموعة.
القس والانتقام
يحضر أسقف الضاحية إلى منزل الثنائي البورجوازي الأول بعد أن يرتدي ملابس منسق الزهور. يقول لهما إنه قس ولكنه يرغب في العمل لديهما في تنسيق وتنظيف حديقة قصرهما لكي يمر بتجربة روحية في التقشف والعمل اليدوي حتى يشعر بمعاناة الفقراء ويتقرب إلى الله. صاحب المنزل لا يبدو أنه يصدق هذه القصة فيطرده شر طردة.يعود القس بعد قليل وهو يرتدي ملابسه الرسمية فيلقى استقبالا مختلفا تماما. يستجيب صاحبا القصر لرغبته بعد تردد، ويسندان له مهمة تنسيق الزهور في الحديقة.
ذات يوم يمرض رجل مسن في القرية المجاورة ويصبح مشرفا على الموت. تأتي زوجة الرجل إلى القصر البورجوازي، تسأل عن القس الذي اختفى من الكنيسة. تقول لها سيدة القصر إن زوجها المريض في حاجة إلى طبيب وليس إلى قس، لكن المرأة تؤكد لها إنه في حاجة إلى قس بغرض الاعتراف، فهو يحتضر بالفعل. يقول القس (في زي منسق الزهور)، إنه يصلح للقيام بالمهمة. يقوم بتبديل ثيابه ويصحب المرأة إلى الخارج. يعترف له الرجل الفقير الموشك على الموت أنه قتل في شبابه مخدوميه السابقين لأنهما كانا يسيئان معاملته ويقومان بتعذيبه. يطلعه على صورة لمخدوميه السابقين وبينهما يقف ولدهما. يتعرف القس في الصورة على والديه. يكظم غيظه. يبارك الرجل قبل وفاته. وفي طريقه إلى الخارج يلمح بندقية معلقة على الجدار. يتناولها ويصوب ويطلق النار على الرجل فيقتله.
هذا المشهد ربما يكون أحد المشاهد القليلة في الفيلم الذي لا يتداخل فيه الواقع بعالم الأحلام، فهو مشهد واقعي تماما. لكن معظم مشاهد فيلمنا هذا تنطلق من الواقع لكي ترتد إلى عالم الحلم، والحلم من داخل الحلم أيضا، وإلى أشكال أقرب إلى الكوابيس السيريالية المرعبة.
غير أن أسلوب بونويل في السخرية يجعله يتمكن من تحويلها إلى مشاهد كوميدية تفجر ضحكاتنا من المفارقات المستحيلة التي نشاهدها، ومن التفاصيل العبثية التي يجيد التلاعب بها.
ويلعب الحوار الساخر العابث الذي كتبه جان كلود كاريير، دورا بارزا في تجسيد التناقضات. ولا يستخدم بونويل وسيلة للانتقال بين المشاهد واللقطات سوى "القطع" cut لأنه لا يريد أن يفصل بين عالمي الحلم والواقع، فهو يرى كلاهما امتدادا للآخر.
ويجسد المشهد الأخير خلاصة أسلوب بونويل العبقري: أثناء حفل العشاء يقتحم عدد من الثوريين من ميراندا القصر ويعتقلون البورجوازيين الخمسة بينما يختبئ السفير الأجنبي تحت المائدة. وفجأة تمتد يده من تحت المائدة يرغب في التقاط قطعة من اللحم يقبض عليها بيده، إن معدته تفضحه. وعلى الفور يطلق زعيم الثوريين النار عليه.
بونويل مع هيتشكوك في هوليوود

هجاء الطبقة
هناك لاشك علاقة واضحة في الفيلم بين السلطة السياسية والعسكرية والبوليسية (الوزير ورجل الشرطة وقائد الجيش) وبين السلطة الدينية (الأسقف) والسلطة الاجتماعية (الطبقة البورجوازية ورموزها). ويكشف الفيلم من خلال عالم الأحلام، عن عجز وسطحية وتفاهة الطبقة التي تتشبث بقيم ظاهرها الوفاء والاخلاص والتضحية: في محيط العمل والعلاقات الزوجية والصداقة وغيرها، في حين أنها تخون كل ذلك بانتظام: هناك خيانات زوجية، وقسوة وتعال بل وعنصرية في النظر إلى الآخر والتعامل معه، وتذبذب وسطحية في المفهوم الديني عن التسامح.
ويوجه بونويل كعادته، نقده الساخر إلى الكنيسة، وإلى السلطة الغاشمة التي تستخدم الدين ستارا، كما تستخدم أقصى درجات القمع ضد معارضيها، وتتستر على مخالفات "السادة" أعيان الطبقة.
وهو يجعل رموز البورجوازية تبدو عاجزة عن تناول الطعام ولو لمرة واحدة، إشارة إلى عدم التحقق، كما يستخدم مشهد الرغبة الملحة في ممارسة الجنس ولو في أدنى صوره، أي في زاوية مظلمة وسط أحراش الغابة، تعبيرا عن غياب الحب، وسخرية من ادعاءات الطبقة عن التمسك بـ"التقاليد" الرفيعة المتحضرة.
ويسبق هذا المشهد مباشرة مشهد الضيوف وهم يتناولون الشراب. ويقوم السفير باعداد كوكتيل خاص ويدعو سائقه إلى تناول كأس معهم قبل أن ينصرف. السائق يتناول المشروب على جرعة واحدة ثم يختفي. هنا ينتقد أحد أفراد المجموعة طريقة السائق (من طبقة أدنى بالطبع) في تناول المشروب. وبونويل بالطبع يريد أن يسخر من ازدواجية المعايير، لأننا نشاهد في الوقت نفسه الزوجين وهما يتسللان عبر النافذة لممارسة الجنس في الحديقة وهو ما يخالف تماما التقاليد البورجوازية!
ويرقى مستوى التمثيل في الفيلم إلى أعلى الدرجات، دون أي افتعال أو مبالغات لفظية أو حركات جسدية زائدة. هناك تلميحات واضحة إلى علاقة فرنسا ببلدان العالم الثالث، وإشارات إلى العنصرية الفرنسية تجاه ابناء الشعوب الأخرى من خلال الحوار الطريف الذي يدور بين الضابط وسفير دولة "ميراندا" الخيالية، التي يفترض أنها إحدى دول العالم الثالث.
ويكشف الحوار عن احتقار البورجوازية الفرنسية للسفير لكونه أجنبيا أو من دولة يعتبرونها "أدنى". لكنهم لا يمانعون من استخدامه لتحقيق مصالحهم، فهو يستخدمهم لتسهيل عملياته "القذرة" في تصفية المعارضة في بلادهم، ويستخدمون هم غطاءه الدبلوماسي لتهريب الكوكايين، وعلى مستوى ما يروى في الحلم يتحفظون على سجل بلاده السئ في حقوق الإنسان، أما على مستوى الواقع فيتعاملون معه وينافقونه كواحد منهم.
إن تعدد المستويات في "سحر البورجوازية الخفي" هو ما يجعل منه تحفة سينمائية من الطراز الأول، سواء على مستوى السرد وحيله المتعددة، أو على مستوى المخيلة البصرية والأداء التمثيلي المنسجم مع السيطرة المدهشة على كل خيوط وتفاصيل وشخصيات الفيلم.

الخميس، 16 أكتوبر 2008

"الدماء المقدسة" لأليخاندرو خودوروفسكي



محور الجنس والدين وأغوار النفس

في هذا المقال أعاود السباحة الحرة مجددا، في عمل آخر من أعمال المخرج العظيم أليخاندرو خودوروفسكي (صاحب "الطوبو" و"الجبل المقدس") لعله يساعدنا على فهم رؤية هذا السينمائي العبقري وفلسفته الخاصة.
أخرج خودوروفسكي فيلم "الدماء المقدسة" Santa Sangre عام 1989 وهو من الإنتاج الإيطالي وصوره بأكمله في المكسيك. وقد كتب خودوروفسكي القصة، واشترك في كتابة السيناريو مع روبرتو ليوني وكلاوديو أرجينتو، وقام بدور البطولة في الفيلم أكسل خودوروفسكي ابن المخرج الكبير، وشارك فيه بالتمثيل أيضا والده أدان وبرونتيس خودوروفسكي.
ويعتمد الفيلم على قصة حقيقية نشرت تفاصيلها الصحف، عن قيام شاب أمريكي كان يعمل في السيرك، بقتل ثلاثين امرأة في المكسيك. هذه الحادثة يتخذها خودوروفسكي فقط إطارا عاما لفيلمه، لكنه يتيح لنفسه الحرية لتقديم رؤيته الخاصة "الخيالية" أو المتخيلة، لما يمكن أن يكون قد أدى إلى وقوع تلك السلسلة من جرائم القتل البشعة، وما يمكن أن يكون كامنا خلف قناع شخصية القاتل الشاب من مأساة عميقة الجذور.
إنه فيلم عن التطرف الديني، وعن الشهوة وارتباطها بالعنف، وعن الأوديبية الفرويدية ونتائجها المدمرة، وارتباط الماضي بالحاضر، وتأثير الطفولة على مرحلة الشباب طبقا للتحليل النفسي الفرويدي الذي يبدو أن خودوروفسكي مولعا به، وهو الذي خبر العمل في مسرح السيكودراما.

مأساة فينكس
يبدأ الفيلم بشاب يدعى "فينكس" يعالج في إحدى المصحات النفسية. يبذل الأطباء جهودا كبيرة من أجل إعادة ثقته بنفسه. نشاهده في البداية داخل غرفة مجردة من الأثاث متجردا من ملابسه، يتصرف مثل قرد في الغابة، وقد وضعوا له في الغرفة ديكورا خاصا: شجرة وبضعة أحجار وحبل. الشاب يتسلق الشجرة فزعا عند دخول الطبيب، وينكمش على نفسه رافضا أن يتبادل الحديث مع أحد.
من هذا المشهد ينتقل الفيلم بطريقة القطع إلى "فلاش باك" أو عودة للماضي، إلى مرحلة الطفولة لنجد بطلنا وهو في العاشرة من عمره، يعمل في سيرك بالمدينة مع أمه "كونشا" التي تقدم الاستعراضات الصعبة "الترابيز"، ومع أبيه "أورجو" الذي يجيد لعبة رشق السكاكين. الأم مكسيكية (لاتينية) مسيطرة، متسلطة، والأب أمريكي، ضخم الجثة، فظ، غليظ القلب، لا يأبه لمشاعر زوجته. وهو يقوم بعرض يومي يتلخص في إلقاء السكاكين حول جسد فتاة الاستعراض اللعوب التي تتلوى أمام لوحة رشق السكاكين.
أما الأم فهي "مهووسة" دينيا، تتزعم مجموعة من النساء اتخذن لأنفسهم من فتاة اغتصبت وقتلت وهي في عمر الزهور، قديسة يتبركن بها، بل وأقمن معبدا خاصا لها لممارسة شعائر تلك الديانة الجديدة الغريبة. رجال الشرطة يحيطون بالمعبد، يريدون تدميره بصحبة قس يعتبر أن النساء من أتباع تلك الديانة الجديدة قد انحرفن عن المسيحي الحق، والأم تصرخ ملتاعة وتتصدر مظاهرة لنساء ديانتها، وتواجه باستماتة رجال الشرطة لمنعهم من تدمير المعبد الذي أقيم داخل كنيسة استولوا عليها.

الهوس الديني
النساء يتحصن داخل المعبد، ونرى حوضا مليئا بالدماء، ونموذجا للفتاة التي أصبحت مقدسة، وتلقي فتاة شابة بنفسها وسط الدماء وهي تردد في هستيرية "الدماء المقدسة.. الدماء المقدسة".. إنه الانسياق الأعمى وراء فكرة القربان أو الضحية التي يتعين على الإنسان تقديمها لكي يحصل على الغفران.
القس يحاول التوصل إلى حل سلمي لانهاء الموقف.. أي تصفية المعبد الذي يعتبره وثنيا خارجا على الكنيسة وانسحاب النساء وتجنب المواجهة مع الشرطة. وهو يحاول إفاقة النساء من سيطرة الأكذوبة، فيقول إن ما يوجد داخل الحوض الكبير ليس دماء وإنما ماء ملون بالصبغة الحمراء.. أي أنهن يخدعن أنفسهن أو تخدعهن كونشا التي تتزعم أتباع تلك الديانة، وإن الفتاة التي قتلت لاقت مصيرها طبقا لارادة الله ولا يجب أن نجعل منها قديسة. تصرخ كونشا في وجهه وتنهى النساء عن الاستماع إليه. وأمام التعصب والإصرار والرغبة المستبدة في الانتحار الجماعي لدى مجموعة النساء المهووسات دينيا ينسحب القس.
يقوم رجال الشرطة بهدم المعبد باستخدام جرافة ضخمة. وترفض الأم الانسحاب بل تحاول التشبث بأي طريقة بأطلال المعبد بعد هدمه. ويندفع ابنها فينكس لإنقاذها قبل أن تلقى مصيرها.

الإغراء والعقاب
ننتقل بعد هذا إلى أجواء السيرك. الأب "أورجو" مفتون بامرأة الاستعراض التي يرشق حول جسدها السكاكين. هذه المرأة يقدمها خودوروفسكي كنموذج للإغواء الأنثوي الصارخ أو للفتنة الشيطانية، جسدها يمتلئ بوشمات عديدة تحمل إشارات وثنية خاصة، وهي ترتدي ملابس شفافة تلتصق بجسدها وتكشف عن مفاتنها، ويتلوى جسدها الملئ بالوشم في ارتجافات متتالية، وتقوم باغواء أورجو بينما تشاهد زوجته كونشا ما يحدث بينهما من مكانها في أعلى السيرك حيث ترقص على السلك، وينتهي الأمر بقيام كونشا بإخصائه في مشهد صادم، فهي تلقي مادة كاوية على عضوه الذكري فتحرقه، ويتحامل الرجل على نفسه بصعوبة شديدة، وينهض ويطارد زوجته ثم يقوم بالانتقام منها بطريقة بشعة باستخدام سكينين يضعهما تحت ابطيها وفي حركة واحدة يقوم بقطع ذراعيها بوحشية ثم يقتل نفسه، وتتفجر الدماء انهارا من جسد المرأة الملقى على الأرض. تتجمع الكلاب تلعق الدماء في أحد أكثر المشاهد وحشية في تاريخ السينما.
تتطور القصة بسرعة. امرأة الاستعراض الشهوانية الموشومة تهرب بصحبة الفتاة البكماء الجميلة التي ترتبط بعلاقة صداقة مع بطلنا الصغير "فينكس"، والأخير يشاهد هروب المرأة الموشومة دون أن يستطيع أن يفعل شيئا، فقد حبسه أبوه داخل شاحنة صغيرة أغلق أبوابها عليه. بعد موت الأب، تعثر الشرطة على فينكس فيودعونه مصحة نفسية، ويخرج ذات يوم في جولة تنظمها المصحة بصحبة مجموعة من المرضى المتخلفين عقليا، يشاهد اثناء ذلك المرأة الموشومة ويرصد مكانها، فتعود إليه ذكرى المأساة.
تظهر أمه المقطوعة الذراعين أمام المصحة تناديه من الشارع. يتسلق هو الجدار إلى أن يصل إلى النافذة ثم يتدلى منها بحبل ويلحق بأمه، ويصبح منذ تلك اللحظة لصيقا بها بل بديلا عن ذراعيها.

ثنائية الأم والإبن
ويأتي وقت الانتقام من المرأة التي كانت سببا في مأساة حياته. يعرف أنها تعمل قوادة، تحاول أن تدفع الفتاة البكماء إلى الدعارة. وفي مشهد دموي آخر يهاجمها داخل حجرتها ويسدد لها طعنات متتالية ولا يتركها إلا بعد أن يمزق جسدها. ونحن لانرى وجهه، بل يده فقط التي تطعن، وربما تكون الأم هي التي تقتل وهو مجرد أداة، وربما أيضا أنه قد أصبح متوحدا مع امه بشكل يجسده الفيلم على صعيد مادي ونفسي. وتقدم الأم نفسها في بعض مشاهد الفيلم كما لو كانت "بديلا" عن المرأة عموما، في حياة ابنها "فينكس"، ويقبل هو سيطرتها عليه بمتعة خاصة. ونلمح إشارات إلى علاقة أوديبية لاشك فيها.
الأم تقوم بتقديم عرض خاص يومي في أحد الملاهي الليلية في المدينة، والشاب يشترك معها في العرض، فيلتصق بجسدها من الخلف ويدخل النصف الأعلى من جسده داخل نفس الملابس التي ترتديها ويستخدم ذراعيه كما لو كانا ذراعان لها. هي تعزف على البيانو بيديه، وعندما تريد أن تحك ذقنها يقوم هو بذلك، أو تشير بيدها أن يتوقف.. هذه الحيلة تبدو في الفيلم شديدة الإقناع، ولاشك أن الممثلين تدربا طويلا على الأداء بهذه الطريقة حتى وصلا إلى هذا الحد من الدقة المطلقة.
تسيطر كونشا على فينكس سيطرة تامة، ويبدو هو منقادا لها، تحت تأثير التنويم الإيحائي الذي تستخدمه. إنها تعتمد في القيام بكل صغيرة وكبيرة عليه وعلى يديه، حتى في القيام بأعمال التطريز، لكن الأهم أنها توحي له بما يتعين عليه القيام به، فهي تدفعه إلى قتل أي امرأة تقترب منه، بعد أن رسخت في ذهنه فكرة أن الإغواء شيطان، وأن العاطفة تؤدي إلى الوقوع في الإغواء بالضرورة، وهذه الإشارات كلها تصل إلينا في الفيلم من خلال النسيج العام وليس بشكل مباشر. وكلما كاد "فينكس" يخضع لرغبات الشباب أو لنداء العاطفة، تقوم هي بتحريضه على الخلاص من المرأة التي تثيره أو تثير عاطفته بقتلها ودفنها، وهكذا تتكرر جرائم القتل.
تفقد الأم السيطرة على ابنها فقط بعد ظهور الفتاة البكماء "ألما" مرة أخرى في حياة البطل. هذه الفتاة هي رمز للنقاء والبساطة والصدق.. إنها "الحقيقة" الوحيدة في حياة فينكس. لكن أمه لا تطيق أن يرى ابنها الحقيقة الأخرى الخارجة عنها وعن سيطرتها فتطلب منه أن يقتل "ألما"، لكنه يرفض ويتمرد بل ويتجه لكي يقتل الأم نفسها ثم يحرق المنزل الذي أقامت في داخله معبدا صغيرا لممارسة شعائر ديانتها الشيطانية، وبذلك يتخلص من الأم (السيطرة بالوراثة)، والدين (السيطرة بالاكتساب).

رؤية مرعبة
خودوروفسكي الذي عاش وعمل في تشيلي والمكسيك والولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا، يقدم هنا رؤيته الخاصة للإنسان وللعالم، وهي رؤية شديدة القسوة والعنف. هناك تحرر كبير في طريقة السرد السينمائي تتناسب مع الرؤية السيريالية المخيفة التي يصورها خودوروفسكي، فالبناء الدرامي لا يخضع للمنطق التقليدي في الحكي بل يعتمد على التداعي الحر، وتداخل الأزمنة، والقفز بين الأمكنة، والمزج بين الأحلام والخيالات والرؤى، وبين الواقع والخيال.
هناك ثلاثة عناصر واضحة في هذا الفيلم من حيث الدلالات والإشارات: الدين والجنس ودخائل النفس البشرية. هذه العناصر تتكرر في كل أفلام جودوروفسكي. إن فينكس مثلا يظهر في اللقطة الأولى من الفيلم على هيئة المسيح، لكنه داخل زنزانته المقفرة، يتسلق شجرة وينزوي عاريا أعلاها. وتتردد في الفيلم أيضا فكرة الإثم والخيانة والخضوع للإغواء بالمفهوم الديني، ولكن في المقابل هناك أيضا الخضوع لما يعتبره خودوروفسكي نوعا من الأساطير والقصص الأرضية التي يحولها الإنسان إلى معتقدات "سماوية" كما في حالة الفتاة التي تغتصب وتقتل فتتحول إلى "قديسة" ولكن بدماء مقدسة مزيفة.
الرغبة الجنسية العارمة ترتبط بالخيانة، ويتم القضاء عليها بالإخصاء، ثم بالقتل في أبشع أشكاله وصوره بعد ذلك على يدي فينكس أو يدي أمه، التي تدفعه إلى قتل كل فتاة تثير فيه الرغبة. والقتل هنا مادي تماما، حسب رؤية خودوروفسكي، لكنه يريد أن يصور لنا كيف يقمع الإنسان رغباته بأقوى ما يمكن، تحت دوافع الدين والعرف.
أما النفس البشرية فهي شديدة التعقيد. وقد تكون شديدة الاختلاف في الداخل عما يبدو من الخارج. وقد تتحول في لحظة ضعف أو انهيار إلى قوة مدمرة، يمكن توجيهها وقيادتها والسيطرة عليها.
ولعل جمال الفيلم وجاذبيته تكمن في أن مخرجه يقدم لنا كل هذه العناصر الفنية والفكرية والجمالية وينتقل فيما بينها، دون أن يفقد القدرة على "رواية قصة" مشوقة أيضا ومثيرة للخيال والفكر، ودون أن يفلت منه الإيقاع العام لحظة واحدة.

عناصر سيريالية
وتتبدى معالم أسلوب جودوروفسكي السيريالي في الكثير من مشاهد الفيلم وأجوائه. هناك مثلا مشهد جنازة الفيل: فيل السيرك الصغير ينزف إلى أن يموت. يقومون بوضع جثته داخل صندوق كبير أي نعش خاص ثم يضعونه فوق شاحنة بعد أن لفها بعلم السيرك. وتتحرك الشاحنة تحمل نعش الفيل وتمر بشوارع المدينة، ويشارك أصدقاء الفيل الراحل، من مهرجي السيرك ولاعبيه وأهل المدينة، في الجنازة المهيبة، حتى أن يصل الموكب الغريب إلى حافة الجبل. ويلقون بالنعش اسفل الجبل، وهنا يهجم حشد من مشردي المدينة ويبدأون في تحطيم النعش، ويستخرجون قطعا من جسد الفيل المسكين يوزعونها على أنفسهم تمهيدا لالتهامها كي تقيهم شر الجوع!
وهناك المشهد الذي نرى فيه فينكس وهو يتأهب لدفن إحدى ضحاياه داخل حفرة ويقوم كما يفعل عادة، بطلاء الجزء الدامي الذي ينزف من جسد الضحية بالطلاء الأبيض. وفجأة تنشق الأرض، وتنبثق من جوفها جثث عشرات الضحايا من النساء، يرفعن أيديهن في تضرع ولوعة وعذاب، بينما يغمغم البطل في ألم وأسى: إغفروا لي.. إغفروا لي!
ويحيط خودوروفسكي فيلمه بأجواء السيرك، سواء في استخدامه للموسيقى أو في طريقة تحريك الممثلين أو استخداماته للإضاءة التي قد تبدأ داخل المشهد من بقعة محدودة ثم تتسع على طريقة الإضاءة في السيرك.
ويستخدم حركة الكاميرا، ليس فقط من أجل استعراض تفاصيل الديكورات الخيالية المرعبة التي يدور فيها التصوير، بل من أجل إضفاء دلالات درامية على المشهد. عند قيام فينكس مثلا بقتل ضحيته الأولى، لاعبة السيرك الموشومة الجسد، لا نرى البطل نفسه، بل يعيدنا المخرج لاستقبال حادث القتل، ونعرف أن فينكس سيقوم بقتلها، وتتحرك الكاميرا بشكل حر محمولة على اليد من وجهة نظر القاتل الذي لا نراه، ومن مستوى ارتفاع جسده، وتسير داخل ممرات معتمة ودهاليز كئيبة لبيوت المتعة السرية في مكسيكو سيتي، إلى أن تخترق غرفة المرأة. وفجأة تتوالى طعنات السكين وتتدفق الدماء في تفاصيل مرعبة. وقد تكون الأم هي التي تقود فينكس وتستخدم ذراعه في القتل.
ومن المشاهد السريالية الأخرى في الفيلم المشهد الذي نرى فيه الفتاة البكماء "ألما" وهي تهرب من حي الدعارة، ولكن رجلا من العالم السفلي يحاصرها ويوقفها. يبتسم لها ثم يضع يده على أذنه اليمنى وينزعها في هدوء كأنه ينزع قشرة عن بصلة، ويحاول أن يضع الأذن المقطوعة داخل فم الفتاة بالقوة لكنها تتمكن من الهرب.
وفي الفيلم مشاهد كثيرة يؤديها فينكس على المسرح، مستوحاة من خبرة خودوروفسكي وابنه أيضا في العمل مع رائد فن التمثيل الصامت الفرنسي مارسيل مارسو، وقد عمل الاثنان معه في باريس لسنوات.
وتتمثل عظمة أفلام خودوروفسكي في أنها تحيلنا إلى قراءة علم النفس الحديث، ومراجعة تقاليد مسرح السيكودراما، ومدرسة الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، مع مراجعة تطور السينما كفن بصري بالدرجة الأساسية، فن يستفيد حقا من المسرح ومن الأدب والشعر وغيرهما، لكنه على مستوى السينما الخالصة، لا يشبه أيا من كل هذه الوسائط الفنية.

هذا المهرجان

السطور التي ستقرأونها هنا ليست من "تأليفي" ولا من تأليف أحد من "أعداء الخليج" وهي الألفاظ التي يحب بعض الموتورين والمرضى العقليين استخدامها، فلا يوجد هناك "عداء" لخليج ولا لمحيط بل للفكر المتخلف عموما في أي مكان، كما أنها ليست من المعادين لثقافة التصحر العقلي والبداوة الفكرية والإرهاب النفطي، بل كتبها تحديدا الصحفي السوري حكم البابا الذي يحرر صفحة السينما في موقع "العربية نت" التابع للسعودية، في مجال تعليقه على مهرجان أبو ظبي السينمائي المسمى بـ"مهرجان الشرق الأوسط".
وإليكم ما نشره بالحرف موقع العربية عن المهرجان الدولي الذي جندت كل وسائل الإعلام لانجاحه والتطبيل له دون أي تعليق من جانبي:
* قد يقال الكثير في مشكلات المهرجان الأخرى من الأفلام العربية المتواضعة المستوى المشاركة في مسابقته، والتي تعكس ليس فقط تدني مستوى الإنتاج السينمائي في العالم العربي، وإنما أيضا الطريقة التي تم بها اختيار هذه الأفلام للمشاركة في المهرجان، إلى اختيار عنوان تقليدي لندوة المهرجان حول واقع صناعة السينما في العالم العربي والتي تعيد اكتشاف العجلة للمرة المليون، ويستعاد فيها كلام قيل مرارا وتكرارا في جميع المهرجانات السينمائية العربية، مرورا بنقل حالة الشللية التي تتحكم بمجموعات النقد السينمائي العربي إلى مهرجان أبوظبي، عبر خيارات مستشار المهرجان الناقد المصري سمير فريد التي اعتمدت معيارا وحيدا لنوعية وأسماء ضيوف المهرجان من النقاد والباحثين، وصولا إلى خلطة غريبة من النجوم استضافها المهرجان تجمع بين نجوم تلفزيونيين عرب ونجوم غربيين يكادون يكونون منتهيي الصلاحية، وانتهاء بالارتجال الذي حكم مطبوعات المهرجان الصحفية.


* لم أفهم سرّ إصرار مديرة المهرجان نشوى الرويني على ذكر المائتي ألف دولار قيمة الجائزة الكبرى في مسابقة الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة، في كل مرّة قدّمت فيها فيلمًا من أفلام المسابقة، وبطريقة تذكّر بجوائز قسائم المشتريات في المراكز التجارية، أكثر مما تليق بمهرجان سينمائي، كما لو أنها تقول وبالعربي الفصيح بأن صنّاع الأفلام السينمائية المشاركة في مسابقة المهرجان كل هدفهم هو الحصول على هذه المائتي ألف دولار!


* بعد المشكلة المالية التي أثارها الناقد اللبناني إبراهيم العريس مع المهرجان والتي أدت إلى توقف ندوة (صناعة السينما في الوطن العربي) مؤقتًا إلى أن حلّت مسألة النقود فهمت سر إصرار مديرة المهرجان على ذكر المائتي ألف دولار باستمرار!


• أنا حزين فعلا على الجهد الذي بذله السينمائي العراقي قيس الزبيدي في سبيل إنجاز برنامج (60 عاما على تقسيم فلسطين) والذي لم يتواجد في أي عرض من عروضه مشاهدين يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين!


• أنا على ثقة بأن مهرجان الشرق الأوسط السينمائي سيصبح دوليًّا فعلا ويتحول إلى عالمي وواقعي فيما لو استطاعت عروض أفلامه السينمائية أن تحظى بجمهور يصل عدده إلى عدد الذين واظبوا على حضور سهراته الليلية العامرة بما لذ وطاب.* الشعور الرئيس والوحيد الذي يحس به متابع الأفلام التي مثّلت الإنتاج السينمائي العربي في مسابقة المهرجان هو الاكتئاب!


* بين أعضاء لجنة تحكيم المهرجان أشخاص يمكن استبدال أسماءهم وسيرهم الذاتية بعدد من إشارات الاستفهام والتعجب، من دون أن يؤثر هذا الاستبدال عليها!* سمعت كلاما مختلفا من الضيوف والإعلاميين الذي تابعوا المهرجان، لكن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الجميع هو أن المهرجان مناسب للراحة والاستجمام عشرة أيام، ورغم ذلك فأنا على ثقة أني سأقرأ بعد أيام كلاما لكل هؤلاء يتحدثون فيه عن نجاح المهرجان وأهمية فعالياته، لكي يعودوا في العام المقبل للاجتماع في دورته الثالثة!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger