الأحد، 12 أكتوبر 2008

المهرجانات والمسابقات

يعتقد الكثيرون أن المهرجانات التي تنظم مسابقات هي أفضل بالضرورة من تلك التي تكتفي بتنظيم عرض الأفلام. وكنت شخصيا من أصحاب الرأي الأول في السابق، غير أنني أدركت تدريجيا كم من الألاعيب والتحايلات و"التكتيكات" والتحيزات تلعب دورا في تحديد الأفلام التي تشارك في مسابقات المهرجانات الكبرى، وكم من المناورات التي تدور من وراء الستار، تحد أيضا إلى من تذهب الجائزة.
وقد شاركت في لجان تحكيم، محلية ودولية، وأعرف تماما ما أقول، بل وسأروي في مناسبات قادمة تفصيلا تجربتي في أكثر من لجنة تحكيم لعلها تسلط بعض الضوء على ما يحدث عادة.
غير أنني أصبحت حاليا أدرك أن المهرجانات التي لا تنظم مسابقات أفضل من غيرها، فهي أولا تخلق المناخ الملائم للمشاهدة الحقيقية وتترك الحكم على الأفلام للجمهور.
وهي ثانيا: تتحول إلى مهرجانات جماهيرية أساسها هو جمهور المدينة التي تنظم المهرجان، وليس بضعة عشرات أو مئات الاشخاص الذين قدموا من خارج المدينة بدعوات خاصة لإحياء ليالي المهرجان في حين يتم تهميش جمهور المدينة أو يحظر دخولهم العروض من الأساس.
أما المهرجانات التي أرادت الجمع بين تنظيم مسابقات والاهتمام بالجمهور على حد سواء فلم تنجح كثيرا.
ولعل من أكثر المهرجانات التي لا تنظم مسابقات مهرجانات روتردام وتورنتو ولندن.
ومهرجان لندن افتتحت أخيرا دورته الثانية والخمسين. وهو يعرض عددا كبيرا من الأفلام تصل إلى ما يقرب من 300 فيلم من الأفلام الطويلة والقصيرة.
وميزة هذا المهرجان، الذي لا يهتم به العرب رغم اهتمامه، أكثر من غيره، بسينماهم، أنه لا يدعو نجوما على شاكلة شارون ستون أو جين فوندا (بعد أن تقدم بهن العمر وفقدن كل اهتمام في الغرب) أنه يدير مناقشات حقيقية ساخنة حول ما يعرضه من أفلام مع مخرجيها مباشرة بعد عرضها.
ويمكن القول إن مهرجان لندن أيضا مهرجان مخرجين، وليس مهرجان منتجين أو تجار أفلام، فلا يكاد يوجد فيلم من أفلامه، طويلا كان أم قصيرا، إلا ويدعى مخرجه للمشاركة في مناقشته مع الجمهور.
ولعل مما يدعو للسعادة أيضا أن مهرجان لندن يوفر على جمهور مدينته الكثير حينما يعرض أهم الأفلام التي عرضت في كان وفينيسيا وبرلين وموسكو وغيرها من المهرجانات السينمائية الكبيرة في العالم بما في ذلك الأفلام التي لم تجد موزعا يعرضها في بريطانيا بعد لعل أحدا يتحمس لشراء حقوق توزيعها وهو ما يحدث بنسبة أكثر من 45 في المائة.
والسؤال هو: وماذا يستفيد الجمهور العربي أو أصحاب الأفلام العرب من المهرجانات التي تقام في العالم العربي!

إطلالة جديدة على فيلم "الجبل المقدس"




عذابات المعرفة ولغة الشعر الصوفي


كانت آخر دورة حضرتها من مهرجان كان السينمائي دورة عام 2006. وربما كان أهم أحداث تلك الدورة، هو عرض فيلمي "الطوبو" و"الجبل المقدس" للمخرج الأسطوري أليخاندرو خودوروفسكي Jodorowssky بعد أكثر من ثلاثين عاما من وقف توزيع الفيلمين من طرف المنتج آلان كلاين بسبب غضبه على خودوروفسكي بعد خلاف شديد بينهما.
وقد عدت أخيرا لمشاهدة الفيلمين على قرصين من الأقراص الرقمية DVD بعد أن أصبحا أخيرا متوفرين في طبعة أنيقة تحتوي على تفاصيل تتعلق بكيفية استعادة الألوان وردها إلى حالتها الطبيعية الأولى بعد أن كانت قد فقدت الكثير من رونقها وأصالتها.
وأود الآن التوقف أمام فيلم "الجبل المقدس" The Holy Mountain والدخول معه في تأملات حرة بمستوى يليق بهذه التحفة التي أرغب في تقديمها لقراء هذه المدونة المتخصصة من عشاق السينما الحقيقية المختلفة، والساعين إلى دراسة تطور أبجديات هذا الفن.
هذا ليس فيلما كسائر الأفلام الفنية الرفيعة التي تتعامل مع أغوار النفس البشرية، وتسعى إلى تفسيرها وتجسيدها بالصور واللقطات، بالحركة والموسقى، وبالتكوين والتشكيل والضوء والظلال والألوان. لكنه "مغامرة" كبيرة في السينما التي تستمد من الفن التشكيلي ومن مسرح البانتوميم الذي كان خودوروفسكي رائدا من رواده، ومن العروض الاستعراضية spectacle، بل ويمكن القول إن مخرجه وصانعه هو "رجل استعراض" حقيقي بكل ما تحتويه هذه الكلمة من معان، كما أن له أيضا فلسفته الخاصة في الحياة، فهو يرفض محدودية الجسد، كما يرفض الحدود القائمة بين الدول أو تقسيم البشر إلى جنسيات وأجناس، بل إن ما يشغله حقا هو ما يوجد داخل الكائن البشري، أعماقه وخيالاته ومشاعره الحقيقية مهما بلغت من جموح وتوحش.

ولاشك أن المرء يخرج بعد مشاهدة فيلم "الجبل المقدس" وهو أكثر إدراكا لطبيعة السينما وحقيقة الحياة. أخرج خودروفسكي هذا الفيلم البديع بعد ما حصده فيلمه الأول "الطوبو" El Tobo من نجاح كبير. فقد تكلف إنتاجه أقل من 400 ألف دولار عام 1970، وحقق أكثر من 10 ملايين دولار من عروضه في شتى أرجاء العالم، وهو رقم كبير بمقاييس تلك الفترة من أوائل السبعينيات.
وقد شجع هذا النجاح المنتج نفسه، آلان كلاين، مدير فرقة البيتلز، على العودة إلى الاستثمار في موهبة خودروفسكي الكبيرة، فرصد في البداية 750 ألف دولار، إلا أن الميزانية النهائية للفيلم بلغت 1.5 مليون دولار، واعتبرت بالتالي في ذلك الوقت، أكبر ميزانية في تاريخ السينما المكسيكية التي ينتمي إليها هذا الفيلم الذي صور بأكمله في المكسيك واستعين فيه بطاقم مكسيكي.


إشارات ورموز
ليس في فيلم "الجبل المقدس" قصة بالمعنى المتعارف عليه، ولا يوجد أيضا سياق قصصي أو narrative يسير نحو ذروة أو عقدة معينة. وشأنه شأن كل أفلام كبار المبدعين من "مؤلفي" السينما، أي أصحاب الرؤية السينمائية: البصرية والفلسفية، لا يحتوي الفيلم على "موضوعة" يمكن تبسيطها وبسطها، لكنه يتضمن سياقا من نوع آخر مختلف عن السياق القصصي المألوف في الدراما المعتادة.

هناك "توليفات وتنويعات" من اللقطات التي تعكس ولع صاحبها بفكرة الطوطميات أو النقوش التي رسمها الإنسان منذ فجر التاريخ، على الأحجار والكهوف والأرض، مسجلا عليها إشارات ورموز معينة، يرى خودوروفسكي أنها ترتبط معا في علاقة ما دفينة تعكس معان محددة لها علاقة ربما، بالبحث عن اصل الكون، وعن سر الوجود.
ويبدأ الفيلم بمشهد يعكس ذلك الولع. إمرأتان شقراوتان ترتديان ملابس بيضاء متشابهة: فستانا يكشف عن الصدر وعن الذراعين. نراهما أولا معا في لقطة قريبة (كلوز أب) تظهر الوجه والصدر، ثم في لقطة متوسطة من نفس الزاوية، ثم في لقطة عامة للمكان كله حيث نراهما مع راهب أو رجل دين قد يكون بوذيا، يرتدي قبعة سوداء ضخمة تغطي وجهه، وملابس سوداء. وهو يجلس على الأرض على خلفية من بلاط حائط أبيض منقوش بصلبان سوداء.
يتناول الراهب ابريقا فضيا من على يسار الكادر، يصب منه الماء ببطء في إناء فضي على الجهة الأخرى من الكادر، ثم يضع الابريق على الأرض ويخرج من الإناء قطعة قماش بيضاء يطويها ويعصرها ثم يفردها ويمكسها بيده. إنها فوطة صغيرة مبللة. وفي اللقطة التالية مباشرة نرى الراهب (من ظهره) يضع فوطتين كل منهما على وجه امرأة من المرأتين، ثم لقطة عكسية من الأمام، ثم في لقطة أخرى متوسطة نراه وهو ينزع إظفر احدى المرأتين ثم الخاتم الذهبي من أحد أصابعها، ثم ينزع عن المرأتين في لقطة أخرى ملابسهما من أعلى الجسد. ويمسك المقص ليقص شعرهما.. إلى أن تصبحا حليقتين تماما. في لقطة متوسطة يقترب من رأسيهما الحليقتين، تتحسس يداه جسديهما، ثم يهبط برأسه يغطي جزءا من رأسيهما بقبعته الضخمة السوداء.


وتتراجع الكاميرا في "زووم أوت" إلى لقطة عامة، ثم يقطع على لقطة أخرى تتحرك فيها العدسة "زووم أوت" إلى الوراء نرى فيها نقوشا زرقاء تصطبغ باللون الأحمر.. خرزات زرقاء.. رسما لعين كبيرة.. رسما لخرزة في يد.. رسما لمفتاح فضي.. جثثا ملتفة في ملاءات بيضاء.. أشكالا غريبة ورسوما وشكلا كبيرا مضلعا. هنا، مرة أخرى يستخدم خودوروفسكي النقوش القديمة التي تحمل رموزا مثل المفتاح أو رءوس الحيوانات أو الحيوانات نفسها (الثور والعنزة والجمل ذو الصنمين) التي سيعود إلى إظهارها بشكل كامل في مشاهد أخرى.

اللص والتوبة
إن بطل هذا الفيلم البديع، إذا جاز ان هناك بطلا، هو لص يجعله المخرج-المؤلف قريب الشبه من المسيح. هذا اللص يمر عبر الجزء الأول من الفيلم، بشتى أنواع الاختبارات والمحن والتحديات التي يكتوي خلالها بنيران العالم الحديث وقيمه: الجشع والغش والانتهازية والقمع والتدهور الأخلاقي واستخدام الدين للتضليل بدلا من التنوير، وإساءة استخدام السلطة. ذنبه أنه يشبه المسيح مما يجعل مجموعة من الأطفال العراة يقومون بصلبه ثم يأخذون في قذفه بالأحجار، لكنه يتمكن من تخليص نفسه من الصليب ثم يطاردهم بدوره ويقذفهم بالأحجار ويلعنهم. قزم مبتور الساقين والذراعين (يتكرر ظهوره في أفلام خودوروفسكي الثلاثة "الطوبو" و"الجبل المقدس" و"الدماء المقدسة") يصادقه، يدخن معه الحشيش ثم يصحبه إلى المدينة. في المدينة نرى جثثا عارية غارقة في الدماء فوق شاحنة.

اللص يحمل القزم وهو يضحك، وفي الجزء الثاني يلتقي اللص بـ"المُخلِص" أو الساحر (الذي يلعب دروه خودوروفسكي نفسه) الذي يقوده إلى رحلة يتعرف خلالها على سبعة من الرجال المتنفذين في المجتمع: السياسيين والصناعيين كما يقول له أي "لصوص مثلك بطريقة أخرى" منهم صاحب مصنع للأسلحة، وتاجر للعاديات، ومستشار مالي لرئيس الجمهورية، ورسام يصنع الفن الهابط الاستهلاكي، ومعماري يعمل من أجل ان يحقق المقاولون الملايين من الأرباح على حساب الناس الذي يكفيهم كما يقول "أن نبيع لهم مأوى وليس مسكنا".
سر الأبدية
الأشخاص السبعة (بينهم امرأة) من رجال الصناعة والمال والسياسة والفن، يمثلون الكواكب السبعة. ورغم نفوذهم وقوتهم إلا أنهم يذهبون إلى الساحر لكي يمنحهم سر الحياة الأبدية، ومن أجل الوصول معه إلى "الجبل المقدس" والحصول على السر العظيم هم على استعداد للتخلي عن كل شئ: المال والسلطة والنفوذ والشهرة. ولكن يتعين عليهم الآن التجرد ونبذ كل شئ من أجل الوصول إلى الخلود والتغلب على الموت، أقدم فكرة تعذب الإنسان منذ بدء الخليقة. يطلب منهم الساحر التخلص من رغباتهم: الشهوة والجنس والأسرة والمال الذي يلقون به أكواما داخل محرقة تدور فتقضي عليه دون أي أثر. وعندما ينتهون من حرق المال، يكون مطلوبا منهم أيضا التخلص من الصورة التي صنعوها لأنفسهم، فيحرقون دمى عارية تشبههم تماما.


الطريق إلى الخلود
في الجزء الثالث من الفيلم يتجهون بصحبة الساحر- المخلص، نحو الأعلى، إلى حيث الجبل المقدس الذي يخفي سره. ويقول لهم الساحر إن تسعة رجال يقيمون هناك في أعلى الجبل بعد ان عثروا على السر وأصبحوا محصنين من الموت، وعاشوا حتى الآن 40 الف سنة. وعندما يصلون إلى قمة الجبل لا يجدون هناك إلا مجموعة من الدمى تجلس متحلقة حول مائدة غريبة الشكل، يكشف عن حقيقتها لهم الساحر الذي يكون قد سبقهم إلى هناك ويضحك ضحكة عالية ساخرة ثم يوجه حديثه لهم: "لقد وعدتكم بالعثور على السر.. وقد جئنا إلى هنا من أجل الحصول على الحياة الأبدية مثل الآلهة.. لكننا لانزال مجرد بشر، ولكن إذا كنا لم نحصل على الأبدية فعلى الأقل حصلنا على الحقيقة، ولكن هل هذه الحياة التي نحياها هي الحقيقة.. كلا.. إنها فيلم.. زووم للخلف.. إننا صور، أحلام، خيالات. يجب ألا نبقى هنا سجناء. سنحطم اللغز. وداعا للجبل المقدس، الحياة الحقيقية في انتظارنا".
وتتراجع الكاميرا إلى الوراء بالفعل ونكتشف أن المشهد كله يدور في مكان تصوير فيلم سينمائي.. أبطالنا فيه مجرد ممثلين.. وأجهزة الإضاءة منصوبة.. ومعدات الصوت ظاهرة، وطاقم التصوير والمساعدين يحدقون نحو الساحر. إنه يكشف سحر عالم السينما بعد أن جعلنا نعيش داخل ذلك "الوهم اللذيذ" الذي ندخله بإرادتنا ونندمج فيه، لكن الانتقال بين الحقيقة والوهم يظل يستهوينا.. فهل سنكف عن التسلل إلى داخل الوهم؟
المؤكد أن خودوروفسكي يلهو ويتلاعب بالوسيط السينمائي من خلال هذا الفيلم لكي يسوق لنا رؤيته عن العالم: الشر الكامن في الخارج، والخوف والجزع الكامن في الداخل.. داخل النفس. إنه الخوف من الغامض، المجهول، الموت. لكن "الرؤية" تعكس أفكار صاحبها، وتدور أساسا حول "المقدس". إن فكرة المسيح والمخلص، المخطئ والقديس، تتردد بقوة هنا.

هنا أيضا تتجسد فكرة أن أكثر الجميع إغراقا في الخطيئة، قد يكون هو أقربهم إلى الإيمان والرغبة في الوصول إلى اليقين. هذه الأفكار "الدينية" الطابع تتردد أصداؤها هنا بصورة أقوى كثيرا عما كانت في "الطوبو". إن اللص الذي يطابق صورة المسيح، يتسلل خلال النصف الأول من الفيلم إلى داخل الكنيسة، وهو يحمل تمثالا على صورته، أي على هيئة المسيح. ويضع التمثال في مكان بارز في الكنيسة، لكنه يفاجأ بوجود القس تحت الغطاء في فراش واحد يحتضن تمثال المسيح الأصلي وكأنه يضاجع التمثال. وعندما يرى القس التمثال الذي أتى به اللص في موضع تمثاله، يصرخ فيه بما معناه أن مسيحه هو هذا.. الذي كان معه في الفراش وليس هذا الذي أتى به، ويقوم بطرده ويلقي به خارج الكنيسة مع تمثاله. يسقط اللص على الأرض مع التمثال ثم يبدأ في أكل رأس التمثال، يقطع منه قطعا مثل كعكة شهية ويأكل بشراهة!
بعد تلك الإدانة الشديدة الموجهة للنفاق الديني، سيصبح هذا اللص أكثر الجميع استعدادا للتوبة والوصول للحقيقة. وفي مشهد هائل نراه يتسلق بحبل رفيع برجا تاريخيا مرتفعا إلى أن يتمكن من الوصول إلى قرب قمته حيث يتسلل من كوة إلى الداخل. إنه يريد الوصول إلى الساحر- الكاهن. وعندما يرغب في قتل الساحر للاستيلاء على الذهب، يتغلب عليه الساحر ثم يقوم بتنويمه مغناطيسيا أو شل حركته بالكامل. وبعد ذلك تأتي فتاة سمراء أو راهبة موشومة الجسد تحمل خنجرا تقطع به نتوءا في رقبة اللص من الخلف فيخرج منها سائل ازرق بدلا من الدم، ثم تنزع كائنا بحريا غريب الشكل من داخل رقبته. ويعيده الساحر إلى اليقظة. لقد قام بتخليصه من طاقة العنف. والآن يسأله ببساطة: هل تريد ذهبا؟ يقول له اللص: نعم. يطلب منه الساحر أن يتبرز ثم يحول البراز إلى ذهب. وبذلك ينزع عنه غريزة الجشع.
إنها عملية التطهير اللازمة قبل أن يندمج مع الآخرين في الرحلة الروحانية نحو الجبل السحري. رؤية معاصرة غير أن خودوروفسكي لا يغفل في فيلمه عن العالم وما يحدث فيه من عنف وقهر وقمع واستغلال. وفيلمه من هذه الناحية معاصر تماما أي ابن عصره وبيئته.
في الجزء الثاني من الفيلم نتعرف على الشخصيات السبع من كبار السياسيين والصناعيين، كل على حدة في مملكته التي يمارس فيها أبشع أنواع الاستغلال والقهر، ويغرق في التدهور بشتى صوره واشكاله حتى اقصى درجات السيريالية. وخلال الجزء الأول نرى كيف يسير الجنود استعدادا للتصدي للمتظاهرين (في المكسيك أو في أي دولة من دول العالم الثالث).. ثم وهم يطلقون النار عليهم.. وبعد أن تسقط جثث الثائرين نرى ثقبا في صدر أحدهم، مكان اختراق الرصاص وقد انشق وبدأت تخرج منه العصافير.. إنها السيريالية الأصيلة في اسلوب ولغة خودوروفسكي السينمائية. ويقوم حشد من السياح الغربيين بتصوير اطلاق النار والجثث الساقطة على الأرض باستمتاع. ويجذب أحد الجنود زوجة سائح لكي يغتصبها فترحب وتقدم له نفسها في الشارع، بينما زوجها يراقب المشهد باستمتاع. إنه التدهور والسقوط الأخلاقي في عالمنا المعاصر كما يراه خودوروفسكي.

الجنود يحملون ذبائح تصطبغ بالدم يرفعونها على أسنة البنادق ويسيرون في مسيرة استعراضية في الشارع. ربما تكون معادلا رمزيا لفكرة التضحية أو القربان. الرهبان القريبون من الكنيسة يقبضون على اللص، يضعونه داخل قالب خشبي ثم يصبون كتلا من الجبس السائل فوق جسده ووجهه يريدون أن يصنعوا قالبا مماثلا له تماما في الشكل.. لصنع تماثيل للمسيح. وبعد أن ينتهوا من أمره، يلقون به فوق كومة من حبات البطاطا. تنهضه راهبة تسقيه، ثم ينظر حوله فيفزع من التماثيل، فيأخذ في تحطيمها بعنف وهو يصرخ، ثم يحمل تمثالا واحدا للمسيح ويتجه نحو الكنيسة. في طريقه يقابل مجموعة من العاهرات يرتدين ملابس تكشف عن صدورهن وسيقانهن، وبينهم طفلة صغيرة يحمل وجهها كل براءة العالم. ونرى رجلا يتأمل العاهرات بشهوة، وعندما يرى الفتاة يستوقفها.. يقبل يدها برقة ثم يمد يده وينزع عينا من عينيه ويضعها في يد الفتاة، ثم يغمر يدها بالقبلات.


الشعر والحقيقة
هذه المفردات هي مفردات الشعر السينمائي التي تميز أسلوب خودروفسكي الذي لا يرى أن الحقيقة التي نراها امامنا هي بالضرورة الحقيقة، وهو يلجأ كثيرا إلى استخدام العنف كأحد المكونات الأساسية في الإنسان كما يراها هو، في تعبير الإنسان عن نفسه، عن رغباته، عن شهواته، عن اندفاعه المجنون نحو الاستحواذ. إن العنف بهذا المعنى في أفلام خودوروفسكي ليس عنفا مجانيا، بل عنف يحمل دلالاته الفلسفية والشعرية.

في مشهد آخر يدور داخل الكنيسة نرى الجنود وهم يرتدون الأقنعة الواقية من الغاز وهم يرقصون مع شباب يرتدون ملابس عادية، ربما يكونون من العمال أو من الثائرين المعتقلين المرغمين على تلك الرقصة. وعندما يدلف اللص إلى الكنيسة نلمح في أحد الأركان جنديا يختلي بشاب في أحد الأركان، إشارة إلى السلطة العسكرية الغاشمة التي لا تتورع حتى عن تدنيس الأماكن المقدسة.
وليس من الممكن الإحاطة بكل ما في هذا الفيلم من مفردات وتفاصيل تشكيلية داخل لقطاته وصوره البديعة. فهناك عشرات الأشكال والرموز التشكيلية واللقطات المبتكرة التي قد تحتاج إلى دراسة خاصة مستقلة للكشف عن مغزاها في الثقافة الخاصة لصاحبها في علاقتها بأفلامه الأخرى بل وبأعماله المسرحية أيضا.
ويمكن القول أيضا أن خودوروفسكي يستخدم الصمت لإضفاء دلالات ذات طابع أسطوري على فيلمه، مع الاستعانة بشريط صوت شديد الحيوية والثراء. إن الجزاء الأول من الفيلم (تقريبا ثلث الفيلم) لا أثر فيه للحوار. وهو يستخدم مزيج من المؤثرات الخاصة الموحية، على سبيل المثال، في المشهد الذي يقوم فيه الساحر بمقاومة اللص الذي حاول الاعتداء عليه نسمع أولا أصوات تراتيل دينية غامضة، ثم إيقاعات سريعة بدقات طبول ودفوف وموسيقى هندية مصاحلة، وأصوات أقدام خيول تجري، ونرى جملا ذي صنمين، ثم نجمة ذهبية كبيرة. واثناء تسلل اللص نرى عددا من الرهبان والراهبات على الطريقة البوذية وقد رسمت على أجساد الراهبات إشارات دينية بالعبرية والعربية تحمل كلمات مثل الله، محمد.. وغيرهما.

وفي مشهد سقوط اللص على الأرض داخل الكنيسة نرى لقطة قريبة لكتاب الانجيل مفتوحا على صفحة قديمة تتسلل الديدان السمينة من خلالها. وعندما يريد الساحر- الكاهن - الإله اختبار قوة عزيمة اللص- المسيح يناوله سيفا ويشير إليه أن يقتله، ولكن اللص يضرب ليجد نفسه وقد هوى على جسد عجل فمزقه. إنه شئ اقرب إلى فركة الضحية أو القربان أو الكبش الذي يفتدي اسماعيل. وهي كلها أفكار تعكس سيطرة الهاجس الديني عند صاحب هذه الرؤية السينمائية المدهشة.

ولعل من أبرز مشاهد الفيلم وأكثرها سيريالية وغرابة وكمالا أيضا من ناحية الإضاءة والتصوير، ذلك المشهد الذي يحاكي فيه الحاوي في السوق، غزو الإسبان للمكسيك باستخدام عدد من الضفادع والحرباء بعد الباسها بثياب المحاربين والمتخفين في ثياب رجال الدين. وعندما تصاب احدى الضفادع التي ترمز للشعب المكسيكي يجعلها خودوروفسكي تتطاير إلى أعلى وتلتصق بسطح أحد الديكورات ثم نرى دماء غزيرة حمراء قانية تتسلل لتصبغ الديكور كله. ويستخدم خودوروفسكي موسيقى نشيد عسكري نازي لكي يصاحب المشهد الفانتازي الغريب.

إن "الجبل المقدس" رحلة ذهنية وروحانية داخل الصورة السينمائية من أجل المعرفة والاستنارة، ومشاهدته مغامرة لا تقل عن مغامرة الصعود إلى قمة الجبل المقدس، ولعل المفاجأة التي تأتينا في النهاية بعد أن تضاء الأنوار، هي أننا كنا نشاهد فيلما، ولكن هل سنعود ببساطة نمارس حياتنا كما كنا نفعل قبل مشاهدته.. لا أظن.


شاهد مشهد الساحر واللص بالفيديو


الجمعة، 10 أكتوبر 2008

الأزمة المالية والسينما

الأزمة الحالية التي أصابت النظام المصرفي، ومعه النظام الرأسمالي بأسره، تهدد بدخول الاقتصاد العالمي مرحلة كساد طويل الأمد قد يمتد لسنوات.
هذه الأزمة، كما يتنبأ البعض، لابد وأن تصيب صناعة السينما الأمريكية في هوليوود. فشركات هوليوود الرئيسية الكبرى تعتمد عادة على الاستثمار في عدد من الأفلام باهظة التكاليف (أكثر من 100 مليون دولار للفيلم)، لكنها لا تستطيع، أو ربما لا ترغب عادة، في تدبير هذه الميزانيات الضخمة من أموالها بشكل مباشر، فتلجأ إلى الاقتراض من البنوك بضمان الأرباح، أي بإغراء حصول البنوك على نسبة لا بأس بها من الأرباح من مجمل إنتاجها كله.الآن أصبح لا مناص من أن تحجم البنوك عن تمويل الأفلام الكبيرة دون توفر ضمانات مسبقة لحصولها على أموالها مع الفوائد المرجوة.
ولذلك يتوقع البعض أن تعود شركات هوليوود للتركيز على الأفلام المحدودة التكاليف (10 ملايين دولار فأقل). فقد أصبحت عمليات الإقراض بشكل عام، تواجه مأزقا فالإقراض العقاري هو المتسبب الرئيسي في الأزمة التي يشهدها الاقتصاد العالمي حاليا.وربما تدفع الأزمة البنوك أيضا للتدخل بشكل ما، في نوعية الأفلام وموضوعاتها ومطالبة شركات الإنتاج بدفع نسبة أكبر من أرباح الأفلام الأخرى الأصغر، أو أن تعتمد شركات هوليوود على أموالها في تمويل مشاريعها الطموح، وتتحمل نتائج أي مغامرة.
هل هذا في صالح السينما أم ضدها؟ أظن أنه قد يكون في صالحها، لأن الأفلام المتعددة المحدودة الميزانية ستتيح الفرصة أكثر لمزيد من السينمائيين لتحقيق الأفلام الجريئة دون خشية من السقوط المروع في حالة الفشل.
وهناك أيضا البعض الذي يرى أن هوليوود كانت دائما تتمكن من الاستمرار في مسيرتها، حتى في ظل الأزمات المالية، لسبب بسيط، هو أن الجمهور الذي يذهب إلى دور السينما في الأحوال العادية قد لا يتأثر، أو ربما يزداد تردده على دور السينما في وجود الأزمة الاقتصادية، وذلك بهدف الهروب من الواقع إلى مشاهدة الأفلام داخل ظلام دور العرض.ومصائب قوم عند قوم فوائد!

الخميس، 9 أكتوبر 2008

رائد سينما الاحتجاج والتمرد والغضب


بعد 40 عاما على ظهور فيلم "إذا" البريطاني

تحية إلى ليندساي أندرسون

بقلم: أمير العمري


احتفلت الأوساط الثقافية والسينمائية في بريطانيا مؤخرا بمرور 40 عاما على تصوير فيلم "إذا" IF للمخرج الكبير الراحل ليندساي أندرسون. إذاعة بي بي سي- 4 أنتجت برنامجا تسجيليا طويلا عن أندرسون وفيلمه الذي لايزال حتى يومنا هذا، يثير الجدل. وممثله المفضل مالكولم ماكدويل، الذي اكتشفه أندرسون وقدمه للسينما في دور البطولة في هذا الفيلم، أنتج فيلما تسجيليا بعنوان "لن أعتذر أبدا" عن علاقته بأندرسون، تحدث فيه وأفضى بمعلومات وأسرار جديدة.
صور فيلم "إذا" عام 1968 في نفس الوقت مع التظاهرات الطلابية والعمالية العنيفة التي شهدتها باريس وامتدت إلى مدن أوروبية أخرى، ثم عرض في العام التالي في مسابقة مهرجان "كان" وحصل على "السعفة الذهبية" كأحسن فيلم.
وقد تحول هذا الفيلم منذ ظهوره إلى "حدث" كبير في الثقافة البريطانية، فقد كان يمثل علامة فارقة بين عصرين: عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية بطفرته الصناعية التي دعمت نفوذ "المؤسسة" الحاكمة دون أن تهز قناعاتها، وبين عصر جديد للتمرد على تلك المؤسسة التي توفر الرخاء لكنها تنزع الجوهر والروح، وتتشبث بتقاليد الامبراطورية بعد زوال عصر الامبراطورية رسميا بالانسحاب من شرق السويس عام 1967، هذه المؤسسة يتعرض الفرد في إطارها للقمع بشتى صوره: في المدرسة والجيش والمصنع والكنيسة.

رؤية جامحة
ويصور فيلم "إذا" رؤية جامحة شديدة العنف والفوضوية، لمجتمع بريطانيا التقليدي كما يتمثل داخل مدرسة ينقسم طلابها إلى ثلاث طبقات كل منها تمارس القمع على الطبقة الأدنى، ويحكمها نظام صارم من الأساتذة والمشرفين. إنه نظام أقرب إلى "الكهنوت" الكنسي، حيث يتعين على الجميع الالتزام بالطاعة العمياء ونبذ تساؤلاتهم، لكنه كان يرمز لبريطانيا الملكية كمؤسسة فوقية، والنظام الطبقي العتيق الصارم: الرأسمالية الكبيرة والطبقة الوسطى ثم الطبقة العاملة.
يبزغ من بين طلاب الطبقة الوسطى في المدرسة زعيم شاب قوي هو ميك ترافيس، يقوم بدوره مالكولم ماكدويل. يقود التمرد على كل تقاليد المدرسة، وينتهي التمرد بثورة دموية تحرق وتدمر وتقتل كل رموز المجتمع القديم المتعفن الذي يتنبأ أندرسون في فيلمه بضرورة نهايته.

العنف في "إذا" عنف نابع من موهبة جامحة متوحشة ترغب في الانطلاق بعيدا عن سينما المواقف المصنوعة، والنهايات السعيدة.
وقد أثار الفيلم اهتماما شديدا وقت ظهوره في الأوساط البريطانية المختلفة. ومنحته الرقابة البريطانية علامة "إكس" أي قصرت عروضه على "الكبار فقط". وعندما عرض في مصر في العام التالي، عرض تحت اسم "كلية المتاعب"، واستبعدت الرقابة المصرية منه الكثير من المشاهد واللقطات، ثم اختفى من دائرة التوزيع تماما بعد ذلك.
واستعان مخرجه ليندساي أندرسون بسيناريو مزيف من 40 صفحة لكي يحصل على موافقة المدرسة العامة في شيلتنهام التي درس هو فيها. وتصور مدير المدرسة أن الفيلم سيكون في صالح المدرسة من الناحية التربوية، إلا أنه فوجئ خلال العرض الخاص الذي حضره وكان لابد أن يحضره، بأن الفيلم مناهض تماما لكل الأفكار السائدة عن "القيم التربوية". ويقول الممثل مالكولم ماكدويل إن الرجل بعث برسالة في مظروف إلى أندرسون رفض الأخير أن يفضها أو يقرأها لأنه كان يعرف تماما ما فيها، ولم يشأ أن يواجه أحدا يقول له "لقد خدعتني" أو "أنت وغد"!

رائد التجديد
ويمكن القول بثقة إن الرائد الحقيقي للتجديد في السينما البريطانية هو المخرج ليندساي أندرسون (1923- 1994)، وذلك رغم أنه لم يخرج طوال مسيرته السينمائية سوى سبعة أفلام روائية طويلة، غير أنه أخرج عشرات الأعمال المسرحية والأفلام التليفزيونية الدرامية والتسجيلية.
كان ليندساي أندرسون الرائد الحقيقي لحركة "السينما الحرة" التي نقلت السينما البريطانية خلال الفترة من منتصف الخمسنيات إلى منتصف الستينيات، من مجال الأفلام الهروبية والتاريخية التقليدية إلى مجال الواقع الاجتماعي، لكي تطرح مواضيع جريئة تدور أساسا، في أوساط الطبقة العاملة. وكانت تلك الحركة تضم أيضا سينمائيين مثل توني ريتشاردسون وكاريل رايز، وكتابا مثل جون أوزبورن، وكان هؤلاء يشكلون جماعة "أنظر خلفك في غضب" نسبة إلى مسرحية أوزبورن الشهيرة.
وكان هناك أساس نظري سبق ظهور "السينما الحرة" تمثل في ظهور مجلة سينمائية متخصصة هي "سيكوانس" التي رأس تحريرها أندرسون، وهو الذي أطلق تعبير "السينما الحرة" على الحركة، وبدأت أولا تنتج أفلاما تسجيلية جريئة بأسلوب يتجاوز السائد أي لا يكتفي بالعرض بل يحلل ويكتشف ويضرب في العمق.
وكان أندرسون أيضا هو الذي وضع بيان "السينما الحرة" ووصف واقعية أفلامها بأنها "واقعية حوض المطبخ".

الحياة الرياضية
وأخرج أندرسون أحد أهم أفلام تلك الحركة وهو فيلمه الروائي الأول "هذه الحياة الرياضية" This Sporting Life (1960) الذي قام ببطولته الممثل العملاق الراحل ريتشارد هاريس عن مأساة عامل مناجم تحول إلى لاعب رجبي بحثا عن المال، إلى أن يجد نفسه وقد أصبح "أداة" يستغلها مجتمع التجارة الرياضية، ويتحول تدريجيا إلى وحش كاسر في الملعب لكنه يفتقد إلى الحب في حياته الخاصة، ويشعر بفراغ روحي هائل، وينتهي وقد فقد زوجته وأصدقاءه بعد أن يكون قد فقد نفسه.
وقد صور الفيلم في مدينة صناعية صغيرة في مقاطعة يوركشاير، بظلالها القاتمة والدخان المتصاعد من مداخن مصانعها، وضبابها وأحيائها العمالية الباردة. وتميز الفيلم بواقعيته الشديدة وبتركيزه على فكرة الاستلاب وتحول الفرد إلى أداة يسخرها الآخرون لجني الفوائد والأرباح.
وقد ابتعد أندرسون تماما عن أسلوبه الواقعي الأول في هذا الفيلم لكي يعبر بحرية تتجاوز الواقعية، في فيلم "إذا" عن رؤيته الشخصية لفكرة الثورة. في الفيلم مثلا عبارات من قبيل "الثورة والعنف هما أنقى الأشياء".

الرجل المحظوظ
وفي فيلمه التالي "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man يمد تجربته على استقامتها ويصل إلى أقصى حدود السيريالية شكلا، والفوضوية مضمونا، من خلال موضوع قريب الشبه إلى حد ما، بفيلم "البرتقالة الآلية" Clockwork Orange الذي أنتج في العام نفسه ومن بطولة مالكولم ماكدويل (للمخرج ستانلي كوبريك)، إلا أن بطله (ميك ترافيس أيضا) على العكس من بطل الفيلم المشار إليه لا يميل للعنف أو التمرد بل يبدأ وهو ممتثل تماما للمجتمع، يريد أن يصعد في إطار المؤسسة، لكنه يواجه الكثير من المتاعب بسبب رغبته في الصعود في المجتمع الرأسمالي مع التمسك بنوع من المثالية، فيجد نفسه في السجن ثم في مستشفى الأمراض العقلية بسبب تآمر رؤسائه ومنافسيه ورغبتهم في تدميره وإقصائه من السوق.
في هذا الفيلم هجاء واضح لبريطانيا التي فقدت الامبراطورية لكنها مازالت تتمسك بدور "إمبراطوري" عن طريق الغش والتحايل والعمليات القذرة في العالم ومنها تصدير السلاح إلى مناطق النزاعات والحروب، وتدريب المرتزقة وتزويدهم بالخبراء.
ثلاثية أفلام ليندساي أندرسون التي كتبها ديفيد شيروين ولعب بطولتها مالكولم ماكدويل، انتهت بفيلم "مستشفى بريطانيا" Britania Hospital الذي عرض عام 1982 أثناء التغطية الإعلامية المكثفة لحرب بريطانيا ضد الأرجنتين في جزر فوكلاند. وحمل الفيلم مجددا أفكار أندرسون الغاضبة من المؤسسة الحاكمة، التي يسخر منها بعنف ويصورها على أنها تمارس القتل والغش والخداع والعبودية للعائلة المالكة وحماية الحكام الديكتاتوريين.
وكما كانت المدرسة في فيلم "إذا" رمزا لبريطانيا فإن المستشفى في هذا الفيلم ترمز إلى المجتمع البريطاني أيضا بتركيبته الطبقية التي ظل أندرسون يرفضها ويوجه لها الانتقادات القاسية حتى النهاية.
لا اعتذار
ومن الأحداث التي رواها أخيرا الممثل مالكولم ماكدويل في فيلمه التسجيلي "لن أعتذر أبدا" Never Apologise أن الوفد البريطاني في مهرجان كان السينمائي نظم انسحابا جماعيا من القاعة عند عرض الفيلم، ثم أخذ بعضهم يطاردونه على سلالم قصر المهرجان ويهاجمونه واصفين إياه بـ "المعادي لكل ما هو بريطاني".
وقد فشل الفيلم في السوق البريطانية، وتوقفت مسيرة أندرسون فترة قبل أن يعود لاخراج آخر افلامه في الولايات المتحدة وهو فيلم "حيتان في أغسطس" الذي لم يحقق نجاحا يذكر، فقد كان العالم قد تغير، ونجحت المؤسسة التي ظل أندرسون مناهضا لها في الالتفاف، وارتدت ثيابا جديدة، لكي تعود بشكل مختلف، أكثر قوة عما كانت،كما نجحت في تدجين المثقفين، ومحاصرة كل ما تبدى من آثار ثورة 1968 في أوروبا.
إلا أن أندرسون الذي توقف تماما عن العمل بالسينما قبل وفاته بست سنوات، لم ينحن ولم يستسلم ولم يسع أبدا إلى الاعتذار للمؤسسة بأي شكل من الأشكال. وقد ظل- كما يقول مالكولم في فيلمه التسجيلي- يرفض الاعتذار عن غضبه، وعن رفضه، وعن رغبته في رؤية بلاده والعالم، أكثر إنسانية وأكثر عدلا وجمالا.
(عن موقع بي بي سي أربيك دوت كوم)
شاهد بالفيديو المشهد الأخير من فيلم "إذا"

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger