
ليس هناك جنس من ذلك الجرئ جدا الذي يصوره الفيلم بوفرة، لكن إيحاءات جنسية واضحة. والأفضل أن يشاهد القارئ بنفسه لنفسه بدون وصاية أو شروح.
كتابات نقدية حرة عن السينما في الحياة، والحياة في السينما............. يحررها أمير العمري
ويمكن القول بكل ثقة إن نظام السادات في تلك الفترة كان مرعوبا من المثقفين. وكان الإعلان عن عرض فيلم "اغتيال تروتسكي" لجوزيف لوزي (بطولة ريتشارد بيرتون) في نادي سينما القاهرة كفيلا بقلب الدنيا رأسا على عقب، وصدور قرار من أعلى المستويات بمنع الفيلم، ولفت نظر أحمد الحضري الذي كان مديرا للنادي، وكان رئيسه الفعلي المعين من طرف الدولة هو وكيل أول وزارة الثقافة حسن عبد المنعم. وعندما بدأ عرض فيلم "زد" في سينما كايرو وقت الاضطرابات الطلابية تصور السادات أنه يمكن ان يساهم في اشعال المظاهرات وخروجها للشارع فأصدر أمرا بوقف عرض الفيلم الذي كان يصور اشتراك عملاء من أجهزة الأمن في نظام العسكر في اليونان بالاشتراك مع عناصر من اليمين المتطرف في اغتيال نائب يساري أو شيوعي تحديدا (يقوم بدوره إيف مونتان). كان هناك رعب شديد من اليسار، ومن الطلبة، ومن العمال، ومن المثقفين عموما. ولكن يجب أن نعرف أن تلك الفترة انتجت فيلما سياسيا ينسج على منوال فيلم "زد" هو فيلم "زائر الفجر" لممدوح شكري، كان الأول من نوعه في تاريخ السينما المصرية (وربما الأخير أيضا!). وقد منع على الفور من العرض وظل ممنوعا لمدة 3 سنوات ثم عرض بعد استبعاد أكثر من 20 لقطة منه.
لم يعرض مصطفى درويش أفلاما "ثورية" بالطبع مثل "المدمرة بوتمكين" أكثر الأفلام الثورية في تاريخ السينما جمالا. وقد ظل هذا الفيلم منذ أن بدأت استطلاعات الرأي بين النقاد والسينمائيين، أي منذ أكثر من نصف قرن، في قائمة أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما في العالم، واختير عام 1958 أحسن فيلم ظهر في التاريخ. والمفارقة أنه فيلم صامت. وقد كتب الموسيقى المصاحبة للفيلم إدموند مايزل Edmund Meisel أحد أعظم مؤلفي موسيقى الأفلام في تاريخ السينما، وهو نمساوي الأصل كان يعمل في ألمانيا. وقد منع عرض الفيلم في ألمانيا عام 1926 بعد أن اعتبرت السلطات أن موسيقى الفيلم "لها تأثير تحريضي شديد على الجمهور". وجاء ذلك بعد أن فشلت محاولة منع الرقابة الفيلم بدعوى أنه يحمل دعاية شيوعية. وقد طعن موزع الفيلم في قرار الرقابة قائلا- بإقناع- إن الفيلم لا علاقة له بالشيوعية على الإطلاق، وإن ثورة البحارة على السفينة جاء كرد فعل مباشر على سوء المعاملة، "وبدون تخطيط مسبق من الحزب الشيوعي" وهو شرط لأي عمل ثوري حسب ما كتبه لينين!
وقد أتيحت لي فرصة لا تنسى لمشاهدة الفيلم في قاعة "كوين إليزابيث هول" على الضفة الجنوبية لنهر التايمز في لندن عام 1984، في عرض نادر بمصاحبة أوركسترا أمستردام الفيلهارموني التي قامت بعزف موسيقى مايزل المذهلة في قوتها وتركيبها ورونقها، وقد استولت تماما على مشاعري. وقد خرجت آنذاك بانطباع بأن الرقابة الألمانية "ربما كانت على حق" فتأثير الموسيقى أقوى من كل الأسلحة!
وأرجو أن يعذرني القارئ وأنا أتعمد أحيانا الخروج على سياق الموضوع الرئيسي أحيانا. والهدف الأساسي هو أن ألفت أنظار عشاق السينما من الأجيال الجديدة (الذين أكتب لهم بشكل أساسي) إلى هذه الروائع العالمية، وأدفعهم إلى البحث والدراسة والمشاهدة والاستماع. وبالمناسبة الأعمال الموسيقية الكاملة لإدموند مايزل متوفرة حاليا في المكتبات العالمية.
وأعود إلى "سينما الغد" التي كان مصطفى درويش يعرض فيها (بالتعاون المتحفظ معنا) أفلاما من رومانيا ومن المجر، وأفلاما فرنسية أيضا. وكان مغرما بوجه خاص، بأفلام لوي مال وشابرول الفرنسيين. وأتذكر أيضا أنه جاء بالمخرج شادي عبد السلام لعرض فيلمه التسجيلي الطويل الذي صنعه عن حرب أكتوبر بعنوان "جيوش الشمس" وقد قمت بتقديمه في الجمعية في حضور شادي ونادية لطفي.
غير أنه كان هناك تخوف قائم من طريقة مناقشة الأفلام بين الطرفين. كان طرف مجموعة الشباب التي كنت أنتمي إليها (ومازلت دائما!) ترى أن الجمعية صحيح أنها لمحبي السينما، لكن السينما هنا أداة للمعرفة الشاملة، وليست فقط لمجرد "الحب" العذري الرومانتيكي، فهي إذن ينبغي أن تدفعنا إلى البحث في أشياء أخرى من أجل تغيير الدنيا من حولنا. وكانت وجهة النظر الأخرى (العواجيز المحافظين!) أن الأفلام في حد ذاتها كافية للاستمتاع، وأن الخلط بين السينما والفلسفة والسياسة و الفكر المعاصر أمر سلبي بالضرورة، بل، والأهم في نظرهم، أنه يحمل الكثير من المخاطر!
الشرطة في الزمالك
وعندما حل موعد انعقاد الجمعية العمومية للجمعية التي ستنتخب مجلس ادارة يدير الجمعية بشكل رسمي، قررت ان أمكث في بيتي، حتى لا يعتقد مصطفى درويش أنني طامع في شئ، او أنني أريد أن ألعب دورا بأي ثمن كما كان التصور السائد. وذهب زملائي إلى مقر المركز الثقافي الإيطالي لكي يفاجأوا في ليلة من ليالي الشتاء الباردة بأن الشرطة تطوق المبنى، وبدأت عناصر الأمن في مطاردتهم. لقد أبلغ مصطفى درويش، كما علمنا فيما بعد، القائمين على المركز الإيطالي، بأن مجموعة من الشيوعيين توشك أن تقتحمه وتستولي على جمعية سينما الغد وعلى المركز بالقوة، فما كان من مدير المركز إلا أن أبلغ الشرطة ومباحث أمن النظام. وقد الغي اجتماع الجمعية العمومية بالطبع في تلك الليلة المشهودة.
هذه الواقعة بالطبع ضمنت لمصطفى درويش بعد ذلك، الانفراد بالجمعية العمومية بعد أن عقدها في أجواء أخرى شبه سرية، ودعا إليها اصدقاءه من "الأرستقراطية الثقافية" الذين انتخبوا مجلسا برئاسته شأن كل المجالس والمنابر والكيانات القائمة في مصر منذ خمسين عاما على الأقل.. أي مجالس الشخص الواحد: الزعيم، الفرد، القائد، الرئيس، المفكر الأول، والأخ الأكبر، بل و"كبير العائلة".
الرعب الذي اصاب مصطفى درويش ودفعه إلى أن يفعل ما فعل، أدى إلى مواجهة حادة بينه وبين صديقه القديم وجاره التاريخي شحاتة هارون. فلم يكن من الممكن أن يقبل هارون كيساري مناضل أن تصبح الشرطة طرفا في حل خلاف فكري حول جمعية سينمائية. وقد أعلن هارون أنه لن يدخل بيت مصطفى درويش بعد ذلك طيلة حياته. وأنا أعرف أنه التزم بذلك إلى حين وفاته عام 2001.
نهاية القصة
وفي عام 2001 تحديدا كنت قد انتخبت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين، وقررنا في الجمعية أن أسافر للمشاركة في الاجتماع العام للاتحاد الدولي لنقاد السينما (المعروف بالفيربيسي) وكان سيقام في بلدة قريبة من ميلانو في إيطاليا. ولكن لظروف تكليفي بتولي إدارة مهرجان الاسماعيلية السينمائي في تلك الفترة، وكان المهرجان متوقفا لسنوات وأراد محمد كامل القليوبي أن يعيده إلى الحياة وقتما كان رئيسا للمركز القومي للسينما، قبل أن يطيح وزير الثقافة بالقليوبي ويأتي بعلي أبو شادي الذي قرر السير في طريق إقامة المهرجان خوفا من أن يتهم بأنه جاء لشطب مشاريع القليوبي.
فكرة ذهابي إلى إيطاليا لتمثيل الجمعية لم تعد إذن ممكنة، وفكرت في إسناد المهمة إلى مصطفى درويش كشخصية تتمتع بالمصداقية والقدرة واللباقة، وانتهاز الفرصة أيضا لرأب الصدع، وتضميد الجراح القديمة، فقد كان مطلوبا مني توحيد الجمعية، بكل توجهاتها وتياراتها لبدء مرحلة جديدة نتعاون فيها جميعا معا، لإصدار مجلة وتنظيم أسابيع أفلام وربما أيضا إقامة مهرجان للسينما العربية (كان من ضمن مشروعنا المكتوب والمعلن وجاء ناقد معروف بعد ذلك لينسب الدعوة لنفسه في عموده اليومي).
وعندما عرضت فكرة تكليف مصطفى درويش بالمهمة على حسين بيومي أيدها وساندها بقوة، بل وأبدى استعداده للاتصال بمصطفى درويش وقام بذلك بالفعل، وحدد له موعدا، وجاء الرجل لمقابلتنا نحن الاثنين في مقر الجمعية.
جلس مصطفى درويش الذي لم أكن قد رأيته من سنوات أمامي. وأظن أننا كنا قد التقينا في مهرجان قرطاج مرة أو مرتين. وتساءل الرجل: ما الأمر؟ بالضبط؟ فقلت له: ماذا لو عرض عليك الذهاب إلى بقعة في الريف الإيطالي مشهورة بجمالها وحلاوة ما تنتجه من نبيذ فاخر لمدة ثلاثة أيام، يكون مطلوبا منك خلالها تمثيل الجمعية في الاجتماع السنوي الذي توقفت جمعيتنا عن حضوره منذ السبعينيات؟
أبدى هو سعادة وترحيبا كبيرين، بل وأبدى استعداد أيضا لدفع تكاليف السفر بالطائرة. لكنه تحفظ على أمر واحد فقط يتعلق بعدم إلمامه بدرجة كافية بنشاط الجمعية خلال الفترة الأخيرة.
طمأنته أنا وحسين، وقنا له إننا سنعطيه ملفا شاملا يفيده في إعداد تقريره أمام الجمعية العامة، وأما مسألة بطاقة السفر فقد استطعنا تدبيرها من قسم العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة بدون أي معوقات، وذهبنا إلى بيته وسلمناها له، كما سلمناه الملف الذي وعدنا به، ووسائل الاتصال بمندوبة الفيربيسي التي داومت الاتصال به إلى أن سافر.
وعندما عاد كتب لنا تقريرا موجزا عن رحلته، قمنا بنشره والاحتفاء به في العدد الأول من مجلة "السينما الجديدة" (فبراير 2002).
أسدل الستار أخيرا على جراح الماضي مع مصطفى درويش بشكل نهائي عام 2001. وقد حضر بعد ذلك إلى الجمعية، وأدلى بشهادته: كتابة وشفاهية عن فترة عمله كرقيب، بل وقدم أفلاما من اختياره أيضا. لكنه لايزال بالطبع يحتفظ بجمعيته الخاصة في الزمالك ويحرص كثيرا على الذهاب إليها في الموعد المحدد من كل أسبوع، دون أن يعرف أحد منا من أعضاؤها وكم عددهم، وماذا يقولون وماذا يشاهدون وكيف.. وتظل"سينما الغد" حاليا مجرد لغز كبير لا أحد يريد أن يسعى أبدا إلى حل طلاسمه! (تمت)