الثلاثاء، 23 سبتمبر 2008

من فيلم "إمبراطورية الحواس"

قبل فترة نشرت هنا مقالا تحليليا نقديا عن فيلم "امبراطورية الحواس" للمخرج الياباني ناجيزا أوشيما الذي اعتبرته واحدا مما يمكن أن نطلق عليه "الكلاسيكيات الحديثة" أو modern classics وهي الأعمال التي ربما لا يكون قد مضى عليها زمن طويل إلا أنها اعتبرت من الناحية الفنية، أعمالا ستدخل تاريخ السينما وتصبح من الكلاسيكيات المشهودة.
يقول الناقد رونالد بيرجان في "قاموس الأفلام الأجنبية" إن الفيلم "كان بالنسبة لكثيرين معالجة للعلاقة بين الإيروتيكية والموت (وهي تيمة سبق أن تناولها برتولوتشي في فيلم "التانجو الأخير في باريس" وفتحا فنيا في مجال تصوير الجنس الصريح على الشاشة"."امبراطورية الحواس" بالتأكيد من الكلاسيكيات الحديثة. وعلى العكس من الانطباع الذي قد يكون قد وصل إلى بعض القراء عن مدى عنف الفيلم وقسوته، هناك بعض المشاهد في هذا الفيلم شديدة الرقة والشفافية والسخرية المحببة أيضا.. منها مشهد أو اثنان عثرت عليهما وأردت أن يشاركني قراء هذه المدونة في تأملهما والاستمتاع بهما، وتأمل العلاقة بين شريط الصوت وشريط الصورة، والتناقض بين الرغبة في التحرر والانطلاق، والقمع الذي يمارسه الأقوى على الأضعف في اليابان الفاشية في الثلاثينيات.
ليس هناك جنس من ذلك الجرئ جدا الذي يصوره الفيلم بوفرة، لكن إيحاءات جنسية واضحة. والأفضل أن يشاهد القارئ بنفسه لنفسه بدون وصاية أو شروح.
اضغط هنا لقراءة مقالي عن "امبراطورية الحواس"
شاهد بالفيديو عبر هذه الوصلة

عن النقد السينمائي ونقاد السينما: أفكار وشجون

لا أعتقد أن وظيفة الناقد أن ينقد النقاد، وأن يقيم عملهم ويوجههم أو يعطي نصائح لمن يرى أنهم أصغر منه سنا، أي يعتقد أنهم اقل منه معرفة وخبرة بالسينما، ويوجههم إلى كيفية كتابة النقد، ويحدد لهم مواصفات خاصة أو إرشادات معينة يتصور أنها قد تساعدهم في الوصول إلى الصيغة المثلى في الكتابة عن السينما، فلعل أفضل وسيلة لتطوير الكتابة عن السينما، هي الاهتمام بمناقشة قضايا السينما نفسها، وتناول الأفلام بعمق، وتحليلها من زواياها المختلفة، ودراسة وتحليل تاريخ السينما وتطور الفيلم. وهذه الجوانب كلها تستدعي قيام الناقد بعمله، أي الانشغال بهذه القضايا والأفكار بدلا من الانشغال بكيف يكتب الآخرون، وتحديد من الذي يمكن اعتباره ناقدا ومن لا يمكن اعتباره كذلك، في حين أننا كلنا نجتهد ونحاول في ظروف بالغة الصعوبة.
لاشك أن هناك متطفلين ودخلاء وغير ذوي خبرة أو معرفة، ولاشك أيضا في وجود خلط كبير بين الناقد المتخصص الذي يتعمق في تحليل قضايا السينما، وبين الصحفي الفني الذي يهتم أكثر بالجوانب العامة في صناعة السينما، وبأخبار النجوم وبالجوانب المثيرة في العمل السينمائي، وغير ذلك مما تنشغل به الصحافة السائدة وتشغل بها قراءها. لكن هذه كلها من الأمور المعروفة منذ زمن طويل، تفرضها الحالة الثقافية العامة، والأمية السينمائية المنتشرة بشدة حتى بين قطاعات كبيرة من المثقفين أو من يعتبرون كذلك، الذين لاتزال نظرتهم للسينما أدنى كثيرا من نظرتهم للفنون الأخرى.
وهناك أيضا خلط آخر قائم بين كتابة العرض السينمائي أو ما يسمى film review وبين كتابة النقد السينمائي film criticism. النوع الأول تفرضه الصحافة اليومية والأسبوعية عادة على كل من الناقد والقراء، تحت تصور أن العصر الحالي لم يعد يسمح بقراءة مقال طويل قد تتجاوز عدد كلماته الألف كلمة مثلا، ويشمل تحليل العناصر الفنية والدرامية في الفيلم السينمائي، ويفضلون العرض الصحفي السريع للفيلم (في 300 كلمة) الذي يتناول القصة ومغزاها وطريقة تنفيذها والتعليق على أداء الممثلين.
وهذا العرض الصحفي للأفلام موجود أيضا وشائع في الصحف الغربية التي أصبحت تهتم حتى بالعرض المختصر الذي قد لا تزيد عدد كلماته عن 60 كلمة والذي يستخدم في إعداد الدليل الأسبوعي للأفلام الجديدة التي تنزل إلى دور العرض.
وقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة ظهور مجلات أسبوعية مصقولة لامعة تصدر عن بعض شركات الإنتاج والتوزيع العربية، تخلط بين الترويج والنقد الصحفي، وبين الإعلان المدفوع والإعلان المبطن. ولا مانع من وجود هذا النوع من المطبوعات أيضا لكي يواكب صناعة السينما ويروج لمنتجاتها، لكن اعتباره نوعا من النقد السينمائي أمر مضلل للغاية بل عبثي تماما، ففاقد الشئ لا يعطيه.
أما النقد العميق التفصيلي فمكانه الطبيعي مجلات السينما المتخصصة سواء الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية. وأي "اختراق" لصحيفة يومية أو مجلة أسبوعية غير متخصصة من جانب نقاد يكتبون النقد العميق التحليلي المطول هو أمر استثنائي يتم عادة بمجهود فردي خاص، وربما أيضا بالمصادفة، حينما يتواجد رئيس تحرير يحب السينما أو يؤمن بهذا النوع من الكتابة، وهو أمر نادر.
المطبوعات المتخصصة أصبحت شبه غائبة عن الساحة في العالم العربي، وما وجد منها، لايزال يمتلئ بكتابات مترجمة تتناول مواضيع أرشيفية قديمة تواصل الدوران في نفس الحلقة المفرغة منذ 40 عاما، أي تحدثك عن الواقعية الجديدة، ودور سيزار زفاتيني أو روبرتو روسيلليني في تطوير السينما، غافلة عما لحق من تطور كبير في تاريخ السينما وفي العلاقة بين المبدع والفيلم، والذي بلغ حدودا شديدة الجرأة حقا.
ويلاحظ أن فكرة "التثقيف الاولي" لاتزال هي الغالبة على كل ما يصدر من مجلات سينمائية تصدر بالصدفة، مع تجاهل وإهمال الجدل والاشتباك النقدي مع ما ينتج من أفلام ومع الظواهر والاتجاهات الجديدة، السلبية منها والإيجابية، التي تظهر في واقع السينما العربية، بل لقد أصبحت هناك خشية من تناول الشأن الثقافي العام وانعكاسه المؤثر والمباشر على السنيما وقضاياها. والسبب: شيوع ثقافة الخوف والرعب والتهديد ورفض نقد المؤسسات بل وارتباط بعض النقاد بهذه المؤسسات، التي تكرمهم فيما تقيمه من مهرجانات، وتمنحهم الجوائز، وتكلف البعض بتأليف الكتب عن عبقرياتهم وتاريخهم.

أما المقصود بالتثقيف هنا فيعني النظر من أعلى إلى القارئ، وافتراض أنه لا يعرف شيئا عن مشاهير الإخراج في السينما الأمريكية مثلا، أو نجومها المشاهير. وحتى عندما يتم الالتفات بعيدا عن السينما الأمريكية يتوقف نقاد هذه المطبوعات عند تجربة مخرج ما مثل الروسي "العظيم طبعا" تاركوفسكي، في حين توقفت مسيرته الإبداعية بوفاته منذ أكثر من عشرين عاما، بينما تغيب أي دراسة حقيقية عن مخرج بأهمية وحجم ديفيد لينش أو راول رويز مثلا.
غير أن هذا هو الواقع الذي نعيشه، والذي لا يمكن تغييره بكتابة مقال، بل بالعمل على تأسيس ثقافة أخرى مختلفة، وهو أمر يستغرق سنوات طويلة للتغلب على ما حدث من هدم وتمييع.
وإذا كنت أقول إن هناك نوعا من الكسل الشخصي من جانب النقاد فيما يتعلق بالكتابة والتعريف بالنماذج السينمائية الجديدة في الداخل والخارج، بسبب انشغالهم بما تطلبه الصحف التي يكتبون لها (والتي تميل عادة إلى السائد والمشهور، والأمريكي، والحاصل على جوائز الأوسكار!) فهناك أيضا سلاح الرقابة: على السينما وعلى النشر، فكيف يمكن الكتابة بحرية عن أفلام لا يراها الجمهور بل.. حتى الشريحة المثقفة منه؟ وكيف يمكن البحث في قضايا ذهنية قد يعتبرها البعض "المتشنج جدا" نوعا من التجديف أو الدعوة إلى الباطل.. وغير ذلك من مفردات متخلفة أصبحت بكل أسف منتشرة كالوباء في المجتمعات العربية حاليا نتيجة عوامل كثيرة.
وأخيرا.. كيف يمكن الفصل بين مسؤولية الناقد ودوره، وبين ضلوعه في العمل في خدمة مهرجانات معينة معروفة بأنها بعيدة كل البعد عن "الثقافة" و"التنوير"، أو لحساب مؤسسات عربية تروج لقيم وأفكار مشبوهة متميعة بهدف ضرب وتشويه كل تجاربنا الإيجابية السابقة، والانتقام لماض كانت فيه مجرد قطيع أجرب في صحراء قاحلة، لم تنجح سوى في تصدير التصحر والتخلف الفكري والتطرف والإرهاب والدعوة إلى استقالة المرأة من التاريخ، وهروب الرجل إلى خارج العقل. هذا الحصاد المعادي للإنسان لايزال قائما يهدننا في وجودنا رغم كل حفلات الطبل والزمر التي تقام على قشرة خارجية من الحداثة الكاذبة المستوردة بإغراء البترودولار، ومن خلال قنوات فضائية أصبحت تتاجر بكل شئ حتى بجسد مذيعة تنتظر أن تضع مولودها.. وهو موضوع طويل.. طويل.

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

سينمائيون يتجسسون على زملائهم

لقطة من فيلم "حياة الآخرين"
ايستفان زابو

من غرائب عالم السينما أن يكتشف الممثل الذي قام ببطولة الفيلم الألماني الشهير "حياة الآخرين" والذي رحل عن الحياة بعد فترة قصيرة من نجاح الفيلم عالميا، أن زوجته الممثلة كانت عميلة لجهاز الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية (ستازي)، وأنها كانت تتجسس عليه، وقد كتبت تقارير عنه وقدمت تقارير وصورا ونصوص محادثات استغرقت 500 صفحة اطلع عليها بنفسه بعد أن أتاحت السلطات الألمانية الإطلاع على ملفات الستازي.
ولا أعرف ما الذي انتهت إليه هذه القصة الغريبة التي وقعت بين اثنين كانا من أشهر الممثلين في عالم المسرح في برلين الشرقية. ولكن ما أعرفه ويعرفه الجميع أن الزوج الذي انفصل عن زوجته بعد 6 سنوات من الزواج الذي جاء بعد قصة حب عنيفة، قام ببطولة "حياة الآخرين" الذي يروي تحديدا قصة مشابهة تماما، غير أنه لا يلعب فيها دور الممثل- الزوج- المخدوع، بل دور ضابط البوليس السري المكلف بالتنصت على كل ما يدور في بيت الممثل وزوجته لحساب رئيسه الذي يريد توريط الزوجة الحسناء في علاقة غرامية معه.
أظن أن القضية التي رفعتها الزوجة ضد زوجها لمنعه من نشر هذه المعلومات في كتاب عن سيرة حياته انتهت بموت الممثل- الزوج العام الماضي.
وكان الستار قد رفع قبل سنوات عن فضيحة أخرى بطلها المخرج المجري الشهير ستيفان زابو الذي يعد أحد أهم السينمائيين في أوروبا الشرقية والذي حصل فيلمه "ميفستو" على الأوسكار في الثمانينيات.
والفضيحة تتلخص في أن المخرج زابو كان عميلا لجهاز الأمن المجري، وكان يتجسس على زميل له من المنشقين السياسيين اثناء فترة الدراسة الجامعية في الخمسينيات لحساب السلطات، وقد يكون بالتالي قد حصل على مكاسب عديدة من وراء ما قدمه من خدمات للسلطات الشيوعية.
والطريف أن فيلمه الأشهر "ميفستو" كان يتناول العلاقة بين الفنان والسلطة الشمولية، ويصور كيف باع ممثل مسرحي روحه للنظام النازي في ألمانيا في الثلاثينيات مقابل الصعود إلى قمة المجد، وعندما استنفذ أغراضه تخلى النظام عنه واسقطه من مجده.
وقد أنكر زابو اتهمة وقال إنه أوهم جهاز الأمن في بلاده بأنه قبل العمل لحسابهم غير أنه كان في الحقيقة، يحمي زميله بتقاريره التي لم تكن تتعرض لما كان يقوم به الزميل من الواقع.
ترى كم لدينا من جواسيس في عالم التمثيل والسينما في العالم العربي؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.

شاهد بالفيديو المشهد الحاسم في فيلم "حياة الآخرين"

السبت، 20 سبتمبر 2008

جماعة "سينما الغد" في زمن الصراع (3 من 3)

جدارية للرئيس الراحل أنور السادات

نظام السادات منع فيلم "اغتيال تروتسكي" في نادي السينما

وأوقف عرض فيلم "زد" خشية من انتقال الثورة للشارع!

كان صديقنا الراحل الكبير نديم ميشيل من أوائل وأكثر المتحمسين لجماعة "سينما الغد". وكان لا يهدأ ولا يكل أو يمل، يرتب الأمور، وينسق ويستقبلنا في بيته الذي كان قريبا جدا من بيت مصطفى درويش، وقد تكفل مشكورا بطباعة أول نشرة تصدر عن تلك الجمعية. وكان مجلس الإدارة التأسيسي (أي المؤقت الذي يُحل فور انتخاب مجلس جديد عند انعقاد الجمعية العمومية) قد أسند إلي (وكنت طالبا بالجامعة) مهمة تحرير وإصدار نشرة الجمعية.
وقد كتبت افتتاحية النشرة البسيطة التي كانت مكونة من عدة وريقات، ووضعت فيها ما تصورت وقتها أنه أمور اتفق عليها بين الجميع، لتوجه الجمعية وهدفها وما تعتزم تقديمه. وأشرت في أحد الأعمدة إلى أن الجمعية ستحتفل بذكرى مرور 50 عاما على ظهور فيلم "المدمرة بوتمكين" للمخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين (المؤكد أنني استخدمت كلمة السوفيتي وقتذاك). وعندما جاء نديم بالنشرة وذهبنا بها إلى بيت مصطفى درويش فرحين بانجازنا الكبير، وجدناه مع صديقه القديم توفيق حنا، وكان هناك أيضا على ما أتذكر، الصديق حسين بيومي وآخرون. وبعد ما قرأ درويش الافتتاحية استشاط غضبا وأخذ يهاجمني بعنف وضراوة ويتهمنا جميعا بأننا "شلة" من المراهقين اليساريين" أو من اليسار المتطرف الذي يرغب في تحقيق "الثورة الشاملة دفعة واحدة" وأننا لا نفهم سياسة، وقال إنه لا يرغب في الاحتفاء بأيزنشتاين وفيلمه لأن هذا فيه "استفزاز للأمن والسلطات"، وأنه يتفق مع الافتتاحية التي تفرض إطارا معينا لعمل الجمعية لا يمكنه الالتزام به.
وقعت مناقشة طويلة وحادة بالطبع، شارك فيها الآخرون، وانتهت بانسحابي من الجلسة بعد أن قرر مصطفى درويش ممارسة دور الرقيب وحظر توزيع النشرة، ثم أصدر نشرة أخرى، من تحريره تحتوي على نص يشير إلى شئ أقرب ما يكون إلى أننا "مجموعة من محبي السينما الجميلة اللذيذة" وما إلى ذلك. وأنا أكتب الآن اعتمادا على الذاكرة وحدها، فقد ضاعت وثائق تلك الفترة وتلاشت بكل أسف.
الاجتماعات التالية في مقر الجمعية كان يشوبها التوتر الشديد، والخلافات العميقة، بين اتجاه يرغب في أن يجعل الجمعية جزءا من الحركة الثقافية المصرية التي كانت كلها تنضوي ضمن حركة الوعي والغضب الموجه ضد نظام السادات، وكان هذا الاتجاه يضم معظم أسماء الشباب، واتجاه آخر يقوده مصطفى درويش ومعه توفيق حنا، وحضرت معهما ذات مرة ماجدة واصف، وأظن أنها لم تكن قد هاجرت بعد إلى باريس.
لكن مصطفى كان يتمتع بثقة القائمين على المركز الايطالي، فهو قاض ومستشار ورجل ذو منصب وشأن في المجتمع، بينما كنا نحن مجموعة معظمها من الطلاب الجامعيين والناشطين اليساريين المحاصرين أصلا.
وبعد تفاقم الصدامات امتنعت عن حضور الاجتماعات. ولكن حسن بيومي (شقيق حسين) ظل يلح علي إلحاحا شديدا بضرورة الحضور معتبرا المسألة قضية سياسية ومعركة كبرى كانت تهمه باعتباره حزبيا منظما وقتها، بينما لم أكن أنا عضوا في أي تنظيم سياسي علني أو سري، ولم يسبق لي أن كنت كذلك. فأنا من النوع الذي ينفر عموما من العمل داخل التنظيمات السياسية التي تخضع لقيادة عليا لا يحق لأحد انتقادها، بل يتعين على الجميع اطاعة أوامرها وتنفيذها دون مناقشة. ينطبق هذا على كل التنظيمات والأحزاب من اليمين ومن اليسار، بل إنني أميل إلى أن المشتغلين بالفكر عموما يتعين عليهم الاحتفاظ باستقلالهم، لأن الخضوع التنظيمي ضد حرية الفكر بالضرورة. كانت هذه قناعتي ولاتزال.

سنوات الرعب
كانت تسيطر على مصطفى درويش ما يمكن أن نطلق عليه "عقدة جمعية الفيلم". فقد انتهى الصراع "الدموي" فيها على رئاسة مجلس الإدارة إلى انتصار الطرف الآخر، طرف أحمد الحضري وسامي السلاموني وخيرية البشلاوي ويوسف شريف رزق الله وآخرين. وانتخب السلاموني رئيسا للجمعية، فانسحب درويش ليس فقط من مجلسها، بل من الجمعية كلها. وأخذ يتندر على سامي بوصفه "بالسلاموكا" حينا، وبـ "الزلاموكا" حينا آخر. وكان يرغب في أن يجعل من "سينما الغد" (التي سيطلق عليها "سينما الغدر" على اعتبار أننا كنا نسعى للاستيلاء عليها منه والغدر به كما حدث في جمعية الفيلم!) صالونا خاصا يدردش فيه مع أصدقائه ويستعرض معارفه السينمائية. ولم يكن شئ من هذا في بال أحد منا. لكن المناخ العام أيضا كان مناخ رعب ومطاردة وتعقب وتهديدات، فقد كان نظام السادات يسعى بشتى الطرق لتصفية كل الكيانات القائمة من المرحلة السابقة، وكانت مرحلة تصفية المجلات الثقافية الشهيرة مثل "الكاتب" و"الفكر المعاصر" ثم "الطليعة" قد بدأت مع تولي الكاتب وضابط الجيش السابق يوسف السباعي منصب وزير الثقافة. وبدأ السباعي منذ اليوم الأول في مطاردة عناصر اليسار وإغلاق منابرهم مثل جماعة "أدباء الغد" التي كونها عدد من الكتاب والنقاد والشعراء الموهوبين.
الناقد الراحل سامي السلاموني

ويمكن القول بكل ثقة إن نظام السادات في تلك الفترة كان مرعوبا من المثقفين. وكان الإعلان عن عرض فيلم "اغتيال تروتسكي" لجوزيف لوزي (بطولة ريتشارد بيرتون) في نادي سينما القاهرة كفيلا بقلب الدنيا رأسا على عقب، وصدور قرار من أعلى المستويات بمنع الفيلم، ولفت نظر أحمد الحضري الذي كان مديرا للنادي، وكان رئيسه الفعلي المعين من طرف الدولة هو وكيل أول وزارة الثقافة حسن عبد المنعم. وعندما بدأ عرض فيلم "زد" في سينما كايرو وقت الاضطرابات الطلابية تصور السادات أنه يمكن ان يساهم في اشعال المظاهرات وخروجها للشارع فأصدر أمرا بوقف عرض الفيلم الذي كان يصور اشتراك عملاء من أجهزة الأمن في نظام العسكر في اليونان بالاشتراك مع عناصر من اليمين المتطرف في اغتيال نائب يساري أو شيوعي تحديدا (يقوم بدوره إيف مونتان). كان هناك رعب شديد من اليسار، ومن الطلبة، ومن العمال، ومن المثقفين عموما. ولكن يجب أن نعرف أن تلك الفترة انتجت فيلما سياسيا ينسج على منوال فيلم "زد" هو فيلم "زائر الفجر" لممدوح شكري، كان الأول من نوعه في تاريخ السينما المصرية (وربما الأخير أيضا!). وقد منع على الفور من العرض وظل ممنوعا لمدة 3 سنوات ثم عرض بعد استبعاد أكثر من 20 لقطة منه.

ملصق فيلم "زد" الشهير

لم يعرض مصطفى درويش أفلاما "ثورية" بالطبع مثل "المدمرة بوتمكين" أكثر الأفلام الثورية في تاريخ السينما جمالا. وقد ظل هذا الفيلم منذ أن بدأت استطلاعات الرأي بين النقاد والسينمائيين، أي منذ أكثر من نصف قرن، في قائمة أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما في العالم، واختير عام 1958 أحسن فيلم ظهر في التاريخ. والمفارقة أنه فيلم صامت. وقد كتب الموسيقى المصاحبة للفيلم إدموند مايزل Edmund Meisel أحد أعظم مؤلفي موسيقى الأفلام في تاريخ السينما، وهو نمساوي الأصل كان يعمل في ألمانيا. وقد منع عرض الفيلم في ألمانيا عام 1926 بعد أن اعتبرت السلطات أن موسيقى الفيلم "لها تأثير تحريضي شديد على الجمهور". وجاء ذلك بعد أن فشلت محاولة منع الرقابة الفيلم بدعوى أنه يحمل دعاية شيوعية. وقد طعن موزع الفيلم في قرار الرقابة قائلا- بإقناع- إن الفيلم لا علاقة له بالشيوعية على الإطلاق، وإن ثورة البحارة على السفينة جاء كرد فعل مباشر على سوء المعاملة، "وبدون تخطيط مسبق من الحزب الشيوعي" وهو شرط لأي عمل ثوري حسب ما كتبه لينين!

وقد أتيحت لي فرصة لا تنسى لمشاهدة الفيلم في قاعة "كوين إليزابيث هول" على الضفة الجنوبية لنهر التايمز في لندن عام 1984، في عرض نادر بمصاحبة أوركسترا أمستردام الفيلهارموني التي قامت بعزف موسيقى مايزل المذهلة في قوتها وتركيبها ورونقها، وقد استولت تماما على مشاعري. وقد خرجت آنذاك بانطباع بأن الرقابة الألمانية "ربما كانت على حق" فتأثير الموسيقى أقوى من كل الأسلحة!

وأرجو أن يعذرني القارئ وأنا أتعمد أحيانا الخروج على سياق الموضوع الرئيسي أحيانا. والهدف الأساسي هو أن ألفت أنظار عشاق السينما من الأجيال الجديدة (الذين أكتب لهم بشكل أساسي) إلى هذه الروائع العالمية، وأدفعهم إلى البحث والدراسة والمشاهدة والاستماع. وبالمناسبة الأعمال الموسيقية الكاملة لإدموند مايزل متوفرة حاليا في المكتبات العالمية.

وأعود إلى "سينما الغد" التي كان مصطفى درويش يعرض فيها (بالتعاون المتحفظ معنا) أفلاما من رومانيا ومن المجر، وأفلاما فرنسية أيضا. وكان مغرما بوجه خاص، بأفلام لوي مال وشابرول الفرنسيين. وأتذكر أيضا أنه جاء بالمخرج شادي عبد السلام لعرض فيلمه التسجيلي الطويل الذي صنعه عن حرب أكتوبر بعنوان "جيوش الشمس" وقد قمت بتقديمه في الجمعية في حضور شادي ونادية لطفي.

غير أنه كان هناك تخوف قائم من طريقة مناقشة الأفلام بين الطرفين. كان طرف مجموعة الشباب التي كنت أنتمي إليها (ومازلت دائما!) ترى أن الجمعية صحيح أنها لمحبي السينما، لكن السينما هنا أداة للمعرفة الشاملة، وليست فقط لمجرد "الحب" العذري الرومانتيكي، فهي إذن ينبغي أن تدفعنا إلى البحث في أشياء أخرى من أجل تغيير الدنيا من حولنا. وكانت وجهة النظر الأخرى (العواجيز المحافظين!) أن الأفلام في حد ذاتها كافية للاستمتاع، وأن الخلط بين السينما والفلسفة والسياسة و الفكر المعاصر أمر سلبي بالضرورة، بل، والأهم في نظرهم، أنه يحمل الكثير من المخاطر!

الشرطة في الزمالك

وعندما حل موعد انعقاد الجمعية العمومية للجمعية التي ستنتخب مجلس ادارة يدير الجمعية بشكل رسمي، قررت ان أمكث في بيتي، حتى لا يعتقد مصطفى درويش أنني طامع في شئ، او أنني أريد أن ألعب دورا بأي ثمن كما كان التصور السائد. وذهب زملائي إلى مقر المركز الثقافي الإيطالي لكي يفاجأوا في ليلة من ليالي الشتاء الباردة بأن الشرطة تطوق المبنى، وبدأت عناصر الأمن في مطاردتهم. لقد أبلغ مصطفى درويش، كما علمنا فيما بعد، القائمين على المركز الإيطالي، بأن مجموعة من الشيوعيين توشك أن تقتحمه وتستولي على جمعية سينما الغد وعلى المركز بالقوة، فما كان من مدير المركز إلا أن أبلغ الشرطة ومباحث أمن النظام. وقد الغي اجتماع الجمعية العمومية بالطبع في تلك الليلة المشهودة.

هذه الواقعة بالطبع ضمنت لمصطفى درويش بعد ذلك، الانفراد بالجمعية العمومية بعد أن عقدها في أجواء أخرى شبه سرية، ودعا إليها اصدقاءه من "الأرستقراطية الثقافية" الذين انتخبوا مجلسا برئاسته شأن كل المجالس والمنابر والكيانات القائمة في مصر منذ خمسين عاما على الأقل.. أي مجالس الشخص الواحد: الزعيم، الفرد، القائد، الرئيس، المفكر الأول، والأخ الأكبر، بل و"كبير العائلة".

الرعب الذي اصاب مصطفى درويش ودفعه إلى أن يفعل ما فعل، أدى إلى مواجهة حادة بينه وبين صديقه القديم وجاره التاريخي شحاتة هارون. فلم يكن من الممكن أن يقبل هارون كيساري مناضل أن تصبح الشرطة طرفا في حل خلاف فكري حول جمعية سينمائية. وقد أعلن هارون أنه لن يدخل بيت مصطفى درويش بعد ذلك طيلة حياته. وأنا أعرف أنه التزم بذلك إلى حين وفاته عام 2001.

نهاية القصة
وفي عام 2001 تحديدا كنت قد انتخبت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين، وقررنا في الجمعية أن أسافر للمشاركة في الاجتماع العام للاتحاد الدولي لنقاد السينما (المعروف بالفيربيسي) وكان سيقام في بلدة قريبة من ميلانو في إيطاليا. ولكن لظروف تكليفي بتولي إدارة مهرجان الاسماعيلية السينمائي في تلك الفترة، وكان المهرجان متوقفا لسنوات وأراد محمد كامل القليوبي أن يعيده إلى الحياة وقتما كان رئيسا للمركز القومي للسينما، قبل أن يطيح وزير الثقافة بالقليوبي ويأتي بعلي أبو شادي الذي قرر السير في طريق إقامة المهرجان خوفا من أن يتهم بأنه جاء لشطب مشاريع القليوبي.
فكرة ذهابي إلى إيطاليا لتمثيل الجمعية لم تعد إذن ممكنة، وفكرت في إسناد المهمة إلى مصطفى درويش كشخصية تتمتع بالمصداقية والقدرة واللباقة، وانتهاز الفرصة أيضا لرأب الصدع، وتضميد الجراح القديمة، فقد كان مطلوبا مني توحيد الجمعية، بكل توجهاتها وتياراتها لبدء مرحلة جديدة نتعاون فيها جميعا معا، لإصدار مجلة وتنظيم أسابيع أفلام وربما أيضا إقامة مهرجان للسينما العربية (كان من ضمن مشروعنا المكتوب والمعلن وجاء ناقد معروف بعد ذلك لينسب الدعوة لنفسه في عموده اليومي).
وعندما عرضت فكرة تكليف مصطفى درويش بالمهمة على حسين بيومي أيدها وساندها بقوة، بل وأبدى استعداده للاتصال بمصطفى درويش وقام بذلك بالفعل، وحدد له موعدا، وجاء الرجل لمقابلتنا نحن الاثنين في مقر الجمعية.
جلس مصطفى درويش الذي لم أكن قد رأيته من سنوات أمامي. وأظن أننا كنا قد التقينا في مهرجان قرطاج مرة أو مرتين. وتساءل الرجل: ما الأمر؟ بالضبط؟ فقلت له: ماذا لو عرض عليك الذهاب إلى بقعة في الريف الإيطالي مشهورة بجمالها وحلاوة ما تنتجه من نبيذ فاخر لمدة ثلاثة أيام، يكون مطلوبا منك خلالها تمثيل الجمعية في الاجتماع السنوي الذي توقفت جمعيتنا عن حضوره منذ السبعينيات؟
أبدى هو سعادة وترحيبا كبيرين، بل وأبدى استعداد أيضا لدفع تكاليف السفر بالطائرة. لكنه تحفظ على أمر واحد فقط يتعلق بعدم إلمامه بدرجة كافية بنشاط الجمعية خلال الفترة الأخيرة.
طمأنته أنا وحسين، وقنا له إننا سنعطيه ملفا شاملا يفيده في إعداد تقريره أمام الجمعية العامة، وأما مسألة بطاقة السفر فقد استطعنا تدبيرها من قسم العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة بدون أي معوقات، وذهبنا إلى بيته وسلمناها له، كما سلمناه الملف الذي وعدنا به، ووسائل الاتصال بمندوبة الفيربيسي التي داومت الاتصال به إلى أن سافر.
وعندما عاد كتب لنا تقريرا موجزا عن رحلته، قمنا بنشره والاحتفاء به في العدد الأول من مجلة "السينما الجديدة" (فبراير 2002).
أسدل الستار أخيرا على جراح الماضي مع مصطفى درويش بشكل نهائي عام 2001. وقد حضر بعد ذلك إلى الجمعية، وأدلى بشهادته: كتابة وشفاهية عن فترة عمله كرقيب، بل وقدم أفلاما من اختياره أيضا. لكنه لايزال بالطبع يحتفظ بجمعيته الخاصة في الزمالك ويحرص كثيرا على الذهاب إليها في الموعد المحدد من كل أسبوع، دون أن يعرف أحد منا من أعضاؤها وكم عددهم، وماذا يقولون وماذا يشاهدون وكيف.. وتظل"سينما الغد" حاليا مجرد لغز كبير لا أحد يريد أن يسعى أبدا إلى حل طلاسمه! (تمت)

مصطفى درويش
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger