الجمعة، 12 سبتمبر 2008

مسلسلات رمضان


لا أستطيع أن أتابع أبدا المسلسلات المصرية التي تعرض في شهر رمضان مهما بذلت من جهد، بل أكتفى بمشاهدة ما تيسر في لحظات التجمع المحدودة أمام التليفزيون في البيت.
والسبب الأساسي بعيد تماما عما قد يعتقده أي قارئ، فأنت تجلس أمام التليفزيون وتتأهب لكي تشاهد الحلقة، لكنك تجد نفسك مرغما على الجلوس لمدة 10 دقائق تقريبا، وأنت تستمع إلى أغنية يشارك فيها كورال أو مجموعة من المنشدين مع مغن عالي الصوت (هذه أهم ميزة فيهم جميعا) يجاهد أن يجعلك تبكي قبل أن تشاهد شيئا، ويمهد لك أجواء الفاجعة والماساة أو الملحمة الكبيرة أيا كان موضوع الدراما.
الأغاني التمهيدية تتشابه حتى تصبح كلها امتدادا لبعضها البعض، وتطول لتصبح جزءا من توقيت الحلقة حتى يكثر القبض بالبترودولار، وتظهر خلالها عشرات الشخصيات في لقطات من المسلسل نفسه بأسلوب بطئ وبنفس الطريقة كما في كل المسلسلات.
ما هذا الملل والإملال؟ وما هذه البكائيات وهذه الأصوات البكائية التي تردد علينا يوميا نفس الكلمات، عى خلفية من الصور نفسها، وما المقصود بهذا، ولماذا يتعين علينا أن نجلس صامتين لمدة عشر دقائق نتابع شيئا شاهدناه وحفظناه، في انتظار الحلقة؟
إنه نوع من الابتزاز البشع الذي يمارسه علينا مخرجو ومنتجو ما يطلقون عليه "الدراما التليفزيونية" وكأن الدراما هي فقط تلك المسلسلات الممطوطة وما عداها ليس من الدراما.
والغريب أن الجميع بات يقبل هذه المقدمات الغنائية البكائية الطويلة المملة كأمر مفروغ منه، بل حتى نقاد التليفزيون لا يجدون فيها ما يثير انتباههم.
أنتظر سنويا ان أرى مسلسلا واحدا يعتمد على مقدمة أو مدخل قصير محكم تصاحبه موسيقى بدلا من تلك الملاحم الإذاعية الغنائية، فلا أجد. والأكثر مدعاة للنفور والابتعاد كلية عن تلك المسلسلات ما يتبعه التليفزيون المصري من ابتزاز من نوع آخر عندما يقطع بعد انتهاء تلك البكائية المطولة، لكي يفرض عليك فرضا إعلاناته التجارية التي تدور في معظمها حول الطعام والمواد الغذائية.
هذا هو رمضان عند تليفزيون الريادة الذي توقفت عن مشاهدته .. ورمضان كريم!

ماذا قال النقاد حول مهرجان فينيسيا 2008

ميكي رورك بطل فيلم "المصارع" الحاصل على الأسد الذهبي
حيرة النقاد وهروب الموزعين
تحت عنوان "مهرجان فينيسيا السينمائي كان مشهودا فقط هذا العام بكونه بشعا" كتبت أنييس بوارييه مقالا في صحيفة "الجارديان" البريطانية بتاريخ 8 سبتمبر توجه فيه انتقادات شديدة للمهرجان وتعكس المناخ الذي ساد بين النقاد وهو ما عكسته يوما بيوم "يوميات فينيسيا" التي كنت أبعث بها يوميا للنشر في هذه المدونة.
تقول الكاتبة في مقالها: "كان الصحفيون يحيون بعضهم البعض في الليدو بالقول: ما الذي نفعله هنا؟ أليست هذه كارثة؟". وقد تركزت الشكاوى على موضوع اختيار الأفلام، التي كان معظمها غامضا ومملا لا يمكن أن يروق إلا لأولئك الذين يعتبرون السينما تجربة مازالت في حكم التطور. لقد تساءل الناقد البولندي المخضرم: من الذي يختار الأفلام هذا العام؟ ومضى متسائلا: ما هذا المناخ الذي يوحي بنهاية العالم؟ هل هذا الأفلام تجهيزات ستستخدم في إنشاء متحف أم ماذا؟
وبينما ظل النقاد الحائرون يسيرون تائهين في الليدو اختفى محترفو الصناعة السينمائية. اختفى هارفي وينشتين من جناحه في فندق إكسيلسيور الذي يتكلف 4000 يورو في الليلة الواحدة، وظل الجناح شاغرا إلى نهاية المهرجان. كثير من مشتري الأفلام الذين يتوقفون عادة في فينيسيا لعدة أيام وهم في طريقهم إلى مهرجان تورنتو اختفوا ببساطة. وللمرة الأولى على الإطلاق كانت هناك غرف شاغرة في فندق دي بان الفخم.
وجاء فيلم "المصارع" لكي ينقذ لجنة التحكيم التي ظل أعضاؤها يتندرون قائلين أنهم قد يضطروا لحجب كل الجوائز هذا العام. وحتى ظهور ميكي رورك على الشاشة يوم الجمعة لم يكن هناك سوى فيلمان فقط يتمتعان بمستوى جيد يمكن أن يتفق عليهما الجميع وهما فيلم "مراقبو الطيور" الأرجنتيني، و"جندي من ورق" الروسي الذي فاز بالأسد الفضي.
قد يختفي ماركو موللر مدير مهرجان فينيسيا السينمائي وراء لجنة الاختيار الجديدة تماما على المهرجان، ويقول لنا إنه أراد أن يكون مهرجان فينيسيا هذا العام معملا للبحث السينمائي، ولكنه يجب أن يعلم أن ليس هذا هو مجال اهتمام "الموسترا". ويتعين عليه الرد على تساؤلات طرحت خلال عطلة نهاية الاسبوع في صحف "الباييس" الاسبانية و"لوموند" الفرنسية و"فاريتي" الأمريكية، وربما يأخذ في الاعتبار رأي الجمهور وآراء أغلبية نقاد السينما. فالسينما قبل كل شئ فن شعبي".

الخميس، 11 سبتمبر 2008

حكايات من السينما ومن الحياة

رضوان الكاشف


ذكريات عن "شلة المنيل" ورضوان الكاشف

بقلم: أمير العمري
amarcord222@gmail.com

كان المخرج الراحل الصديق رضوان الكاشف يتمتع بقدرة خاصة على جذب الآخرين بدبلوماسيته الناعمة، ورقته البالغة، وفطريته وانطلاقه في الحديث، وعشقه للحياة، وللمغامرة أيضا، بل ويمكن القول إن الحياة كانت عنده مغامرة طويلة، لكنها ربما تكون قد انتهت في حالته، قبل الأوان. كان رضوان من المحبين الحقيقيين للحياة بالمعنى "الدينوسيسي" الكامل للكلمة، وحتى آخر قطرة من الليل، ومن الطاقة على السهر والحديث والمسامرات الليلية. وكان ليل رضوان الكاشف نهارا، ونهاره ليلا، أي أنه يعيش الحياة عادة في الليل. ولكنه كان أيضا قارئا نهما جيدا جدا، وكان يجد الوقت للاهتمام بأسرته الصغيرة، ويبدي اهتمامه بأدق تفاصيل حياة ابنته وابنه ومستقبلهما المدرسي وغير ذلك. لكن أهم ما كان يميز رضوان أنه كان يعتبر نفسه عضوا أصيلا فيما يسمى بـ"شلة المنيل". وهي مجموعة من الأشخاص جمعهم في شبابهم (خلال سبعينيات القرن الماضي) التجاور في السكن، في حي المنيل القاهرى العريق، رغم أن أصولهم جميعا ليست قاهرية، فرضوان مثلا صعيدي من إحدى قرى محافظة سوهاج. وقد بدا على أعضاء تلك الشلة منذ وقت مبكر "أعراض" الاتجاه إلى الفن والثقافة والفكر، رغم أنهم لم يدرسوا الفنون، على الأقل في بدايات حياتهم.
وقد عرفت شلة المنيل منذ وقت مبكر، ولكن ليس من خلال حي المنيل، بل من خلال نادي السينما الذي اسسته وأدرته في جامعة عين شمس في السبعينيات وكان "قبلة" لكل الطلاب المثقفين والمهتمين بالثقافة والسينما والعمل العام عموما. وكان الزمن هو زمن الثورة والغضب والانتفاضات الطلابية والاحتجاج على نظام السادات الذي بدا لنا من بدايته متخبطا، وبدت مؤشرات واضحة على اتجاهه الذي اتخذه فيما بعد رغم أن كاتبا بحجم محمد حسنين هيكل أيد السادات ووقف معه وأخذ ينظر له في بدايات حكمه. والمهم أن حركة الوعي كانت تدفع في ذلك الوقت، في اتجاه المعرفة في شتى المجالات. ولم يكن غريبا على الإطلاق او مستغربا، أن تجد طلاب الحقوق والآداب والطب والهندسة والعلوم، يلتقون معا في أنشطة من نوع "نادي السينما في كلية الطب- جامعة عين شمس) الذي أسسته ورعيته وأصدرت نشرته اسبوعيا إلى أن جاءت قوى الظلام التي استولت على الاتحادات الطلابية وأغلقته، وصادرت أيضا المكتبة الثقافية الهائلة التي كنا قد اسسناها – الصديق والزميل الدكتور محمد حسن خليل وأنا- في كلية الطب وقتها لروائع كتب التاريخ والفلسفة والفكر السياسي والاجتماعي والأدب والمسرح.. وغير ذلك. وكنا قد نجحنا في الفوز بعضوية اتحاد الطلاب في الكلية، وكنا نقوم بجولات مكوكية طويلة في شوارع القاهرة، بحثا عن كل ما يمكن أن يكون ذا قيمة من كتب وسلاسل في هذه الفروع والميادين وغيرها، إضافة إلى شراء الأعداد الكاملة من المجلات الثقافية الرصينة مثل "المجلة" والفكر المعاصر" و"الطليعة" وغيرها. وكنا من الزبائن الدائمين لسور الإزبكية الشهير قبل تحولاته الانفتاحية ثم إغلاقه على يد قوى ظلامية أخرى من شرطة قمع الثقافة.
جاءت قوى الظلام وأغلقت كل طاقات النور والفكر التي فتحناها من خلال "النادي السياسي" و"النادي الثقافي" (وكان يشرف على النادي الأخير الدكتور خليل فاضل استشاري الأمراض النفسية المعروف حاليا) و"نادي السينما" وغير ذلك من المنابر، وكانت كلها في كلية الطب، ورغم ذلك كانت تستقطب كل الطلاب من جميع كليات الجامعة. وكانت حجة قوى الظلام وجماعات التكفير الزاحفة بقوة، أننا ننشر "الدعاية الشيوعية" أو نروج للـ"الفكر العلماني المنحرف"، و"الفلسفات الوضعية المجدفة" وغير ذلك من تلك الترهات التي كانت في بداياتها ولم تكن عقول الأمة قد استنامت لها واستسلمت كما اصبحت الآن بكل أسف.
وليس غريبا أن نجد من بين الذين كانوا يترددون على نادي سينما كلية الطب الذي عرض أعمالا من روائع السينما المعاصرة وقتها، رضوان الكاشف وحلمي هلال ويسري نصر الله وأمير سالم وأسامة خليل وبهيجة حسين ومحمد كامل القليوبي ويحيى الفخراني (كان مازال طالبا عجوزا في كلية الطب وقتها!) وزوجته لميس جابر وأسماء أخرى كثيرة بعضها احترف العمل السينمائي فيما بعد، والبعض الآخر احترف الكتابة.
وكنت ألتقي أيضا بعد ذلك، بأفراد "شلة المنيل" في جمعية الفيلم ثم جماعة سينما الغد (التي لنا معها وفيها قصة ربما أرويها ذات يوم) ونادي القاهرة للسينما. وكنا نخوض معارض ضارية ضد البيروقراطية ورموز الفكر الرجعي والمنظرين الجدد لنظام السادات، ونتعرض في سبيل ذلك لمشاكل كثيرة. وقد وقعت مواجهات درامية كادت أن تنتهي بكوارث، سواء في جمعية الفيلم أم في جماعة سينما الغد.

في الجزائر

وقد جمعتني صداقة طويلة بمجدي أحمد علي، الصيدلي الذي تحول إلى الإخراج السينمائي وصار مخرجا معروفا، ونحن حاليا في انتظار فيلمه الجديد.. الرابع (خلطة فوزية)، وجاء مجدي إلى الجزائر واقام معنا (أنا وعبد الرجمن وهاني المنياوي ومحمد الدردريري في أوائل الثمانينيات، حيث كنا نعمل هناك ونقيم وحدة للحوار والمناقشات وتبادل الآراء، والتطلع إلى تحقيق الأحلام الكبيرة، والتأمل في الواقع من بعيد ومراجعة الأفكار القديمة، وربما تكون تلك الحيوية، هي التي كفلت لنا الاستمرار في غربة متوحشة سنوات. محمد الدرديري تحول إلى التمثيل فيما بعد دون أن يحقق ما كان يصبو إليه رغم مستواه الجيد كممثل.
عرفت أيضا محمد حلمي هلال طالب الحقوق (الذي كان يواظب على حضور نادي السينما بالكلية) ثم المحامي الذي تحول إلى كاتب سيناريو للسينما والتليفزيون (كتب الفيلم الأول لمجدي أحمد علي "يادنيا ياغرامي" وأفلاما أخرى)، وصادقت ولازلت، عادي السيوي الذي هجر الطب إلى الفن التشكيلي وأصبح أحد أعلامه في مصر والشرق الأوسط، وشقيقه سامي السيوي كاتب السيناريو المتميز الذي كتب اثنين من أفلام رضوان هما أول أفلامه "ليه يابنفسج" وآخر أفلامه "الساحر"، كما ارتبطت بعلاقة صداقة مع جلال الجميعي الذي يكتب السيناريو للتليفزيون، ومحسن ويفي الذي يكتب النقد السينمائي، وأمير سالم المحامي الناشط في مجال حقوق الإنسان والذي يرعى الثقافة والنشر.

في القاهرة
وقد التقيت بكل هؤلاء في بدايات شهر يونيو الماضي في المناسبة السنوية لإحياء ذكرى الصديق الراحل رضوان الكاشف الذي توفي فجأة في الخامس من يونيو 2002 (هل هناك دلالة خاصة للموت في هذا التاريخ تحديدا!).. ولم يكن رضوان قد حقق بعد طموحاته السينمائية، بل ولم يترك لنا سوى 3 أفلام روائية طويلة هي "ليه يابنفسج" و"عرق البلح" و"الساحر". وكان يمكن أن يقدم المزيد من الأعمال الجيدة لو قدر له أن يعيش أطول.
كان لقاء الجماعة في مكتب أمير سالم في حي الزمالك بالقاهرة. وكنت وقتذاك أقضي عطلة طويلة بالقاهرة. وكانت إرملة رضوان عزة، موجودة هي وابنته وابنه اللذين كبرا الآن، بل إن لابنته آراءها الخاصة في أفلام والدها باستقلال تام عن مفهومه للسينما. وحضر إلى الأمسية أيضا الممثل محمود الخولي (شقيق لطفي الخولي) وابنة لطفى الخولي دينا زوجة سمير حسني أحد أعضاء الشلة القدامي الذي لم يحضر لسفره خارج البلاد.
ثم جاء أعضاء الجماعة أو الشلة: مجدي أحمد علي وجلال الجميعي وسامي السيوي وأمير سالم بالطبع، وتغيب عادي السيوي ومحسن ويفي وحلمي هلال، الذي تمرد على الشلة منذ زمن طويل وانقطع عن جلساتها.
وجاءت السيدة جميلة اسماعيل زوجة المعارض السياسي السجين حاليا أيمن نور، وحضرت ممثلة نصف معروفة اسمها سيمون، شاحبة الوجه، ضعيفة، صوتها يخرج بصعوبة، ضعيفا واهنا، لا أعرف كيف تمثل.. ربنا يبارك في الميكروفونات الدقيقة التي لا يفوتها أدق الهمسات. وقد دخلت "سيمون" من الباب بصحبة دينا الخولي، لكنها فاجآت الجميع بعد قليل عندما قالت إنها لم تكن تعرف رضوان، ولا تعرف دينا، ولكنها التقت بها على السلم، وإن هذه هي المرة الأولى التي تقابل فيها إرملة رضوان عزة.. واتضح أيضا أنها لا تعرف أحدا من الموجودين ربما باستثناء خيري بشارة الذي أسند إليها دورا صغيرا في فيلم "يوم حلو ويوم مر" منذ زمن طويل. الغريب أنها حضرت وجلست تتسامر مع عدد محدود من الأشخاص، ثم غادرت فجأة قبل أن تمتد السهرة وتطول حتى الثالثة صباحا، دون أن نعرف لماذا جاءت أصلا.
كان هناك ايضا المخرجون الثلاثة الكبار: داود عبد السيد وخيري بشارة وأسامة فوزي، والمخرجة والمنتجة السينمائية ماريان خوري، ابنة شقيقة الراحل الكبير يوسف شاهين ومديرة شركته، وهي التي أنتجت فيلم رضوان "عرق البلح". وكان حاضرا أيضا الدكتور الوشاحي النحات الكبير واستاذ الفنون الجميلة.
كان سامي السيوي متألقا في تلك الليلة، منفتحا للحديث والمناوشات. وكان جلال الجميعي كذلك ايضا. وعندما رآني جلال سألني بجدية شديدة أمام الجميع: هل فعلتها مرة أخرى؟ أربكني السؤال ولم افهم ما يقصده.. ما هي تلك التي "فعلتها".. ونظرت إليه باستفهام صامت، ففاجأني بقوله: هل تزوجت؟ لم افهم لماذا السؤال لكنه المح انه يقصد أنني عدت شابا اكثر عن ذي قبل، فلم نلتق انا وجلال منذ سنوات.
وأشاع الصديق المعماري عبد الرحمن المنياوي جوا جميلا في السهرة التي امتدت وطالت وشملت الحديث في السينما والسياسة والمستقبل وغيبوبة الحاضر الممتدة طبعا، التي تجعلك لا تستطيع أن تتبين إلى أين تتجه مصر هذا إذا كانت تتجه أصلا إلى أي وجهة!
لكننا لم نتوقف كثيرا عند الموت، بل فضلنا العبور عليه سريعا. فلو كان رضوان نفسه بيننا لرجانا أن نمر فوق المرت بسرعة وننطلق نحو الحياة. كان من النادر أن يجتمع هؤلاء جميعا، وكثيرون غيرهم ممن لا أتذكر أسماءهم. لكن الفكرة لاشك جيدة، وتحقق الكثير من الود والترابط، ولم الشمل، وتمنح فسحة لتأمل ما فعله الزمن بكل منا، وما فعلناه بأنفسنا أيضا، وبخلافاتنا الصغيرة. زحف الشيب فغطى رأس جلال الجميعي بالكامل (وكان أحد قيادات الحركة الطلابية في السبيعينات، ردد الشيخ إمام اسمه في إحدى أغنياته التي كتبه احمد فؤاد نجم وهي الأغاني التي كان أبناء جيلي مفتونين بها).
الشيخ إمام مغني الثورة والغضب

وعلى الرغم من أن رضوان كان محبا للناس عموما، إلا أنه ككل اصحاب المشاعر المتدفقة العنيفة، كان ايضا يدخل معارك دامية، ويشن حملات هجومية شديدة ضد من يختلف معهم خلافات يراها هو "مبدئية". فقد كان مثلا على خلاف طويل امتد لسنوات حتى وفاته، مع المخرج مجدي أحمد علي، أساسه في رأيي التنافس المهني بعد أن كان ما يجمعهما التكامل والتعاون. لكن المشكلة أنهما ظهرا كمخرجين معا في نفس الوقت تقريبا، وكانت الساحة قد ضاقت كثيرا عن استيعاب السينمائيين الجادين بعد أن تشبعت لسنوات بمخرجي "أفلام المقاولات".
وقد وصف رضوان الكاشف نفسه في مقابلة صحفية منشورة فقال "أنا عنيد.. أرد الصاع صاعين وعندي روح الثأر".
وكان رضوان من النوع الذي لا يهدأ له بال فيما يتعلق بالتعريف بأفلامه، بل وأتذكر انه كان شديد الاهتمام منذ وقت مبكر للغاية (في منتصف الثمانينيات على ما أتذكر) بعرض فيلمه القصير "الجنوبية"، وهو مشروع تخرجه من معهد السينما، على كل من يعتقد أنهم قد يهمهم أمر الفيلم. وكان يكافح من أجل طيع نسخة جديدة منه بدلا من النسخة المهلهلة الوحيدة التي كانت متوفرة، وكان معهد السينما الذي تخرج منه صاحبنا وصاحب النسخة الأصلية يرفض ويقاوم، وكان رضوان يرى أن هناك موقفا سياسيا "رجعيا" في المعهد من الفيلم وصاحبه (صاحب التاريخ السياسي اليساري الذي قضى فترة قصيرة في سجون السادات).
مع رضوان
وقد أصر رضوان على تنظيم عرض خاص له ودعاني لمشاهدته حينما كنت في ذلك الوقت أقيم لمدة أسبوع في مسكن رضوان في إحدى ضواحي القاهرة لأن شقتي لم تكن جاهزة بعد. وكنت قد انتقلت إلى مسكنه في ضاحية المعادي الجديدة بناء على طلبه قبل أن أستأجر شقة مفروشة على بعد خطوات من النيل في حي المنيل نفسه، والسبب ببساطة يعود إلى أن رضوان هو الذي توسط للحصول على هذا المسكن بحكم علاقته القديمة بالحي ووجود مسكن العائلة هناك ربما إلى وقتنا هذا. وقد قضيت في تلك الشقة ستة أسابيع، وكنت ألتقي برضوان يوميا تقريبا، ونسهر معا، كما كنا نلتقي أيضا بباقي أعضاء الشلة، وكانوا مازالوا يقيمون في المنيل باستثناء صديقنا عادل السيوي الذي كان في ايطاليا في ذلك الوقت حيث قضى عشر سنوات هناك لدراسة الفن التشكيلي والإطلاع على كنوز إيطاليا الفنية وتزوج هناك زواجا لم يدم. وكان المهندسان المعماريان عبد الرحمن المنياوي وشقيقه هاني المنياوي يستأجران مكتبا كبيرا لأعمالهما الهندسية قرب المسكن الذي كنت أقيم به في المنيل، وكنا نلتقي في المكتب في المساء قبل أن ننتقل للسهر على احدى ضفتي النيل في مقهي المسرح العائم. وطوال فترة اقامتي في تلك الشقة المفروشة في المنيل، زارني أصدقاء كثيرون، منهم من انقطعت الصلة به تماما الآن بعد ان تقاطعت الطرق، وتفرقت السبل وتناقضت اختياراتنا في الحياة. خلال الأسبوع الذي قضيته مع رضوان في مسكنه، كنا نستقل سيارة رضوان معا يوميا، ونتجه إلى وسط القاهرة لمقابلة الأصدقاء، وكان رضوان يقص علي خلال الرحلة التي كانت تستغرق حوالي الساعة بسبب الزحام الشديد، تفاصيل كاملة بأحجام اللقطات، وبحركة الممثلين وملابسهم، وبنص كلمات الحوار من الفيلم الذي كان ينضج في خياله لقطة لقطة، وكان في ذلك الوقت يكتب السيناريو له وهو فيلمه الأكثر طموحا "عرق البلح" الذي لم يقيض له أن يحققه إلا بعد ذلك بسنوات طويلة عام 1998. وأتذكر أنني حضرت أيضا العرض الأول للفيلم في مصر في افتتاح المهرجان السنوي للأفلام المصرية (يسمونه في مصر"المهرجان القومي للسينما" وهي تسمية أجدها سخيفة وتفخيمية بلا معنى) وكان الفيلم مفاجأة فنية من الطراز الأول.

رضوان أثناء إخراج "عرق البلح" مع شريهان

وخرجنا بعد ذلك، صحبة كبيرة معا: رضوان وجلال وأمير سالم ومجدي ومحسن والمنياوي ومحمد درديري الممثل وأنا وآخرون) وتوجهنا إلى المطعم الكائن في أعلى العمارة التي تضم سينما أوديون المجاورة لسينما راديو التي شاهدنا فيها الفيلم. ودارت مناقشة طويلة حول الفيلم، وكان رضوان منتشيا بالنجاح والاستقبال الحار الذي استقبل به الفيلم. لكن مجدي لم يكن سعيدا بالفيلم، بل وأخذ فيما بعد يعدد ما يراه "أخطاء" إخراجية بحتة في الفيلم، طبعا لكي يرد على أي ناقد منا يتجرأ ويتحدث إيجابيا عن الفيلم بقوله "هذه مسائل في صميم الإخراج لا يفمهما إلا مخرجين" كما كان يفعل كثيرا!
واستمر رضوان في دعوة كل الضيوف السينمائين من العرب والنقاد الأجانب الذين يفدون إلى مصر لمشاهدة أفلامه. وعندما أخرج مجدي فيلمه الروائي الأول عام وهو فيلم "يادنيا ياغرامي"، لجأ بدوره إلى "تشغيل" آلة العلاقات العامة وتنظيم عروض خاصة لكل من يتوسم فيهم خيرا، مقتفيا أثر رضوان الكاشف وطريقته التي تصور أنها تجلب له الشهرة والتمثيل في المهرجانات والجوائز! وقد وصل الخلاف بين مجدي ورضوان في مرحلة ما إلى حالة الجفاف التام، لكني أتصور أن الشعرة التي تربط بين أعضاء "شلة المنيل" ظلت هناك.. قائمة إلى حين الحاجة إلى العودة، حينها يتم التمسك بها، خاصة عندما يتعرض أحدهم إلى أي "هجوم خارجي"! وكنا نتندر أنا وسامي السيوي على فيلم مجدي بالقول إنه "مقلوب فيلم رضوان" اي أنه بينما عمل رضوان على ثلاثة شخصيات من الرجال يمثلون بقايا الطبقة الوسطة في شريحتها السفلى، اشتغل مجدي في فيلمه على ثلاثة فتيات من الشريحة نفسها. وبينما استخدم رضوان اغنية "ليه يابنفسج" التراثية، رد عليه مجدي بأغنية عبد الوهاب الشهيرة "يادنيا ياغرامي"!
واستمر رضوان في دعوة كل الضيوف السينمائين من العرب والنقاد الأجانب الذين يفدون إلى مصر لمشاهدة أفلامه. وعندما أخرج مجدي فيلمه الروائي الأول عام وهو فيلم "يادنيا ياغرامي"، لجأ بدوره إلى "تشغيل" آلة العلاقات العامة وتنظيم عروض خاصة لكل من يتوسم فيهم خيرا، مقتفيا أثر رضوان الكاشف وطريقته التي تصور أنها تجلب له الشهرة والتمثيل في المهرجانات والجوائز!وقد وصل الخلاف بين مجدي ورضوان في مرحلة ما إلى حالة الجفاف التام، لكني أتصور أن الشعرة التي تربط بين أعضاء "شلة المنيل" ظلت هناك.. قائمة إلى حين الحاجة إلى العودة، حينها يتم التمسك بها، خاصة عندما يتعرض أحدهم إلى أي "هجوم خارجي"!
وكنا نتندر أنا وسامي السيوي على فيلم مجدي بالقول إنه "مقلوب فيلم رضوان" اي أنه بينما عمل رضوان على ثلاثة شخصيات من الرجال يمثلون بقايا الطبقة الوسطة في شريحتها السفلى، اشتغل مجدي في فيلمه على ثلاثة فتيات من الشريحة نفسها. وبينما استخدم رضوان اغنية "ليه يابنفسج" التراثية، رد عليه مجدي بأغنية عبد الوهاب الشهيرة "يادنيا ياغرامي"!كانت معابثة طريفة بالطبع لم يكن يقصد من وراءها إلا التندر على الصراع الدائر بلا معنى.

ملص ورضوان
وكان لرضوان أيضا خلاف آخر، أشد وأعنف، مع المخرج السوري الكبير محمد ملص، الذي ربطته صداقة عميقة جدا برضوان، وأتذكر أن رضوان كان من أشد المعجبين بفيلمه الأول ثم بباقي أفلامه بالطبع، وأنه كتب دراسة طويلة عن جماليات فيلم ملص الأول "أحلام المدينة" نشرها حينذاك في مجلة "أدب ونقد" الشهرية اليسارية التقليدية التي نعتها البعض فيما بعد عن حق "أدب ونكد"!
إلا أن الخلاف الذي دب قبيل رحيل رضوان بفترة قصيرة، كان خلافا أدى إلى قطيعة واتهامات متبادلة فظيعة، وكنت وقتها أقيم في القاهرة، وزارني رضوان في منزلي وأخذ يقص علي القصة من وجهة نظره بالطبع، وخلاصتها أن رضوان كان قد اتفق مع ابراهيم اصلان على شراء رواية له لتقديمها في السينما، فسارع محمد ملص (الذي كان مقيما في القاهرة في ذلك الوقت يسعى إلى دخول معتركها السينمائي بلا جدوى) واشتراها من ابراهيم أو دفع له عربونا لاخراجها ايضا دون أن يخبر رضوان، أو شئ من هذا القبيل، وكان رضوان غاضبا جدا، خاصة وأنه أدخل موضوع خلاف المخرج الصديق السيد سعيد مع محمد ملص بشأن السيناريو الذي كتبه السيد سعيد لملص لكن الأخير أراد تغييره وتبديله ورفع اسم كاتبه ووضع اسمع بدلا منه كما سمعت بالطبع ولا يمكنني أن أجزم بصحة اي شئ منها.
المهم أن مجدي أحمد علي الذي كان مطلعا تمام الاطلاع على الخلاف بين رضوان وملص، أبدى رغبته في أن يتعرف بشكل جيد على ملص، وطلب مني المساعدة في ذلك. وكنت صديقا لكل الأطراف: ملص ورضوان ومجدي (ولاتزال علاقتي بملص بالمناسبة علاقة صداقة وود واحترام، وقد زرته في منزله الجميل في دمشق عندما زرتها في أوائل العام الجاري بصحبة الصديق الرائع تيسير خلف). وقد تم التعارف بين مجدي وملص، وقمنا بزيارة ملص في المسكن الذي كان يستأجره في حي الدقي الراقي، وقضينا معه سهرة طويلة، وأخذ مجدي يبدي استعداده لمساعدة ملص في حل مشاكله مع الشركة العربية (اسعاد يونس)، ويؤيده في كتابة واخراج الفيلم عن الرواية اياها المتنازع عليها، نكاية في رضوان بالطبع. وكان هذا بالطبع قبل أن تتفرق بنا جميعا السبل: يعود ملص إلى سورية، ويفتعل مجدي خلافا معي لاتزال آثاره العنيفة قائمة بكل أسف، ويتوفى رضوان الكاشف وفاة ماساوية عبثية مفاجئة في العام التالي، فنصدم صدمة العمر، حتى الشخص الأكثر جمودا، وهو معروف بعدم اهتمامه كثيرا بموضوع المشاعر، انهار وظل متأثرا لفترة طويلة، رغم أنه عاد بعد ذلك إلى توحشه القديم.

مع محمد ملص في بيته بدمشق في يناير 2008

من فيلم "الساحر"

للأمانة، ينبغي أن أقول إنني بقدر ما أحببت فيلم رضوان الروائي الأول "ليه يابنفسج"، ثم فيلمه الثاني "عرق البلح"، بقدر ما لم أر في فيلمه الثالث "الساحر" شيئا جديرا برضوان فنان السينما الموهوب. لقد قضى رضوان سنوات، منذ إخراج "عرق البلح" (عام 1998) إلى حين إخراج "الساحر" (عام 2003).. أي خمس سنوات كاملة لاشك أنها تركت عليه تأثيرا سيئا وجعلته في رغبة شديدة إلى الخروج من حالة التوقف، مما دفعه إلى عدم الممانعة، ربما، في قبول بعض شروط السوق. وقد كتبت مقالا نقديا حول الفيلم في مجلة "السينما الجديدة" التي أصدرتها جمعية نقاد السينما تحت رئاستي لها (2002-2003)، قدمت فيه تفصيلا قراءة سلبية للفيلم وتفكيكا لعناصره الجمالية والفكرية واعتبرته ينتمي إلى سينما عتيقة بمفردات عجوز. وهو مقال ربما لم يعجب رضوان بكل تأكيد، لكي لم أره منذ أن حضر إلى منزلي في يناير 2003 لكي يترك لي بطاقة دعوة للعرض الخاص للفيلم. ولم أعرف بالتالي رد فعله. فقد نشر المقال في شهر مارس 2002 وتوفي رضوان في شهر يونيو من العام نفسه.
ما أعرفه أنني التقيت بسامي السيوي، كاتب سيناريو الفيلم الذي يعد مسؤولا عن معظم الأفكار والشخصيات الواردة في الفيلم التي انتقدتها بشدة، وأشهد أنه كان على مستوى من التحضر بحيث لم يحدث في أي مرة، وقد اجتمعنا في جلسات ودية عديدة، ان فتح الموضوع أو عبر عن غضبه مما كتبت ونشرت. مرة واحدة فقط كنا نجلس فيها مع الدكتور ناجي فوزي الأستاذ بأكاديمية الفنون، والناقد الصديق حسين بيومي، في أحد فنادق شارع الهرم، وكنا نبحث وقتها إقامة منتدى فني ثقافي اسبوعي في وسط القاهرة (أوائل 2003) عندما أعربت عن رغبتي في اعتزال الكتابة يأسا من التدهور الحاصل، فما كان من سامي إلا أن قال غامزا بعينه في شكل أقرب إلى العبث: "سيكون هذا أحسن للسينما!" وفهمت طبعا أنه يشير إلى المقال الذي لم يرضيه.
نهاية شهر العسل
انتهي بعد ذلك شهر العسل الذي قضيته في مصر في مايو 2003 (استمر طيلة سنتين ونصف في الواقع)، وانتهت فترة صاخبة تحققت فيها أشياء، وخابت فيها أشياء أخرى، كان أفدحها خيبة أملي فيمن كنت أعتبرهم من "الأصدقاء" القدامى، وهم ليسوا من شلة المنيل، ولكن هذا موضوع آخر على أي حال.. طويل طويل ربما رويته ذات يوم بتفاصيله الداخلانية!

الأربعاء، 10 سبتمبر 2008

صحف المعارضة بين الفن والسياسة

صحف المعارضة المصرية ومعظم ما يسمى بالصحف المستقلة في مصر، تضحكني كثيرا جدا. فهذه الصحف معارضة فقط فيما يتعلق بالشأن السياسي الداخلي، فهي تنشر الكثير جدا في نقد الرئيس وابن الرئيس وزوجة الرئيس. أما في الشأن الثقافي والفني فهي صحف "موالاة" كاملة باستخدام التعبير اللبناني!

تستطيع صحف المعارضة المصرية التفتيش في دفاتر حسني مبارك وجمال مبارك حتى أدق التفاصيل وبجرأة مفتعلة أصبحت مسار تندر البعض، لدرجة أنني أصبحت احيانا أشعر بتعاطف مع حسني مبارك، بعد أن أصبح مسؤولا وحده - حسب ما تقوله لنا هذه الصحف - عن كل ما يحدث من فساد على أرض الكنانة- بينما لا تتجرأ نفس الصحف على انتقاد شخصيات أخرى أقل كثيرا في مجال الثقافة والفن.

كانت جريدة "العربي الناصري" مثلا قد دشنت صدورها قبل سنوات طويلة بحملة ضد وزير الثقافة فاروق حسني، انتقدت خلالها أشياء مثل نظام منح جوائز الدولة والمنح وأشياء من هذا القبيل، ثم فجأة، توجه المحرر نفسه (رحمه الله) الذي كتب كل هذه القنابل الشديدة الانفجار إلى مكتب الوزير لكي "يحاوره". ونشر الحوار على صفحتين في عددين متتاليين من الجريدة المذكورة (ملحوظة: عندما قامت العربي الناصري أخيرا بتحديث طبعتها الاليكترونية قامت بمسح كل أرشيفها في السنوات السابقة بحيث يتعذر على أي باحث العودة حتى إلى ما كان قد نشره قبل أشهر في الصحيفة نفسها.. هل هناك شئ من هذا يحدث في أي صحيفة على سطح الكرة الأرضية!!).

المهم أن الوزير تكفل وقتها بكل لباقته وذكائه بتفنيد كل ما ورد في سلسلة مقالات المحرر الثقافي للجريدة. ومنذ ذلك الحين والجريدة لا تكتب إلا كل إشادة بالوزير وما يفعله الوزير، بل إن الصحفية مديحة عمارة التي تتمتع بعمود ثابت في الجريدة المشار إليها، كتبت ذات مرة تشكر الوزير بعد أن استنجدت به لكي يمنع لها فيلما، وتقول إنه تدخل على الفور واستجاب لطلبها أي منع الفيلم. (بالمناسبة الفيلم هو فيلم شارك فيه 11 مخرجا منهم الراحل يوسف شاهين عن 11 سبتمبر وكان يتضمن فيلما قصيرا جدا للمخرج الاسرائيلي آموس جيتاي، ولم يكن في الفيلم شئ يستدعي المنع سوى أن جيتاي اسرائيلي الجنيسية وإن كان قد أخرج عددا من الأفلام التي تنتقد بشدة السياسات الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين وتدعو للسلام على أساس الدولتين وهو ما يعترف به الحزب الناصري المناضل جدا على صفحات الصحف فقط!)- راجع مقال مديحة عمارة في العدد 1027 بتاريخ 24/ 9/ 2006).

الوزير إذن تحول بقدرة قادر، من وزير في حكومة حسني مبارك الذي لا يكفون عن توجيه أقسى الانتقادات له، إلى وزير في حكومة المعارضة "الوطنية التي تقمع الأصوات الأخرى التي تختلف معها في الرأي والتي لن تأتي أبدا إلى الحكم - لحسن الحظ! وهناك عشرات الشخصيات الأخرى التي لا تستطيع صحف المعارضة أن تمسها أو تقترب منها إلا بالنفاق والمديح ونشر الأخبار التي تزينها وتجعلها من "أكبر كبراء المثقفين والفنانين بل وفناني الشعب!!) منهم مثلا الأخ وحيد حامد كاتب السيناريو، والأخ الحاكم بأمره في كل العصور ممدوح الليثي، والممثل عادل إمام (الذي أصبح يفرض ولديه على السينما المصرية حاليا: الأول كمخرج، والثاني كممثل).

ولم تكن تلك الصحف تجرؤ على التصدي للأخ علي أبو شادي كرقيب طبعا يمثل سلطة الرقابة وليس كشخص، فليست لدينا قضية مع الأشخاص إّذا ما رحلوا عن المنصب بل مع المنصب نفسه والوظيفة والهدف والأداء، ومن الطبيعي ان تكون المشكلة أفدح إذا ما ظل الرقيب يعتبر نفسه ناقدا سينمائيا أيضا رغم أنه متوقف عن ممارسة النقد بحكم منصبه، فكيف يمكن الجمع بين "الفكر" و"الرقابة".

وقد رفض سارتر أن يكون رقيبا في حكومة ديجول، وهل كان أندريه بازان مثلا، يقبل بأن يكون رقيبا. والكلام هنا عن "أهل الحرفة" أو المهنة كلام مبتذل لأن النقد ثقافة أي موقف وليس مجرد حرفة أو مهنة يرتزق منها الكاتب أو الناقد. المهم وحتى لا ننجرف في الرد على ما ينشر من تفاهات من دفاع مفاجئ ومثير للشبهات عن "الزميل الرقيب" لأغراض لا يعلمها إلا الله، نقول إن نقد شخصيات لها علاقة بالثقافة أو الفنون في صحف المعارضة أمر ليس واردا في معظم الأحيان، لأن هؤلاء أصبحوا يمثلون "مراكز قوى" تستخدم الرشاوى والبلطجة أو الثواب والعقاب، أي سلاح العصا والجزرة تماما كما يفعل فاروق حسني نفسه منذ مجيئه للوزارة، وهذه الرشاوى تشمل الدعوات إلى المهرجانات والعروض الخاصة وإنتاج أفلام تسجيلة وقصيرة على نفقة الدولة وتوزيع منح التفرغ من المجلس الأعلى للثقافة وإرسال بعض المثقفين إلى الخارج لتمثيل الدولة في المحافل الثقافية (وأشهرها مثلا معرض فرانكفورت للكتاب).. وغير ذلك الكثير من الفتات الذي يجد فيه بعض المثقفين أيضا للأسف الشديد، منافع ومزايا كبرى بسبب حالة الجفاف والحرمان بل والانغلاق الثقافي التام الذي تعيشه البلاد في عصر الانفتاح الاقتصادي السعيد الممتد منذ السبعينيات!

وقد صار من المضحكات المبكيات أن يصدق البعض أو يروج- لفكرة أن هذا الوزير مثلا، أو ذلك الرقيب، أو الممثل أو كاتب السيناريو هم من "الناصريين" و"الوطنيين"، أو يروج أحد هؤلاء لذلك في الأوساط اياها، وهو ما يكفي لأن يجعله يصبح من "العجول المقدسة" عند اخواننا الناصريين مثلا أو المعارضين "اليسارجيين" عموما.

صحف المعارضة (وبعض المستقلة أيضا) تستطيع أن تفتح أحشاء شخصية سياسية مثل أحمد عز إلى آخر وتر في عضلات جسده وعقله وحياته الشخصية وغير الشخصية، إلا أنها عندما تنشر في الفن والسينما فإنها تزين صفحاتها الفنية بآخر أخباء النجوم، أو بأخبار قديمة مترجمة ترجمة رديئة عن الانترنت، أو بمقابلات استهلاكية سريعة مع ممثلات ومطربات من الدرجة الثانية بهدف التلميع والدعاية.. والأمثلة حاضرة أمامنا بالمئات. وعندما تنشر تلك الصحف في النقد السينمائي فإنها تنشر كلاما لا يمكن أن تبتلعه وإلا أصابتك حالة من التلبك المعوي الحاد. والأمثلة أمامنا أيضا بالآلاف.

والكتابة عن السينما في تلك الصحف أقرب إلى أجواء النميمة والقيل والقال، على طريقة: سمعنا أنك تغيرين 50 فستانا في الفيلم الواحد وأنك اشتريتها من باريس.. فهل هذا صحيح؟!

هذا المفهوم الأعرج للصحافة يعود في حقيقة الأمر إلى كون معظم الصحفيين العاملين في صحف المعارضة هم أولا وأساسا، موظفون في صحف الحكومة. وبعضهم يذهب في الصباح لكي "يثبت حضوره" في صحف الحكومة، ثم يمضي إلى حال سبيله لكي يخون الحكومة مع المعارضة بعد الظهر. والأغلبية العظمى منهم لا تذهب أصلا إلى صحف الحكومة إلا مرة أول كل شهر لقبض المعلوم. والحكومة نفسها طبعا تعلم وتتستر على ذلك، فهي من ناحية ترغب في ربط الصحفيين بها، ربط مستقبلهم المهني بها بحيث لا يندفعون إلى ساحة المعارضة وتصديق أنهم مستقلون بالكامل عن الحكومة.

والطريف أيضا أن مطابع الحكومة هي التي تطبع صحف المعارضة، بل إن هذه الصحف التي يتبع معظمها أحزابا سياسية قائمة ولو شكليا، يحصل على دعم مباشر من الدولة شأنها في ذلك شأن الأحزاب التي تمثلها والتي تحصل أيضا على مبالغ مالية سنوية من الدولة لممارسة معارضتها لها.. فهل هناك "مسخرة" أكثر من ذلك. الأحزاب السياسية القائمة، وصحفها بالتالي لا تنتمي لمدارس سياسية مذهبية في الفكر وتتبع منهجا محددا في المعارضة، لأنها لا تمثل مصالح شعبية حقيقية (أي لا تمثل طبقة أو شريحة ما في المجتمع)، وهنا يكمن تحديدا سبب غجزها عن رؤية الأشياء في كليتها، فالسياسة الثقافية جزء من السياسة العامة، ولا يمكن أن يكون هناك رئيس فاسد، ووزير ثقافة جيد لأن الثاني يمثل السياسة التي يضعها الأول، والمزايدة على موضوع التطبيع يدخلنا في الطفولة السياسية لأن الموضوع ملئ بالألغام والترهات أيضا ولا علاقة له بمواقف سياسية أصيلة، ولكن هذا موضوع آخر.

من ناحية أخرى، ولأن الحكومة تدفع أقل من الحد الأدنى من الأجور للصحفيين، فهي لا تمانع في أن يحصلوا من "أبواب أخرى" على ما يكفي احيتاجاتهم الأساسية، وهي السياسة التي تتبعها الحكومة مع كل شرائح المجتمع، والمسؤولة عن تفشي الرشوة والفساد واستغلال النفوذ على كافة المستويات: من سائقي التاكسيات إلى الوزراء. المعارضة إذن تكون عند هذه الصحف "سياسية" فقط، أساسها الهجوم على الرئاسة، وكلما بالغت في الهجوم على الرئاسة وشخص الرئيس أصبحت أكثر شجاعة من غيرها.. بينما هي لا تقدر على الهجوم المبرر تماما على الرقيب مثلا ورقابته مثلا، أو على وزارة الوزير الفنان جدا الذي يهيمون به حبا ويهيم هو بهم غراما وولعا!

المحصلة أننا نلف وندور في نفس الحلقة: حلقة الحكومة ومعارضتها المضمونة والموجودة في جيبها.. ولم يعد من الغريب بعد ذلك أن تُكسر يد كل من يتجرأ وينتقد أداء أو مواقف "فنان الشعب" عادل إمام الذي تطبل له صحف الحكومة والمعارضة ظالما كان أو مظلوما حتى بعد أن تدهور وأصبح يدور في حلقة مفرغة، فيما يواصل هو ادعاءاته السياسية الجريئة جدا بينما يعرف القاصي والداني مثلا أنه من مساندي الحكومة بل ومن مهرجي الخليفة وحلقته. أما من حيث التمثيل فعادل إمام ممثل نمطي لم يتطور منذ "مدرسة المشاغبين".. وليختلف معي كل من يريد، ولكن هذا موضوع نفحصه في مقال تفصيلي قادم.

ومن يتجرأ وينتقد شخصيات أخرى أقل من الرئيس وأقل حتى من الزعيم "عادل إمام" لا يجلب لنفسه سوى المشاكل ولا يفوز في النهاية إلا بالمقاطعة من جانب صحف كل من الحكومة والمعارضة. والحديث في هذا المجال طويل وملئ بالقصص القصيرة والطويلة التي لم تنته فصولها بعد.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger