نقلا عن "الجزيرة الوثائقية"
لاشك أن تطور صناعة الكاميرات الرقمية الصغيرة،
محدودة التكاليف، شجعت، ولاتزال، الكثير من الراغبين في التعبير عن مواقفهم
السياسية من خلال "أفلام" يصورونها، دون تكاليف كبيرة، على صنع هذا النوع من
"الوثائقيات" أو الأعمال التوثيقية التي تعتمد في معظم الأحوال، على الجهود
الذاتية.
ولعل هذا هو سر ذلك الزحام الكبير الذي تشهده عشرات المهرجانات
السينمائية حول العالم، بمئات الشرائط المصورة من خلال كاميرا "الديجيتال"، منها
أفلام حقيقية يمكن بالفعل اعتبارها من الأفلام الوثائقية التي تعبر عن رؤية مبدعيها
المركبة تجاه الكثير من القضايا الإنسانية والسياسية في عالمنا، إلا أن معظمها لا
يزيد عن كونه أعمالا مصورة يدخل قطاع كبير منها ضمن دائرة الريبورتاج التليفزيوني ،
والباقي ضمن التجارب التوثيقية التي لا تحمل أي قيمة فنية معينة.
الوعي بالوثائقي
الفرق بين
الريبورتاج التليفزيوني وبين الفيلم التسجيلي أو الوثائقي، يكمن في أن الأول يركز
على فكرة معينة يظل يبحث حولها، ويتظاهر بالموضوعية حينما يلجأ إلى استقصاء آراء
عدد من الأشخاص يمثلون مختلف أطراف القضية، دون أن يعني هذا أنه يتخلى عن وضع كل
تلك الشهادات ضمن "سياق" معين يخضع لوجهة نظر مسبقة في القضية المطروحة في معظم
الأحيان.
يستخدم صانع الريبورتاج أساسا، التعليق الصوتي، سواء المباشر الموضوعي
القادم من خارج العمل، ويكون في هذه الحالة هو صوت صانع العمل نفسه أو من يمثله
ويعبر عنه، أوغير المباشر من خلال صوت إحدى الشخصيات التي يصورها التي تنقب في
الموضوع، أو يستخدم أكثر من صوت داخل العمل بالتناوب.
يهتم
الريبورتاج كثيرا بالشخصيات المتكلمة، ولا يعير الكثير من الاهتمام للغة الفيلم
الوثائقي أو طرائق المونتاج المختلفة: كيف يصوغ المادة المصورة ضمن سياق فني،
فالمهم هو توصيل المعنى السياسي وليس البحث عن نسق فني يصوغ من خلاله
أفكاره.
الفيلم الوثائقي له شكل، بناء، خط قصصي أيضا، ومحور واضح لا يشترط أن
يكون داخل سياق يدعي "الموضوعية".. بل يمكن جدا أن يكون فيلما ذاتيا، يعبر فيه
المخرج عن رؤيته الخاصة أو عن ذكرياته أو مواقفه السياسية دون أن يخشى الاتهام
بخيانة النوع، في حين أن الريبورتاج يتلاشى فيه الخاص لحساب العام.. تحت تصور أنه
بهذا يخدم القضية!
هذه المقدمة كانت ضرورية في رأيي قبل التطرق إلى عمل عرض في
الدورة السادسة من مهرجان أبوظبي السينمائي تحت عنوان "كما لو أننا نمسك بكوبرا"
للمخرجة السورية المقيمة في فرنسا هالة العبد الله. وسبق لهالة أن صنعت عملا
بالاشتراك مع عمار البيك يحمل أيضا عنوانا شاعريا أدبيا هو "أنا التي تحمل الزهور
إلى قبرها".
القضية والتعبير
هالة في
فيلمها "التسجيلي" الجديد (120 دقيقة) تسعى لتقديم عمل ينتمي إلى ما يمكن أن نطق
عليه فيلم "القضية" وهو ما يعيد إلى أذهاننا ما كان ينتج في الستينيات من أعمال كان
يطلق عليها "السينما النضالية" أو "المنشورات السينمائية" آخذين في الاعتبار أننا
لسنا هنا أمام فيلم "سينمائي" بل أمام عمل صور بكاميرا الفيديو الرقمية وليس
الكاميرا السينمائية، والفرق لايزال كبيرا بين النوعين في رأي كاتب هذا
المقال!
إغواء التصوير بالديجيتال يتمثل في الوقوع في التقاط الكثير من اللقطات
للشوارع والمحيط الذي يجري فيه التصوير، لا تضيف شيئا إلى العمل نفسه، كما يغوي
أيضا بتحريك الكاميرا بضرورة أو دون أي ضرورة على الإطلاق أحيانا. ولا يهتم صانع
فيلم الديجيتال كثيرا بالإضاءة بل لا يهتم بها في معظم الأحيان، ولا يهمه كثيرا
جماليات الصورة السينمائية (أو ما يطلق عليه البعض "الكادر" السينمائي) أي مكوناتها
التشكيلية ناهيك عن الإهمال التام لما يعرف بـ"عمق المجال" في الصورة وهو من أهم
خصائص فن السينما أو الفيلم!
حالة ثورية
"كما لو اننا
نمسك بكوبرا" (من إنتاج مشترك بين الإمارات وفرنسا) عمل تطمح مخرجته هالة العبد
الله إلى التعبير عن تلك "الحالة" الثورية القائمة حاليا في كل من سورية ومصر، من
خلال إظهار عدد من رسامي الكاريكاتير الذين يعبرون في رسوماتهم عن الثورة وعن غضب
الشعوب، لكن الملحوظة الأولى التي تلفت النظر هنا تتمثل في سوء اختيار معظم هؤلاء
الرسامين، بل وإغفال عرض رسوماتهم وكيف تعكس الثورة، اكتفاء بتصويرهم وهم يتحدثون
عن العلاقة بين النقد السياسي وفن الكاريكاتير.
أهم من يظهر من الجانب السوري في
الفيلم الرسام المعروف علي فرزات الذي اعتدى عليه قبل فترة من عملاء النظام السوري،
ومن مصر الرسام محيي الدين اللباد قبيل وفاته، وهو ما لم أر له ضرورة لأن الرجل ظهر
وهو في حالة من الضعف لا تسمح له بالحدث فبدا مثيرا للشفقة كثيرا، لكنها أرادت
إطهاره كملهم ومعلم لأجيال الجديدة من الرسامين الذين كظهر بعضهم في العمل.
وتظهر رسامة
مصري شابة تبدو متزمتة دينيا واجتماعيا، لكنها مع الثورة سياسيا دون ان تتوقف
المخرجة مثلا أمام هذا التناقض الخطير الذي أصبح يصبغ شكل الحياة في مصر
اليوم!
ويظهر الرسام فرزات متحدثا عن تجربته من خلال نظام التخاطب "سكايب" أي
عبر شاشة الكومبيوتر لأن المخرجة لم تستطع التصوير في سورية. كما تظهر الكاتبة
السورية سحر يزبك لتحتل المساحة الأكبر من الفيلم في الحديث حول الكثير من الجوانب
النظرية حول السخرية والمبالغة في الأدب العربي، وتتطرق كثيرا الى الرقابة وما تقوم
به من محاولة قمع حرية التعبير في سياق كلامي يختلط فيه المطلق بالنسبي، والعام
الذي يبتعد كثيرا عن موضوع العمل، بالخاص الذي يرتبط بتجربتها هي الخاصة في
الاعتقال بسبب آرائها ثم قرارها بمغادرة البلاد إلى الخارج وكأن هذا هو الحل!
فقر الصورة
يعاني العمل من فقر
الصورة إلى درجة كبيرة واضحة، ومن غياب الخط القصصي، والبناء المحكم الذي يملك
إيقاعه الداخلي الخاص، كما يعاني من افتقاد شخصيات الرسامين الذين يظهرون- خصوصا من
مصر، إلى أي نوع من "الكاريزما" الشخصية أو التألق الفني، بل تركز المخرجة عليهم
وهم يجلسون على مقاعد في المقاهي العامة يدخنون الشيشة كما لو كانت تقول إن تدخين
الششيشة هي مصدر الإلهام الفني لديهم!
يمتليء العمل بالكثير من الحكي والكلام
والأحاديث التي يتم تقطقعها ودمجها معا بعيدا عن أي سياق فني محدد، ومن دون أن يؤدي
أحد المشاهد إلى الآخر في سلاسة ومنطق، فالانتقال هنا مزاجي تماما، من هذه الشخصية
إلى تلك، ومن مصر إلى سورية أو العكس، ومن استخدام صور مباشرة إلى استخدام صور
ضبابية مركبة فوق صور آخرى لمنظر طبيعي مثلا، كما في اللقطات الأخيرة لسحر يزبك،
دون أن يكون هناك أي منطق فني لهذا الاختيار بل هو محض محاولة للتحلي بالتجريبية
والحداثة الظاهرية!
ريبورتاج هالة العبد الله عن دور الكاريكاتير التحريضي في
الثورة غير مكتمل بل ويعاني من الفقر الشديد في المادة المصورة التي يمكن أن تعكس
قوة الكاريكاتير وكيف يمكنه أن يكون استفزازيا للسلطات كما يتردد كثيرا في الفيلم
على ألسنة من يتحدثون، دون أن نرى ذلك على أرضية الواقع.
لهذا كله لا أظن أن هذا
العمل سيضيف الكثير إلى وثائقيات الربيع
العربي!
0 comments:
إرسال تعليق