أمير
العمري- طهران
هذه هي
المرة الثانية التي أشارك فيها في عضوية لجنة التحكيم بمهرجان طهران السينمائي
للأفلام القصيرة الذي يقام سنويا ويعرض أكثر من 400 فيلم من الأفلام القصيرة
والتسجيلية وأفلام الرسوم (التحريك) وما يسمى بـ"الأفلام التجريبية".
افتتح
المهرجان يوم الإثنين الأول من أكتوبر ويستمر حتى 8 أكتوبر ويعرض أيضا من خلال
المسابقات الوطنية للأفلام الإيرانية عددا كبيرا من الأفلام تصل إلى حوالي مائتي فيلم
إيراني من إنتاج مختلف الجمعيات والشركات التي تكونت خصيصا لتشجيع الشباب على
تصوير الأفلام والتعبير من خلال السينما.
يدير
المهرجان السيد هاشم مزرخاني، وتنظم المهرجان جمعية سينما الشباب في إيران ولها
نحو 16 فرعا في مدن إيرانية مختلفة، وهي تنتج سنويا أكثر نحو 1200 فيلم قصير
وتجريبي وتسجيلي، وهو عدد كبير حتى بمقاييس الدول الكبرى في السينما.
إضافة
إلى المسابقات العالمية ومسابقات الفيلم الإيراني، هناك قسم خاص لعرض عدد من أحدث
الأفلام القصيرة من البرازيل، ومسابقة خاصة لأفلام دول آسيا الإسلامية تضم 26
فيلما وتشكلت لها لجنة تحكيم دولية (يشارك فيها كاتب هذه السطور أيضا) لمنح جائزة
أفضل فيلم يعكس القيم الإسلامية.
لجنة
التحكيم الدولية تكونت هذا العام من أحمد نجفي (مخرج وممثل من إيران)، ومحمد رضا
إسلام (مخرج إيراني) وجوليان بليسييه (أكاديمي فرنسي)، وفرنشيسكو لوبو دي أفيلا
مدير مهرجان بورتو 7 للأفلام القصيرة في البرتغال، وسوراف سارانجي وهو مخرج تسجيلي
من الهند، واميليو ديلا شيسا وهو مخرج تسجيلي ومدير مهرجان نهر بورتيللو في
ايطاليا، وكاتب هذه السطور.
أما
لجنة تحكيم أفضل فيلم من دولة إسلامية في آسيا فتتكون من محمد رضا إسلام وأمير
العمري وسفيتلانا يونوسوفا من تاترستان، وهي مديرة مهرجان سينمائي في تلك
الجمهورية الصغيرة التي استقلت عن موسكو.
أفلام
كثيرة
تكتظ
المسابقات الدولية الأربع بعدد كبير من الأفلام، فمسابقة الأفلام التسجيلية تضم 40
فيلما من الصين واسبانيا وألمانيا وغانا والفليبين وبريطانيا والبرازيل وبولندا
وكيرغستان وجمهورية التشيك والمجر وإيطاليا وأمريكا وإيران وسويسرا وفرنسا وتايوان
والنرويج وفلسطين وهولندا والعراق .
الملاحظة
الأساسية على هذه المسابقة بل وباقي المسابقات أنها تضم أفلاما من إنتاج السنوات
الثلاث الماضية، أي أن هناك أفلاما تعود إلى عام 2009، وهو ما يعني أن المهرجان لا
يبحث بالضرورة عن أحدث الأفلام بل يسعى لضم أكبر عدد ممكن من هذه الأفلام، وهي
نقطة لا أظن أنها تعمل لصالحه.
هذه
الملحوظة تتضح أكثر إذا ما علمنا أن مسابقة الأفلام الروائية القصيرة تضم وحدها
122 فيلما بالتمام والكمال وهو ما يلقي عبئا مضاعفا على لجنة التحكيم. وتضم مسابقة
أفلام التحريك 61 فيلما ومسابقة الافلام التجريبية 33 فيلما، أي أن مجموع الأفلام
المتسابقة في المسابقات الأربع يبلغ 256
فيلما.
أما
مسابقة الأفلام الآسيوية فتضم 45 فيلما من إيران ومصر وماليزيا والأردن وتركيا
وفلسطين وكيرغستان والمغرب وسورية والعراق.
وبطبيعة
الحال يأتي أكبر عدد على الإطلاق من الأفلام في كل المسابقات من الدولة المضيفة
إيران. وفي مسابقة الأفلام الروائية القصيرة وحدها هناك 25 فيلما.
خلال
حفل الافتتاح تم تكريم عدد ممن قدموا الكثير للسينما الايرانية من شخصيات ايرانية
واجنبية، واكتفى المنظمون بالقاء الكلمات وتقديم عرض موسيقي غنائي ولكن دون عرض أي
أفلام وهو أمر مستغرب في مهرجان سينمائي.
جدران
سراييفو
من
أفضل أفلام مسابقة الفيلم الروائي القصير فيلم "4 جدران سراييفو" للمخرج
نديم جوش من تركيا. وهو يقع في 24 دقيقة، ويدور في أجواء سراييفو الواقعية تماما
من حيث الصورة.. الشوارع.. أطلال البنايات.. ولكنه عبارة عن حكاية خيالية مؤثرة عن
التأثير المدمر للحرب على الوعي الفردي وعلى العقل البشري. والقصة تدور حول علاقة
إبن بأبيه المقعد الذي فقد زوجته وابنته في حادث انفجار قنبلة في ساحة سوق سراييفو
اثناء الحرب التي دارت هناك في منتصف التسعينيات، ونتجت عاهته بعد إصابته إصابة
مباشرة جراء انفجار قنبلة السوق التي قضت على عدد كبير من الأبرياء.
الأب
(سميل) يرقد الآن عاجزا، يعتمد في تدبير أمور حياته على ابنه الذي نجا من الموت
"ميرزا"، وهو يقوم على خدمته، ويحمله لقضاء حاجته ثم يخرج للحصول على
بعض الطعام لهما لنراه وهو يسير بين الأطلال والخرائب في حذر، يرتعد من فكرة
التعرض لرصاصة من رصاصات القناصة. وعندما يعود بمشقة إلى الغرفة الأرضية الرطبة
التي يقيم فيها مع والده يخشى أن يفتح الباب لرجل يأتي فجأة يطرق على الباب، ويؤكد
على والده مرارا ألا يفتح الباب لأي إنسان فربما يكون القادم الغريب من الأعداء.
لكن ميرزا يغادر ذات يوم متحسسا طريقه في رعب كعادته، ويأتي الرجل يطرق على الباب
باصرار فيلقي له العجوز بالمفتاح من أسفل الباب لكي يدخل ونعرف أنه صديق قديم
لسميل يدعى "معمر". يتعانق الرجلان، ويقول له الرجل إنه جاء من قبل
حاملا معه بعض الطعام لكنه لم ينجح في الوصول إليه، وعندما يتطرق سميل إلى القول
بأنه وابنه انتقلا للإقامة في هذه الغرفة بعد أن تهدم منزلهما في القتال، وإنها
أفضل مكان للاحتماء من سقوط القنابل يقول معمر في دهشة: عن أي قنابل تتحدث وقد
انتهت الحرب منذ سنتين!
لا يصدقه
سميل ويعتقد أنه يمزح. لكن معمر يسأله كم مضى عليه دون أن يغادر هذه الغرفة إلى
الخارج؟ فيقول له إنه لم يخرج منذ عامين ونصف العام.
يحمله
صديقه ويخرج به إلى سراييفو حيث تسير الحياة الطبيعية، في حين نرى ابنه وهو يعود
متلمسا طريقه في حرص بالغ كعادته، محتميا بالأشجار بين كل خطوة وأخرى.
لقد
فقد الإبن عقله تماما، وأصبح أسيرا لفكرة الخوف من القناصة، ومن الموت العبثي على
قارعة الطريق.
فيلم
مصنوع ببراعة وفي بساطة آثرة، ودون استطرادات كثيرة.
أداء
تمثلي واثق ومعبر من الممثلين الثلاثة الرئيسيين. موسيقى كلها ترقب وحذر وقلق
وخوف. تصوير حساس يعرف كيف يتعامل مع الأحجام المختلفة للقطات، ومونتاج ينتقل بين
اللقطات في اللحظة المناسبة. ومخرج يسيطر على مادته بحيث يوصل للمتفرج الحالة
النفسية التي يريد أن يعكسها من خلال تلك الحكاية الرمزية عن أثر الحرب على العقل
البشري، دون ثرثرة أو استغرق طويل في الوصف والشروح. وهذه هي طبيعة بل وجوهر
الفيلم الروائي القصير، تماما مثل القصة القصيرة الناجحة الناجعة.
الحب
من أول نظرة
يعرض
المهرجان أيضا فيلما روائيا قصيرا آخر يدور في أجواء سراييفو ولكن في الوقت الراهن
بعد أن انتهت الحرب: هنا نرى من خلال هذا الفيلم "الحب من أول نظرة" (14
دقيقة) للمخرج البريطاني مارك بلاين، شوارع سراييفو الضيقة المرصوفة بالأحجار.
المنازل المتلاصقة، نساء عجائز يذرعن الطرقات الصغيرة. شاب أسمر غريب يهبط إلى
المدينة، يتجه إلى مسكن استأجره، يلمح جارته الحسناء في شرفة المنزل المقابل، يقع
في غرامها على الفور.
يحاول
الشاب أن يلفت نظر الفتاة الجميلة، لكنها لا تنتبه إلى وجوده. يبتكر حيلة بعد أخرى
لكي يلفت نظرها لكنها ليست هنا، إلى أن يرى ذات يوم رجلا يدخل إلى الشرفة حيث تقف
الفتاة ويجذبها للداخل في حب.
صدمة
الشاب تدفعه للهرب إلى الخيال.. إلى أحلام اليقظة. في المقهى بينما يتناول قهوته.
يغمض عينيه ويتخيل الفتاة تدخل للمقهى وتسير ببطء في اتجاهه وتجلس إلى جواره. تمد
يدها في بطء شديد وتلمس يده. لكن الواقع أقوى من الخيال، تنتقل الكاميرا إلى مسكن
الشاب حيث الورقة التي رسم فيها صورة تعبر عن اعجابه بالفتاة وأراد إرسالها إليها
في الماضي القريب غير أنه لم يفعل. الورقة تطيروتسقط من النافذة، تلتقطها امرأة
عجوز تقوم بتنظيف الشارع في أسفل. تتطلع المرأة إلى الصورة المعبرة، تبتسم وتتطلع
إلى شرفة في الأعلى، تلمح رجلال يراها ويرى الصورة ويبتسم. تعتقد أنه هو مرسلها.
هو أيضا لا يمانع من أن تفهم هي إعجابه بها. يبتسم الإثنان لبعضهما البعض. ربما
يكون هذا هو الحب من أول نظرة، وينتهي فيلم آثر في خياله وفي قدرة مخرجه على التعبير
من دون كلمة حوار واحدة.
هذا
فيلم يعتمد أساسا، على التعبير بالصورة، من خلال حجم اللقطات، الانتقال السلس من
لقطة إلى أخرى، الموسيقى الناعمة التي تصاحب الصورة، وتعكس القلق والرغبة في
التواصل مع التردد، والحب الفياض العاجز عن التحقق، التكوينات التشكيلية المعبرة
والاهتمام الكبير بالخلفية وبعمق المجال، والانتقال بين الحركة العادية والحركة
الناعمة البطيئة، ومن اللقطات القريبة (كلوز أب) التي تعكس فوران المشاعر، إلى
اللقطات البعيدة أو المتوسطة العامة التي توضح التناقض بين موقفي كل من الشاب
والفتاة، وحركة الكاميرا التي تهبط تدريجيا وببطء لكي تتوقف على وجه المرأة وهي
تلتقط الرسالة السحرية.
الفيلم
أيضا من تلك التي سبق لها الحصول على عدد من الجوائز وربما يحصل أيضا على جائزة في
مهرجان طهران السينمائي للأفلام القصيرة.
0 comments:
إرسال تعليق