أمير العمري- مهرجان فينيسيا
أخيرا جاء الفيلم الجديد لمخرج الأمريكي تيرنس ماليك "إلى الأعجوبة" To the Wonderإلى مهرجان فينيسيا حيث عرض في المسابقة الرسمية التي تضم 18 فيلما.
ويعتبر "إلى الأعجوبة" الفيلم الروائي الطويل السادس لماليك (68 عاما) منذ أن بدأ الإخراج عام 1973 أي خلال 39 سنة!
وماليك معروف بأسلوبه السينمائي
الذي لا يخضع للأساليب التقليدية، فهو يبني أفلامه عادة على الإحساس
بالإيقاع، وبزوايا الصورة، وباللون، والحركة- حركة الكاميرا المستمرة معظم
الوقت، ويهتم كثيرا بالتكوينات التشكيلية، وبعلاقة الصور بالموسيقى.
وهو يبدو في فيلمه الجديد مخلصا
تماما لأسلوبه الشخصي الذي يميل إلى التجريد مع تلك النزعة الصوفية المعبة
التي تتميز بطرح التساؤلات عن مغزى الوجود، في حين يبدو الكثير من لقطات
الفيلم احتفاء بالإيروتيكية، بالنزوع إلى تصوير الجسد الإنساني في علاقته
بالرغبة، بالعاطفة المشبوبة الجياشة، وبالتهاب المشاعر، وبالاتسفادة
الهائلة من قدرات الممثلة الأفرنسية- الأوكرانية الأصل أولجا كيرلينكو،
كراقصة باليه وموديل قبل أن تصبح ممثلة ناجحة.
لا توجد في الفيلم "حبكة" أو
قصة تقليدية لها بداية وذروة ونهاية، ولا شخصيات تتصارع من أجل الاستحواذ
أو التملك أو تحقيق النجاح بالمعنى المادي كما نرى في الفيلم الأمريكي
التقليدي، بل هناك تصوير للمشاعر المختلطة، للتناقضات التي تدور داخل
الإنسان، في علاقته بالحب، بفكرة التضحية والإخلاص والواجب الذي يتعين عليه
الالتزام به تجاه من يحبه، وبالعلاقة مع الله، الصدق، الحق، والإيمان
المتجرد.
الحلم الفرنسي
الفيلم يبدأ في باريس حيث يلتقي
"نيل" الشاب الأمريكي الوسيم (بن أفليك) بامرأة شابة حسناء مليئة بالحيوية
والحياة، هي "مارينا" (أولجا كيرلينكو).. ويقع الاثنان في الحب.. ويذهبان
معا بصحبة تاتيانا (10 سنوات) - ابنة مارينا من زواجها الفاشل- إلى جبل سان
ميشيل (الأعجوبة) وهناك يقضيان وقتا سعيدا ويقتنع نيل أن مارينا هي فتاة
أحلامه، المرأة التي يتمزج معها تماما ويشعر بالصفاء النفسي والحب الدافق
الذي لا يعرف حدودا، ويتعهد لنفسه أنه سيظل مخلصا لها وستكون هي امرأته
التي يرتبط بها حتى نهاية العمر.
ينتقل الثلاثة- نيل ومارينا وتاتيانا- للعيش في البلدة التي ينتمي إليها نيل بولاية أوكلاهوما في الولايات المتحدة.
هناك تبدأ المشاعر في التغير،
فمارينا لا تشعر بالاندماج الكامل في العالم الجديد، وتاتيانا تشكو من عدم
وجود اصدقاء لها وتعلن رفضها قبول نيل كأب لها، ونيل أيضا يبدو مستعدا
لاستئناف علاقة عاطفية قديمة كانت تربطه بصديقة يعرفها منذ الطفولة.. شقراء
فاتنة.. مستعدة أيضا للعطاء إلى أقصى حد، وإن كانت أقل جموحا في المشاعر
من مارينا.. تلك الأوكرانية الأصل التي جاءت الى باريس حيتما كانت في
السادسة عشرة من عمرها، وتزوجت فرنسيا وهي في السابعة عشرة، لكنه تركها
وتخلى عنها بعد سنتين من الزواج، وكان يتعين عليها أن تشق حياتها بنفسها
لتوفر لابنتها احتياجاتها الأساسية.
الممثلة أولجا كيرلينكو بطلة الفيلم في مهرجان فينيسيا
نيل يتشكك في جدوى العلاقة.. يتساءل عن معنى الحب، وعن مغزى الارتباط العاطفي، يبحث في التناقض بين فكرة الاخلاص، واليقين في الحب، وبين الرغبة العاطفية التي تتخذ منحى آخر. وهنا يطرح الفيلم التساؤلات حول مغزى العاطفة، والحب، وهل الرغبة في "الآخر" حالة ممتدة يمكن أن تستمر أم أنها قد تخبو ثم تستيقظ العاطفة تجاه امرأة أخرى؟
المشكلة التي يواجهها نيل الآن
تأتي من خارج العلاقة مع مارينا أيضا، من أهل البلدة، جيرانه الذين يرتبط
بهم.. فهو يعمل كملاحظ للبيئة، ويكتشف أن هناك تلوثا خطيرا في المياه نتيجة
تسرب مواد معدنية بسبب عمليات التعدين التي يقوم بها جيرانه ويتعيشن منها.
وعندما يلف الأنظار الى خطورة التلوث على الأجيال القادمة يواجهونه بالصد
والإعراض والرفض.
وتأشيرة إقامة مارينا في أمريكا أصبحت في طريقها للنفاذ دون أن يبدو أن نيل قد حسم أمره بشأن زواجه منها.
هناك أيضا، في ذلك العالم
الأمريكي القس اللاتيني كوينتانا (يقوم بالدور خافيير بارديم) الذي يتابع
من بعيد العلاقة بين نيل ومارينا، وهي العلاقة التي تجعله على ما يبدو،
يطرح التساؤلات حول علاقته بما يفعله، علاقته بالله، هل هو فعلا صادق فيما
يقوله للناس، وهل هو على قناعة بدوره كقس، أم كان من الأفضل له لو شق طريقا
آخر!
الشك الوجودي
هذه التساؤلات، التشككات،
اللوعة التي يشعر بها من يحب، والعاب الي قد يولده الإحساس بفشل الحب أو
بعدم قدرته على الصمود والتفاعل والاستمرار، هي ما ينشج منها تيرنس ماليك
صورا ولقطات وتشكيلات بصرية، تمتزج بالموسيقى، وبالطبيعة في عمل سينمائي
يثير في النفس الكثير من التساؤولت الوجودية المقلقة أيضا، وهنا تكمن عظمة
الفيلم بل وجنال أفلام ماليك كلها، فهي أفلام لا تروي حكايات سطحية
للتسلية، بل تتوقف أمام شذرات من الحياة، حياة أبطاله المتشككين المعذبين،
الباحثين عن التحقق، عن الامتزاج بالطبيعة، عن القرب من الله، من أجل أن
تجعلنا نحن أيضا نراجع أنفسنا، ونبحث في مسار حياتنا، وإلى أين نحن سائرين.
هنا اهتمام كبير باللقطات القريبة والقريبة جدا close ups and big close upsوالحركة الدائرية للكاميرا، وقطاع المونتاج الفجائية، والانتقال بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر.
هناك الكثير من المشاهد التي
تدور في الخيال مثل مشهد الزواج، ولكن أساس المشاهد المفصلية في الفيلم هو
الكبيعة: دائما نحن في الحقول، في الجبال، وسط الثلوج، أمام قرص الشمس..
لحظة الغروب، حقول القمح الممتدة.. وهكذا.
الحوار في الفيلم محدود بل
وقليل جدا، ومعظمه لا يأتي على شكل "ديالوج" بل "مونولوج" أو تعليق خارجي
من خارج الصورة على لسان البطل، وكأننا أمام كائن معذب يتساءل لنفسه دون أن
يروي لنا بالضرورة.
الغلاف الموسيقي للفيلم يحتوي
الصورة، يجعلها نابضة.. وتغير الألوان وتعاقب درجاتها ما بين الأصفر
والأحمر والأزرق، تجعلنا أمام سيمفونية بصرية.. أو قصيدة من الشعر المرئي..
تخفي أكثر مما تظهر، تعبر بعبقرية عن الإنسان في لحظات الحب والرغبة
والتشكك والألم والرفض والغضب والإحساس بالواجب وبالوفاء.
قبيل النهاية
هل حقا سينضم نيل الى مارينا
مرة أخرى كما يوحي لنا الفيلم قبيل نهايته؟ لقد ادت مارينا الى باريس،
وانفصلت عنها كما تقول في إحدى رسائلها لنيل، وذهبت للعيش مع والدها، رافضة
منطق أمها في العيش، وأصبحت مارينا وحيدة..
ما يجعلنا نقول إن الفيلم عن
المشاعر واللحظات المنتزعة من النفس البشرية وليس عن صراعات خارجية، هو أنه
لا يشرح ولا يحلل بل يعرض في انطباعية واضحة، ومن خلال خليط من الصور
والتداعيات وأنصاف الالتفاتات وزوايا الوجوه، وكاميرا تيرنس ماليك لاشك
أنها تولي اهتماما أكبر هنا للمرأة، لسواء لمارينا أو جين (راشيل ماك
آدمز).. حبيبته الأخرى. إنه مهموم أكثر بتأمل المرأة في الحب، في أكثر
اللحظات حميمية، ولعله في هذا يريد أن يكشف لنا مشاعر الرجل، ولكن كما
تنعكس على المرأة. ولعله أيضا أكثر المخرجين اهتماما بالمرأة، بل وقدرة على
تأمل وجهها وجسدها دون افراط ودون وقوع في شباك الإثارة.
إنه يستخدم العري والجسد
للتعبير البصري بشكل رائع عن الحب، أما الايروتيكية التي تنتج عن تحركات
مارينا (والممثلة في الفيلم لا تكف في أي لحظة عن الحركة الأنثوية بدلال
ورقة واغراء) فهي جزء أصيل من انجذاب الرجل للمرأة. لكن ماليك يجرؤ على
تصويره بأسلوبه الي يتميز بالجمال والدفء الإنساني ودون أن يجعل لقكاته
تخرج عن نطاق الفن إلى التجارة. وتلك قيمة كبرى دون شك تضاف الى القيم
الأخرى الكثيرة التي تحفل بها أفلام ماليك.
0 comments:
إرسال تعليق