أمير العمري- مهرجان فينيسيا
عرضت ستة أفلام إسرائيلية في الدورة الـ69 من مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي، منها فيلمان للمخرج آموس جيتاي Amos Gitaiلا
يستحقان التوقف أمامهما لأن الفيلمين من نوع "الأفلام الشخصية" فالأول عن
والده، والثاني عن والدته، والفيلمان لا قيمة لهما من الناحية الفنية،
ففيهما الكثير من المعلومات الخاصة بتاريخ العائلة قبل هجرتها من ألمانيا
إلى فلسطين، لكن إثارة الملل هو السمة المشتركة التي تجمع بسبب الاستطرادات
والتكرار والدخول إلى تفاصيل لا قبل للمشاهد بها بل هي تحمل بعض الدلالات
الخاصة بالمخرج نفسه.
وجيتاي يكون عادة في أفضل أحواله
عندما يتناول الصراع العربي الإسرائيلي في أفلامه، وهي في الواقع، مجموعة
الأفلام الليبرالية التوجه، التي صنعت له إسما في الغرب، وبعدها أصبح
مستواه الفني متأرجحا، ولغته السينمائية متعثرة، وبحثه عن مواضيع أفلامه
مضطربا، فلا هو صمد كسينمائي من إسرائيل يعبر عن بقايا ما يسمى بـ"الوعي"
اليهودي بالمأزق المشترك، بين اليهود والفلسطينيين- المحتل والخاضع- داخل
"إسرائيل"، ولا هو نجح في تجاوز نجاحاته الأولى الفنية في أفلامه،
التسجيلية- وشبه الدرامية مثل "بيت" و"يوميات حملة" و"إستر"، وظل ينتقل من
العام إلى الخاص، ترواده دائما فكرة البحث الشاق عن أصوله اليهودية بحيث
يصل أحيانا إلى قمة الذاتية المنغلقة عن العالم، متصورا أن كل ما يحدث له
يصلح تقديمه للمشاهدين في كل مكان، وهي نزعة "نرجسية" تظهر عند بعض
السينمائيين الذين يحققون شهرة كبيرة في العالم دون أن يستطيعوا المحافظة
على مكانتهم من خلال أفلام جديدة يقدمونها ويقعون بالتالي، في حلقة الدوران
حول أنفسهم!
ولعلي لا أبالغ بالقول إن فيلمي
جيتاي اللذين عرضا في مهرجان فينيسيا، وهما "الكرمل" و"أنشودة لوالدي" لم
يكونا ليجدا طريقهما إلى مهرجان دولي كبير على مستوى مهرجان فينيسيا، لولا
ارتباط جيتاي بصداقة شخصية مباشرة مع مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، الذي
جاء بنفسه لتقديم فيلميه عند عرضهما بالمهرجان، وأكد أنه يرتبط بصداقة
شخصية قوية مع جيتاي تعود إلى عام 1989، وأنه طلب الفيلمين وكان سعيدا
بوجودهما في البرنامج هذا العام.
الأفلام الأربعة الأخرى، فيلم منها في المسابقة الرئيسية وهو فيلم "املأ الفراغ" Fill the Voidوفيلمان في قسم :آفاق" و"أيام فينيسيا". أما الفيلم السادس وهو "الماء" فقد عرض في برنامج أسبوع النقاد ولم أشاهده.
إملأ الفراغ
الفيلم الإسرائيلي في المسابقة
"إملأ الفراغ" هو لمخرجة تدعى راما بيرشتاين، وهذا هو فيلمها الروائي
الطويل الأول بعد أن أخرجت عددا من الأفلام القصيرة خصصتها لجمهور من
النساء اللاتي ينتمين إلى فئة اليهود المتشددين دينيا.
والفيلم الجديد يدور تحديدا في
الحي الذي يقطنه اليهود الأصوليون في تل أبيب العصرية، في أجواء شديدة
التزمت دينيا وأخلاقيا، حيث نرى اليهود الرجال بملابسهم السوداء وجدائل
شعورهم المنسابة على الجانبين تحت تلك القبعات السوداء المميزة، بلحاهم
الكثيفة، والنساء اللاتي ترتدي منهن المتزوجات غطاء للرأس، في حين تظهر
الفتيات قبل الزواج شعورهن، ويبدو جميع الشباب وكأنهم يدرسون علوم الدين
اليهودي لكي يصبحوا من الحاخامات في المستقبل.
هذه الأجواء هي نفسها التي سبق أن قدم آموس جيتاي من خلالها واحدا من أهم أفلامه غير السياسية، وهو فيلم "مقدس" Kadoshالذي يتناول العلاقات العاطفية داخل هذه الطائفة، ويصور كيف تقضي التقاليد الجامدة
بحرمان المرأة من حقها الطبيعي في الزواج ممن تحب بل وإرغامها على الزواج
من رجل آخر لأن من تحبه لا يلتزم بتقاليد اليهود الأصوليين ويعيش خارج
"الجيتو"، في حين يرغم رجل وامرأة من داخل مجتمع اليهود الأصوليين، مرتبطان
عن حب بل عشق، منذ عشر سنوات، على الطلاق لأن المرأة لا تنجب. وكان الفيلم
أيضا الأول من نوعه الذي يصور مشاهد حب صريحة صادمة.
أما فيلمنا هذا فعلى النقيض
تماما من رؤية جيتاي النقدية في "مقدس"، فهو يكرس ما نراه بل ويمجده ويضيف
إليه طبقة من المبالغات العاطفية التي تجعل المشاهدين يغادرون قاعة العرض
وهم على قناعة من أن أفض الحلول هو ما وصلت إليه البطلة الشابة الصغيرة في
النهاية، أي نه ليس في الإمكان أفضل مما كان!
قصة الفيلم تدور حول فتاة في
الثامنة عشرة من عمرها، بريئة يافعة، متفتحة للحياة، ابنة لحاخام، وأم
متدينة، ربيت ونشأت حسب تقاليد اليهود الأصوليين (طائفة رجال الدين
تحديدا)، تقوم أسرتها بترتيب زيجة لها من شاب يدرس الدين اليهودي، تراه من
بعيد ويعجبها مظهره الخارجي الذي يتناسب مع مظهرها وسنها،لكن دون أن تلتقي
به ولا تتبادل معه أي كلمة. شقيقتها تموت فجأة أثناء وضعها مولودها الأول،
وبعد فترة يبدأ زوج الشقيقة التي توفيت في البحث عن عروس له ترعى له ولده،
ويمل إلى الارتباط بفتاة يهودية من بلجيكا ويعتزم السفر معها إلى هناك.
أم الزوجة الراحلة ووالدة "شيا"
هي التي ترعى المولود الحفيد، ولا تطيق أبدا فكرة ابتعاده مع والده خارج
البلاد، فهو الحفيد الوحيد للأسرة. وللأسرة ابنة أخرى لم تتزوج بعد رغم
أنها تكبر "شيا" في العمر.
ومشكلة تزويج الفتيات في نطاق
تلك الطائفة كما نرى في الفيلم، تبدو إحدى المشاكل الرئيسية التي يوليها
أبناء الطائفة اهتمامهم خصوصا الرغبة في تزويجهم في سن صغيرة.
تحاول الأم إقناع "شيا" بقبول
زوج شقيقتها الراحلة زوجا لها، خصوصا وقد صرفت أسرة الشاب الذي كان ينتظر
أن يصبح خطيبها النظر عن الموضوع وهو ما يدفع شيا للإحساس باللوعة والأسى،
وتكون الأم قد نجحت بالفعل في إدخال الفكرة إلى رأس الأرمل الشاب. لكن شيا
تقاوم لأنها لا تميل لفكرة الزواج من زوج شقيقتها. لكنها تضطر في النهاية
أن تفضل مصلحة الأسرة على مشاعرها الشخصية وتقبل بتقديم تلك التضحية، أي أن
تصبح أما لابن شقيقتها التي توفيت.
فولكلور يهودي
يمتليء الفيلم بكل ما يمكن أن
نتخيله من استعراض لتقاليد الحياة في "الجيتو" اليهودي: الأناشيد،
والاحتفالات، والأعياد، الزيجات، والعزاءات، الزيارات التي تحمل معنى
المجاملة، القيل والقال، ومشكلة الفتيات اللاتي كبرن ولم يظهر لهن بعد من
يتقدم للزواج منهن، ترتيب الزيجات، اللجوء للحاخام الأكبر للمشورة، الصلاة
اليهودية، إعداد الطعام على الطريقة اليهودية، هدهدة الأطفال، وكل هذه
المظاهر تقدم بمعزل تام عما يحث في إسرائيل وفي العالم، فالجيتو أو الحي
اليهودي التقليدي هنا هو معادل للعالم (الروحاني المثالي)، والأسرة هي أصل
الحياة والمجتمع، والدين موجود لضبط العلاقات داخل المجتمع، والحب مبدأ لا
معنى له، والزواج هدفه الإنجاب واستمرارية وجود العائلة وتماسك المجتمع،
والأم وظيفتها أن تضحي دون أن تطلب شيئا لنفسها فهي أصل العائلة اليهودية..
وهكذا.
رؤية مثالية
هذه الرؤية المثالية المجردة
التي تميل إلى الإفراط في تصوير الظاهرة في إطار "فولكلوري" كما لو كنا
أمام أحد أفلام الأنثربولوجيا الاجتماعية، تقدم في إطار الاحتفاء بالظاهرة
الدينية، والإعلاء من شأنها، وتكريس فكرة أن الخروج عن التقاليد اليهودية،
خيانة لليهودية. وليس هذا غريبا لأن مخرجة الفيلم ومؤلفته تنتمي إلى هذه
الفئة من اليهود المنتمين لأقصى اليمين، والذين يدعمون من الناحية السياسية
سياسة التشدد مع الفلسطينيين، والتوسع والسيطرة والاستيطان والطرد
والترحيل الجماعي.. لكن الفيلم بالطبع لا علاقة له بهذه الممارسات، بل ولا
توجد أدنى إشارة فيه لما يجري خارج عالم هؤلاء اليهود الأصوليين، فهدف
الفيلم تحسين صورة هذه الفئة أمام مشاهدي السينما في العالم وليس طرح قضايا
مثيرة للخلاف، وقد تكون أيضا، مثيرة للنفور والاستهجان.
والواضح من خلال المعالجة
والأسلوب السينمائي المستخدم في إخراج الفيلم، أن المقصود من "الحبكة"
وطريقة صياغتها بنعومة شديدة، القول إن الفتاة لا تتعرض لأي نوع من
"الإرغام" في الفيلم لجعلها تقبل الزواج من زوج شقيقتها الراحلة، وهو قول
يتردد في الفيلم على لسان أحد الشخوص بشكل مباشر، حين يؤكد وكأنه يخاطب
المشاهدين، أنه في اليهودية الأصولية لا ترغم الفتاة على الزواج. لكنها
تتعرض فقط كما نرى بالفعل، لنوع من الضغوط "الناعمة" من جانب أمها أساسا،
لكي تدرس الفكرة وتصل إلى القناعة بها من تلقاء نفسها، وهو ما يحدث، رغبة
من الفتة في الاستجابة للتقاليد "الأخلاقية" اليهودية الأصولية، التي تتمثل
في التضحية بمشاعرها لأجل مستقبل العائلة، خصوصا وأنها ستكون "الأم" لابن
شقيقتها المتوفاة، وللأم في اليهودية مكانة شديدة الخصوصية فهي أصل الهوية
ومنشأها.
عن الأسلوب
أسلوب المعالجة ميلودرامي تتصاعد
فيه المشاعر، وتستخدم المخرجة اللقطات الطويلة، معظمها من الأحجام اللقطات
المتوسطة والقريبة والقريبة جدا لتحقيق التأثير العاطفي، والانتقال بين
المشاهد محكوم ببراعة. ويعتمد الفيلم أساسا، على التمثيل والديكورات ودقة
تصميم الملابس والإضاءة، والاستخدام الدرامي المكثف للموسيقى والأغاني التي
تصل أحيانا إلى ما فوق الذروة، أي تجنح لتحقيق أكبر شحنة من الإثارة
العاطفية.
الأداء التمثيلي جيد من جانب
بطلة الفيلم التي أدت الدور الرئيسي وهي الممثلة الشابة خداش يارون،
والممثلة إريت شيليج التي قامت بدور "رفقة" الأم، والتي يرشحها البعض في
فينيسيا لجائزة أحسن ممثلة، وربما يتقاسم الإثنتان الجائزة، بل إن الفيلم
نفسه وجد من يذهب به الحماس إلى حد ترشيحه لجائزة الأسد الذهبي. وهذا
هوالموقف حتى لحظة كتابة هذه السطور.
وقد حدث قبل ثلاث سنوات فقط أن
حصل فيلم إسرائيلي على الأسد الذهبي وقد يعيد مايكل مان، رئيس لجنة
التحكيم، الكرة، ويستخدم نفوذه في اللجنة لكي تذهب الجائزة إلى هذا الفيلم
الذي لا يضيف في الحقيقة، أي جديد، لا سينمائيا، ولا فكريا، بل هو في
الأساس، فيلم دعائي لتبييض وجوه اليهود المتشددين الذين يؤيدون سياسيا حزب
شاس اليمين المتطرف صاحب السمعة السيئة في العالم.
1 comments:
فعلاً الموقع ممتاز ومفيد جداً لكم منى اجمل تحية
إرسال تعليق