يمكن القول إن الفيلم السوري "دمشق مع حبي"، وهو العمل الروائي الطويل الثاني للمخرج محمد عبد العزيز، بعد فيلمه الأول البديع "نصف ميلليغرام نيكوتين"، أحد أجمل الأفلام التي أنتجت عن مدينة دمشق، بل وعن المدينة عموما في السينما، دون أن يكون "سحر المدينة" مقحما، أو مفروضا فرضا من خارج الفيلم، ودون خلل بالتوازن العام للفيلم، أو طغيان الصور الوثائقية على الجوانب الدرامية.
إن السينمائي هنا، يعبر بحب ودفء وشفافية، عن علاقته بمدينته، عن إحساسه الشخصي بها، وعن رؤيته لجمالها الكامن الخفي، وتأمله في دروبها، ولكن ليس بعيدا عن ناسها، عن تلك الشخصيات البسيطة الآسرة التي تمتليء بها المدينة ويمتليء بها الفيلم، ضمن الرغبة في تصوير ذلك الطابع الحميمي للعلاقات، بين البشر والمكان، وبين الجماعات البشرية المتجاورة التي يجمعها المكان.
ولعله يمكن القول أيضا إن الفيلم هو أحد الأفلام القليلة في السينما العربية التي تقدم صورة "مختلفة" للشخصية اليهودية المحلية (أي السورية)، وهي صورة إنسانية، يغلب عليها جانب الانتماء،اي فكرة العلاقة مع المكان، مع الذاكرة، ويؤكد على انتماء تلك الفئة، لأرضها، ولتراثها الثقافي رغم اختلاف الأديان، ورغم كل حديث عن "الكراهية". وفيلم "دمشق مع حبي" بهذا المعنى يصبح أيضا فيلما عن الحب، تماما كما هو فيلم عن الذاكرة.
فيلم طريق
يختار محمد عبد العزيز (كاتب سيناريو الفيلم ومخرجه) أسلوب فيلم الرحلة، أو بالأحرى، فيلم الطريق road movie، لكي يتيح للشخصيته الرئيسية، "هالة"، اليهودية الحسناء التي ترفض الهجرة إلى إيطاليا مع والدها المقعد "ألبرت"، وتقرر العودة إلى دمشق القديمة للبحث عن حبيبها الذي انقطعت أخباره عنها منذ عشرين سنة، يتيح لها الفرصة للتفتيش المضني في الذكرة، ويؤدي بحثها الشاق في الأماكن، إلى استعادة علاقتها الوثيقة بالمكان الذي لم تستطع أن تفارقه أبدا رغم أنها حاولت.
ويعبر الفيلم عن روح التعايش بين مختلف الديانات والثقافات في دمشق القديمة، من خلال بحث "اليهودية" عن حبيبها "المسيحي"، بمساعدة الأصدقاء المسلمين.
ومن اللقطة الأولى يعبر الفيلم عن فكرة "الابتعاد" عن المكان من خلال لقطة لسيارة تغادر على الطريق، إلى المطار، وفي اللقطات التالية مباشرة نرى لعب أطفال معلقة (تشي بالذاكرة) ثم لقطة قريبة ليد ألبرت مزراحي، والد هالة المقعد الذي يتحرك على مقعد للمعاقين، وهي تمسح برفق وحزن على جدار مدينة دمشق القديمة. ونراه في المطار بعد ذلك مباشرة، وإن كنا نعود إليه وهو يتطلع بصورة واضحة الى احدى الحارات الدمشقية القديمة. وعندما يصل ألبرت إلى إيطاليا للحاق بأفراد أسرته من اليهود الدمشقيين الذين سبقوه إليها، يبدو منذ لحظة وصوله وهو يتحدث مع زوجة شقيقه في السيارة التي تنقله من المطار، عن سحر دمشق، وعن الذاكرة خصوصا، عن عرايش العنب، ورائحة التراب، التي تختلط، كما يقول، برائحة التاريخ ورائحة الياسمين، والليمون.. بل إنه جاء معه أيضا بحفنة من تراب المدينة.
يلخص البرت علاقته بالمكان عندما يقول في بلاغة: إن الإنسان الذي يفقد مكانه يتخلى عن ذاكرته. والذاكرة عنده هي البيوت، والمحلات، الشجر والناس، والأماكن. لذلك يكون وصوله إلى الأرض الغريبة إيذانا بوفاته. لكن الأسرة تصر على تنفيذ وصيته، أي دفن جثمانه في دمشق.
وهناك تستمر "هالة" في رحلة البحث عن "نبيل" الغائب المفقود منذ ذهابه الى لبنان مجندا في الجيش إبان الحرب الأهلية اللبنانية.
لا تألو هالة جهدا في بحثها عن نبيل، الذي هو في حقيقته بحث في ذاكرتها، في هويتها، في معنى العلاقة مع المكان والبشر.
إنها تذهب في البحث بمساعدة زميل نبيل السابق في الجيش "كميل" الذي فقد ساقه في الحرب اللبنانية، لكي تطرق أبواب الشرطة والجوازات والوفيات والتجنيد، وتلتقي بصاحبة بيت أسرة نبيل القديم وهي أرمينية عجوز لاتزال تحافظ على ذاكرتها. وتتوصل بعد رحلة تخرج فيها الكاميرا إلى المناظر الطبيعية الخلابة خارج دمشق، الى أن نبيل يمكن أن يكون قد أصبح راهبا والتحق بأحد الأديرة الكائنة في الصحراء.
خبايا الأسلوب
فكرة البحث عن الغائب، وهي فكرة موجودة بقوة في الأدب، تبدو هنا وسيلة للكشف عن أسرار الأماكن البديعة التي تتوقف أمامها كاميرا محمد عبد العزيز مع اهتمامه الكبير بتفاصيل المكان، بالقيم التشكيلية في اختياره زوايا اللقطات والاضاءة، وحركة الكاميرا، ومزج لقطاته بموسيقى تبدو كما لو كانت نابعة من الروح، مزيج من التراتيل الدينية والأدعية، والموسيقى الناعمة التي تخفي توترا ما.
نبيل الذي لم يمت ويظهر في اللقطات الأخيرة من الفيلم لنراه بعد أن كبر وأصبح هو الآخر مقعدا، يجلس على مقعد متحرك، يمكن أن يكون خيالا أو حقيقة: لم يعد هذا مهما، لأن الفيلم لا يقطع أبدا بوجوده الحقيقي بل ولا يضيف بعد ظهوره أمام هالة، ثم اختفاء الاثنين من المشهد، أي شيء يوحي باستكمال الحدث. فالحدث ليس هو المهم، ونبيل قد يكون حقيقة أو رمزا، لكنه البحث، الرحلة، التفتيش في الذاكرة، محاولة فك الغاز المكان، أسرار أبواب دمشق السبعة التي يتردد صداها في الفيلم كثيرا، بل ان الفيلم ينتهي عند أحد أشهر تلك الأبواب التاريخية وهو الباب الشرقي (أو باب شرقي الذي يعود الى العصر الروماني والذي نزل عنده صلاح الدين الأيوبي موحد مصر والشام).
يمد محمد عبد العزيز هنا أسلوبه المميز في فيلمه السابق على استقامته، ويبدو أكثر تحكما في المونتاج، وفي استخدام أسلوب التداعيات، أي تلك الانتقالات التي تقفز فوق حدود الزمان والمكان، تقدم وتؤخر، في سياق سردي غير تقليدي، يتميز بالحيوية الشديدة، لكي يبقي على المشاهد يقظا، دون ارهاق، بل تصبح رحلة المشاهدة أيضا نوعا من المغامرة تماما مثل مغامرة البحث عن الماضي، والتفتيش في خبايا الذاكرة والمكان، التي تقوم بها "هالة" وتصحبنا فيها معها.
وربما يكون الجزء الأخير من الفيلم قد شابه بعض الاضطراب في السرد بسبب التوقف طويلا، أكثر مما يسمح السياق، أمام تلك الحالة "الكاريكاتورية" الخاصة لحبيبين تربطهما علاقة شديدة التوتر يمكن تلخصها في "الحب حتى الكراهية".. وهما امرأة، تريد الزواج من رجل مشغول بكرة القدم أكثر من انشغاله باتمام الزواج. وما ينشأ من مواقف طريفة عبثية خارجة عن أسلوب الفيلم، تصل الى حد تهديد المرأة باطلاق النار على نفسها.
وربما يكون المخرج- المؤلف قد أراد بها اضفاء طابع طريف على الفيلم، لكني أعترف بأنني لم أجد لهذه المشاهد المتكررة علاقة عضوية بالنسيج الأساسي للفيلم، وكان يمكن بالتأكيد اختصارها كثيرا والتخلص من الاستطراردات على طاولة المونتاج.
يتميز أداء الممثلين جميعا في هذا الفيلم، بالانسجام، وفي مقدمتهم دون شك، مرح جبر في الدور الرئيسي، أي دور هالة، بملامح وجهها الجميل مع مسحة خاصة من الحزن النبيل، وقدرتها علىالتقمص والتعبير الداخلي عن معاناة الشخصية التي تؤديها.
وكذلك يبرز أداء خالد تاجا وفارس الحلو الذي يظهر هنا في دور صغير كضيف شرف لكنه حاضر بقوة في الفيلم، وأنطوانيت نجيب، ودانة جبر، وجهاد سعد، وسامر عمران، وباقي فريق الطاقم التمثيلي.
0 comments:
إرسال تعليق