((أنشر هنا ورقة الناقد السينمائي الأستاذ محمد رضا في معرض التعليق على ما طرحه الأستاذ قيس الزبيدي فيما يتعلق بإشكالية "اللغة السينمائية"، هذا المصطلح الذي نسعى من خلال هذا الحوار بين نخبة من النقاد، إلى استجلائه واستبيانه وتحديد معناه ومغزاه، وليس من الضروري أن تكون مداخلات الأساتذة النقاد محصورة بالطبع في مجال التعقيب أو الرد، بل يمكن أن تأتي متحررة، تستمد أفكارها من وحي ما أثاره قيس الزبيدي، على أن تحلق في نفس الفضاء. ونحن في انتظار المزيد من أوراق النقاد الأفاضل ونأمل أن نتمكن من إصدار حصيلة الجدل حول هذه القضية النظرية في كتاب يجمعنا رغم اختلاف الآراء)).
بقلم: محمد رُضا
حتى يشعر الناقد السينمائي بالحرج لاستخدامه مصطلحاً معيّناً، عليه أن يكون واثقاً، وفي الأساس مدركاً، لما يكمن في هذا المصلح ومصدره كمفهوم ولماذا هو خطأ لا يجب إستخدامه٠
في الوقت ذاته، فإن تعريف "لغة السينما" بأنها "حرفة الفنان السينمائي ووسيلته لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه بشأنها، شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية" تعريف لا يفي جيّداً بالمفهوم ومضامينه٠
قراءة ما تفضّل به الأستاذ قيس الزبيدي من إيضاحات وافية حول اللغة التي نتكلّمها واللغة التي نعبّر بها واستشهاداته المتوالية لمنظّرين ونقاد اقتربوا من هذا الموضوع من زوايا متعددة، تفي في نهاية المطاف بأن "اللغة" السينمائية مصطلح بحاجة الى تعريف كامل قبل إتخاذ موقف منه، هذا على الرغم من أن الأستاذ الزبيدي، وهو من أفضل من يكتب في ثقافة الفيلم النظرية بالعربية، يحدد موقفاً يفضّل فيه عدم اعتبار أن للسينما لغة خاصّة بها لأن ذلك "يضعنا بمواجهة وجود مادة تعبير مسبقة، هي في واقع الحال، غير موجودة"٠
لكن أغلب ما أورده الزبيدي ، فيه، بالنسبة إليّ، الكثير من المقارنة بين اللغة التي نتحدّث بها بألسنة شتّى حول العالم وباختلاف الشعوب، وبين السينما التي نستقبلها بصور شتّى حول العالم وباختلاف مصادرها، علماً بأن المقارنة تصل مباشرة الى مبدأ نفي أن تكون للسينما لغة خاصّة بها وذلك لكل الأسباب المقنعة التي أوردها الزبيدي، سواء من معرفته ومعرفته او بالإستناد الى المصادر التي أوردها لإيضاح المسألة المختلف حولها٠
لكن هل المقصود أساساً هو الحديث عن لغة السينما كما لو أن عليها أن تتمتّع بذات الخصال النظمية والقواعدية التي للغة المحكية؟
أعتقد أن الفصل بين المسألتين واجب لأنه فصل بين كيانين مختلفين أكثر مما هما مجتمعين. بكلمات أخرى، إذا كانت الكلمة التي ننطق بها، ولنأخذ كلمة "أنا" هي كلمة لابد من وجودها في كل لغات العالم قائمة على استخدام حروف معيّنة تتغيّر بين معظم الشعوب حسب اللغة المستخدمة، فإن وجود كلمة "أنا" في الفيلم كصورة، متأتٍ عن أصل مختلف تماماً. "أنا" الفيلم ليست حروفاً مؤلّفة من لقطات، وأنا أوافق على القول بأن الصورة لا ترمز او تحتل مكان الكلمة طالما أبدي اعتراضاً على توخّي علاقة بين اللغة واللغة السينمائية٠
في الفيلم، إذاً، كلمة "أنا" لابد أن تصبح صورة. الصورة هي من صنيع أي لغة لأي شعب وحتى يمكن لها أن تكون صنيع مخرج أو مبدع أخرس لا يتكلّم أساساً. التعبير عنها هو المختار من مفردات الفيلم الخاصّة به: أنا في فيلم "سفر الرؤيا... الآن" لفرنسيس فورد كوبولا هي عبارة عن صورة الممثل مارتن شين الذي يسرد (باستخدام الصوت أيضاً) الحدث الذي سنراه والموضوع كحكاية وكمضمون أيضاً. إنه يتحدّث بما نعرفه لغوياً بصوت المصدر وهذا ليس حال استخدام فيلم آخر صورة "هو" للحديث عن الشخص الآخر من وجهة نظر أنا غائبة او مغيّبة. الأنا في فيلم آخر مثل "برسونا" لإنغمار برغمن لم تعد سينمائية كشرط. فهي تمثّل إنغمار برغمن من ناحية ثم، وحين مشاهدة الفيلم فإن قدراً من "أنا" المخرج يصبح متاحاً للمشاهد لكي يتبنّاه او لكي يتداخل مع نظرته صوب ما يحدث٠
الـ "أنا" تختفي أيضاً في وجود مختلف عن ذلك الذي يفرضه سرد الفيلم من وجهة نظر بطله. فهي قد تكون نظرة المخرج الكاملة لموضوع ما. في أي من أفلام مايكل مور الوثائقية، تصبح التجسيد لما يعتقده صحيحاً ويسرده مختاراً الصور التي يريد أن يسرد موضوعه التسجيلي بها٠
إذاً، ليس هناك علاقة لغوية بين كلمة أنا المستخدمة ملايين المرّات كل يوم وبين "أنا" الفيلم. ولأنه لا توجد علاقة فإن البحث في احتمالية أننا كمنظّرين او نقاد او مشاهدين نستطيع أن نتحدّث عن لغة خاصّة بالسينما يصبح احتمالاً مطروحاً مزوّداً بكل ما يحتاجه من شرعية٠
الصورة التي تعبّر عن "أنا" تختلف. إذا كانت كلمة "أنا" اللغوية مؤلّفة عربياً من حرفي ألف ونون في الوسط، فإنها في السينما تتألّف من حروف وأشكال عدّة. قد يجسّدها الممثل داخل الفيلم وقد يجسّدها صوت لممثل لا نراه، وقد يجسّدها المخرج في طرح ذاتي لموضوعه. حينها قد تكون الصورة لبزوغ الشمس مثلاً، مع كلمات منطوقة (او مطبوعة) مثل "مع بزوغ شمس كل يوم أشعر بأنني ولدت من جديد" هو أيضاً صورة تمثّل او تقف محل كلمة "أنا"٠
وكيف يمكن لنا أن نخلع عن السينما لغتها إذا ما نظرنا الى كيفية التعبير عن تلك الأنا. "أنا" في اللغة المحكية بحاجة الى تفسير: "أنا من صعد السلّم لأدخل من النافذة حين نسيت مفتاح الشقّة في الداخل" هنا هي مفردة او كلمة من عدّة كلمات لأنه إذا ما توقّفت عند كلمة أنا، لم أقل شيئاً. في الرواية هي تقريباً النحو ذاته. لكن في السينما أنا هي ما أراه. في فيلم روبرت ألتمن "الوداع الطويل" نسمع فيليب مارلو يتحدّث عن نفسه في مشهد ليلي آت فيه بإتجاه الكاميرا قبيل صعوده السلم الى منزله. لنلغ التعليق المسموع (على أهميّته) ونرقب الصورة: ما نراه هو "أنا" مزوّدة في اللحظة ذاتها (لحظة فتح الكاميرا عليه) بالحدث وبالمعرفة الشخصية والسلوكية: جمّد اللقطة عند أي كادر منها يطالعك جنس الأنا (ذكر او أنثى) عمره التقريبي، طريقة مشيه، ما يرتديه، إذا ما كان يحمل شيئاً في يديه، إذا ما كان حذراً او لا، إذا ما كان يدخّن، إذا ما كان يهرع او يمشي بطيئاً، وبل في أي وقت من الزمن هذا "الأنا" الآن.
إذاً في حين أن "أنا" في اللغة المحكية لا تقول شيئاً لوحدها، وحين تُجمع مع كلمات أخرى بغاية التفسير تتمدد أفقياً (او عمودياً في اليابانية ولغات أخرى)، تقول أشياء عديدة في لغة الفيلم البصرية عبر Frame واحد (او ما يُسمّى بالكادر). ليس فقط لغة الصورة استوعبت أكثر من لغة الكلام، بل أيضاً أثبتت أنها لغة أساساً٠
المنطلق لبحث الموضوع على هذا النحو، كما ورد في كتاب الناقد مارسل مارتان (النون تُكتب ولا تُلفظ) هو أيضاً ليس منطلقاً قائماً على المقارنة بين اللغة المحكية ونظمها وبين اللغة السينمائية من حيث وجودها او عدم وجودها. هذا كان جزءاً من سجال أوسع قاده، على الأرجح ولست واثقاً، الباحث أندريه بازان (النون أيضاً تُكتب هنا ولا تُلفظ) حين تصدّى لمفهوم المونتاج عند السوڤييتي سيرغي أيزنشتين. حسبما هو معروف لدى المتابعين اعتبر المخرج الروسي أن المونتاج هو عماد السينما. اللقطات المصوّرة عليها أن تخضع لترتيب صوري ممنهج بغية خلق الحدث المروي والخلق يأتي عن طريق المونتاج: اللقطة التي تأتي أوّلاً لتثبيت حقيقة سينمائية (لنقل إمرأة أصيب طفلها برصاصة). اللقطة التالية هي للجنود القياصرة وهم يطلقون النار. هذه حقيقة ثانية. الثالثة وهي تنهض لتجابه. ثم لهم وهم لا يزالون يطلقون الرصاص. عبر هذا الترتيب سرد موقفين من الحدث الواحد نفذ بهما الى مفاد بأن الجنود القياصرة مارسوا القتل عشوائياً على المتظاهرين العزّل (المثال مأخوذ بالطبع من «البارجة بوتمكين») ومن هذا المفاد الى الموقف السياسي الذي من أجله صنع المخرج فيلمه.
عند أندريه تاركوڤسكي، كنموذج لمجموعة كبيرة من السينمائيين الكاسرين حدّة المونتاج وأهميّته ومنهم أنطونيوني وبرغمَن وأنجيلوبولوس وسوخورف وبريسون الخ٠٠٠، لغة الفيلم مستمدّة من أسلوب المعايشة وضرورة خلق إيقاع حياتي كامل. بازا وجد أن المونتاج على أي نحو خارج هذا النطاق إنما يسهم في خداع مشاهديه. تاركوڤسكي في كتابه "النحت في الزمن" اعتبر أن الواقع يمكن أن يقع على الشاشة بفعل الملاحظة والرؤية وليس عبر المونتاج المتقطّع٠
ليس المطلوب أن أعقد جلسة حكم هنا، ولو أنني أقدّر اللغتين معاً لأسباب يضيق المجال هنا عن ذكرها، لكن هذا للقول أن اللغة في هذا النطاق باتت لغتين تستخدم كل منهما وسيلة تعبير مختلفة لغاية مختلفة. حتى حين تكون الغاية واحدة (الواقعية) فإن اللغتين تبقيان مختلفتين تماماً كالحديث بالفرنسية والبولندية مثلاً٠
الخلاصة التي أريد الوصول اليها هو أن المقارنة بين اللغة البشرية واللغة السينمائية قد يقود، كما ورد في مداخلة قيس الزبيدي الرائعة، الى اعتبار أن أي لغة بحاجة الى قانون أساسي وأن السينما لا تملك "التمفصل المزدوج" لتكوين لغتها. لكن هذا لا يلغي أن لديها لغة خاصّة بها. قد لا تحتوي ذلك "التمفصل" المذكور، لكن من قال أن عليها بالضرورة أن تحتويه؟ لم لا يشكّل المشهد الذي ينتقل فيه بَستر كيتون من الحلم الى الواقع في "شرلوك جونيور" جملة سينمائية، بالتالي يشكّل الفيلم بأسره خطاباً؟
وعلى أي أساس، إذا ما كان ذلك غير ممكناً للمعطيات الواردة بين مؤيدي نظرية عدم وجود لغة للسينما، نتحدّث دوماً عن "خطاب سينمائي"؟ كيف يمكن الحديث عن "خطاب سينمائي" أصلاً؟ وإذا لم تكن هناك لغة فما الذي نسمّي مفردات السينما به؟ ألسنتها التي هي أساليبها؟
إن كريستيان مَتز، المُستند الى نظرياته في بحث الزميل العزيز، هو أحد كبار المنظّرين السيميائيين (علم الرموز) والسينمائيين في فرنسا، لكن ما لم يأتي ذكره في المقال هو أن مَتز إنما آثر دوماً في نظرياته التعامل مع السينما من زاوية اللغة التي نتحدّث بها. أمر لم ينل موافقة العديد من المنظّرين والنقاد (مجلة "سكرين" البريطانية - وهي غير "سكرين إنترناشنال" طبعاً- خصصت عددها الصادر عن ربيع وصيف العام 1973 لترجمة نظريته ومناقشتها) وهذا وحده كفيل بطرح صواب هذا التعامل، ناهيك عن أهميّته. يقول مَتز "الصورة، على عكس الكلمة، ليست وحدة منفصلة في نظام مفتوح" ويصل الى القول "أنها تفتقد للمسافة بين المعنى ومصدره" وذلك، مرّة أخرى في المقارنة مع معطيات اللغة المحكية، ما يُعيدنا الى طرح أهمية المقارنة طالما أنها بين نظام صوتي شامل يتبع طبيعة إنسانية وبين نتاج فني تتألف عناصره من آليات مصنوعة في الوقت الذي لا يمكن اعتبار اللغة المحكية نتاجاً فنيّاً مصنوعاً (بصرف النظر عما إذا كان الكلام نفسه فعلاً فنيّاً او لا)٠
الى ذلك، لابد من الإشارة الى أن نظرية مَتز من الأهمية والشمولية بحيث يتطلّب الأمر كتاباً لعرضها والحديث فيها (وغيرنا لابد فعل ذلك) وأنا لا أحاول هنا التقليل من أهميّته، بل مجرّد التساؤل عن الحكمة في فعل المقارنة خصوصاً وأن مَتز على خطأ جسيم حين يعتبر أنه "من بين كل الإحتمالات التي واكبت اختراع الكاميرا، فإن السينما تحوّلت الى سرد حكايات"، علماً أنه في كتاباته يبدي أن "السينما الروائية" هي السينما "كل شيء آخر هو غير سينما"٠ أعتقد هنا بدأت أبتعد عن ناصية الموضوع وعليّ أن أكتفي بهذا القدر إذ كل ما قصدّته من هذا التوسّع هو القول أن أحد كبار من تم الاستشهاد بهم في تبنّي نظرية عدم وجود لغة أسمها "اللغة السينمائية" تعامل معها تحبيذياً وبالنسبة لبعض النقاد من موقع برجوازي في الثقافة لابد له، والحال هذه، مناهضة إتجاهات آخرين تبنّوا وجهات نظر معارضة.
0 comments:
إرسال تعليق