الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

مليونية البطيخ!









أمير العمري



يتصور البعض أنه يمكن ضمان حرية الرأي والإبداع عن طريق تنظيم مليونية.. يطلقون عليها "مليونية حرية الرأي"!
وقد أصبح سهلا عند كل من يحلم أو يطالب بتحـقيق أي هدف اليوم، أن يدعو إلى مليونية، لدرجة أنني كنت أحلم بتوفير البطيخ بأسعار مناسبة لكافة طبقات الشعب، لماذا؟ لأني ببساطة أحب البطيخ وأؤمن بفوائده الجمة، فأطلقت دعوة إلى مليونية البطيخ. لماذا؟ لأن من أهم فوائد البطيخ أنه يرطب الأجواء الداخلية، ويملأ المعدة الخالية ويمنح الاحساس بالشبع، كما أنه يحتوي عى بعض الفيتامينات المفيدة، وبالتالي يصلح كطعام بديل جيد يكفل انقاص وزن المصريين جميعا: رجالا ونساء، الذين يعاني معظمهم من السمنة والبدانة والتضحم والتمدد وبروز الكروش واتساع الهوة بين الداخل والخارج!
اعتقد أصدقائي أنني أمزح أو أسخر من المليونيات، لكني أكدت لهم أنني جاد كل الجدية في دعوتي.. ثم أليس من حقي أن أدعو للمليونية التي أحب واشتهي؟ ألسنا في ثورة تحقق الحرية والديمقراطية، ولكل منا مليونيته، وأنا أريد أن تكون لي مليونيتي الخاصة  وأريدها أن تكون "بطيخية".. ثم ان من الممكن جدا – إذا توفرت النوايا- أن نجمع في الميدان، مليون بطيخة مثلجة يستوردها لنا الدكتور ممدوح حمزة من كفر البطيخ بكرمه الدمياطي الشهير، ويمكننا استخدامها عند اللزوم لرشق عساكر الأمن المركزي المساكين فنشغلهم في التهام البطيخ في حين نواصل نحن الهتاف عاليا "الجيش والشعب وممدوح حمزة بطيخة واحدة"!
وأقسم بالله العظيم أنني من المعجبين جدا بالدكتور ممدوح حمزة، فأنا أرى أنه نموذج للوطنية المصرية التلقائية الجميلة كما أنه نموذج للشجاعة الحقة، علما بأنه ليس من المؤدلجين، أي أنه لا يعتنق أيديولوجية محددة، من الذين كان صلاح عيسى يطلق عليهم "الأسياخ" أي الذين يحدثك الواحد منهم وكأنه ابتلع سيخا،، فممدوح حمزة- صاحب أكبر مغامرة في سجون صاحبة الجلالة (ملكة بريطانيا) - يدافع فقط عن الدولة المدنية الحديثة في مصر ويريد أن ينقذها من الوقوع في براثن المغول والتتار حتى لو أدى ذلك إلى خوض معارك سياسية وغير سياسية، في الميدان وحوله، وحتى آخر بطيخة في حقول كفر البطيخ!
وقد كنت في البداية أرفع شعار: بالحب والسينما سنهزم التتار، وأعجب الشعار الكثير من أصدقائي الذين صوتوا له على الفيسبوك ومنحوه الكثير من اللايكات من like– باستخدام لغة العلم الحديث- إلا أنهم تساءلوا: ولكن أي حب تقصد؟ وأي تتار؟
فقلت إن الحب هو حب مصر، والتتار هم أعداء مصر. لكن التتار سرعان ما تمكنوا من تحريم الحب، ومحاصرة السينما بل ظهر منهم من يطالب باغلاق السينما باعتبارها فنا وافدا كافرا والعياذ بالله!
ولذلك فقد توصلت أخيرا إلى أن من الأفضل أن أرفع شعار: "بالحب والبطيخ سنواجه التتار"، لكني أخشى أن يأكل التتار البطيخ، ونأكل نحن بعضنا بعضا! 

السبت، 8 سبتمبر 2012



 
أمير العمري- مهرجان فينيسيا


في مفاجأة من المفاجآت المعتادة في مهرجان فينيسيا السينمائي فاز فيلم "بيتا" Pieta  من كوريا الجنوبية للمخرج كيم كي- دوك بجائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم من أفلام المسابقة التي شملت 18 فيلما ولم يبرز فيها فيلم يتفق عليه الجميع كـ"تحفة" المهرجان.

فقد انقسم النقاد حول فيلم "إلى الأعجوبة" الأمريكي لتيرنس ماليك، بل قابله بعض الصحفيين بصفير الاستهجان عند عرضه الصحفي في المهرجان قبل يوم من العرض العام.

وعموما صفير الاستهجان أصبح ظاهرة هذا العام في حالة عدم الإعجاب بفيلم من الأفلام فقد قوبل أيضا الفيلم الكوري الجنوبي بصفير استهجان صدر عن قطاع من النقاد والصحفيين أعقب عرضه تماما كما قوبل الفيلم الإسرائيلي "إملأ الفراغ"، وغيره.

الممثل فيليب سيمور هوفمان يحمل تمثال جائزة أحسن ممثل


وقد حصل الفيلم الأمريكي "المعلم" The Master  للمخرج بول توماس أندرسون على جائزة الأسد الفضي كأحسن إخراج، وتقاسم بطلاه الممثلان جوكن فيليبس وفيليب سيمور هوفمان جائزة أحسن ممثل.

أما جائزة أحسن ممثلة فقد ذهبت كما توقعنا في مقل سابق، إلى الممثلة الإسرائيلية خداش يارون عن دورها في فيلم "إملأ الفراغ".

وحصل النمساوي أولريش سيدل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمه "الفردوس: الإيمان".Paradise: Faith

جائزة أفضل سيناريو حصل عليها الفرنسي أوليفييه اسايس عن فيلم "بعد مايو" (شيء ما في الهواء).

وذهبت جائزة أفضل تصوير للفيلم الإيطالي "لقد كان هو الإبن" للمخرج دانييل شيبري.

وحصل المخرج التركي علي عيدين على جائزة أفضل عمل أول عن فيلم "الطحلب".

وبهذا يسدل الستار على الدورة التاسعة والستين من هذا المهرجان العريق. 

الجمعة، 7 سبتمبر 2012

الأفلام الإسرائيلية في مهرجان فينيسيا (2 من 2)





نهاية الحلم الصهيوني
 
 
أمير العمري- مهرجان فينيسيا
 
 
 
بات من الواضح أن السينما الإسرائيلية لم تعد تهتم كثيرا كما اعتادت أن تفعل، بقضايا الصراع العربي- الإسرائيلي أو بإشكالية العلاقة مع الآخر، الفلسطيني، وتعقيداتها، وهو ما نلمسه من خلال الأفلام الستة التي عرضت في المهرجان ولم يتضمن أي فيلم منها إشارة إلى الموضوع.
 
والواضح أن السينما الإسرائيلية أصبحت تهتم في الوقت الحالي على الأقل، بموضوع العلاقة بين المواطن والدولة، وإحباطات الفرد بسبب حالة التردي الاقتصادي والمعاناة الشديدة التي يعيشها المواطن الإسرائيلي اليوم محروما من "الغطاء الاقتصادي" الذي بشرته به الصهيونية طويلا، لحساب التركيز الدائم على قضية "الغطاء الأمني".
 
هزيمة مشروع الصعود في مجتمع "الحلم" الصهيوني هو مثلا ما يتناوله فيلم "خيوتا وبيرل: مدخل" Hayuta and Berl  للمخرج عمير مانور، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول بعد فيلميه القصيرين "حمر" (40 دقيقة) الذي أخرجه عام 2007، وفيلم "حطام" (47 دقيقة) عام 2008.
 
وهو يختار شخصيتين من كبار السن، رجل وزوجته في الثمانينيات من عمرهما، عاشا سنوات صعود الحلم الصهيوني ضمن حركة العمل الإسرائيلية، أو حركة اليسار الصهيوني التي كانت في الحقيقة هي الأساس الاقتصادي الذي ارتكزت عليه الدولة فيما بعد، أي عند تأسيسها، من خلال ما عرف بالهستدروت، أو اتحاد نقابات العمال الذي تأسس عام 1920.
 
ليس هناك الكثير في هذا الفيلم عن الخلفية السياسية للموضوع أو بالأحرى عن الشخصيتين الرئيسيتين، وهما رجل وامرأن، زوج وزوجة، بيرل وخايوتا، أنجبا ابنا واحدا يقيم حاليا في الخارج، بعد أن اضطر للهجرة من إسرائيل للعيش في بلد السمن والعسل الحقيقية (أمريكا) بسبب تدهور مستوى الحياة في إسرائيل وعدم قدرته علىتحمل قسوة العيش، وما يفرضه الأب أيضا من قواعد صارمة في إدارة شؤون الحياة اليومية. ونفهم من خلال الحوارات التي تلمس هذه العلاقة بين الأب والإبن، بين بيرل وخايوتا، أن العلاقة بين الأب والإبن لم تكن على ما يرام، وتنحي خايوتا في ذلك باللائمة على زوجها.
 
يبدأ الفيلم بمشهد طويل عندما تصل أخصائية اجتماعية إلى منزل الزوجين بشكل في زيارة مفاجئة لكي تجري لكل منهما اختبارات معقدة لمستوى الفهم والقدرة على الحركة وعلى القيام بالأعمال الحياتية الأولية داخل المنزل، حتى تعرف ما إذا كانا يتمتعان بحالة تسمح لهما بالبقاء في المسكن دون الانتقال إلى ملجأ للمسنين، وتقول لهما إن الاختبار مهم لكي يضمنا أيضا استمرار حصولهما على الإعانة التي تقدمها لهما الدولة.
 
الرجل (بيرل) الذي عاش فترة العمل في الكيبوتزات ومر بتجربة تجسيد الفكرة (الاشتراكية) الصهيونية، يريد أن يستعيد ذلك الحلم القديم الزائل، بعد أن تقدم به العمل ووجد نفسه على هامش المجتمع، وربما رغبة في التشبث بذلك الحلم القديم تعويضا على احباطات الواقع، فهو يبدأ في الاتصال بمجموعة من العجائز من أبناء جيله، يريد اعادة تجميعهم في كيان تطوعي يطلق عليه "مجتمع الدائرة" circle communityبينما تحاول الزوجة (خايوتا) أن توقظه من أحلامه وتلفت نظره إلى ما في الفكرة من خيال، وأنه لم يعد هناك أحد سيمكن أن يتحمس لهذا النوع من الأفكار المثالية.
 
وعندما يشارك بيرل بمداخلة تليفونية في برنامج اذاعي على الهواء، طارحا فكرته، يحاوره المذيع ساخرا من الفكرة، ثم يقطع عليه بسبب "ضيق الوقت".
 
 
لقطة من فيلم "خايوتا وبيرل"
 
يعيش الثنائي حياة الفقر والفاقة، الطعام الباقي في البيت قليل لا يكفي طفلا، الكهرباء تنقطع بسبب محاولات بيرل اصلاح جهاز التليفزيون المعطل دون جدوى، ويستمر النصف الثاني من الفيلم في الظلام داخل المسكن البارد.
 
تكون خايوتا قد خرجت لشراء الدواء الذي تحتاجه، لكنها تقرر فجأة أيضا أن تذهب إلى السينما حيث تشاهد فيلم "انديانا جونز".. ينتهي الفيلم ويغادر الجمهور دار العرض لكنها لا تريد المغادرة، فقد أصبحت فكرة العودة إلى المنزل مرهقة تثير الكآبة والرفض. لكنها تغادر مضطرة في النهاية تحت ضغط عامل السينما، تتحدث تليفونيا مع ابنها في أمريكا، تخبره وهي تضحك أنها كانت تشاهد انديانا جونز. تبكي وتضحك في وقت واحد بعد أن تنتهي المكالمة بما يشي بتدهور حالتها العقلية أيضا. تحاصرها متسولة عجوز وهي داخل كابينة التليفون، تصر على أن تعطيها شيئا.. بعض النقود التي لا تملكها فقد رأينا كيف أنها عجزت عن شراء أنواع الدواء الثلاثة التي تتناولها مكتفية في النهاية بنوع واحد فقط بسبب عدم توفر ما يكفي معها من المال.
 
تقابل في طريقها رجلا يبحث عن ابنته التي فقدها. يبدو الرجل شاردا وقد فقد عقله تقريبا. يتشبث بها كما لو كان يتشبث بأمه. مشهد سيريالي غريب، في أحياء هامشية متدهورة، تنتشر فيها القمامة، وينتهي المشهد الغربي الذي يدور في الليل بأن يندفع الرجل لكي يرقد على صدر خايوتا ويبكي.. إنه بالقطع تحت تأثير المخدر.. تربت هي على ظهره..وتنجح في التخلص منه بصعوبة.
 
يأتي صوت مذيع من الراديو يقول إن 100 ألف شخص انضموا الى طوابير الفقراء في البلاد. مشهد تسجيلي بالأبيض والأسود لمزارع العمل الجماعية في الثلاثينيات والأربعينيات، ولقطة سريعة لتمثال لينين.
 
تعود لتجد بيرل يرقد في الظلام. لكنه يقول لها إنه استأجر فستانا بديعا كلاسيكيا يليق بحفل عيد ميلادها وآتى لها ببعض الزهور. يطلب منها أن ترتدي الفستان.. ويرتدي هو البذلة التي استأجرها من محل في وسط المدينة لهذه المناسبة.
 
يخرج الاثنان، يتجولان.. يدعوها الى تناول قطعة من البيتزا من كشك صغير رخيص. يقول لهما البائع الشاب إنه سيغلق وينصرف لأن الوقت متأخر.. لكنه يستدرك فيعطيهما قطعة من البيتزا مما يقى لديه.. مجانا.. يتناولها الاثنان في سعادة ثم يبتعدان.
 
كيف سيكمل الثنائي خيوتا وبيرل حياتهما أو ما تبقى لهما من العمر؟
 
فيلم جيد جدا بل هو أفضل ما شاهدت من الأفلام الاسرائيلية الخمسة، لأنه يعبر ببساطة وشاعرية ودون إحالات مباشرة، عن خشونة الواقع، ونهاية الحلم الصهيوني الكاذب، ببراعة وبلاغة سواء في استخدام الصورة والضوء (نصف الفيلم يدور تقريبا في الظلام أي تحت إضاءة شاحبة ضعيفة للغاية بعد انقطاع التيار داخل شقة الثنائي وفشل بيرل في استعادتها حتى النهاية)، إلى جانب البراعن الشديدة في التصوير داخل ذلك الديكور الضيق الطبيعي، والتعامل مع الممثلين الرئيسيين بكل هذه التلقائية والقدرة على الأداء الواثق أمام الكاميرا. وخصوصا الممثل يوسف كارمون الذي قام بدور بيرل.
 
في أحد المشاهد يذهب بيرل لبيع ذخيرته من كتب تاريخية نادرة، لكن البائع يعرض عليه مبلغا قليلا من المال لا يتناسب مع قيمة الكتب. يعود بيرل ليقوم بحرق مجموعة الكتب. وعندما تتساءل خيوتا عن سبب ما يفعله يقول لها: لقد بنينا مجتمعا جديدا ولكنهم باعوه لنا.. ان مشكلتنا أننا ظللنا مخلصين لأنفسنا". تواسيه هي فتقول له: إن كل شيء يمكن إصلاحه. لا يبدو أنه يصدقها.
 
العلاقة بين الثنائي مرسومة بدقة شديدة من جميع تفاصيلها: الحركة، اللغة، الضوء، حجم اللقطات القريبة في الغالب، تجسي التناقض بين الجيل الجديد (الذي تمثله الأخصائية الاجتماعية) وبين جيل بيرل وخيوتا. ويستدعي أسلوب المخرج في التعامل معهما إلى الأذهان الفيلم البديع الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان "الحب"، الذي تألق فيه الممثلان: جان لوي ترنتينيان وإيمانويل ريفا. ولاشك أن هناك تأثرا ما بهذا الفيلم ينعكس على طريقة تصميم الفيلم بل وفكرته أيضا، فهو كذلك فيلم عن تلك العلاقة التي تربط بين زوجين لأكثر من ستين عاما، مليئة بالب والإخلاص والتساند حتى النهاية.
 
الممثل إيفجي في لقطة من فيلم "الرجل الذي يقطع الماء"
 
 
الرجل والماء
وبينما عرض "خيوتا وبيرل: مدخل" في قسم "أيام فينيسيا، عرض فيلم"الرجل الذي يقطع الماء" The Cutoff Manللمخرج إيدان هوبل في قسم "آفاق". يقوم ببطولة هذا الفيلم الممثل الإسرائيلي الشهير موشي إيفجي Moshe Ivgyالذي سبق أن قام ببطولة الفيلم الشهير "نهائي كأس العالم" عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي للمخرج عيران ريكليس (1991).
 
هذا أيضا فيلم عما وصلت إليه الحالة الاقتصادية لسكان إسرائيل في الوقت الحالي.
 
رجل في منتصف العمر (جابي)، عاطل عن العمل، يضطر لقبول عمل صعب بالقطعة، يرفضه الكثيرون نظرا لدلالته البشعة، يتلخص في قطع الماء عن أصحاب المنازل الذين تعجزهم الظروف الاقتصادية عن دفع فواتير المياه.
 
ويتعين على هذا الرجل أن يتوجه بنفسه إلى كل منزل من منازل المتأخرين عن السداد، يطالبهم أولا بضرورة دفع الفاتورة، وعند عدم الاستجابة، كما يحدث في كل الحالات التي نراها في الفيلم، يقوم صاحبنا بفصل أنابيب توصيل المياه للمنزل، مما يعرضه للاشتباك مع السكان، والتعرض للاعتداءات النفسية والجسدية.
 
إنه يحصل على 11 شيكلا عن كل منزل يقطع عنه المياه. وهو يشعر بالعار مما يقوم به. لكن ماذا سيفعل وهو في حاجة إلى المال.
 
معروف أن الماء له أهمية شديدة الخصوصية (مع الأرض) في الثقافة الإسرائيلية عموما، ربما أكثر منها في أي بلد آخر، بسبب ندرة مصادر المياه، والحاجة الشديدة إليها. إنها رمز الحلم الصهيوني، فقد كانت النواة الأولى في إقامة الكيبوتزات التي توسعت وأصبحت فيما بعد مدنا وقرى، بفضل الزراعة.
 
بعد سلسلة من الصدامات والمتاعب الناتجة عن القيام بهذا العمل المرفوض شعبيا، يجد الرجل نفسه فجأة دون عمل، فالانتخابات على الأبواب، وليس من الممكن أن تقتطع البلدية الماء عن المنازل في ظروف الانتخابات. السياسة إذن تتدخل في حياته ومصيره الشخصي، والنفاق السياسي يلعب دورا في التحكم في حياة الآخرين.
 
الإبن مجند في الجيش لكنه غير قانع بما يقوم به.. يفر من الجيش لكنه يضطر للعودة في اليوم التالي مباشرة لكنه غير سعيد بعودته مضطرا. يطلب بعض المال من الأب. يبيع الرجل مواسير المياه التي يفصلها لكي يعطي ابنه المبلغ الذي يحتاج إليه. تنتهي الانتخابات فيعود الرجل الى استئناف مهمته القذرة. لكن هل سيستمر فيها؟ ينتهي الفيلم والتساؤل معلق!
 
فيلم غريب جديد في موضوعه على السينما الإسرائيلية، وكأنه يجعل من مشكلة التيه اليهودي "التوراتي" مشكلة أرضية تماما، تتعلق بالوضع الاجتماعي والحالة المعيشية الصعبة التي يتعرض لها الفرد في المجتمع الإسرائيلي اليوم.
 
فيلم هاديء الإيقاع، يعتمد أساسا على الممثل الواحد، وعلى نسج بعض اتفاصيل الصغيرة وإدخالها إلى النسيج العام للفيلم، لكنه لا يضل أبدا عن موضوعه، ولا يفقد التحكم في الأسلوب: الطابع اكئيب الذي يطغى على الصورة.. اللقطات الثابتة المتوسطة والبعيدة.. العزلة التامة المحيطة بالبطل- اللابطل.
 
إن تلك السمة من الاكتئاب التي نلمحها طيلة الوقت على وجه "جابي".. الشخصية الرئيسية في الفيلم، لهي أمر غير مألوف في السينما الإسرائيلية التي كانت في الماضي تحتفي بالقوة، والصمود، والنصر، وتتباهى بذلك المجتمع المتحرر الذي يكفل الفرد ويضمن له مستقبلا مزدهرا في نطاق الحلم الصهيوني.. دخلت الآن مرحلة ما بعد زوال الحلم، مرحلة الظلال، وانعدام الوضوح، والرؤى المختلطة المرتبكة التي يعبر عنها هذا الفيلم أفضل تعبير.
 

الأربعاء، 5 سبتمبر 2012

الأفلام الإسرائيلية في مهرجان فينيسيا (1من 2)

 
أمير العمري- مهرجان فينيسيا

 
 
عرضت ستة أفلام إسرائيلية في الدورة الـ69 من مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي، منها فيلمان للمخرج آموس جيتاي Amos Gitaiلا يستحقان التوقف أمامهما لأن الفيلمين من نوع "الأفلام الشخصية" فالأول عن والده، والثاني عن والدته، والفيلمان لا قيمة لهما من الناحية الفنية، ففيهما الكثير من المعلومات الخاصة بتاريخ العائلة قبل هجرتها من ألمانيا إلى فلسطين، لكن إثارة الملل هو السمة المشتركة التي تجمع بسبب الاستطرادات والتكرار والدخول إلى تفاصيل لا قبل للمشاهد بها بل هي تحمل بعض الدلالات الخاصة بالمخرج نفسه.
 
وجيتاي يكون عادة في أفضل أحواله عندما يتناول الصراع العربي الإسرائيلي في أفلامه، وهي في الواقع، مجموعة الأفلام الليبرالية التوجه، التي صنعت له إسما في الغرب، وبعدها أصبح مستواه الفني متأرجحا، ولغته السينمائية متعثرة، وبحثه عن مواضيع أفلامه مضطربا، فلا هو صمد كسينمائي من إسرائيل يعبر عن بقايا ما يسمى بـ"الوعي" اليهودي بالمأزق المشترك، بين اليهود والفلسطينيين- المحتل والخاضع- داخل "إسرائيل"، ولا هو نجح في تجاوز نجاحاته الأولى الفنية في أفلامه، التسجيلية- وشبه الدرامية مثل "بيت" و"يوميات حملة" و"إستر"، وظل ينتقل من العام إلى الخاص، ترواده دائما فكرة البحث الشاق عن أصوله اليهودية بحيث يصل أحيانا إلى قمة الذاتية المنغلقة عن العالم، متصورا أن كل ما يحدث له يصلح تقديمه للمشاهدين في كل مكان، وهي نزعة "نرجسية" تظهر عند بعض السينمائيين الذين يحققون شهرة كبيرة في العالم دون أن يستطيعوا المحافظة على مكانتهم من خلال أفلام جديدة يقدمونها ويقعون بالتالي، في حلقة الدوران حول أنفسهم!
 
ولعلي لا أبالغ بالقول إن فيلمي جيتاي اللذين عرضا في مهرجان فينيسيا، وهما "الكرمل" و"أنشودة لوالدي" لم يكونا ليجدا طريقهما إلى مهرجان دولي كبير على مستوى مهرجان فينيسيا، لولا ارتباط جيتاي بصداقة شخصية مباشرة مع مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، الذي جاء بنفسه لتقديم فيلميه عند عرضهما بالمهرجان، وأكد أنه يرتبط بصداقة شخصية قوية مع جيتاي تعود إلى عام 1989، وأنه طلب الفيلمين وكان سعيدا بوجودهما في البرنامج هذا العام.
 
الأفلام الأربعة الأخرى، فيلم منها في المسابقة الرئيسية وهو فيلم "املأ الفراغ" Fill the Voidوفيلمان في قسم :آفاق" و"أيام فينيسيا". أما الفيلم السادس وهو "الماء" فقد عرض في برنامج أسبوع النقاد ولم أشاهده.
 
 
إملأ الفراغ
الفيلم الإسرائيلي في المسابقة "إملأ الفراغ" هو لمخرجة تدعى راما بيرشتاين، وهذا هو فيلمها الروائي الطويل الأول بعد أن أخرجت عددا من الأفلام القصيرة خصصتها لجمهور من النساء اللاتي ينتمين إلى فئة اليهود المتشددين دينيا.
 
والفيلم الجديد يدور تحديدا في الحي الذي يقطنه اليهود الأصوليون في تل أبيب العصرية، في أجواء شديدة التزمت دينيا وأخلاقيا، حيث نرى اليهود الرجال بملابسهم السوداء وجدائل شعورهم المنسابة على الجانبين تحت تلك القبعات السوداء المميزة، بلحاهم الكثيفة، والنساء اللاتي ترتدي منهن المتزوجات غطاء للرأس، في حين تظهر الفتيات قبل الزواج شعورهن، ويبدو جميع الشباب وكأنهم يدرسون علوم الدين اليهودي لكي يصبحوا من الحاخامات في المستقبل.
 
هذه الأجواء هي نفسها التي سبق أن قدم آموس جيتاي من خلالها واحدا من أهم أفلامه غير السياسية، وهو فيلم "مقدس" Kadoshالذي يتناول العلاقات العاطفية داخل هذه الطائفة، ويصور كيف تقضي التقاليد الجامدة بحرمان المرأة من حقها الطبيعي في الزواج ممن تحب بل وإرغامها على الزواج من رجل آخر لأن من تحبه لا يلتزم بتقاليد اليهود الأصوليين ويعيش خارج "الجيتو"، في حين يرغم رجل وامرأة من داخل مجتمع اليهود الأصوليين، مرتبطان عن حب بل عشق، منذ عشر سنوات، على الطلاق لأن المرأة لا تنجب. وكان الفيلم أيضا الأول من نوعه الذي يصور مشاهد حب صريحة صادمة.
 
 
 
أما فيلمنا هذا فعلى النقيض تماما من رؤية جيتاي النقدية في "مقدس"، فهو يكرس ما نراه بل ويمجده ويضيف إليه طبقة من المبالغات العاطفية التي تجعل المشاهدين يغادرون قاعة العرض وهم على قناعة من أن أفض الحلول هو ما وصلت إليه البطلة الشابة الصغيرة في النهاية، أي نه ليس في الإمكان أفضل مما كان!
 
قصة الفيلم تدور حول فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، بريئة يافعة، متفتحة للحياة، ابنة لحاخام، وأم متدينة، ربيت ونشأت حسب تقاليد اليهود الأصوليين (طائفة رجال الدين تحديدا)، تقوم أسرتها بترتيب زيجة لها من شاب يدرس الدين اليهودي، تراه من بعيد ويعجبها مظهره الخارجي الذي يتناسب مع مظهرها وسنها،لكن دون أن تلتقي به ولا تتبادل معه أي كلمة. شقيقتها تموت فجأة أثناء وضعها مولودها الأول، وبعد فترة يبدأ زوج الشقيقة التي توفيت في البحث عن عروس له ترعى له ولده، ويمل إلى الارتباط بفتاة يهودية من بلجيكا ويعتزم السفر معها إلى هناك.
 
أم الزوجة الراحلة ووالدة "شيا" هي التي ترعى المولود الحفيد، ولا تطيق أبدا فكرة ابتعاده مع والده خارج البلاد، فهو الحفيد الوحيد للأسرة. وللأسرة ابنة أخرى لم تتزوج بعد رغم أنها تكبر "شيا" في العمر.
 
ومشكلة تزويج الفتيات في نطاق تلك الطائفة كما نرى في الفيلم، تبدو إحدى المشاكل الرئيسية التي يوليها أبناء الطائفة اهتمامهم خصوصا الرغبة في تزويجهم في سن صغيرة.
 
تحاول الأم إقناع "شيا" بقبول زوج شقيقتها الراحلة زوجا لها، خصوصا وقد صرفت أسرة الشاب الذي كان ينتظر أن يصبح خطيبها النظر عن الموضوع وهو ما يدفع شيا للإحساس باللوعة والأسى، وتكون الأم قد نجحت بالفعل في إدخال الفكرة إلى رأس الأرمل الشاب. لكن شيا تقاوم لأنها لا تميل لفكرة الزواج من زوج شقيقتها. لكنها تضطر في النهاية أن تفضل مصلحة الأسرة على مشاعرها الشخصية وتقبل بتقديم تلك التضحية، أي أن تصبح أما لابن شقيقتها التي توفيت.
 
 
فولكلور يهودي
يمتليء الفيلم بكل ما يمكن أن نتخيله من استعراض لتقاليد الحياة في "الجيتو" اليهودي: الأناشيد، والاحتفالات، والأعياد، الزيجات، والعزاءات، الزيارات التي تحمل معنى المجاملة، القيل والقال، ومشكلة الفتيات اللاتي كبرن ولم يظهر لهن بعد من يتقدم للزواج منهن، ترتيب الزيجات، اللجوء للحاخام الأكبر للمشورة، الصلاة اليهودية، إعداد الطعام على الطريقة اليهودية، هدهدة الأطفال، وكل هذه المظاهر تقدم بمعزل تام عما يحث في إسرائيل وفي العالم، فالجيتو أو الحي اليهودي التقليدي هنا هو معادل للعالم (الروحاني المثالي)، والأسرة هي أصل الحياة والمجتمع، والدين موجود لضبط العلاقات داخل المجتمع، والحب مبدأ لا معنى له، والزواج هدفه الإنجاب واستمرارية وجود العائلة وتماسك المجتمع، والأم وظيفتها أن تضحي دون أن تطلب شيئا لنفسها فهي أصل العائلة اليهودية.. وهكذا.
 
رؤية مثالية
هذه الرؤية المثالية المجردة التي تميل إلى الإفراط في تصوير الظاهرة في إطار "فولكلوري" كما لو كنا أمام أحد أفلام الأنثربولوجيا الاجتماعية، تقدم في إطار الاحتفاء بالظاهرة الدينية، والإعلاء من شأنها، وتكريس فكرة أن الخروج عن التقاليد اليهودية، خيانة لليهودية. وليس هذا غريبا لأن مخرجة الفيلم ومؤلفته تنتمي إلى هذه الفئة من اليهود المنتمين لأقصى اليمين، والذين يدعمون من الناحية السياسية سياسة التشدد مع الفلسطينيين، والتوسع والسيطرة والاستيطان والطرد والترحيل الجماعي.. لكن الفيلم بالطبع لا علاقة له بهذه الممارسات، بل ولا توجد أدنى إشارة فيه لما يجري خارج عالم هؤلاء اليهود الأصوليين، فهدف الفيلم تحسين صورة هذه الفئة أمام مشاهدي السينما في العالم وليس طرح قضايا مثيرة للخلاف، وقد تكون أيضا، مثيرة للنفور والاستهجان.
 
 
والواضح من خلال المعالجة والأسلوب السينمائي المستخدم في إخراج الفيلم، أن المقصود من "الحبكة" وطريقة صياغتها بنعومة شديدة، القول إن الفتاة لا تتعرض لأي نوع من "الإرغام" في الفيلم لجعلها تقبل الزواج من زوج شقيقتها الراحلة، وهو قول يتردد في الفيلم على لسان أحد الشخوص بشكل مباشر، حين يؤكد وكأنه يخاطب المشاهدين، أنه في اليهودية الأصولية لا ترغم الفتاة على الزواج. لكنها تتعرض فقط كما نرى بالفعل، لنوع من الضغوط "الناعمة" من جانب أمها أساسا، لكي تدرس الفكرة وتصل إلى القناعة بها من تلقاء نفسها، وهو ما يحدث، رغبة من الفتة في الاستجابة للتقاليد "الأخلاقية" اليهودية الأصولية، التي تتمثل في التضحية بمشاعرها لأجل مستقبل العائلة، خصوصا وأنها ستكون "الأم" لابن شقيقتها المتوفاة، وللأم في اليهودية مكانة شديدة الخصوصية فهي أصل الهوية ومنشأها.
 
عن الأسلوب
أسلوب المعالجة ميلودرامي تتصاعد فيه المشاعر، وتستخدم المخرجة اللقطات الطويلة، معظمها من الأحجام اللقطات المتوسطة والقريبة والقريبة جدا لتحقيق التأثير العاطفي، والانتقال بين المشاهد محكوم ببراعة. ويعتمد الفيلم أساسا، على التمثيل والديكورات ودقة تصميم الملابس والإضاءة، والاستخدام الدرامي المكثف للموسيقى والأغاني التي تصل أحيانا إلى ما فوق الذروة، أي تجنح لتحقيق أكبر شحنة من الإثارة العاطفية.
 
الأداء التمثيلي جيد  من جانب بطلة الفيلم التي أدت الدور الرئيسي وهي الممثلة الشابة خداش يارون، والممثلة إريت شيليج التي قامت بدور "رفقة" الأم، والتي يرشحها البعض في فينيسيا لجائزة أحسن ممثلة، وربما يتقاسم الإثنتان الجائزة، بل إن الفيلم نفسه وجد من يذهب به الحماس إلى حد ترشيحه لجائزة الأسد الذهبي. وهذا هوالموقف حتى لحظة كتابة هذه السطور.
 
وقد حدث قبل ثلاث سنوات فقط أن حصل فيلم إسرائيلي على الأسد الذهبي وقد يعيد مايكل مان، رئيس لجنة التحكيم، الكرة، ويستخدم نفوذه في اللجنة لكي تذهب الجائزة إلى هذا الفيلم الذي لا يضيف في الحقيقة، أي جديد، لا سينمائيا، ولا فكريا، بل هو في الأساس، فيلم دعائي لتبييض وجوه اليهود المتشددين الذين يؤيدون سياسيا حزب شاس اليمين المتطرف صاحب السمعة السيئة في العالم.

الأحد، 2 سبتمبر 2012



أمير العمري- مهرجان فينيسيا

أخيرا جاء الفيلم الجديد لمخرج الأمريكي تيرنس ماليك "إلى الأعجوبة" To the Wonderإلى مهرجان فينيسيا حيث عرض في المسابقة الرسمية التي تضم 18 فيلما.
ويعتبر "إلى الأعجوبة" الفيلم الروائي الطويل السادس لماليك (68 عاما) منذ أن بدأ الإخراج عام 1973 أي خلال 39 سنة!
وماليك معروف بأسلوبه السينمائي الذي لا يخضع للأساليب التقليدية، فهو يبني أفلامه عادة على الإحساس بالإيقاع، وبزوايا الصورة، وباللون، والحركة- حركة الكاميرا المستمرة معظم الوقت، ويهتم كثيرا بالتكوينات التشكيلية، وبعلاقة الصور بالموسيقى.
وهو يبدو في فيلمه الجديد مخلصا تماما لأسلوبه الشخصي الذي يميل إلى التجريد مع تلك النزعة الصوفية المعبة التي تتميز بطرح التساؤلات عن مغزى الوجود، في حين يبدو الكثير من لقطات الفيلم احتفاء بالإيروتيكية، بالنزوع إلى تصوير الجسد الإنساني في علاقته بالرغبة، بالعاطفة المشبوبة الجياشة، وبالتهاب المشاعر، وبالاتسفادة الهائلة من قدرات الممثلة الأفرنسية- الأوكرانية الأصل أولجا كيرلينكو، كراقصة باليه وموديل قبل أن تصبح ممثلة ناجحة.
لا توجد في الفيلم "حبكة" أو قصة تقليدية لها بداية وذروة ونهاية، ولا شخصيات تتصارع من أجل الاستحواذ أو التملك أو تحقيق النجاح بالمعنى المادي كما نرى في الفيلم الأمريكي التقليدي، بل هناك تصوير للمشاعر المختلطة، للتناقضات التي تدور داخل الإنسان، في علاقته بالحب، بفكرة التضحية والإخلاص والواجب الذي يتعين عليه الالتزام به تجاه من يحبه، وبالعلاقة مع الله، الصدق، الحق، والإيمان المتجرد.
الحلم الفرنسي
الفيلم يبدأ في باريس حيث يلتقي "نيل" الشاب الأمريكي الوسيم (بن أفليك) بامرأة شابة حسناء مليئة بالحيوية والحياة، هي "مارينا" (أولجا كيرلينكو).. ويقع الاثنان في الحب.. ويذهبان معا بصحبة تاتيانا (10 سنوات) - ابنة مارينا من زواجها الفاشل- إلى جبل سان ميشيل (الأعجوبة) وهناك يقضيان وقتا سعيدا ويقتنع نيل أن مارينا هي فتاة أحلامه، المرأة التي يتمزج معها تماما ويشعر بالصفاء النفسي والحب الدافق الذي لا يعرف حدودا، ويتعهد لنفسه أنه سيظل مخلصا لها وستكون هي امرأته التي يرتبط بها حتى نهاية العمر.
ينتقل الثلاثة- نيل ومارينا وتاتيانا- للعيش في البلدة التي ينتمي إليها  نيل بولاية أوكلاهوما في الولايات المتحدة.
هناك تبدأ المشاعر في التغير، فمارينا لا تشعر بالاندماج الكامل في العالم الجديد، وتاتيانا تشكو من عدم وجود اصدقاء لها وتعلن رفضها قبول نيل كأب لها، ونيل أيضا يبدو مستعدا لاستئناف علاقة عاطفية قديمة كانت تربطه بصديقة يعرفها منذ الطفولة.. شقراء فاتنة.. مستعدة أيضا للعطاء إلى أقصى حد، وإن كانت أقل جموحا في المشاعر من مارينا.. تلك الأوكرانية الأصل التي جاءت الى باريس حيتما كانت في السادسة عشرة من عمرها، وتزوجت فرنسيا وهي في السابعة عشرة، لكنه تركها وتخلى عنها بعد سنتين من الزواج، وكان يتعين عليها أن تشق حياتها بنفسها لتوفر لابنتها احتياجاتها الأساسية.

الممثلة أولجا كيرلينكو بطلة الفيلم في مهرجان فينيسيا



نيل يتشكك في جدوى العلاقة.. يتساءل عن معنى الحب، وعن مغزى الارتباط العاطفي، يبحث في التناقض بين فكرة الاخلاص، واليقين في الحب، وبين الرغبة العاطفية التي تتخذ منحى آخر. وهنا يطرح الفيلم التساؤلات حول مغزى العاطفة، والحب، وهل الرغبة في "الآخر" حالة ممتدة يمكن أن تستمر أم أنها قد تخبو ثم تستيقظ العاطفة تجاه امرأة أخرى؟
المشكلة التي يواجهها نيل الآن تأتي من خارج العلاقة مع مارينا أيضا، من أهل البلدة، جيرانه الذين يرتبط بهم.. فهو يعمل كملاحظ للبيئة، ويكتشف أن هناك تلوثا خطيرا في المياه نتيجة تسرب مواد معدنية بسبب عمليات التعدين التي يقوم بها جيرانه ويتعيشن منها. وعندما يلف الأنظار الى خطورة التلوث على الأجيال القادمة يواجهونه بالصد والإعراض والرفض.
وتأشيرة إقامة مارينا في أمريكا أصبحت في طريقها للنفاذ دون أن يبدو أن نيل قد حسم أمره بشأن زواجه منها.
هناك أيضا، في ذلك العالم الأمريكي القس اللاتيني كوينتانا (يقوم بالدور خافيير بارديم) الذي يتابع من بعيد العلاقة بين نيل ومارينا، وهي العلاقة التي تجعله على ما يبدو، يطرح التساؤلات حول علاقته بما يفعله، علاقته بالله، هل هو فعلا صادق فيما يقوله للناس، وهل هو على قناعة بدوره كقس، أم كان من الأفضل له لو شق طريقا آخر!
الشك الوجودي
هذه التساؤلات، التشككات، اللوعة التي يشعر بها من يحب، والعاب الي قد يولده الإحساس بفشل الحب أو بعدم قدرته على الصمود والتفاعل والاستمرار، هي ما ينشج منها تيرنس ماليك صورا ولقطات وتشكيلات بصرية، تمتزج بالموسيقى، وبالطبيعة في عمل سينمائي يثير في النفس الكثير من التساؤولت الوجودية المقلقة أيضا، وهنا تكمن عظمة الفيلم بل وجنال أفلام ماليك كلها، فهي أفلام لا تروي حكايات سطحية للتسلية، بل تتوقف أمام شذرات من الحياة، حياة أبطاله المتشككين المعذبين، الباحثين عن التحقق، عن الامتزاج بالطبيعة، عن القرب من الله، من أجل أن تجعلنا نحن أيضا نراجع أنفسنا، ونبحث في مسار حياتنا، وإلى أين نحن سائرين.
هنا اهتمام كبير باللقطات القريبة والقريبة جدا close ups and big close upsوالحركة الدائرية للكاميرا، وقطاع المونتاج الفجائية، والانتقال بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر.
هناك الكثير من المشاهد التي تدور في الخيال مثل مشهد الزواج، ولكن أساس المشاهد المفصلية في الفيلم هو الكبيعة: دائما نحن في الحقول، في الجبال، وسط الثلوج، أمام قرص الشمس.. لحظة الغروب، حقول القمح الممتدة.. وهكذا.
الحوار في الفيلم محدود بل وقليل جدا، ومعظمه لا يأتي على شكل "ديالوج" بل "مونولوج" أو تعليق خارجي من خارج الصورة على لسان البطل، وكأننا أمام كائن معذب يتساءل لنفسه دون أن يروي لنا بالضرورة.
الغلاف الموسيقي للفيلم يحتوي الصورة، يجعلها نابضة.. وتغير الألوان وتعاقب درجاتها ما بين الأصفر والأحمر والأزرق، تجعلنا أمام سيمفونية بصرية.. أو قصيدة من الشعر المرئي.. تخفي أكثر مما تظهر، تعبر بعبقرية عن الإنسان في لحظات الحب والرغبة والتشكك والألم والرفض والغضب والإحساس بالواجب وبالوفاء.
قبيل النهاية
هل حقا سينضم نيل الى مارينا مرة أخرى كما يوحي لنا الفيلم قبيل نهايته؟ لقد ادت مارينا الى باريس، وانفصلت عنها كما تقول في إحدى رسائلها لنيل، وذهبت للعيش مع والدها، رافضة منطق أمها في العيش، وأصبحت مارينا وحيدة..
ما يجعلنا نقول إن الفيلم عن المشاعر واللحظات المنتزعة من النفس البشرية وليس عن صراعات خارجية، هو أنه لا يشرح ولا يحلل بل يعرض في انطباعية واضحة، ومن خلال خليط من الصور والتداعيات وأنصاف الالتفاتات وزوايا الوجوه، وكاميرا تيرنس ماليك لاشك أنها تولي اهتماما أكبر هنا للمرأة، لسواء لمارينا أو جين (راشيل ماك آدمز).. حبيبته الأخرى. إنه مهموم أكثر بتأمل المرأة في الحب، في أكثر اللحظات حميمية، ولعله في هذا يريد أن يكشف لنا مشاعر الرجل، ولكن كما تنعكس على المرأة. ولعله أيضا أكثر المخرجين اهتماما بالمرأة، بل وقدرة على تأمل وجهها وجسدها دون افراط ودون وقوع في شباك الإثارة.
إنه يستخدم العري والجسد للتعبير البصري بشكل رائع عن الحب، أما الايروتيكية التي تنتج عن تحركات مارينا (والممثلة في الفيلم لا تكف في أي لحظة عن الحركة الأنثوية بدلال ورقة واغراء) فهي جزء أصيل من انجذاب الرجل للمرأة. لكن ماليك يجرؤ على تصويره بأسلوبه الي يتميز بالجمال والدفء الإنساني ودون أن يجعل لقكاته تخرج عن نطاق الفن إلى التجارة. وتلك قيمة كبرى دون شك تضاف الى القيم الأخرى الكثيرة التي تحفل بها أفلام ماليك.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger