الخميس، 14 أغسطس 2014

ليس بالبؤس وحده نصنع الفيلم الوثائقي!




(هذا المقال منشور في موقع الجزيرة الإخبارية- 13 أغسطس 2014)


 
أمير العمري



من بين الملامح البارزة التي تميز معظم ما ينتج على ساحة الفيلم الوثائقي في العالم العربي حاليا، ذلك النزوع إلى تصوير البؤس الإنساني في مستوياته الأدنى، والتركيز على قصص وحكايات البشر ممن يعيشون على هامش المجتمع، بحيث أصبحت تجربة المشاهدة من فيلم إلى آخر، تبدو متكررة، وكأنها تجربة "موحدة"، عمادها رغبة دفينة لدى صناع هذه الأفلام في سبر أغوار الواقع، بدعوى أن الفيلم الوثائقي هو "فيلم التعبير عن الواقع"، في مقابل الفيلم الروائي الذي هو - بالضرورة عند هؤلاء- تعبير عن الخيال السينمائي.
وبدعوى التعامل مع الواقع، يبحث معظم مخرجي الأفلام الوثائقية العرب عن مواضيع لأفلامهم، تتشابه مع بعضها البعض، ليس فقط في طبيعة الشخصيات التي تظهر في هذه الأفلام أو تدور الأفلام نفسها عنها، بل في تكرار الأسلوب نفسه الذي يقوم بصفة أساسية، على إجراء مقابلات من وراء الكاميرا مع تلك الشخصيات الهامشية المستبعدة من دائرة الوجود الاجتماعي، وهي مقابلات لا يعرف المخرج أين وكيف يديرها، أين تبدأ ومتى تنتهي، وما الذي يمكنه أن يستخدمه منها وما يستبعده، بل يبدو أن هناك ولعا خاصا بتسجيل وعرض كل ما ترويه تلك الشخصيات البائسة، باعتبار أن شهاداتها أكثر صدقا وتأثيرا من الصور التي تنقل وتترجم وتعبر- عادة- بلغة السينما، عن موضوع الفيلم وطبيعته وقضيته.

مقاعد وحوارات
لا يهتم المخرجون العرب الشباب بالصورة وبتركيب الفيلم وبنائه والتعامل معه باعتباره وسيطا ديناميكيا يملك إيقاعه الخاص وجمالياته الخاصة، يمكن أن يضارع الفيلم الروائي في تشويقه وجاذبيته، بقدر اهتمامهم بما تقوله الشخصيات التي تجلس أمام الكاميرا، والكاميرا نفسها تبدو مهتزة تتأرجح يمينا ويسارا بحيث تربك عين المتفرج التي تتأرجح معها أيضا، وذلك تحت دعوى أن تلك هي الواقعية، وأن السينما المسواة المصقولة أي المصنوعة جيدا، تخون الواقع ولا تعكس حالة البؤس الاجتماعي كما تعكسها الصورة المهتزة.
هذه الأنماط من الأفلام الوثائقية لا يصح أن نطلق عليها أفلاما، فهي عبارة عن مزيج بين التقرير التلفزيوني (الريبورتاج) وبين البرنامج التلفزيوني الحِواري.
"تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك "القيد" الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع"
وإذا كان بعض صناع هذه الشرائط يستخدمون أحيانا بعض الصور الحية المصورة من الواقع نفسه، من الحياة، من الشارع، ومن شتى الأماكن، إلا أن التركيز الأساسي لصانع الفيلم يكون على المقابلات، لأن الاعتقاد السائد أن المقابلة المصورة يمكن أن تكون أكثر بلاغة في التعبير عن القضية. والمشكلة أنهم بهذا الاستسهال يجعلون صنع الفيلم عملية "عشوائية" يمكن أن يقوم بها أي إنسان، دون أن يكون لديه أصلا مخطط واضح لفيلمه: موضوعه، تكوينه، بناؤه، إيقاعه، مفرداته، لقطاته.
إن تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك "القيد" الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع الذي يناقشه أو يعرضه. فالكاميرا ليست هي التي تصنع الأفلام بل يصنعها السينمائي الذي يقف خلفها، تماما كما أن القلم (أو الكيبورد) ليس هو الذي يكتب للكاتب مقالاته.
ومن أبرز المشاكل التي نشاهدها في هذا النوع من "أفلام البؤس" -إذا جاز التعبير- أنها تبدو بلا بناء ولا حبكة ويغيب عنها الترابط المطلوب في أي عمل فني، أي أن الفيلم يمكن أن يستمر لساعات أو ينتهي بعد دقائق، فلا إحساس بالزمان ولا بالإيقاع هناك، لأن المخرج عادة ما يقع في غرام كل ما يكون قد صوره، وخصوصا أن اهتمامه الرئيسي ينصب عادة على إبراز "الموضوع" و"القضية" وليس بناء عمل سينمائي متماسك يملك الجدة وقوة التأثير بالفن وليس بالشعارات.
والملاحظ أن هذا النوع من الشرائط المصورة انتشر انتشارا كبيرا بوجه خاص، بعد ظاهرة الانتفاضات والثورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تحت تصور أن الواقع المتغير الملتهب، يوفر مادة ثرية يكفي تصويرها وتعليبها في فيلم أو شريط، لكي تكتسب قوتها من تلقاء نفسها.
ومن المؤسف أيضا أن كثيرا من المهرجانات، سواء تلك التي تقام في العالم العربي أو الخارجي، تسعى وراء ها النوع مما تطلق عليه "أفلام الثورات والربيع العربي" وتمنحها الاهتمام أو حتى الجوائز بغض النظر عن مستواها، فقد أصبحت بمثابة "موضة" رغم أن التلفزيون بتقاريره اليومية، يسبقها كثيرا في تغطية مثل هذه الأحداث. وكأن الاهتمام منبعه سياسي وليس فنيا أو جماليا، وصناع هذه الأفلام يشعرون بغبطة خاصة لاختيار أفلامهم في المهرجانات كأنها تقدم مفهوما جديدا للسينما!

البؤس والواقعية
الملحوظة الأخرى التي تتبدى في معظم أفلام "الواقع" كما يحب صناعها أن يطلقوا عليها، هي سمة البؤس والكآبة والمغالاة الشديدة في تصوير البؤس بحيث لا يعود هناك أي مخرَج للإنسان من وضعه الاجتماعي، وكأن البؤس حالة سرمدية قدرية مغلقة لا يملك المرء أمامها سوى الاستسلام أو التباكي عليها.
"هناك فارق كبير بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الإنسان، أما الواقعية فتهتم أساسا بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه"
لم تكن فكرة الواقعية أن ننقل البؤس دون أن ننير الشاشة ببصيص ضوء وأمل في إمكانية التغيير. وهناك فارق كبير لاشك، بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الإنسان، أما الواقعية فتهتم أساسا، بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه. ولعل من المهم هنا أيضا أن نؤكد أن فكرة تصوير الواقع كما هو لا تمت بصلة إلى الواقعية، بل هي فكرة ثبت بالتجربة مدى سذاجتها، فليس هناك فيلم يمكنه أن يزعم أنه "يصور الواقع"، بل إن أكثر الأفلام مباشرة، تعكس "رؤية" المصور والمخرج لما يراه في الواقع، فزوايا التصوير والمونتاج وتركيب الصوت والمؤثرات والتعليق.. كلها تتدخل في "صياغة" واقع آخر يشاهده المتفرج، هو واقع الفيلم وليس واقع الحياة.
 
وليست الواقعية في النهاية، هي الشكل الوحيد للفيلم الوثائقي. من الضروري أن يستمد الفيلم الوثائقي مادته من الواقع ومن الحياة، ولكن في الحياة الكثير جدا من الأشياء غير الفقر وحياة الهامش والتدني الاجتماعي والأخلاقي والبؤس والكآبة، بل ويمكن أيضا القول إنه من جوف الصورة التي تعكس البؤس يمكننا أيضا أن نرى قوة الإرادة والرغبة في الاحتفال بالحياة، شريطة أن يعرف السينمائي أساسا، كيف يقتنصها وكيف يعبر عنها، بدلا من تلك الرغبة الدائمة، في صدم العين.. وصفع المجتمع!

السبت، 26 يوليو 2014

الفيلم السوري "مريم".. وجوه متعددة ومصائر واحدة




أمير العمري


رغم ما تشهده سوريا من دمار وخراب وصراعات مسلحة، لا يتوقف المبدع عن الإبداع الفني والبحث عن الجديد القريب من نفسه، والذي يعكس -على نحو ما- رؤيته للعالم، بكل ما يدور فيه من عنف وصخب واشتباكات ومعارك.
ولعل ظهور الفيلم السوري "مريم" خير دليل على الإصرار على مواصلة الإبداع من جانب الفنان الفرد، رغم كل ظروف القهر المحيطة به، بل والقدرة على التعبير الشجاع عن موقف واضح من التاريخ السياسي، والاحتجاج ولو بشكل غير مباشر على ما يمارس من خداع وتضليل.

و"مريم" هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج الفلسطيني السوري باسل الخطيب، صاحب التاريخ الطويل من المسلسلات التلفزيونية المتميزة. وهو يعود بهذا الفيلم إلى سبر أغوار موضوع من المواضيع الأثيرة لديه، أي التاريخ في علاقته بالإنسان، أو كيف يلقي التاريخ بظلاله الكثيفة على المرأة في سوريا، وكيف ينعكس مساره على مصائرها.
والمرأة عند الخطيب، هي أكثر من تنعكس عليه الأحداث، وهي التي نسمع صوتها في مطلع الفيلم تردد: "الحرب تجعل الناس لا يعودون إلى بيوتهم.. إلى أعز ما لديهم.. فهم لا يعودون بعدها أبدا إلى ما كانوا عليه".
يتم تجسيد المرأة في السيناريو الذي كتبه باسل الخطيب مع شقيقه تليد، من خلال ثلاثة نماذج من عصور مختلفة، ترتبط مصائرها بما شهدته سوريا من حروب وصدامات مسلحة أو بما نتج عن محاولتها العثور على طريق مستقل منذ ما بعد زوال الاستعمار العثماني وحتى اليوم، دون أن تعثر قط على هذا الطريق، بل وتبدو تلك الدائرة الجهنمية المشتعلة بنيران الحروب، وكأنها أصبحت قدر سوريا، وقدر المرأة في سوريا.


انتقال في الزمن
ينتقل الفيلم من خلال مونتاج جدلي واضح بين الأزمنة والأمكنة، وبين الشخصيات والأحداث، وبين الواقع والخيال، وبين الأحلام والهواجس والكوابيس، بين مسلمي سوريا ومسيحييها، وبين الأجيال المختلفة التي تنتقل تجربتها من جيل إلى آخر، ولكن دون أن تفقد الثقة في العثور على تحقيق للذات.
يبدأ الفيلم بـ"مريم".. تلك الفتاة الجميلة الرقيقة كالنسيم، التي لا تملك مصيرها في يدها بل تستسلم لقدرها المحتوم عندما ترضخ لرغبة والدتها في الغناء أمام "كبير البلدة" أو "نديم بك" في نهاية الحكم العثماني عام 1918، وتلقى مصرعها محترقة بفعل حريق يلتهم جسدها النحيل وسط ذهول الجميع.
وينتهي الفيلم بـ"مريم" -الزمن المضارع- التي ترفض أن يضع والدها جدتها (وهي شقيقة مريم الأولى) بعد أن تقدم بها العمر في دار للعجائز، وتصر على إخراج الجدة من الدار والقيام معها برحلة عكسية تقطع فيها الريف السوري البديع نحو البلدة التي تنتمي إليها في الشمال.

وبين الاثنتين هناك "مريم"- القنيطرة 1967- التي تواجه العدوان الإسرائيلي وحيدة بعد أن يموت زوجها في الحرب وتموت زوجة عمها في حريق يشب داخل الكنيسة أثناء الصلاة بفعل القصف الإسرائيلي للجولان، إلى أن تلاقي هي الأخرى مصيرها بعد أن تترك ابنتها الصغيرة "زينة" أمانة لدى الجندي السوري الوحيد الذي يبقى -إلى حين- على قيد الحياة، يسلمها بدوره إلى من تأخذها معها إلى دمشق -كما سنعرف فيما بعد- لكي يكمل هوالمعركة التي ستحسم مصيره الشخصي.

عمل مركب
فيلم "مريم" عمل مركب شأن أعمال الفن الكبيرة التي لا تميل إلى التبسيط والتنميط والمباشرة، وينتمي أساسا إلى السينما الشعرية، التي تعتمد على اللقطات المنفردة والتداعيات، التي يمكن عن طريق إعادة ترتيبها في ذهن المتفرج تحقيق معنى ما، إحساس يريد المخرج التعبير عنه، وليس بالضرورة "رسالة" سياسية مباشرة.
ويعتمد أسلوب السرد في الفيلم خطا متعرجا وليس صاعدا نحو ذروة معينة، فهو ينتقل في المشاهد الأولى من الفيلم -مثلا- بين الأزمنة والأماكن الثلاثة، لكي يجعلنا نتعرف على مناخ المكان وطبيعة الشخصيات.
فمريم الأولى -المغنية الشابة ذات الصوت البديع- في بلدة صافيتا، لا تريد أن تترك المهرة قبل أن تنتشلها مع صديقها، من الوحل الذي تعثرت فيه، وهي تتوقف أمام صورة ضخمة في نزل "نديم بك" لمهرة أخرى شديدة الجمال، شامخة، تتأملها في فزع ورهبة وتسرح بعيدا بذهنها.

تسيطر عليها فكرة حزينة غامضة، تتجلى من خلال ذلك الموال الذي يأتينا على خلفية شريط الصوت، دون أن نراها أبدا وهي تغني قبل أن تغيب عن العالم، وكأن موتها إيذان ببدء مشوار الحزن والألم الذي يقودنا فيه باسل الخطيب وهو ينتقل فجأة من جامع يحترق في صافيتا، إلى كنيسة تحترق في القنيطرة، وكأن التاريخ رحلة رعب مركبة ممتدة في المكان والزمان. وكأن الحريق عنده هو معادل للقدر.
كيف كان ممكنا أن تحترق "مريم" المغنية الحسناء الشابة بهذه البساطة؟ وكيف كان ممكنا أن تضيع أيضا هضبة الجولان بمثل هذه البساطة؟ هل هناك شيء ما يربط بينهما؟ وفي اللحظة التي تحترق فيها يتم انقاذ المهرة من مصيرها وكأن مريم تفتديها بحياتها. أما مريم 1967 فهي تفتدي ابنتها بحياتها، بينما ترفض مريم العصر الحاضر التخلي عن جدتها مهما كلفها الأمر، متحدية والدها، وكأنها بذلك تتحدى من يسعى لسلب إرادتها.

عن الأسلوب
باسل الخطيب يخرج كل لقطة ومشهد برؤية تشكيلية رائعة، فهو يهتم ببناء وتصميم الصورة، ويستخدم الحركة البطيئة للكاميرا، كما يستخدم كثيرا المزج كوسيلة للانتقال بين اللقطات، للإيحاء بمرور الزمن أو بالربط بين الأزمنة.
وهو يستخدم إضاءة مناسبة -بمساعدة مديرالتصوير الإيراني فرهاد محمودي- لكل جزء من أجزاء الفيلم دون أن يفقد الفيلم تجانسه: الألوان الصفراء والبنية الكئيبة تطغى على المشاهد التي تدور في 1967 بينما تطغى الألوان الطبيعية الخضراء والزرقاء على مشاهد الفترة القديمة، وتغلب الإضاءة الساطعة مشاهد الفلاش باك أو التذكر.
ويتمتع أسلوب الإخراج بالقدرة على خلق إيقاع خاص، يتسق مع تلك النزعة الشعرية التي ترتبط بتوليد المعاني من علاقة اللقطات ببعضها البعض وليس من خلال الحوار المباشر أو الانتقال الذي يخلق تصاعدا في الأحداث. إن الخطيب هنا معني بنقل "حالة ذهنية" أكثر من رواية أحداث ووقائع تاريخية، فالتاريخ هنا "حيلة" للحديث عن الحاضر، ولتجسيد معاناة المرأة كما لو كانت المرأة هي سوريا وسوريا هي المرأة.


ويبرع باسل الخطيب في تنفيذ كل المشاهد الصعبة بدقة وواقعية تشوبها نزعة شعرية: مشاهد الانفجارات والحرائق وخصوصا مشهد احتراق مريم في الجزء الأول من الفيلم، ومشهد غرس الفرس في الوحل، ومشهد الحريق داخل الكنيسة.
كما يتميز الفيلم عموما، بالاختيار البديع لمواقع التصوير الخارجية والداخلية، البيوت وتفاصيل الطبيعة، وتنويع زوايا التصوير بحيث نشاهد الشخصية دائما في إطار المكان، مع القدرة على الاستفادة -بدرجة كبيرة- من الديكورات الداخلية والإكسسوارات، وتطويع المكان للتعبير عن تلك الحالة الشعرية الخاصة التي يريد المخرج نقلها إلينا من خلال استعراضه لأقدار المرأة عبر تاريخ سوريا الحديث خلال ثلاث حقب وصولا إلى التوقف أمام مستقبل غامض مفتوح على كل الاحتمالات.
إن فيلم "مريم" هو بلا شك، أقرب أعمال باسل الخطيب قربا من نفسه، وأكثرها تعبيرا عن رؤيته الشخصية للعالم. إنه يعبر عن إحساسه الشخصي بالألم الداخلي النابع من مأساة شعبه الفلسطيني. وهو يهدي فيلمه إلى روح والده يوسف الخطيب، ويضع في مطلع الفيلم، كلمات الأب التي حفرت في ذاكرة الابن: لقد فقدنا كل شيء.. ولكن الحب يبقى".


** هذا المقال نشر في موقع الجزيرة الاخبارية بتاريخ 3 ابريل 2014

الخميس، 26 يونيو 2014

"رسامو الكاريكاتير: جنود الديمقراطية"






ضمن عروض مهرجان كان السينمائي السابع والستين عرض- خارج المسابقة- الفيلم الفرنسي الوثائقي الطويل ""رسامو الكاريكاتير: جنود الديمقراطية" Caricaturists, the Foot Soldiers of Democracy وهو من إنتاج السينمائي الروماني راضو ميهائيلينو الروماني المقيم في باريس، ومن إخراج الفرنسية ستيفاني فالواتو Stephanie Valloatto . وتعتمد فكرة الفيلم على تقديم صورة لما تتعرض له حرية الصحافة في 12 دولة حول العالم، من انتهاكات وتضييق من خلال ما يتعرض له 12 رساما للكاريكاتير السياسي الساخر في هذه البلدان.

تتألف مادة الفيلم من مقابلات مصورة مع رسامي الكاريكاتير الإثني عشر من تونس والجزائر والمكسيك وروسيا وأمريكا وفرنسا واسرائيل وفلسطين وفنزويلا والصين وبوركينا فاسو وساحل العاج. والشخصية الرئيسية في الفيلم التي تظهر في البداية وفي النهاية ويعود إليها الفيلم كثيرا هي شخصية رسام الكاريكاتير الفرنسي الشهير "بلانتو" الذي يعمل في صحيفة لوموند الفرنسية اليومية منذ عاما، وهو يروي تجربته مع عالم الكاريكاتير وكيف اكتشف ميله إلى هذا النوع من الهجاء الساخر وفرحته عندما قبلت رسومه في "لوموند". في البداية نتعرف على الشخصيات المختلفة لرسامي الكاريكاتير ثم ننتقل بنوع من التركيز للوقوف أمامهم والاطلاع على تجربة كل منهم مع عرض بعض رسوماته البارزة.Plantu 40


الجزائر- تونس

الرسام الجزائري "منوار مرابطين" الذي يعمل في صحيفة "لوسوار دالجير" (أي مساء الجزائر) عاش تجربة ما قبل الاستقلال ثم ما بعدها، وهو يقول إنه تعلم الرسم من والده الذي كان يرسم النازيين بصورة ساخرة بعد الحرب. وكان أول كاريكاتير سياسي له يسخر من الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1984 وعلى الفور حاصرت قوات الشرطة الصحيفة وصادرت 80 ألف نسخة منها وأعدمتها. ونرى لقطات وثائقية من المظاهرات التي شهدتها الجزائر في الفترة من 1988 الى 1991، وكيف أمر بن جديد الجيش بفتح النار على المتظاهرين، اغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف في اجتماع رسمي، ويعلق الرسام: "كل ما كنت أرسمه كان فقط يتعلق بالعنف".

الرسامة التونسية نادية خيري التي تقول إن الكاريكاتير هو الذي اختارها وليس العكس، و تتخذ لنفسها نموذجا ثابتا في كل رسوماتها السياسية هي صورة القط الذي تقول إنه "دليل العصيان" فهو لا يستجيب لما يطلب منه. وهي ترسم على جدران المنازل المهدمة وبسبب رفض الصحف رسوماتها لجأت الى الرسم من خلال عالم الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وتحررت بذلك من ضغوط الرقابة. وهي تبدو مهمومة بقضية الحفاظ على المكتسبات التي حققتها المرأة في تونس في الماضي.



فلسطين- إسرائيل

أما الرسام الفلسطيني بهاء بخاري فهو كالعادة وكما في معظم الأفلام الغربية، يظهر في موازاة مع رسام إسرائيلي هو ميشيل كيشكا وهو من دعاة السلام مع الفلسطينيين. والذي يجمع بينهما في الفيلم هو الرسام الفرنسي بلانتو. يشرح الرسام الفلسطيني مأساة شعبه ويروي كيف أنه يقيم الآن في رام الله وكيف أنه غادر القدس القديمة عندما كان في الرابعة من عمره. وفي مشاهد وثائقية يصطحب المخرجة ليطلعها على الجدار الفاصل الذي يقول إنه بدلا من أن يكوا عازلا للفلسطينيين، فقد عزل إسرائيل نفسها عن العالم، ويتنبأ بأنه سيسقط لا محالة في المستقبل القريب، ويتحدث عن المستوطنات وواقع الاحتلال وكيف أنه لا يستطيع أن يبتعد في رسوماته عن قضيته الرئيسية. ويقول الرسام الاسرائيلي أن أكثر من يواجهه من انتقادات بسبب رسوماته تأتي من طرف اليهود الاسرائيليين وليس العرب، فهناك الكثير من "الممنوعات" التي تكبر يوما بعد يوم، وليس مسموحا له برسمها، لكنه على الأقل الوحيد الذي يمكنه رسم "الأنف اليهودي" الشهير.

الرسام الفرنسي يتذكر كيف أنه ذهب الى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (نرى اللقاء موثقا بالصورة والصوت) واقنعه برسم علمين متجاورين، هما علما فلسطين واسرائيل. ثم نراه وهو يأخذ الرسم نفسه ويذهب به فيما بعد الى شيمون بيريز ويطلب منه وضع توقيعه عليه الى جانب توقيع عرفات. ويقدم الفيلم هذه القصة كما لو كانت تطرح الرؤية الليبرالية الرومانسية الفرنسية لحل القضية الفلسطينية. كما أن الجمع بين الرسامين الفلسطيني والاسرائيلي في القدس يبدو تحقيقا لنوع من المصالحة على الشاشة رغم ان الفلسطيني يؤكد في لقطات عديدة على أنه محروم من زيارة مدينته إلا بموجب تصريح مثل أي سائح بل إنه يطلع المصور والمخرجة على منزله الاصلي الذي صودر في المدينة ولم يعد مسموحا له بدخوله. وفي عبارة ذات دلالة يقول بالم: عندما أريد زيارة وطني فإنني أمر عبر حاجز قلنديا مثل الماشية.. وأتعرض للتفتيش.. هذه قمة الاهانة!

وتقول الرسامة الفنزويلية إن الرئيس الراحل شافيز كان قد وضع مادة في الدستور الذي صدر في عهده تنص على عدم جواز رسم وجه الرئيس ونرى كيف أنها التفت حول هذه المادة فأصبحت تضع بدلا من وجه شافيز، إصبعا من الموز، وكان الجميع في فنزويلا يفهمون المقصود!

ويبدو الرسام الصيني بي سان Pi San مهتما أكثر بتحويل الكاريكاتير عن طريق فريق من الرسامين الذين تمكن من تشغيلهم لحساب شركته، إلى مادة لأفلام تحريك ساخرة توجه النقد الاجتماعي، وتبث عبر موقع يوتيوب.

أما الرسام أنجيل بوليجان وهو كوبي شارك في الثورة الكوبية وانتقل منذ سنوات بعيدة الى المكسيك فيقول إنه كان يفرض على نفسه رقابة في كوبا، أما في المكسيك فكان أول تحذير تلقاه عند وصوله إلى المكسيك ألا يرسم الرئيس أو الجيش أو العذراء، لكنه خالف التعليمات من اليوم الأول وتعرض بالتالي للكثير من التهديدات والمتاعب.

ويروي الأمريكي جيف دانزيجر كيف أنه رسم كاريكاتيرا لنائب الرئيس الامريكي السابق ديك تشيني ولكنه امتنع عن وضع توقيعه عليه خشية من العواقب فقد كتب اسمه معكوسا (تشني ديك) بما له من معنى سيء عند الأمريكيين، ثم صوره وهو يمسك بواق ذكري مرسوم عليه صورة الرئيس بوش الإبن وهو يلقي به في المرحاض!


بوتين: ممنوع

أما الرسام الروسي ميخائيل زولاتكوفسكي فهو يواجه المنع من العمل منذ عهد برجنيف، ويقول انه سمح له فقط بالعمل في "إزفستيا" بعد إعلان سياسة البريسترويكا (الانفتاح السياسي) من قبل جورباتشوف في منتصف الثمانينيات، لكن فقط لكي يروج لصورة الديمقراطية الجديدة في روسيا. ويتحدث الرجل عن القيود المفروضة على الكاريكاتير في روسيا وكيف تحظر الصحف نشر أي رسوم كاريكاتورية للرئيس بوتين، وكيف أنه لا يمكنه وهو في منزله مع أفراد أسرته على المائدة ذكر الرئيس بوتين بالإسم بل يشيرون إليه فقط باسم رمزي!

وتروي الرسامة الفنزويلية كيف أنه يتعين حتى الآن على كل من يشتري سلعا من "سوبرماركت" مثلا، أن يقدم للبائع عند الدفع معلومات شخصية عنه مثل إسمه ورقم بطاقته وعنوان مسكنه، وبالتالي فهم يعرفون كل شيء عما يشتريه وكيف ينفق ماله!


قلة الرسوم

ينتقل الفيلم بين الحوارات واللقطات الحية للرسامين، ويجمع بين الرسام الفرنسي بلانتو وكوفي عنان في حفل تحت رعاية الأمين العام السابق للامم المتحدة، وهو يشرح مفهوم ودور الكاريكاتير في تعزيز السلام العالمي. ويروي الفرنسي في مشهد تال كيف أنه يتلقى حتى الآن مكالمات هاتفية من الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي يبدي اعتراضه على رسوماته من وقت لآخر!

غير أن الفيلم يعاني من كثرة الاستطرادات في الأحاديث والمقابلات، ويخرج بعض الشيء عن الفكرة الرئيسية عندما تستغرق مخرجته فكرة تحقيق التعايش في فلسطين، وهو موضوع آخر مختلف عن اطار النقد السياسي، ولكن الفيلم يبدو أيضا مفتقدا الى مادة الرسوم نفسها، صحيح أن المخرجة تقدم نماذج لرسومات الرسامين لكن الفيلم كان في حاجة إلى المزيد منها وربما أيضا، إلى تحقيق التقابل فيما بينها. ويعيب الفيلم أيضا انحرافه عن سياقه لمناقشة موضوع الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول، وما تعرض له الرسام من تهديدات، ويبرر ما فعله بأنه أراد إدانة الارهاب وكيف عقد كوفي عنان مؤتمرا صحفيا أدان فيه الرسوم المسيئة ودعا الى ضرورة احترام جميع الأديان.

ويتعرض هذا الجزء دون اشباع أيضا، لما تعرض له رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات من اعتداء بسبب رسومه التي تنتقد النظام السوري وممارساته.

ورغم طرافة المادة وطموح الفيلم لتقديم صورة شاملة لما يتعرض له رسامو كاريكاتير النقد السياسي ف يالعالم من متاعب، إلا أن الفيلم يظل في الكثير من جوانبه التي تتناول البنية السياسية في بعض البلدان، أحادي الجانب، فهو يكتفي بعرض وجهة نظر واحدة، وتبدو بعض الأجزاء فيه أكثر هيمنة وامتدادا من غيرها، فالجزء المصور في اسرائيل يقتطع مساحة كبيرة وكذلك الجزء الفرنسي، على حساب ما يصور في ساحل العاج وبوركينا فاسو مثلا.

لكن الفيلم مع ذلك، يوفر مادة مشوقة تصلح للعرض في إطار افلام حقوق الإنسان والأفلام السياسية عموما، فهو فيلم عن قضية الحرية عموما وحرية الفنان بوجه خاص.

الاثنين، 9 يونيو 2014

أوراق من "كان": "قاعة جيمي": الثوري الرومانسي عندما يهزمه تحالف القهر



قد يكون المخرج البريطاني كن لوتش، السينمائي الوحيد في النصف الغربي من العالم، الذي لايزال ملتزما برؤيته الماركسية المبنية على أساس إنساني، بعد أن أصبحت الإشتراكية عند الكثيرين الآن، كلمة منفرة، بل وأصبح التعريض بها والهجوم عليها، "موضة" شائعة لدى الكثير من النقاد، وهو ما قد يكون الدافع، وراء الهجوم القاسي الذي شنه أخيرا كن لوتش على النقاد في بلاده، متهما إياهم بالانعزال عن الواقع والانكفاء على أنفسهم داخل قاعات السينما المظلمة، داعيا إلى إستبعادهم من تقييم الأفلام والحكم عليها!
وقد يكون كن لوتش أيضا، المخرج الوحيد في الغرب الذي لايزال يعبر ببراعة وبأسلوب فني رفيع، عن أفكاره الإشتراكية الملتزمة بنضال الطبقة العاملة، قادرا على صنع أفلام ممتعة تعبر عن تجليات الفكر الاشتراكي من زاويته الأساسية، الإنسانية، وليس من خلال تحويل الفكر المفتوح على الدنيا بأسرها إلى "فكرة أيديولوجية جامدة" يدور حولها منظرو عبادة الأفكار والأفراد، ومعظم هؤلاء من الذين وقفوا عاجزين عن فهم مغزى ما حدث بعد سقوط الأنظمة السياسية في أوروبا الشرقية.  
ويمكن إعتبار الكثير من أفلام كن لوتش توثيقا سينمائيا رائعا لنضال الطبقة العاملة في تلك المنطقة من العالم، أي في الغرب (بريطانيا، اسبانيا، أيرلندا). ولابد أن نتذكر، في هذا السياق، أفلاما مثل "رف راف" (1991) Rif Raf، و"ليدي بيرد.. ليدي بيرد" (1994) Lady Bird.. lady Bird ثم فيلمه  الملحمي الكبير "الأرض والحرية" (1995) Land and Freedom ثم "الريح التي تهز الشعير" (2006) The Wind that Shakes the   Barely الذي توج بالسعفة الذهبية في مهرجان كان.
لا يبتعد الفيلم الجديد لكن لوتش، الذي عرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ67 من مهرجان كان السينمائي، وهو فيلم "قاعة جيمي" Jimmy’s Hall، عن اهتمامات لوتش السياسية بل لعله يمثل أيضا عودة قوية إلى عرض جانب من التاريخ المجهول للحركة الاشتراكية في أيرلندا. وهو على الرغم من جدية وصرامة موضوعه، يتميز بنوع من البساطة الشاعرية، والروح الرومانسية، والكثير من لحظات المرح والاحتفال بالحياة عن طريق الموسيقى والرقص والحب.
الانتقال في الزمن
يعتمد سيناريو الفيلم- الذي كتبه الكاتب المفضل عند لوتش، بول لافرتي- على مسرحية من تأليف دونال أوكيلي Donal O’Kelly تستند بدورها على أحداث ووقائع وشخصيات حقيقية. ويبدأ الفيلم بلقطات تسجيلية (بالأبيض والأسود) من مدينة نيويورك في عشرينيات القرن الماضي، نرى خلالها تظاهرات وتجمعات العاطلين عن العمل ومعظمهم من السود، قبل ان ننتقل في الزمن ثلاث سنوات إلى الوراء، كما ننتقل من المكان، لنعود إلى منطقة ريفية تتميز بجبالها الخضراء في أيرلندا بين عامي 1919 و1921 خلال ما يعرف بـ"حرب الاستقلال" ثم الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين طرف لا يمانع من الاستقلال تحت التاج البريطاني، وطرف آخر، جمهوري، يريد تأسيس جمهورية مستقلة. هذا النزاع الذي خلف الكثير من الندوب والجروح في النفوس، وهو ما نراه بوضوح وتدور على خلفيته أحداث الفيلم الاسبق الكبير لكن لوتش أي "الريح التي تهز الشعير".
في تلك الفترة اضطر المناضل الشيوعي الشاب "جيمي جرالتون" للهجرة إلى الولايات المتحدة هربا من السجن والإعدام، وبنى حياة مستقلة في نيويورك، واليوم ونحن في 1932، هو يعود إلى بلدته محملا بذكريات الماضي، عندما كان قد افتتح قاعة للرقص في البلدة، وظل يواجه الكثير من المشاكل مع ملاك الاراضي الجشعين الذي كانوا يتحايلون على القانون لطرد الفلاحين من أراضيهم والاستيلاء عليها، الذين نجحزا في إستصدور حكم من المحكمة باغلاق القاعة ومنع جيمي وأقرانه من دخولها.. وما عقب ذلك من تعقب جيمي واضطراره للفرار.
الآن مع عودة جيمي، تنهض آمال الكثيرين من سكان القرية مجددا. لكن جيمي يعلن انه عاد لكي يرعى والدته التي تقدمت في العمر، وأنه يريد ان يعيش حياة هادئة، يقوم على شؤون المزرعة الصغيرة للأسرة بعد وفاة شقيقه. لكن الك أهل البلدة يمارسون ضغوطا عليه لاعادة افتتاح القاعة التي تهدمت، ويقومون باعادة بنائها معا، وتصبح مركزا لتجمع الشباب، للرقص والغناء وقراءة الشعر ومناقشة القضايا السياسية والبحث في كيفية واجهة ملاك الاراضي الجشعين الذين يتعاونون مع السلطة لقهر الفقراء. هنا تتحول القاعة إلى بؤرة للنشاط السياسي الذي يهدد مصالح الأثرياء، فيتحالف هؤلاء مع مؤسسة الشرطة والكنيسة، من أجل القضاء عليها وإغلاقها.
هجوم الكنيسة
يشن القس شريدان- ممثل الكنيسة الكاثوليكية في البلدة- هجوما عنيفا على جيمي ورفاقه في الكنيسة، ويتهمهم بالإلحاد وتشويه الثقافة الوطنية عبر القيم التي عاد بها جيمي من أمريكا، ويصل في معاداته وتحريضه إلى حد اعتبار جماعة جيمي جماعة من الكفار والمارقين، واعتبار موسيقى الجاز إعتداء على القيم المسيحية، ويهاجم من يصفهم بـ"الشيوعيين الملحدين"، ويدعو الناس الى مقاطعتهم ويخيرهم بين طاعة المسيح، أو الانضمام لأعداء المسيح!
يتم تحرير قائمة بأسماء الذين يحضرون حفلات الرقص في قاعة جيمي، ومن بينهم فتاة شابة هي إبنة مدير الشرطة القاسي الغليظ الذي يقوم في مشهد مؤثر بجلدها بالسوط، عقابا لها لكي تكف عن التردد على القاعة، لكنها تهرب وتلتحق بجيمي الذي يصبح رمزا للبطل الذي تعقد الجماهير عليه آمالها في الحصول على حقوقها وعلى حريتها، وتصبح المعركة بين جيمي وبين القس، صراعا بين الدعوة للاحتفال بالحياة والحب في إطار مقاومة التعنت والجمود، وبين التمسك بالمصالح الطبقية والفكرية والتعصب الديني الذي يفضي إلى الحض على الكراهية والعنف.
ولكن لا يبدو أن القس شيريدان يشعر بالسلام مع نفسه، فبل يبدو غير راض عن موقفه العنيف الفظ، بل يصوره السيناريو البارع، متشككا، يردد مع مساعده أنه لا يرى في "جيمي" ما يشين، بل يراه صادقا مع نفسه، لا يرى فيه عيوبا كشيوعي، بل هو أقرب إلى فكر المسيح من كثيرين، ويبدي رغبته ايضا في قراءة كتاب "رأس المال" لكارل ماركس، لكي يفهم، لكنه مع ذلك لا يمكنه إلا التمسك بموقفه الجامد المتزمت، دفاعا عن "المؤسسة" التي ينتمي إليها.  فهو يرى أن "جيمي" وجماعته نقيض لجوهر فكرة الكنيسة، فإما أن تكون مع المسيح او مع "جيمي"، وهو صراع بين مؤسسة ترفض الحياة بمفهوم الحرية والتحرر والاستمتاع حبدون مغالاة، وجماعة تدافع عن حق الإنسان في الحرية والانعتاق.
وفي واحد من أجمل مشاهد الفيلم، يذهب جيمي إلى الكنيسة يريد أن يدلي بالاعتراف للقس. وهو يوجه دعوة للقس، إلى أن يخفف من غلوائه وأن يقوم بزيارة القاعة لكي يطلع بنفسه على ما يفعلونه هناك بما لا يمثل إعتداء على أحد ولا يخالف القيم الاجتماعية، لكن القس يرفض ويقول له إنه سيذهب لزيارة القاعة فقط في حالة التخلي عن الرقص وقبول الإنضواء تحت لواء الكنيسة والخضوع لتقاليدها، فيقول له جيمي وهو يغادر الكنيسة: نحن لسنا في حاجة إلى نصائح من أصحاب القلوب الغليظة!
تحالف الدفاع عن المصالح
وفي مشهد آخر، تعتدي جماعة مسلحة تمثل تحالف الشرطة والكنيسة وكبار ملاك الاراضي، على الأهالي وهم يشاهدون فيلما تسجيليا داخل دار السينما في البلدة. ويجسد الفيلم عبر مساره، ذلك التحالف رابطا بين الفكر الديني التقليدي المتزمت، وبين المصالح الاقتصادية الطبقية لكبار ملاك الاراضي، وانحياز الشرطة والقضاء إليهم بدعوى مقاومة الشيوعية، كما يصور كيف يخشى الجيش الجمهوري الأيرلندي ضياع نفوذه بسبب نشاط جيمي ورفاقه، والتفاف الأهالي حولهم، فيباركون أيضا الاعتداء على جيمي ومطاردته أو يتغاضون عنه.
وينسج الفيلم قصة حب بين جيمي وفتاة (تدعى أونا)، كان يرتبط بها عاطفيا في الماضي ولم تستطع أن ترحل معه إلى أمريكا بسبب اضطرارها للبقاء بجانب والدتها المريضة، وهي الآن قد اصبحت متزوجة من رجل آخر، ويستخدم هذا الحب الذي ينمو مجددا، لكي يعبر عن فكرة ما يتعين على البسطاء دفع، كضحايا للانقسام السياسي الذي شهدته البلاد في تلك الحقبة.
قد يبدو فيلم "قاعة جيمي" فيلما بسيطا، واضح المعالم، وليس مركبا على نحو ما كان "الريح التي تهز الشعير"، لكن هذا لا يقلل من كونه واحدا من أكثر افلام كن لوتش تكاملا ورونقا وسحرا واتساقا في الرؤية السينمائية، وأيضا، تكاملا من الناحية السينمائية. هنا نرى تصويرا مؤثرا وصادقا للريف الاأرلندي في إطار تلك الفترة الزمنية، وننتقل من مشهد إلى آخر بسلاسة وبراعة، ونرى تجسيدا للشخصيات لا يتغافل الفيلم عن التعرض لتناقضاتها الداخلية، ويقدم المناضل السياسي في صورة إنسانية فيها من الجمال والرقة، ولكن دون أن يصبح الفيلم عملا تثقيفيا دعائيا تعليميا، بل يظل مقطوعة شاعرية رومانسية، لصورة الثوري الذي كان أول ايرلندي يتم ترحيله قسرا من بلاده وطرده إلى الولايات المتحدة. 
يتميز الفيلم أيضا بإيقاع منضبط، وموسيقة موازية رفيعة معبرة، وأداء تمثيلي بديع سواء من باري وورد (في دور جيمي) بشخصيته الكاريزمية الجامحة، وسحره الخاص ورقته وقوة شكيمته، والممثل الأيرلندي الكبير جيم نورتون (في دور القس)، وبريان اوبايرن (في دور ضابط الشرطة الفظ)، وسيمون كيربي (في دور أونا).
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger