الأربعاء، 29 يناير 2014

نظرة على الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار!






 
شاهدت الأفلام التسعة المرشحة لأحسن فيلم في مسابقة الأوسكار لعام 2014.. ومن نفس هذه الأفلام التسعة، تأتي ترشيحات أوسكار أحسن مخرج وأحسن سيناريو معد عن أصل أدبي بل ويتكرر ترشيح هذه الأفلام نفسها في معظم قوائم التصنيفات الفرعية. وشاهدت أيضا فيلم "بلو جاسمين" لوودي ألان المرشح لجوائز: أحسن ممثلة رئيسية وأحسن ممثلة ثانوية وأحسن سيناريو اصلي، وفيلم "داخل لولين ديفيز" للأخوين كوين المرشح لجائزتي أحسن تصوير وأحسن مزج صوت، وشاهدت كل الأفلام المرشحة لجائزة أحسن فيلم أجنبي باستثاء الفيلم البلجيكي. ولم شاهد بعد "قبل منتصف الليل" لريتشارد لينكلاتر الموجود ضمن قائمة المرشحين لأفضل سيناريو مقتبس عن أصل أدبي.
 
وفي تقديري لن تخرج معظم الجوائز عن قائمة التسعة المرشحين لأحسن فيلم. ويبلغ عدد جوائز الأوسكار في كل الفروع 24 جائزة بما في ذلك أحسن تسجيلي قصير وأحسن تسجيلي طويل وأحسن فيلم تحريك.
الأفلام التسعة الأساسية هي:
القبطان فيليبس
احتيال أمريكي
نبراسكا
نادي دالاس
جاذبية أرضية Gravity
فيلومينا
12 عاما في العبودية
ذئب وول ستريت
هي Her
كتبت من قبل عن "جاذبية أرضية" و"فيلومينا" و"القبطان فيليبس"، و"نبراسكا"، و"ذئب وول ستريت".
 
من فيلم "نادي دالاس"
 
نادي دالاس
أما فيلم "نادي دالاس"  (الترجمة الحرفية لعنوان هذا الفيلم ستصبح بالضرورة ملتسبة على القاريء العربي فالعنوان بالانجليزية هو Dallas Buyers Club أي "نادي مشتري دالاس" أي أنه سيصبح اسما لا معنى له، كما أنني أجده عنوانا رديئا لا يعبر بأي حال عن موضوع الفيلم، بل وأجد أن الفيلم نفسه هو الحلقة الأضعف في قائمة الأفلام التسعة المرشحة وأستغرب من ترشيحه أصلا للأوسكار في حين أن مستواه أقل من المتوسط.. وربما يكون موضوعه الإنساني هو ما لفت أنظار أعضاء الأكاديمية الأمريكية لعلوم السينما الذين يرشحون الأفلام ويمنحونها الجوائز..
 
فالموضوع يدور حول مريض مصاب بمرض نقصان المناعة المكتسب المعروف بالإيدز، يسعى للحصول على عقار ممنوع من التداول في السوق الأمريكية، وتهريبه من المكسيك لمساعدة مرضى الايدز بعد ان وجد أن العقار قد ساعده في البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة بعد ان قال له الأطباء الأمريكيون أن امامه 30 يوما فقط قبل أن يغادر الحياة. والفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية بطلها رجل يدعى رون وودروف- كهربائي ولاعب روديو في تكساس- يقوم بدوره في الفيلم الممثل المتميز ماتيو ماكونوي (المرشح لأحسن ممثل عن دوره في هذا الفيلم).
 
ولكن السيناريو يعاني من الترهل والتكرار والمشاهد التي لا تثير التعاطف أصلا بسبب قسوة البطل وعنفه ورد فعله العنيف ازاء العالم، كما أن الحدث الدرامي لا يتكرر على نحو يثير الاهتمام بل ويصبح المتفرج أمام تساؤل كبير عما اذا كان بطل الفيلم نبيلا يسعى بسلوكه هذا الى مساعدة المرضى بتزويدهم بالعقار المحظور، أم أن دافعه هو تأسيس تجارة سرعان نمت كبرت، يحقق من وراءها أرباحا طائلة بعد أن أسس ما أطلق عليه ناديا في دالاس جعل رسم عضويته 400 دولار، لتوزيع الدواء على الأعضاء، ثم أصبح يقوم برحلات طويلة إلى اليابان والمكسيك وغيرها، كأي رجل أعمال، لعقد صفقات لشراء العقار والتفنن في تهريبه داخل الولايات المتحدة!
 
أنت إذن لا يمكنك التعاطف تماما مع هذا الرجل، كما أن أسلوب الإخراج المتبع هنا لا يجعل الفيلم يتجاوز تمثليات السهرة التلفزيونية المؤثرة بل ولا تثير تلك العلاقة التي تنشأ بين البطل وبين امرأة من الجنس المتحول (كانت في الأصل رجلا) تساعده في تنظيم تجارته الجديدة، ولنها تموت فيما بعد، اهتمام المتفرج بسبب سطحية التناول.
 
والملاحظ أن عددا كبيرا من الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار خاصة قائمة التسعة الكبار، مقتبسة من أعمال أدبية منشورة، معظمها يروي قصصا حقيقية أو مذكرات، وهذا مثلا شأن "12 عاما في العبودية" و"القبطان فيليبس" و"ذئب وول ستريت" و"فيلومينا" بالاضافة الى "نادي دالاس".
 
هي والأفلام
فيلم "هي" Her فيلم خيالي يفترض في المستقبل القريب وجود شخصية رجل يكتب رسائل حب لغير القادرين على كتابة مثل هذه الرسائل (شيء في الواقع ينتمي للقرن التاسع عشر!!) وهو يشعر بالوحدة (كثيرا ما نراه يسير وحيدا في شوارع مدينة لوس أنجليس (وأحيانا في شنغهاي بالصين!!) مصورا من زوايا تجعله يبدو ضئيلا تائها وسط المباني العالية الكئيبة التي تحلق فوقه. هذا الشاب يقيم علاقة حب مع كائن افتراضي في العالم الافتراضي عبر الكومبيوتر.. هذا الكائن الافتراضي امرأة هو الذي اختارها تتخاطب معه عبر صوتها فقط (تقوم بالدور سكارليت جوهانسون)، فهي اختراع من عالم السوفت وير.. أي غير حقيقية لكنها تجعله يعتقد أنها قد وقعت في حبه بالفعل، بل وترتب لكي تجعله يمارس معها الحب عبر وسيط ثالث لامرأة جميلة، وهو ما لا يقدر على القيام به.
 
من فيلم "هي"
 
الفكرة جيدة لكن المعالجة التي تريد أن تلعب في المساحة الواقعة ما بين الكوميديا الهزلية وقصة الحب الرومانسية، تفشل في اثارة اهتمام المتفرج، وخصوصا المتفرج غير الأمريكي، الذي يدرك من البداية استحالة القصة وهزليتها، بل ويبدو الفيلم من ناحية أخرى، أطول كثيرا من قصته وتصبح بالتالي التفاصيل الكثيرة التي يحشوها السيناريو به، غير مبررة ولا مقبولة، فمن منا يتصور أن تكون لديه امرأة رائعة الجمال مثل زوجته السابقة (الممثلة روني مارا) ويتركها ويهيم على وجهه بحثا عن علاقة بكائن من عالم السوفت وير الخيالي، خصوصا وان الفيلم يصوره وهو يستعيد بحنين مشاهد من حياته الزوجية السابقة مع زوجته الجميلة.
 
أما فيلم "12 عاما في العبودية" فهو بلاشك واحد من أهم ما ظهر من أفلام العام الماضي، وهو جدير بالفوز بعدد من أهم جوائز الأوسكار وأظن انه سيفعل.
 
إن المخرج ستيف ماكوين يعود بنا إلى موضوع العبودية، من خلال رؤية سينمائية واقعية مكتوبة جيدا ومصاغة سينمائيا ببراعة مؤثرة، لا تسعى إلى الإدانة ولا إلى التوفيق التسامحي الساذج، بل إلى إعادة قراءة فترة من التاريخ الأمريكي ولكن من خلال خصوصية القصة الدرامية التي يرويها عن ذلك الشاب الأسود الحر من نيويورك، الذي اختطف وعذب وأرغم على الخضوع للعبودية لمدة 12 عاما في الجنوب الأمريكي. وليس المهم في هذا الفيلم تفاصيل القصة ومغزاها فقد تكون هذه التفاصيل معروفة لكل من قرأ كتاب سولومون نورثوب الذي يروي فيه وقائع قصته الغريبة التي حدثت عام 1941 واستمرت حتى 1853، أي قبل الحرب الأهلية الأمريكية وقبل أن تصدر قوانين حظر العبودية في الولايات المتحدة.
 
ولعل أحدهم يتساءل: وكيف كان بطلنا هذا حرا إذن؟ والاجابة أن ولايات الشمال الأمريكي كانت قد بدأت منذ فترة في الاعتراف بحرية السود وحقهم في المساواة وكان الخلاف الشهير بين الشمال والجنوب أحد أسباب اندلاع الحرب الأهلية. كان أمريكيو الشمال قد بدأوا في التصنيع وكانت المصانع الراسمالية الجديدة في حاجة إلى ملايين السود كأيد عاملة رخيصة، في حين كان الجنوبيون يرغبون في الابقاء عليهم كعبيد يقومون بالأعمال الشاقة في المزارع.
 
من فيلم "12 عاما في العبودية"
 
أقول إن المهم في هذا الفيلم هو الأسلوب: التصوير والاخراج والمونتاج وأيضا الأداء التمثيلي الرفيع.. وهذا سيحتاج بلاشك، مقالا آخر (في الطريق).
 
احتيال أمريكي فعلا
وشخصيا لم أجد فيلم "احتيال أمريكي" American Hustle للمخرج ديفيد أو راسل، مثيرا للاهتمام، بل وجدته عملا ثقيلا مترهلا يعاني من المشاهد المسرحية الطويلة التي تثقلها الحوارات، مع تعدد الشخصيات والافتعال في الأداء بدرجة كبيرة. وبعد بدايته القوية التي تشد الجمهور عن ثنائي محتال من رجل وامرأة، ثم وقوعهما في براثن عميل للمباحث الفيدرالية الأمريكية يبتزهما للتعاون معه في الإيقاع بعدد من الخارجين على القانون، ينحرف الفيلم الى متاهات ومبالغات كثيرة، وصراخ وهستيريا أمريكية مألوفة، لاصباغ الطابع الكوميدي على ما يصعب تحويله إلى كوميديا، بل إنني رثيت لحال ممثل عملاق مثل روبرت دي نيرو الذي أسندوا له دورا ثانويا في هذا الفيلم كأحد زعماء المافيا، في محاولة لاستعادة ذكرى أدواره الشهيرة مع سكورسيزي في أفلامه عن المافيا وأشهرها بالطبع "رفاق طيبون"، كما يستخدم الفيلم شخصية العربي من خلال رجل يتخفى في ثياب شيخ عربي من بلدان الخليج بملابسه التقليدية المعروفة، بدعوى أنه يرغب في الاستثمار في أعمال غير مشروعة تتعلق بالقمار وغير ذلك، وهذا كله في سياق هزلي لم أجده مثيرا للمتعة ولا للاستمتاع بل بالأحرى، للتقزز احيانا. وأستغرب كثيرا ان يكون فيلم كهذا مرشحا لكل هذا العدد من الجوائز في سائر المسابقات الأمريكية مثل جولدن جلوبس وخصوصا مسابقات نقاد السينما مثل نقاد نيويورك الذين منحوه جائزتهم!
 

وقد كنت أتصور أنني ربما أكون الوحيد، الذي لم يعجبه فيلم "احتيال أمريكي" مع كل ذلك "الهوس" بالفيلم المنتشر بشدة في الصحافة الأمريكية، إلى أن  وقعت أخيرا على مقال شجاع كتبه كيفن فالون في مجلة (وموقع) "ذي ديلي بيست" The Daily Beast بعنوان "احتيال أمريكي فيلم بولغ في قيمته" American Hustle Is

Overrated

يبدأ الكاتب مقاله على النحو التالي "سوف لن يتم تخويفنا لكي نتظاهر بأننا نعجب به بعد اليوم.. إن "إحتيال أمريكي" ليس بأي درجة، جيدا كما يقال لنا.. إذن كيف أمكن أن يكون ضمن قائمة الأفلام المرشحة لأحسن فيلم؟".


وهو يتساءل في موضع آخر: "إعطوني وصفا تفصيليا للحبكة ، لما حدث في الفيلم لأنني - اللعنة علي- إذا كنت أعرف. والاعنة إذا كان أي منا يعرف، ودعونا نكون صريحين:هذه القصة أكثر القصص التواء وتشويشا وهراء في أي فيلم رشح لجائزة أحسن فيلم منذ فترة طويلة".


من وجهة نظر كاتب هذا المقال فإن أفضل الأفلام في قائمة التسعة هي ثلاثة أفلام يستحق اي منها جائزة أحسن فيلم وأحسن إخراج وهي:
1- 12 عاما في العبودية
2 - ذئب وول ستريت
3 – نبراسكا
    

الخميس، 23 يناير 2014

"ذئب وول ستريت".. إتفرج ياسلام!




أمير العمري


جاء فيلم "ذئب وول ستريت" لمارتن سكورسيزي إلى العاصمة البريطانية لندن متأخرا فقد بدأت عروضه يوم 17 يناير، في حين أن عرضه في الولايات المتحدة كان قد بدأ يوم 25 ديسمبر الماضي، وأظن أنه عرض أيضا في بعض عواصم ومدن الشرق الأوسط (القاهرة وأبوظبي..) مع العرض الأمريكي، واستبعدت منه الرقابة في هذه البلدان الكثير من المشاهد واللقطات. فلم أشاهد الفيلم إذن إلا أخيرا، ولو كنت قد شاهدته مبكرا لكنت قد أضفته دون أدنى شك، إلى قائمتي لأحسن عشرة أفلام عرضوا عام 2013.

هذا فيلم حقيقي، يرد السينما إلى أصولها.. إلى رواية قصة حقيقية من خلال أسلوب فيه من الإقناع والتدفي والسلاسة بقدر من فيه من الإقناع والاستمتاع أيضا.
سكورسيزي يختار أن يقدم لنا عرضا spectacle سينمائيا ساخرا satirical حول عالم المال.. أو بالأحرى، عالم رجال المال أصحاب الطموح الذي لا يعرف حدودا، لتحقيق الثروة بطرق غير قانونية موضحا أيضا أن هناك خيطا رفيعا جدا يكمن في الفرق بين قانونية العمل في المضاربات وعدم قانونيته. إن بطله الذي نشاهد قصة صعوده إلى قمة الثراء، قبل أن نرى سقوطه المدوى، يتعلم كيف يصبح استاذا في الاحتيال على العملاء واستخدام طرق الإغراء بحلم تحقيق ثروة سريعة بدون أي جهد، وكيف يمكنه أيضا أن يلهم مرءوسيه الذين يعتمد عليهم في العمل، مصرا على جعلهم يتذوقون نفس ما يتذوقه من "طعم المال" المباشر.
سكورسيزي في افلام سابقة له كان مولعا بفكرة سبر أغوار ذلك السعي الحثيث الأمريكي بوجه شديد الخصوصية، نحو الحصول على المال، بل إن فكرة ظهور أمريكا نفسها كدولة كانت فكرة أقرب إلى فكرة الشركة التي يمكن إقامتها بين مجموعة "أصجاب المصالح" والمقصود المصالح المالية تحديدا. أمريكا- الحلم بالثراء والثروة، كيف أمكن لهذا الحلم أن يلهم البسطاء وأن يجعل الملايين يتحولون ايضا عبر سنوات وسنوات، إلى "مجرمين" وخارجين على القانون، بل كيف أمكن أيضا إختراق القانون نفسه وتطويعه لخدمة استمرار الحلم الزائف بالثراء.
أخرج سكورسيزي عام 1986 فيلم "لون المال" The Colour of Money- بطولة بول نيومان وتوم كروز- وكان عن لاعبي البلياردو المحترفين وعالمهم وثرائهم الموعود، ثم عاد فأخرج عام 1990 فيلم "رفاق طيبون"  Goodfellahs الذي كان يركز أيضا على تصوير معنى الحصول السهل على المال عن طريق الجريمة مع الانتماء إلى "عائلة" هي التي توفر لك الحماية وتقدم لك العون وليس من الممكن أبدا ان تخونك طالما ظللت مخلصا لها.
نقول إن فكرة المال السهل ومخاطرها كانت منذ وقت مبكر تسيطر على سكورسيزي، وهو يعود في "ذئب وول ستريت" إلى تناولها استنادا إلى سيناريو جيد، محكم، كتبه تيرنس وينتر عن كتاب جوردان بلفورت الذي يروي فيه بكل جرأة، تفاصيل صعوده وسقوطه في عالم البورصة: كيف كان يبيع عن طريق شركته التي تضخمت تدريجيا، الوهم لآلاف الزبائن المتعطشين للثراءالسريع، وكيف كان منغمسا في ذلك النمط المدمر من حياة اللهو والترف والغرق في بحار المخدرات والجنس، وكيف أصبح يستخدم شبكة علاقاته لتهريب الاموال إلى سويسرا.
 سكورسيزي يحول السطور والكلمات إلى مشاهد سينمائية نابضة بالحياة، بالأضواء والحركة والموسيقى والضجيج.. لقطات مدهشة صادمة، وعلاقات تبدو كما لو كانت تجسد عالم لا وجود له سوى فيما وراء العالم.
حالة فلسفية
من دون رؤية فلسفية ما، يمكن أن تصبح قصة "ذئب وول ستريت" قصة فاقدة للعمق، مجرد سرد حركي مثير لا نفع منه ولا يبقى منه في الذاكرة شيء بعد أن ينتهي "العرض".. لكنه يتوقف هنا ليطرح تساؤلات مثل: ما الذي يعنيه الحصول على المال دون تعب؟ وكيف يترجم المال إلى متع لا حصر لها: نساء فاتنات، زوجة حسناء لاشك أنها ستصبح مدعاة لحسد الرجال وغيرتهم، قصور فاخرة، سيارات فارهة، رحلات خاصة بيخوت بحرية أو طائرات خاصة، قدرة على شراء الاحترام والحب والخضوع من جانب حاشية ضخمة تشعر بالمتعة وبارتباطها بالمتعة التي لا حدود لها (بلغ عدد العاملين في الشركة التي أسسها بطل الفيلم، جوردان بلفورت- الشخصية الحقيقية التي يجسدها في الفيلم ليوناردو ديكابريو، نحو ألف موظف).
هنا نصبح أمام "حالة" خاصة للغاية من الشعور بـ"الإلوهية"، أي بالقدرة على الخلق والتحكم في المخلوقات. إنها حالة الهوس التي يصل إليها جوردان بلفورت إنه يصل إلى حالة الهوس بالذات متصورا أنه أصبح "إلها" صغيرا مع إحساسه بالقدرة على رفع من يشاء إلى أعلى المراتب أو النزول به إلى الأسفل. إنه يخطب في العاملين بشركته خطبة يفترض أن تكون خطبة الوداع بعد أن أقنعه والده بالاكتفاء بما حققه والابتعاد عن الطريق الوعر الذي يمكن أن يقوده إلى الهاوية خاصة بعد أن أصبحت عيون رجال المباحث الفيدرالية مسلطة عليه وعلى نشاطاته، خاصة بعد أن وقع في خطأ قاتل متصورا أنه يمكن أن يشتري حتى ضابط المباحث الفيدرالية.. فكيف يمكن لأي شخص أن يقاوم الثراء.. حلم الصعود إلى القمة؟!
لكن خطبة بلفورت تتحول إلى خطبة للتحدي، للتعبير عن الثقة التي لا حدود لها والتي تصل إلى مرتبة الجنون المطلق.. إستنادا إلى إيمان غيبي قاتل بأنه قد أصبح محصنا ضد الهزيمة وضد السقوط.. أليس هو الذي صنع كل هؤلاء الواقفين يصرخون أمامه في نشوة الانتصار!
جوردان بلفورت قد يكون أيضا شيطانا اغواه المال وأغوى هو به الآخرين. هذا المغزى الأخلاقي هو ما يجعله أيضا يشعر بالحصانة: إنه يصر على قيام قبطان اليخت الخاص بالإبحار في ليلة عاصفة، من مونت كارلو إلى سويسرا حتى يمكنه الذهاب إلى جنيف، إلى حيث يوجد ذلك البنك لوضع الأموال الطائلة التي حصل عليها عن طريق الخداع والمبالغات التي تسببت في خسارة آلاف العملاء. لكن الأقدار أقوى من رغبات بلفورت، فالعاصفة تحطم اليحت وتغرقه ويقوم حراس السواحل الإيطاليين بانقاذه مع أصدقائه وزوجته!
يبدو الفيلم أحيانا، وكأنه مصور من لاوعي مدمن للمخدرات، فصاحبنا يعمل طبقا للنصيحة التي أسداها إليه مارك حنا رئيس الشركة التي عمل لها في بداية حياته في البورصة الذي نصحه بتناول المخدرات وممارسة الجنس بانتظام. وبلفورت أيضا رجل دعاية وترويج من الطراز الرفيع، والفيلم يتخذ في أحيان كثيرة، وجهة نظره، حينما نراه وهو يواجه الكاميرا يخاطبنا مباشرة، في مشاهد تتحرك فيها الكاميرا تتابعه وهو يبتسم ويتحدث مما يحطم بين آونة وأخرى، فكرة الإيهام بالواقع التي تقوم عليها السينما التقليدية. إنها نفس الحيلة البريختية التي تطالب المشاهيدن بعدم الاندماج فيما يشاهدونه وتأمل ذلك العالم "الغريب" الذي يقدمه الفيلم بكل تفاصيله: مشاهد الجنس الجماعي في المكاتب أو في البيوت، تناول المخدرات من جميع الأنواع وفي كل الأوقات (في أحد المشاهد نرى كيف يقوم في حركة هستيرية بشق حاشية الكنبة لاخراج كيس الكوكايين لكي يستنشقه حتى يعادل مفعول العقار القوى المهديء الذي جاءه به صديقه وشريكه "دوني"، رحلات المتعة، العلاقة الغريبة مع مدير البنك السويسري وكيف يتفق معه على قبول ملايين الدولارات رغم معرفة أنها جاءت بصورة غير مشروعة.
مبالغات
يستخدم سكورسيزي أسلوبا يجنح إلى المبالغة في كل شيء: في الحركة والأداء والصراخ والشتائم المبتادلة والانتقالات السريعة من لقطة للقطة ومن مشهد إلى آخر، كما يجعل الممثلين ينطقون أحيانا، بما يدور داخل العقل الباطن للشخصية التي يؤديها كل منهم قبل ان يعود الممثل إلى تبادل الحوار بطريقة طبيعية مباشرة.. وهكذا، وهو ما يحقق فكرة العرض الكوميدي الساخر.


يستخدم سكورسيزي أحيانا التعليق الصوتي للبطل من خارج الصورة، وهو يروي لنا طرفا من قصته أو يعلق على حدث ما أو يقدم لنا شخصية ما من شخصيات الفيلم: كما نرى عندما يقدم لنا أفراد مجموعة الشباب الذين لم يكمل معظمهم دراسته والذين إستقر أمره على الاستعانة بهم كفريق يعتمد عليه ويقوم بتدريبه كما يحدث بالفعل. ويعتمد الفيلم على المونتاج الجيد المحكم الذي يجعل الإيقاع سريعا متدفقا، يساهم في دفع البناء الفيلم إلى الأمام بطرق مبتكرة منها طريقة استعادة بيلفورت لما جرى له عندما إنهار جسمانيا بفعل الجرعة المخدرة المضاعفة التي تناولها من عقار رديء أتى له به صديقه "دوني" حيث يروي لنا بصوته بينما نشاهد ترجمة بصرية لما يرويه، كيف أنه تمكن بمعجزة من قيادة سيارته والعودة بها من النادي القريب الذي إضطر للتوجه إليه لكي يتحدث تليفونيا مع محاميه بعد أن نبهه إلى ضرورة الخروج من المنزل بعد أن أصبحت المكالمات مراقبة.. وصباح اليوم التالي يحضر رجال الشرطة لاستجوابه بخصوص تسببه في تدمير بعض أعمدة الإضاءة في الشوارع القريبة وتحطيم بعض السيارات فنرى أن سيارته الواقفة أمام منزله وقد تضررت بدرجة كبيرة، هنا يستعيد بلفورت مجددا، مسار عودته وه تحت تأثير المخدر، وكيف أنه لابد وقد أصاب عددا من السيارات وغير ذلك مما نشاهد مترجما بالصورة.  
يلجأ سكورسيزي عادة إلى عمل تدريبات مكثفة على الأداء والتصوير، ويترك الفرصة للممثلين للارتجال كثيرا في الحوار حسب الشخصيات التي يقومون بأدائها، ويلتقط- خلال ذلك- ما يروق له من عبارات الحوار ويضيفها إلى السيناريو، ويطلب من الممثلين إستخدامها أثناء التصوير الفعلي للمشاهد.
ولعل تلك العلاقة التي تأسست بين سكورسيزي والممثل ليوناردو ديكابريو منذ أن عملا معا في فيلم "عصابات نيويورك" (2002)، ثم استأنفا العمل بعد ذلك في أربعة افلام أخرى، ساهمت فيما تحقق هنا عمليا أي في ذلك الأداء الفذ لديكابريو، بحيث بدا وكأنه قد اصبح يسيطر سيطرة تامة على الدور ويمسك بأنظار المشاهدين كما لم يتمكن من قبل في أي فيلم من أفلامه. وقد بدا متوحدا مع الدور ومع الشخصية بملامحها العنيدة والعنيفة، ممتلكا ناصية الحوار المتدفق السريع، والقدرة على التعامل مع الممثلين الآخرين من حوله بكل سيولة وسلاسلة وبساطة: في اللقطات القريبة كما في اللقطات المتوسطة والبعيدة، وبنفس القدرة على التأثير الدرامي.
هنا أيضا تبرز الموهبة الكبيرة التي يتمتع بها الممثل ماتيور ماكونوهي في دور مارك حنا.. ورغم ظهوره لدقائق محدودة في الفيلم إلا أنه يثبت أنه ممثل كبير من المستوى الرفيع بكل ما تعنيه هذه الكلمة.. إنه يعبر بالحركة المحسوبة وبنغنة الصوت وكلمات الحوار التي تبدو متدفقة بشكل طبيعي تماما، وبطريقة آسرة تسيطر، ليس فقط على الشخصية التي أمامه، أي شخصية البطل الصغير "جوردان" في بدايته، بل وعلى المشاهدين جميعا.
وقد أحسن سكورسيزي إسناد دور الزوجة التي تبدو أكبر من الحياة نفسها (حسب المثل الغربي الشائع!) إلى نجمة مسلسل "جيران" الشهير الممثلة الاسترالية مارجوت روبي.. التي نجحت في الوقوف بصلابة أمام ديكابريو وقامت ببراعة بدور الزوجة التي تبدو في البداية مفتونة بتلك المشاعر الجامحة في شخصية "بلفورت" غير أنها تتحول تدريجيا خاصة بعد أن تنجب طفلين، إلى النفور من ذلك النمط الحياتي المدمر، ويكون خروجها من عالمه وحياته، إيذانا أيضا بسقوطه. لكن هذا السقوط لا يستمر فسرعان ما سيغادر السجن، ويستأنف تقديم دروسه ونقل خبراته في الترويج للسلعة، أي سلعة حتى لوكانت قلما صغيرا.. فمفتاح النجاح يكمن في القدرة على البيع والمحافظة على البقاء وسط الأضواء.. في بؤرة الفرجة.
إن فيلم "ذئب وول ستريت" نموذج هائل لأحد عروض الفرجة الجماهيرية العصرية باستخدام كل أساليب السينما، مع تجاوز كل ما كان معروفا من قبل من خطوط حمراء. ومن المؤكد أنه عرض ليس من الممكن رفضه!

الخميس، 16 يناير 2014

فيلم إيدا".. الهولوكوست صناعة بولندية!




يعيد الفيلم السينمائي البولندي "إيدا" Ida للمخرج بافل باولكوفسكي المقيم في بريطانيا، مجددا- تصوير موضوع درامي إنساني يرتبط بما يعرف بـ"الهولوكوست"، أي إضطهاد النازيين لليهود، وما يقال عن إرسالهم إلى "غرف الغاز" بغرض "الإبادة الجماعية" خلال الحرب العالمية الثانية. هذا الموضوع الذي أنتجت عنه مئات الأفلام الدرامية والتسجيلية والمسلسلات التلفزيونية. وتتفق معظم هذه الأعمال على أن "الهولوكوست" صناعة ألمانية، وأنه مرتبط بالعنصرية النازية تحديدا، التي كانت موجهة - بشكل إستثنائي- ضد اليهود واليهود وحدهم، وهي نظرة تلقى أيضا من يشكك في صحتها وينقدها بل وينفيها بأبحاث وكتابات مضادة في الغرب.
أما فيلم "إيدا" فهو يرد الموضوع إلى طرف آخر، فهو يتهم البولنديين الكاثوليك باستغلال الخطاب النازي الدعائي المعادي لليهود  خلال الحرب العالمية الثانية، والمشاركة في قتل اليهود البولنديين، بغرض الاستيلاء على منازلهم وممتلكاتهم. لكن أهمية الفيلم ونقاط تميزه لا تعود فقط إلى هذا الجانب الذي يجعله مختلفا عن كثير من الأفلام التي سبقته، بل إلى شكل تناوله للموضوع وأسلوبه الفني الخاص والمتميز كثيرا.

يبدو هذا الفيلم للوهلة الأولى، تقليديا في بنائه، إلا أن نظرة متعمقة في أبعاده وتضاريسه الفنية تكشف أننا أمام فيلم "طليعي" بدرجة كبيرة، يتمرد على الجماليات السائدة في مثل هذا النوع من الأفلام، بل ويتلاعب بالشكل تماما، كما يغير من مسار الموضوع ليبعده تماما عما يمكن ان يتوقعه وينتظره المشاهد.
الفيلم يبدو أولا، مخلصا لمنطق الدراما التقليدية (الأرسطية) في حفاظه على وحدتي الزمان والمكان، فالأحداث تدورفي عام 1960 أي بعد خمسة عشر عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945. وثانيا يخلص سيناريو الفيلم للنصيحة الأولية التي توجه عادة لكتاب السيناريو، مما يجعله يركز على شخصيتين رئيسيتين فقط هما: الفتاة (إيدا) وخالتها "فاندا".



ضياع الفرصة الأخيرة



إلى كل الذين يتشدقون اليوم بالحديث عن "العرس الديمقراطي" وعن المستقبل المزدهر، وعن "البطل المفدى" الذي أرسلته لنا العناية الإلهية لانقاذ الأمة وتحقيق الديمقراطية التي حلمنا بها طويلا.. أقول لهم إن اليوم هو إعلان رسمي بموت الفرصة الأخيرة التي أتيحت خلال السنوات الثلاث الماضية لتحقيق ما يشبه الديموقراطية.. فباسم خطر االإخوان المسلمين (الذي حذر منه كل الشرفاء طويلا) ترتكب الآن كل التجاوزات وكل أعمال القمع والتنكيل بأي صوت مختلف خصوصا اصوات الثوار الحقيقيين الذين واجهوا بصدورهم العارية في 25 يناير 2011 رصاصات أمن الدولة أو بالأحرى أمن النظام الذي عاد بقوة الآن ليطالب بالانتقام لسقوطه المروع في يناير.. اليوم اصبح لا صوت في اعلام مصر يعلو فوق أصوات اللواءات السابقين ومساعدي وزير الأمن السابق حبيب العادلي الذين يهددون الشرفاء من أبناء الوطن ويلوحون لهم بكل اشكال التشهير والقمع والتشويه والاغتيال المعنوي... واليوم، وهذا هو الأخطر، يتحول شباب ممن يفترض فيهم فهم العالم الحديث ومعرفة آلياته، الى جماعات فاشية مستعدة للقتل وتشجيع قتل كل من يختلف معها في الرأي تماما مثلما يفعل الاخوان ومناصروهم من جماعات التكفير الديني، فجماعات التكفير السياسي أصبحت أشد خطورة..
اليوم بدلا من أن يصبح الاستفتاء على الدستور فرصة لترسيخ مبدأ الديمقراطية الأول وهو حرية التصويت بنعم أو لا ترتفع أصوات غالبة بل وطاغية رسمية وشعبية، تقول لنا ان من يقول لا هو آثم، وأن التصويت بنعم فقط هو الذين سيمنحك صك الوطنية، وان الجنرال السيسي هو قدر مصر ومنقذها الوحيد مما هي عليه الآن... ناسين ان عمر الرجل في حقل السياسة لا يزيد عن 5 أشهر.. وقبل أن نعرف له أي برنامج سياسي ففكرة التفويض عادت بقوة بعد ان تصورنا أنها توارت بعد رحيل مبارك ومن قبله السادات وعبد الناصر، وهي الفكرة القائمة منذ 1954 في مصر.
أخيرا... لاشك أن مناخا كهذا لا ينتج أي ديمقراطية بل فقط حربا أهلية نتمنى ألا تقع رغم وجود كل الشواهد على قدومها..
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger