السبت، 27 أبريل 2013

الثورة والفيلم والسيجار




بقلم: أمير العمري


قبل أن نشاهد أفلاما من السينما الكوبية، كانت فكرتنا عن كوبا عموما، أنها بلد فقير، محاصر، خاضع لنفوذ السوفيت، ليس لديه سوى السكر والسيجار الهافاني الشهير الذي ارتبط به الزعيم الكوبي الأشهر، فيدل كاسترو.
وكان هناك بلاشك، تناقض ما، بين المزارعين الكوبيين الفقراء في مزارع قصب السكر، وبين السيجار الهافاني الذي لا يدخنه سوى أثرياء "البورجوازيين". لكن الغريب أن كوبا- الثورية جعلت من السيجار الهافاني رمزا للثورة، بعد أن اصبح العلامة المميزة ليس فقط لفيدل كاسترو،، بل للزعيم "الأسطوري" تشي جيفارا الذي كان أيضا رمزا لفكرة "الأممية" الاشتراكية، فهو أرجنتيني ومع ذلك، فقد حمل السلاح وشارك في الثورة الكوبية، وبعد انتصار الثورة، لم يشأ أن يستمتع بكرسي الوزارة، بل فضل الرحيل إلى بوليفيا لاستئناف النضال ضد الامبريالية او الاستعمار الجديد، حيث لقي مصيره التراجيدي المعروف. وكان هذا الموت العبثي، الذي قيل إنه جاء نتيجة وشاية من قبل "رفيق" كان معه في غابات بوليفيا، مثار حزن كبير حقا، خلده الشيخ إمام في ملحمته الغنائية الشهيرة "جيفارا مات" من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، كما كتب عنه محمود دياب مسرحية الشهيرة "ليلة مصرع جيفارا". وكان مصرع جيفارا بمثابة مؤشر أولي على انحسار المد الثوري في العالم الثالث بعد أن ظل هذا المد يؤرق مضاجع الاستعمار الجديد طوال الخمسينيات والستينيات. لم تكن فكرة "الثورة الدائمة" التي كان يعتنقها ويبشر بها جيفارا واضحة تماما، فقد كانت تتنافى مع الفكرة السوفيتية التي كانت قد استقرت حول "إمكانية تحقيق الاشتراكية في دولة واحدة" أي أنه لا يشترط لضمان نجاح الاشتراكية في دولة ما، أن تطبق في جميع الدول المحيطة بها كما كان متصورا من قبل، وإن كان الأمل أن تعم الاشتراكية العالم باعتبارها الفكرة الأكثر إنسانية.
كنا ونحن شباب صغار، في مقتبل العمر، نتطلع إلى الاشتراكية والفكر الاشتراكي، من الزاوية الإنسانية، من زاوية تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، وإقامة مجتمع يسوده التعاون بين البشر، والحب، وروح تنشد التحقق وتحقيق الرخاء للمجتمع وللفرد أيضا. ولم تكن أبدا، الأفكار الاشتراكية واليسارية عموما تلاقي هوى لدينا نتيجة ولع بـ"الأيديولوجي" في حد  ذاته، بل كان التوجه يتلاقى مع الوجه الإنساني للاشتراكية. وكان هذا حلم جيلنا. وأظن أنه كان حلما ينشد تحديث المجتمع بالعلم، دون أن يهمل القيم الأخلاقية والإنسانية عموما، فهي جزء من التراث الديني والوطني. ولكننا لم نكن نتخيل، في أسوأ السيناريوهات الممكنة، أنه سيأتي علينا يوم نجد أن السعي إلى تحقيق التقدم الاجتماعي والإنساني واللحاق بالعصر، قد تحول إلى نوع من الهستيريا الماضوية، الشبيهة باللوثة التي أخذت تطبق بتلابيبها على كل شيء. لكن ما حدث كانت أسبابه كامنة في فشل الكثير من المشاريع، أهمها دون أي شك، مشروع احتكار العمل السياسي باسم الجماهير، سواء من خلال أجهزة أمنية، أو من خلال حزب هو عبارة عن وعاء مترهل لجهاز الدولة، تحميه أجهزة الأمن أيضا!
وجدت من الضروري أن أسوق هذا المدخل لأن الاشتغال بالنقد والكتابة والتعبير هو عمل له علاقة وثيقة بالفكر الاجتماعي والسياسي في عصره، وليس مجرد سباحة تجريدية في "عالم الفن"، أي ليس مجرد "صرعة" كما قد يتخيل البعض. كنا نود أن نصبح جزءا من العالم، نتفاعل مع ما يحدث فيه، ونؤثر فيه ونتأثر به أيضا. وكانت السينما، بهذا المعنى، نافذة كبيرة على الدنيا وعلى العالم. 
والآن إلى كوبا، التي لديها تجربة خاصة في الاشتراكية أظن أنها تجربة ناجحة كثيرا، فقد نجحت في إقامة نظام يحقق التوازن الاجتماعي في بلد كان يعاني من العبودية والاستغلال البشع من جانب الاحتكارات الأمريكية التي كانت تستولي على كل ثرواته المحدودة، ولم تكن تترك له سوى الفتات، وكانت نخبة قليلة العدد من وكلاء رأس المال الأجنبي من العاملين في خدمة الشركات الاجنبية، من الكوبيين، هي التي تحكم، يمثلها في الحكم ديكتاتور يحمي المصالح الأجنبية (الأمريكية بوجه خاص)، ويقمع شعبه بكل قوة ووحشية.
جاء النظام الاشتراكي إلى كوبا عن طريق نضال طويل وصل إلى ذروته في إعلان الثورة المسلحة، إلى أن وصل للحكم، بفضل تأييد القوى الشعبية العريصة من الفلاحين أساسا، والمزارعين البؤساء، والعاملين بالسخرة.  
وكنت أقرأ منذ عام 1972 عن السينما الكوبية، بل وقمت أيضا بترجمة دراسة طويلة عن هذه السينما وبعض أفلامها، كتبها الناقد البريطاني ديفيد ثومبسون، كما قرأت كثيرا عن السينما الثالثة، والسينما غير المكتملة، ودور مؤسسة السينما الكوبية "الايكايك" ICAIC (أو حرفيا "المؤسسة الكوبية للفنون والصناعة السينمائية")، وتأثير مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية على سينمائيين كوبيين مثل جارثيا اسبينوزا وجوتييريز آليا اللذين درسا في معهد السينما في روما. ولكني لم أكن أتخيل أن كوبا يمكنها أن تنتج أفلاما فيها من الطموح الفني ما نجده، على سبيل المثال، في السينما الأوروبية المتقدمة بما فيها السينما السوفيتية بالطبع. إلى ان جاء "أسبوع الأفلام الكوبية" في القاهرة عام 1975 في سينما أوديون، بالتعاون بين العلاقات الخارجية الثقافية، والسفارة الكوبية في مصر. كان هذا حدثا جللا، فقد اكتشفنا من خلال متابعة أفلام هذا الأسبوع، التي عرض بعضها أيضا في "نادي السينما" أننا أمام تجربة متقدمة كثيرا في التعبير من خلال السينما، وليست تلك السينما البدائية التي كنا نتخيلها.
كانت هناك أفلام مبهرة مثل و"لوسيا"، و"أيام الماء"، وغيرها. وكان يكفي في الحقيقة مشاهدة فيلم واحد مثل "ذكريات التخلف" لكي تتغير رؤية المرء تماما لهذه السينما بل لاتلك الدولة الصغيرة التي كانت تكافح من أجل البقاء أمام حصار أمريكي مفروض عليها منذ 1959.
انتصرت الثورة الكوبية المسلحة في يناير 1959 ونجحت في الإطاحة بنظام الديكتاتور باتيستا الذي فر إلى أمريكا. وفي مارس من العام نفسه، أنشئت مؤسسة الفنون والصناعة السينمائية (إيكايك، كما تأسست بعد ذلك مدرسة السينما التي تخرج منها عدد من ألمع السينمائيين في أمريكا اللاتينية.
كان "ذكريات التخلف" Memories of Underdevelopment عملا ملهما، لا مثيل له من قبل. كان فيلما "حداثيا" بمعنى الكلمة، أوروبيا في ظاهره، ولكنه "لاتيني" تماما في خصوصية التجربة التي يصورها، وأجوائها، والتساؤلات التي يطرحها.
صحيح أن الكثير من هذه التساؤلات تأتي على صعيد يبدو وجوديا، ربما تأثرا بأفلام الموجة الجديدة الفرنسية، وأفلام أنطونيوني أيضا في الستينيات التي كانت تدور حول عزلة "البورجوازي"، وفشله في إقامة علاقات ناجحة مع المرأة، وتدهوره النفسي بسبب عدم تحققه مما يفعله، وغير ذلك من الأفكار التي يلعب عليها الفيلم كثيرا في تصوري الشخصي، ولكنه يصوغها ويصبها، في سياق سياسي اجتماعي نقدي، يتعلق بخصوصية التجربة الكوبية: تاريخ كوبا الخاص، وتطور الصراع فيها، كما يخرج ويدخل من وإلى أسلوب التداعيات المميز للسينما الأوروبية في الستينيات، لكنه يستخدم أسلوبا سينمائيا يعتمد اعتمادا أساسيا على المونتاج، يمزج بين التسجيلي والوثائقي والخيالي، بين الوثيقة الصوتية او المصورة، وبين التعليق الصوتي المباشر من خارج الصورة، بين الطابع التعليمي الذي يتوقف أمام بعض المعلومات ذات الدلالة الخاصة في سياق الفيلم، وبين الصور الثابتة والرسومات. ويستخدم أيضا لقطات من الجريدة السينمائية ومن الأرشيف، ويعتمد كثيرا على الكاميرا الحرة المحمولة على الكتف التي تجعل المنظور مهتزا تماما بغرض إكساب المشهد الطابع التسجيلي على نحو يذكرنا بالأفلام السوفيتية التي صنعت في عشرينيات القرن الماضي، ويستوحي من أيزنشتاين، كما يستلهم من جودار. ويمتليء الفيلم بالكثير من الإشارات إلى الماضي، إلى التاريخ، في بناء جدلي مركب ومثير، ولكن دون أن يفقد الفيلم في أي لحظة، طابعه الحداثي الأخاذ، وقدرته على جذب المتفرج، دون أن ينحرف أبدا عن هدفه في الكشف عن تناقضات الشخصية الرئيسية التي يدور حولها موضوع الفيلم. 


مخرج الفيلم توماس جوتييريز آليا، وكان ألمع السينمائيين الكوبيين على الإطلاق (توفي عام 1996)، كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى (البورجوازية) ولكن إلى أسرة "تقدمية"، وقد أيد الثورة الكوبية ووقف معها بقوة من البداية، وإن لم يحول إيمانه بالثورة، دون توجيه النقد لبعض الممارسات السياسية والاجتماعية، في بعض أفلامه، وخاصة في "ذكريات التخلف".
ويلعب عنوان الفيلم على كلمة ستصبح فيما بعد من الكلمات أو الأوصاف الشائعة كثيرا في عالمنا، في وصف البلدان التي تعاني من مشاكل "التخلف"، خصوصا فيما يسمى بـ" العالم الثالث". والمقصود هنا "التخلف" من وجهة نظر بطل الفيلم، وهو رجل في نهاية الثلاثينيات، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ورث مجموعة من الشقق السكنية يعيش على الدخل الذي يأتيه من تأجيرها. وقد أممتها الحكومة الجديدة لكنه يستطيع الاستفادة من دخلها لمدة 12 عاما.  هو إذن، "عاطل بالوراثة"، أي يعتبر "عالة اجتماعية" في مجتمع الثورة والعمل والبناء، في كوبا الجديدة.  
يبدا الفيلم في عام 1961، أي مباشرة بعد الغزو الأمريكي الفاشل بمساعدة اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة الذين يطلق عليهم "المنفيين الكوبيين"، وهي العملية العسكرية الشهيرة التي عرفت باسم عملية "خليج الخنازير"، وينتهي في أكتوبر عام 1962 وقت بلوغ أزمة الصواريخ الروسية التي نشرها السوفيت على الأراضي الكوبية، ذروتها، فقد كادت أن تتسبب في مواجهة نووية بين القوتين العظميين وقتها لولا أن بادر السوفيت وقاموا بسحبها.
الإطار الزماني إذن، يتحدد في فترة ساخنة سياسيا، شهدت أيضا نزوح الآلاف من البورجوازيين الكوبيين الذين رفضوا الاندماج في المجتمع الجديد، فهاجروا إلى الولايات المتحدة. ومن بين هؤلاء أصدقاء وأقارب بطلنا "سيرجيو"، بل وزوجته. وفي المشاهد الأولى من الفيلم  نرى طوابير المهاجرين الكوبيين في مطار هافانا، وبينهم "لاورا" زوجة سيرجيو، وهو معها يودعها، غولكن دون أن يبدو على وجهه أي شعور بالفقدان، أو بالحزن، بل إننا نلمح نوعا من الشعور بالارتياح.
 لقد ذهبت لاورا ولكن بقيت أشياؤها في بيته، تذكره بنموذجها الذي يرفضه لكنه لا يعرف غيره، ويشعر بنوع من الحنين لاستعادته على نحو ما.
سيرجيو يرفض مغادرة كوبا، لكنه يرفض أيضا الانتماء إلى الوضع الثوري الجديد في البلاد، أن يكون جزءا من المجموع من حوله، فهو يعتبر الكوبيين "متخلفين"، ويصف نفسه بأنه "أوروبي" أكثر منهم جميعا، وهو كاتب ومثقف، يسجل يومياته وذكرياته باستخدام الآلة الكاتبة، لكي يطرح الكثير من التشكك والقلق الوجودي المرتبط بشعوره بانعدام الوزن: إنه يرفض طبقته، لكنه يرفض البديل الآخر، يسخر من الشعارات الجديدة، ويتشكك بوضوح في قدرة هؤلاء الشباب الذين يضيعون الكثير من الوقت في المناقشات والجدال، ويتطلع إلى الماضي، إلى علاقته التي لم تكتمل مع الفتاة الوحيدة التي أحبها وكانت "أجمل شيء في حياته".. يتجول في الشوارع، يتطلع إلى الناس من شرفة مسكنه المرتفع عبر المنظار: إلى الشاطئ، إلى الحركة الكثيفة في الشارع، إلى تمثال برونزي يتوسط ميدانا قريبا، وتتداعى الأفكار المتشككة عبر "المونولوج" الذي يأتينا عبر شريط الصوت من خارج الصورة، وكأن سيرجيو يعبر عن أفكاره التي يدونها ولو بصوت مرتفع.
ما الذي حدث؟ سيرجيو يجيب بتشكك: "لقد تحررت كوبا.. من كان يصدق". يلمح قمة نصب تذكاري خال من أعلى، ويعلق "أين ذهبت حمامة بيكاسو.. من السهل أن تكون شيوعيا في باريس.. لقد دبت الحياة ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى ميامي.. ولكن كل شيء يبدو مختلفا اليوم.. ما الذي تغير؟ اين أصبحت المدينة"؟
لا يروي الفيلم قصة، ولا يعتمد على بناء درامي تتصاعد فيه الأحداث في سياق رأسي، بل على بناء أفقي، يعرض، ويقدم، ويحلل من خلال تجسيد التناقض والتعارض بين الصور واللقطات، وهو بناء ثري، لا يهدف للوصول إلى ذروة ما، بل إلى تفكيك الشخصية، وتعريتها، والتوقف أمام أزمتها.. إنه لا يدين، ولا يبرر، بل يعري، ويكشف، ويفضح ذلك العجز، ويجسده. وهذا هو المدهش في هذا العمل الكبير في وقته.. أي كيف كان ممكنا ألا يأتي الفيلم الأول المهم من كوبا، لأهم مخرج سينمائي كوبي، عملا من أعمال "الواقعية الاشتراكية" مثلا، التي تجسد عادة "البطل الإيجابي"، وتوجه انتقادات مباشرة إلى الماضي، إلى حقبة باتيستا، لكي تبرر كل ما جاء بعدها، وتتغاضى عن أي نواقص أو سلبيات. على العكس من ذلك تماما، هنا يصبح مدخلنا إلى "الحالة الكوبية" مدخل فلسفي وذهني، ولكن من وجهة نظر مثقف من الطبقة الوسطى، عاجز عن حسم أي شيء في حياته.


زوجته رحلت، وهو يعود إلى مسكنه، يتطلع إلى أشيائها التي ظلت تذكره بها: يدير شريط تسجيل لكي يستمع إلى معابثته لها التي تصل حد الشجار. وفي لقطة تعكس البناء المركب للفيلم نراه أمام المرآة، يأتينا صوته عبر شريط التسجيل، وصورته من الماضي الذي يتذكره، وهو يعبث مع زوجته ويثير ضيقها، يرسم على المرآة بقلم التجميل الأحمر، ويقول لها كما يأتي إلينا عبر الشريط المسجل: إنني أفضل النساء اللاتي على شاكلتك.. المصطنعات، أكثر من النساء الطبيعيات.. أفضل الملابس الأنيقة والطعام الجيد، والماكياج والتدليك.. إنك اصبحت أكثر جاذبية الآن.. لم تعودي تلك الفتاة الكوبية المتخلفة..". هنا يكون هو قد ارتدى جوربها النسائي في رأسه وأخذ يتأمل صورته المشوهة أمام المرآة.. ثم ينزع الجورب من رأسه ويجلس في استرخاء وإرهاق على أحد المقاعد.. هذا يحدث في الزمن الحاضر.. الآن بعد أن ودعها في المطار وعاد لكي يكتشف موت أحد العصافير التي يحتفظ بها في قفص في شرفة مسكنه، يلتقطه ببساطة ويلقي به من الشرفة المرتفعة إلى أسفل، إلى الشارع، بينما يردد: إنها لحظة الفراق!
لكن البناء لا يعتمد فقط على التداخل بين الماضي والحاضر، من خلال سريط الصوت أو شريط الصورة، بل على المزج مع مشاهد ولقطات تسجيلية تتداعى في الذاكرة الفردية للبطل- اللابطل حينا، أو تستخدم من زاوية موضوعية وفي سياق نقدي أو "تعليمي" من وجهة نظر الفيلم، كما سنرى.
عمليا لا يفعل "سيرجيو" شيئا في حياته سوى التأمل والتجوال في الشوارع، ينظر إلى النساء بوجه خاص، يعلق عن طريق الصوت الذي ياتي من خارج الصورة، يتساءل بتشكك وهو يتطلع إلى عشرات الوجوه للرجال والنساء، وإلى صور ورسومات لكاسترو على الجدران، لقطات قريبة "كلوز أب" للكوبيات في العصر الجديد: قلق في العينين، نظرات توتر وعدم ارتياح. ما هذا القلق؟ هو بالقطع ليس من نوع القلق الذي يعاني منه سيرجيو. إنه يتساءل: ماذا تعني الحياة بالنسبة لهم؟ بل ماذا تعني الحياة بالنسبة لي؟ ويستدرك: "ولكني لست مثلهم...".
فيلمنا هذا يمكن القول إنه من نوع "دراسة الشخصية". ولكي يعمق هذه الدراسة ويسلط مزيدا من الأضواء عليها، يقوم السيناريو على تقديم بعض الشخصيات التي ارتبط بها بطلنا بشكل او بآخر ولعبت دورا في حياته. وهو يقدم هذه الشخصيات بادئا بكتابة الأسماء على الشاشة. هناك أولا "بابلو".. صديق سيرجيو الرافض بوضوح للثورة.. المتشكك في كل شيء يجري حوله، الذي حسم أمره بالفعل على ضرورة الهجرة الى أمريكا. وهو يعبر عن أفكاره هذه خلال جولاته بالسيارة مع سيرجيو قائلا إن ما يجري مجرد "لعبة بين الأمريكيين والروس، لكننا سندفع الثمن.. لا أريد أن أكون موجودا هنا عندما يأتي ذلك الوقت.. سأرحل".
يتوجه بابلو بالسيارة في صحبة سيرجيو إلى محطة للوقود. هناك بنزين ولكن لا يوجد هناك زيت للمحرك. وبعد هذا المشهد مباشرة يستخدم المخرج لقطات تسجيلية وصورا ثابتة فوتوغرافية ورسومات تظهر حالة الفقر والتخلف والمعاناة التي كان الكوبيون يعيشون فيها في الماضي: هناك لوحة تصور بعض العبيد يقيدون حركة واحد منهم على الأرض، بينما يقف السيد يمسك بالعصا وينهال عليه ضربا. (يأتينا صوت بابلو من خارج الصورة، يقول لسيرجيو: يقال إن الكوبي يمكنه أن يتحمل اي شيء سوى الجوع).
نرى لقطات أخرى لرجال جوعى، وأطفال يتضورون ارتموا على الأرض في ضعف واستكانة شديدتين، امرأة تحمل على صدرها طفلا رضيعا يحتضر من الجوع. ويأتي التعليق الصوتي "الموضوعي" وكأننا نشاهد فيلما تسجيليا في التليفزيون: في أمريكا اللاتينية يموت أربعة أطفال بسبب سوء التغذية كل دقيقة. بعد عشر سنوات سيكون قد مات عشرون مليون طفل، أي ما يوازي عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية".
الحوار بين سيرجيو وبابلو حول المسلحين الكوبيين الذين شاركوا في غزو بلادهم مع الأمريكيين في "خليج الخنازير" وتم اعتقال بعضهم، يؤدي إلى مشهد آخر، تسجيلي، يبدأ بالإشارة إلى مسؤولية الفرد في إطار الجماعة.. حسب المفهوم الماركسي.. ولكن في سياق استعراض السجناء من الكوبيين المسلحين، والتعليق الصوتي يأتينا قائلا إنه تم اكتشاف تنظيم اجتماعي داخل المنظمة العسكرية للغزاة أي المسلحين المناهضين للثورة وهذا التنظيم يعكس التكوين الاجتماعي و"اخلاقيات البورجوازية".

 إنه البطل العاجز المتردد في حسم أمره، الذي يكتفي بالتطلع عبر التليسكوب من نافذة مسكنه على الناس في الخارج، يبحث بوجه خاص، عن تجربة عاطفية يستر بها إحساسه بالعجز. وعندما يعثر أخيرا على فتاة تلهب خياله (إلينا)، تنتمي للطبقة صاحبة المصلحة في الثورة، نراه يحاول أن يحولها ربما دون أن يدري، إلى نموذج مشابه لنموذج زوجته التي يرفضها. يريدها أن ترتدي ملابسها، وأن تتصرف مثلها. إنه ذلك "الفكر" المتأصل داخله، الذي يرفض التعامل إلا مع نموذج المرأة من طبقته بسلوكياتها ومفاهيمها رغم احتجاجه المعلن على هذا النموذج أيضا وهنا سر أزمته: أي أنه لا يعرف ماذا يريد.. ولذا يظل على الهامش طيلة الوقت، عاجز عن اختراق المجتمع أو الاتصال مع الآخرين. غنهم جميعا في نظره يجسدون "التخلف".
هذه الفتاة "إلينا" هي نموذج يلخص تلك الحالة الجديدة المستعصية على فهمه.. "ابنة الشعب"، ولكن بدلا من محاولة النفاذ إليها وفهمها، يحاول سيرجيو تغييرها وشدها إلى عالمه، وفي زيارة إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي في هافانا، وتحول إلى متحف، تتجسد الهوة بين الشخصيتين. وتفشل علاقة الاحتواء المفترضة مع فتاة في السابعة عشرة من عمرها.
وتكاد مغامرته النزقة مع "إلينا" أن تؤدي إلى هلاكه، فأهلها يتهمونه باغتصابها، ويقولون إنها كانت عذراء عندما أغواها ودفعها إلىممارة الجنس دفعا، ويصل الأمر إلى القضاء، لكن القضية تنتهي بترئة سيرجيو الذي يعود لكي يستعيد لحظات علاقته الساخنة مع إلينا، وحيدا كما كان دائما، في حين تستعد كوبا لمواجهة تداعيات أزمة الصواريخ، وعلى شريط الصوت يأتينا صوت الرئيس الأمريكي كنيدي وهو يحذر ويهدد بضربة استباقية نووية، ثم كاسترو بالصوت والصورة، وهو يلقي كلمة يرفض فيها بشدة الخضوع للتهديدز في هافانا، في ليلة عاصفة، يتأهب الجميع، ويحسبون أنفاسهم.. تحسبا للخطة التالية.. وينتهي واحد من أعظم الأفلام في تاريخ السينما.

فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"

السبت، 30 مارس 2013

أفلام وكراسي: مرة أخرى!



هذا المقال البسيط الذي يحمل بعض التداعيات كتبته في هذه المدونة في إطار اليوميات من مهرجان روتردام
الدولي (وليس العربي سيء الصيت من فضلكم!) في 2009، ولعله لايزال صالحا اليوم..

غير أن المشكلة الأخرى التي تداعت عقب الانتهاء من مشاهدة هذا العمل الكبير، نتجت عن التفكير فيما فعلته كاميرا الديجيتال: فقد أنتجت خيرا وشرا في وقت واحد.
فإذا كانت كاميرا الفيديو الرقمية قد حررت السينمائي من ضغط الميزانية، وأتاحت أمامه فرصة لابتكار ما لم يكن ممكنا ابتكاره بسبب صعوبة حمل ونقل الكاميرا السينمائية واقتحام الكثير من المواقع بها، فقد أدى انتشار هذا النوع من الكاميرات أيضا إلى أن سقط الشرط الأساسي الذي يجب توفره في السينمائي، أي سينمائي، قبل أن يصبح سينمائيا معترفا به، هذا الشرط يتلخص في كلمة واحدة هي "الموهبة" التي ترتبط بالتأكيد بمساحة الخيال، والقدرة على استخدام لغة السينما، وطبعا لكي يعرف أي إمرء استخدام أي لغة عليه أولا أن يتعلم كيف يقرأها.
لكن المشكلة أنه بعد توفر كاميرا الديجيتال الرخيصة أصبح كل من هب ودب يعتبر نفسه مخرجا سينمائيا، وانتشرت بشدة ما يمكن أن نطلق عليه "أفلام الكراسي".
ما المقصود بأفلام الكراسي؟ الحقيقة أنني أقصد تحديدا كل ما يصور على شرائط من مقابلات مع شخصيات من هنا ومن هناك، أجراها مصور أو حتى مخرج (افتراضا) بالطريقة السهلة البسيطة أي أتى بكرسي وأجلس فوقه الضيف وأخذ يمطره بالأسئلة والضيف يجيب والمصور يصور.
وفي عملية المونتاج التي تعتمد تماما على "الفهلوة" يمكن ادخال بعض الصور واللقطات، من الحقول والشوارع والطبيعة الصامتة أو الناطقة، ثم يطلق صاحب هذا العمل عليه فيلما سينمائيا، ويقدم نفسه باعتباره مخرجا، ويظل يلف ويدور لمدة سنة كاملة على الأقل، على كل  المهرجانات السينمائية الدولية التي أصبحت تقبل كل هذا العبث متغاضية عن تهافته الفني وجرعة الملل التي تصيب المشاهد وهو يجلس أمام الكرسي، عفوا أقصد أمام الشريط الذي يحوي صورا متحركة، ويستمع إلى المحاضرة السخيفة عن أي شيء، من مشاكل البيئة إلى معنى الوجود، وسبب تريب المهرجانات يعود إلى ارتباط معظم هذه الأفلام بالحدث السياسي الساخن وهو لا يكفي بالضرورة لصنع فيلم جيد.
ولعل التليفزيون الذي يرحب بهذا النوع من المقابلات المصورة هو المسؤول عن انتشار ظاهرة أفلام ومخرجي الكراسي خصوصا في العالم العربي الذي انكسر فيه القيد عن الفن، فساح الفن وأصبح كل من هب ودب فنانا، وإذا تزوج شعبان البقال أيضا من "فنانة" يتم تعيينه على الفور "فنانا".. مع الاعتذار لعمنا الكبير الشاعر الصعلوك الأعظم أحمد فؤاد نجم صاحب قصيدة "شعبان البقال"!
مشكلة أفلام الكراسي أنها ليست أفلاما بل مقابلات مصورة، وأن مصوريها هم صناعها الحقيقيون كوثيقة للأرشيف أساسا، أي كمادة خام يمكن استخدام أجزاء منها في أعمال أخرى تماما مثل محفوظات دار الكتب، لكنها ليست أعمالا فنية، ولا تستحق أن تعرض في مسابقات بالمهرجانات السينمائية، فعلى أي شيء ستتنافس وكلها متشابهة. وكل من يزعمون أنهم مخرجون لهذا النوع من القطع المصورة يحتالون ويتحايلون على جوهر الفن السينمائي، أي ذلك السحر الخاص الذي يمنحه صاحب الرؤية للصور واللقطات التي يقوم بتركيبها معا وكأنه يولف مقطوعة موسيقية لها أول، ولها آخر، أما أفلام الكراسي فقد يكون لها أرجل تماما مثل الكراسي، لكن ليس لها أي دماغ.. فارحمونا من فضلكم أو خصصوا لهذا النوع من التحف الفريدة مهرجاناتها الخاصة واجعلوا شعارها الكرسي، الذي يجب أن يصطف صناع هذا النوع من الشرائط أمامه يوميا ليقدموا له الشكر الجزيل على استمرار وجودهم على قيد الحياة!

الاثنين، 18 مارس 2013

فيلم "الشتا اللي فات": شهادة سينمائية بليغة عن الثورة!



  


أمير العمري




لاشك أن فيلم إبراهيم البطوط "الشتا اللي فات"، ثالث أفلامه الروائية الطويلة، يعد أهم وأفضل ما ظهر من أفلام عن الثورة المصرية، سواء من ناحية الدقة والموضوعية والقدرة على التأثير إلى جانب براعة المستوى الفني والشمولية، دون أي شعارات أو إدعاءات، وبعيدا عن المبالغات الميلودرامية.. آفة الفيلم المصري المزمنة.
فيلم "الشتا اللي فات" ليس فقط رؤية بصرية مذهلة عن ذلك الغضب المشحون الذي ظل يتصاعد وصولا إلى انفجار الثورة في يناير 2011، بل وشهادة مؤثرة وبليغة عن "عصر التعذيب" وعن الرعب الذي يعيشة فيه المصريون الذين يتطلعون إلى نهضة بلادهم في ظل "الدولة البوليسية" منذ أكثر من ستين عاما، فتفكيك هذه الدولة القمعية لا يتم سوى من خلال سلطة ثورية حقيقية تدعمها الجماهير.


دقة هندسية
فيلم البطوط قائم على سيناريو متوازن مصنوع بدقة هندسية: ثلاث شخصيات: الناشط السياسي عمرو (عمرو واكد)، مذيعة التليفزيون فرح (فرح يوسف) وضابط أمن الدولة آدم (صلاح الحنفي).
يبدأ الفيلم بقبلة لا تكتمل بين عمرو وفرح.. ربما تكون في خيال عمرو.. فالحب بينهما لم يكتمل، ولاشك أننا سنعرف السبب من دون أن يصرح لنا الفيلم من خلال الحوار، فالحوار في الفيلم عموما ليس حوارا يشرح ويفسر بل حوار محدود المساحة، يهمس أكثر مما يصرخ، فالصراخ سيأتي من حوار من نوع آخر، هو الحوار بين أجهزة التعذيب التي يمارس من خلالها "عنف أجهزة أمن الدولة"، وبين أجساد الشباب المعتقل الهزيلة.
اليوم 25 يناير 2011.. يوم سيكون له شأن خاص في تاريخ مصر. بطلنا يفتح باب شرفة مسكنه لنكتشف أنه يقيم في شقة يواجهها حائط أصم، وكأنه سجين اختار عزلته بنفسه أو ربما فرضت عليه.
عمرو متردد، خائف، لا يريد أن يغادر المسكن ليرى ما سر كل تلك الحركة والهتافات والضجيج والمطاردات التي تحدث في الخارج والتي تتناهى إلى أسماعه. جاره يتحدث عن مظاهرة كبيرة في الطريق. عمرو يحبس نفسه داخل شقته، لكنه يراقب كل ما يحدث في العالم من خلال شاشة الكومبيوتر وشبكة الانترنت (هو مصمم مواقع وخبير بعالم الكومبيوتر والانترنت).. لكن السبب الحقيقي لهذه العزلة والوجل والتردد هو الخوف الذي جاء نتاجا لما مر به من تجربة خاصة مع السلطة.
إنه جالس، يشاهد عبر شاشة الكومبيوتر شريطا سبق أن سجله، يحوي شهادة شاب يروي قصة اعتقاله في مطار القاهرة ثم تعرضه للتعذيب بعد عودته من البوسنه حيث كان يقوم بتصوير الحرب التي كانت تدور هناك في التسعينيات.. إنها قصة شقيق ابراهيم البطوط التي أصبحت معروفة الآن، وما جرى له على يد شرطة أمن نظام مبارك عام 1996. والشخص الذي نراه على الشاشة هو الشخص الحقيقي.. وهو يتحدث عن الصعق بالكهرباء.. في مشهد ربما يكون أكثر مشاهد الفيلم امتلاء بالتأثير الدرامي: صوت وكأنه صوت قطارات الأنفاق التي تجري تحت الأرض، بكاء مكتوم.. الشاب يريد أن يصرخ وهو يتذكر ويروي قصته، لكنه عاجز حتى عن الصراخ. إن ألمه حقيقي تماما، فهو لا يؤدي دورا بل يسترجع حقيقة ما وقع له.

سنعرف بعد ذلك كيف اعتقل بطلنا عمرو قبل سنتين وتعرض للتعذيب القاسي في مشهد آخر من أقوى مشاهد الفيلم بسبب واقعيته ونجاح البطوط في إخراجه من الناحية التقنية واستخدامه للزوايا وأحجام اللقطات وتركيب اللقطات معا بحيث نجح في خلق إيقاع سريع يقدم للمشاهد في واقعية شبه تسجيلية، تفاصيل ما يحدث في غرف التعذيب القابعة تحت الأرض في مباني أجهزة الأمن.


أكاذيب الإعلام
لكننا الآن ما زلنا في 25 يناير. وننتقل إلى المذيعة- فرح- التي تقدم الأخبار والبرامج الإخبارية وتجري مع زميلها "تامر" المقابلات في البرامج الإخبارية التي يقدمها التليفزيون المصري. لكن التليفزيون لا يبث حقيقة ما يجري في الشارع، وعندما يستضيف فإنه يستضيف اثنين من كبار ضباط الشرطة، يقللان كثيرا من شأن ما يحدث، و ينصح أحدهما يضرورة قطع وسائل الاتصال كأفضل وسيلة للتغلب على المشكلة القائمة.
أما ضابط أمن الدولة (آدم) الذي يراقب من مكتبه البرنامج التليفزيوني فأمامه الكثير من العمل مع زملائه رغم استهانته الظاهرة من المظاهرات.
يستمر الفيلم لنرى كيف يتعامل الضابط مع رجل.. يفترض أنه شيخ من شيوخ المساجد، يبدو أنه "خرج عن الخط" ذات مرة، فام استدعاؤه إلى مقر أمن الدولة حيث يرغمونه هناك على شرب كميات كبيرة من الماء لكنهم يمنعونه من الذهاب إلى دورة المياه إلى أن يتبول على نفسه، كنوع من العقاب المخفف أو الإنذار كما يقول له الضابط حتى لا يكررها مرة أخرى!
تدريجيا ومع تصاعد أحداث الثورة.. تدرك فرح أنها تخون نفسها ورفاقها حينما تقبل أن تمارس لعبة الكذب التي يصر عليها زميلها تامر فتترك العمل وتنضم للثوار.
وعندما يعجز الضابط عن السيطرة على الموقف كما كان يتصور يقوم بإرسال أسرته إلى مسكنه الفخم في العين السخنة أي بعيدا عن القاهرة، ويوزع الأسلحة البيضاء على البلطجية لكي يتولوا ترويع المواطنين.
ونرى تصويرا جيدا واقعيا لكيفية تعامل الشباب مع الفوضى الأمنية عن طريق تشكيل مجموعات الحماية المدنية أو اللجان الشعبية، وكيف يحدث الصدام بين الشباب والبلطجية، وكيف تتعرض فرح وأحد زملائها الشباب لحادث ترويع وبلطجة.
كل هذه الأحداث التي ينسجها السيناريو ببراعة حول الشخصيات الثلاث، يتم تداخلها مع خطابات الرئيس السابق حسني مبارك الثلاثة التي يرفض فيها باستمرار أن يترك السلطة، مرددا وعود لا يصدقها أحد، وصولا إلى إعلان تخليه عن السلطة تحت الضغط الشعبي الهائل. وهنا تدخل الكاميرا للمرة الأولى إلى ميدان التحرير. فنحن لا نرى الميدان سوى في المشاهد الأخيرة من الفيلم.


تداخل الأزمنة
يعتمد البطوط في بناء فيلمه على التداخل بين الأزمنة: الحاضر والماضي والماضي القريب، والانتقال فيما بين هذه الأزمنة بسلاسة تامة وفي سياق مفهوم للمشاهد، حيث يمكنه الربط بين المشاهد المختلفة، وفهم دلالاتها في السياق.
عندما يطلب عمرو من بواب مسكنه أن يأتيه بكميات كبيرة من الأطعمة والسجائر نفهم أنه قرر أن يمكث في بيته لا يغادره وأنه يتحسب لاتساع نطاق المظاهرات الشعبية.
وعندما يقوم ببث شهادة المذيعة فرح عبر الانترنت وإخفاء الأسطوانة التي سجلت عليها الشهادة المصورة، نعرف أنه سيجلس بعد ذلك في انتظار الاعتقال. وهو يعتقل ويتم تعذيبه بالفعل مع مجوعة من الشباب في مشاهد مبتكرة منها ذلك المشهد الهائل الذي يصوره البطوط في مساحة كبيرة خربة مهدمة لا نعرف في أي مكان بالضبط يمكن أن توجد، مكان يستخدمه رجال أمن الدولة، حيث يضعون مناضد ومقاعد في صف طولي أي أمام بعضها البعض، ويجلس كل معتقل وأمامه مباشرة يجلس ضابط من ضباط أمن الدولة يستجوبه ويوجه له التهديدات والإهانات، وتتحرك الكاميرا تدريجيافي حركة "تراكنج" لتنتقل من المنضدة الأولى إلى الثانية حتى الأخيرة والتي نرى حولها عمرو والضابط الذي يستجوبه وآدم.. ضابط أمن الدولة المسؤول عنه مباشرة والذي أطلق سراحه من قبل بشروط. هنا تتوقف الكاميرا ويدور الحوار الذي ينتهي بصمود عمرو واستهانته بالضابط، لقد استرد قوته أخيرا وأصبح لا يهاب الموت.
عبارات الحوار في هذا المشهد طريفة وساخرة، والمشهد يجسد على نحو ما، سواء من حيث زاوية الكاميرا أو التكوين كيف أن المعتقلين الشباب أقوى من سجانيهم الذين يستجوبونهم!

طابع حداثي
يستخدم البطوط في فيلمه شاشات التليفزيون والكومبيوتر وكاميرا الفيديو كثيرا، مما يضفي طابعا حداثيا على الفيلم، فمصر 2011 ليست كمصر 1977.. عمرو يشاهد الكثير من الأحداث عبر الكومبيوتر وشاشة التليفزيون: الانترنت والأسطوانات وتسجيلات الفيديو القديمة، رغم أنه سجين في شقته تقريبا لخوفه من عاقبة التحامه بالشارع. وأسرة فرح تشاهد ما يحدث من مظاهرات عبر قناة تليفزيون بي بي سي. وضابط أمن الدولة يشاهد برنامج "قلب البلد" الذي كانت تعمل فيه فرح وهو في مكتبه، والشيخ المعتقل داخل غرفة أمن الدولة يشاهد الأخبار في التليفزيون من داخل امكتب الذي حبسوه فيه (تنقل أخبار التليفزيون الغارات الإسرائيلية على غزة) وحينها يتدخل الضابط ويدير مؤشر التليفزيون إلى قناة تبث أغنية. في القناة التليفزيونية نشاهد عبر شاشات غرفة التحكم صناعة الكذب على المشاهدين، وكيف يستعينون برجل يتصل تليفونيا من داخل القناة موهما جمهور المشاهدين بأنه يتحدث من ميدان التحرير حيث يقوم بتشويه الشباب المتظاهر على النحو الذي كان سائدا إبان تلك الأحداث. خطابات مبارك تظهر على شاشة التليفزيون. تستخدم فرح الكاميرا من فوق سطح إحدى البنايات لتصوير الشباب الذي يشارك في الثورة في أسفل.. في الشارع، كما تستخدم الكاميرا لتسجيل شهادتها (بدون مكياج)..إلخ
في الوقت نفسه يستخدم البطوط أسلوب كتابة تواريخ الأحداث على الشاشة أي التواريخ التي تعكس تطورات أحداث الثورة، إمعانا في تأكيد طابع الواقعية التسجيلية. وبوجه عام يمزج البطوط بين التسجيلي والروائي في فيلمه في بعض المشاهد بمهارة ودون أدنى إقحام. ولعله كما صرح، قام بتصوير جانب من أحداث الثورة- والفيلم، في ميدان التحرير في اليوم الذي سبق سقوط مبارك. ولاشك أن هذه المشاهد أضفت الكثير من الواقعية والصدق على "صورة" الفيلم خاصة وأن ظهور عمرو واكد فيها بدا مقعنا وطبيعيا.
إضاءة شقة عمرو خافتة الإضاءة، فهو منغلق على نفسه، كأنه يتفادى أن يراه أحد. يتوجس حتى عندما يسأله ابن جارته الطيبة عما يجري فيجيبه: لا أعلم. الأجواء أجواء خوف وقلق وترقب.
إضاءة مكاتب أمن الدولة وأقبيتها أيضا ذات إضاءة خافتة، وهو ما يتسق مع طبيعتها وطبيعة ما يجري في داخلها. ومصدر الضوء عادة محدود يحاكي الضوء الطبيعي، ولا توجد أي لقطة في الفيلم تضاء إضاءة ساطعة لتنوير الكادر على طريقة هوليوود التقليدية، ومشاهد الثورة ليلية في معظمها أي خافتة الإضاءة أيضا.. إنه ضوء الشتاء!
ويجسد البطوط مظاهر التعذيب بشكل واقعي تماما: تعليق المعتقلين من القدمين وضربهم بالأسلاك واستخدام الصدمات الكهربائية والاغراق في الماء.. وغير ذلك. وبذكاء شديد يصور البطوط إثنين من حراس السجن وهما يتناقشان حول: من منهما سيقبض الجمعية أولا، وفي مقابل هذه الحالة البائسة، يصور كيف تعيش أسرة آدم.. ضابط أمن الدولة، في رفاهية، تخدمها مربية فلبينية، وكيف يمتلك شقة فخمة وسيارة فارهة كما يمتلك ذلك الشاليه في منتجع العين السخنة على ساحل البحر الأحمر.
ولا ينتهي الفيلم نهاية سعيدة رغم أننا نعرف أن عمرو يعود إلى حبيبته فرح وربما سيتزوج الإثنان قريبا بعد أن توحدا معا في الثورة، فنحن نراهما معا على أحد جسور النيل في القاهرة وأمامهما كاميرا تصورهما على خلفية النيل معا. لكن هذه النهاية التي تبدو رومانسية هي في الحقيقة ليست كذلك، فنظرات الإثنين مليئة بالتوجس والحزن والقلق. القلق على مصير الثورة التي يقول لنا البطوط إنها لم تكتمل.

عن الإخراج
يبدو إبراهيم البطوط في فيلمه الثالث، أكثر خبرة ومهارة في التعامل مع الكاميرا برصانة، فهي تتحرك وقتما ينبغي أن تتحرك (لتعقب رجال الشرطة وهم يقومون بتفتيش شقة عمرو وتحطيم قطع الأثاث والأدوات الصحية بوحشية) ويعرف كيف يستفيد من الموسيقى (التي تعكس الترقب والتوتر والقلق والغضب) والمؤثرات الصوتية، ويخلق منها مع الصورة، إيقاعا متصاعدا سلسا رغم التداخل في الأزمنة كما أشرنا، كما يركز على استخدام اللقطات القريبة، ويمنح الممثلين مساحة للتعبير بتلقائية والاندماج معا وكأنهم يعيشون الحدث، في تناغم بديع. ولاشك أن وجود عمرو واكد في الدور الرئيسي في الفيلم ساهم في أن يأتي أداء الممثلين من حوله، ومعظمهم من المبتدئين أو الهواة، على كل هذا النحو من البساطة والعمق. أداء محكوم لا إفراط فيه في التعبير عن المشاعر.
صلاح الحنفي الذي اكتشفه البطوط بالصدفة في "الميدان" أي ميدان التحرير، قوة تمثلية كبيرة في دور ضابط أمن الدولة "آدم". ولاشك أنه سيواجه الكثير من الإغراءات مستقبلا للقيام بأدوار مشابهة عليه أن يفلت منها سريعا ويفرض نفسه بموهبته، كممثل غير نمطي.
فرح يوسف: ملائمة بطزاجة وجهها لدور المذيعة المتماثلة مع "النظام" رغبة في الصعود، شأن معظم فتيات البورجوازية الصغيرة في عالمنا، إلا أنها تحسم ترددها مع إدراكها بأنه "لم يعد في الإمكان أبشع مما كان" وأنه حان الوقت للانضمام للثورة مهما كانت العواقب!
في نهاية الفيلم تنزل معلومات دقيقة على الشاشة تضم أرقاما وأسماء: عدد الذين استشهدوا أمام ماسبيرو (حيث يوجد مبنى التليفزيون المصري) في المواجهات العنيفة مع الجيش، وكيف استشهد 286 شخصا خلال أقل من عام، وجرح 8469، وفقد 271 عيونهم، واغتصبت 27 ناشطة سياسية، ووقعت كشوف العذرية على بعضهن، وأنه لايزال هناك 12 ألف سجين مدني في سجون عسكرية طبقا لأحكام عسكرية... وأن "العد مازال مستمرا"- كما يقول العنوان النهائي.
 لقد تحررت الإرادة، وانطلق عمرو من محبسه لكي يشارك الجماهير إحساسها بالحرية، لكن اللقطة الأخيرة تشي بالترقب والتوجس، بانتظار القادم.. وهو ثقيل لكن عمرو فرح وأمثالهما مصرون على عدم التراجع.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger