الثلاثاء، 26 أبريل 2011

محمد خان ينتقد تقديم شريف عرفة ومروان حامد فيلمين من أفلام الثورة

انتقد المخرج الكبير محمد خان تواجد المخرجين شريف عرفة ومروان حامد ضمن قائمة العشر مخرجين الذين قدموا الأفلام القصيرة التي سيتضمنها فيلم "18 يوم" ، والذي يتناول في مجمله رؤى مختلفة اتجاه ثورة يناير ، وتقرر عرضه في مهرجان كان السينمائي الدولي هذا العام .
وكتب خان على موقع الدستور الأصلي تعليقاً على خبر اختيار الفيلم في كان قائلاً : "من حملة الحزب الملغى 2005والإشراف على مقابلة تليفزيونية للرئيس المخلوع وإعلانهم ان مجهوداتهم تطوعية وبدون أجر إلى تقديمهم الإثنان فيلمان عن الثورة من أجل عيون مهرجان كان... عجبي" .
مشيراً إلى قيام مروان حامد بتقديم حملة الحزب الوطني المنحل عام 2005 ، وقيام شريف عرفة بإخراج اللقاء التلفزيوني المطول الذي قام به الرئيس المخلوع حسني مبارك مع الإعلامي عماد الدين أديب قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة .
قبل أن يضيف خان في تعليق آخر بأنه ليس ضد أن يقدم أي شخص أي شيء ، ولكنه فقط ضد النفاق وضد السكوت عليه ، لأن السكوت ليس دائماً من ذهب .
إلا ان المخرج رفض المخرج شريف عرفة الهجوم الذي يشنه عليه البعض حالياً بسبب اشتراكه في إخراج اللقاء التلفزيوني الشهير "كلمة للتاريخ" بين الرئيس المخلوع حسني مبارك والإعلامي عمرو أديب ، حيث أكد عرفة أن هذا كان جزء من واجبه ولا شك أن اللقاء كان يتناول ويوثق فترة مهمة من تاريخ مصر ، وهو أمر يحسب له بلا شك .
ورفض عرفة في حواره مع جريدة الشروق فكرة "القوائم السوداء" للفنانين الذين وقفوا في صف النظام ضد ثورة الشعب ، ووصفها بأنها "كلام فارغ" لأن لكل منا أخطاء لا يصح أن تظل ملتصقة به إلى الأبد ، وأضاف : "من منا لم يقم بدفع مال لموظف ما حتى ينهى مصلحته سريعا أو استغل واسطة ما ليسهل ما يريده وأقول «من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»".

وعن فيلمه القصير الجديد الذي سيعرض في مهرجان كان ضمن فيلم "18 يوم" ، قال عرفة أن الفيلم يعبر عن مشاعره وما يريد قوله اتجاه تلك الثورة ، ويقع في خط فاصل بين الروائي والتسجيلي وهو عبارة عن مشاهد من الواقع لأبطال ووجوه جديدة ، وأضاف عرفة أنه انتهى من تصوير عدة أفلام قصيرة عن الثورة بخلاف الفيلم الذي سيعرض في كان ، وسيقوم بعرضها قريباً على قناة خاصة به على موقع اليوتيوب .
وعن احتمالية تقديمه لفيلم روائي طويل عن الثورة ، قال عرفة أن هذا ليس مطروحاً حالياً لأن الثورة لم تنتهِ بعد ، ولكنه يستعد فعلياً لتصوير فيلم "إكس لارج" مع النجم أحمد حلمي .

الخميس، 21 أبريل 2011

مهرجان كان السينمائي 2011- ملف خاص


كريستن دانسيت في فيلم "خبل" للارس فون ترايير

لجنة تحكيم المسابقة الرئيسية:
رئيس اللجنة: الممثل الأمريكي روبرت دي نيرو

أعضاء اللجنة:
* مارتينا جوزمان- ممثلة من الأرجنتين
* انسون شي- منتجة من هونج كونج
* أوما ثيرمان- ممثلة أمريكية
* لينا أولمان- كاتبة وناقدة أدبية من النرويج
* أوليفييه أسايس- مخرج من فرنسا
* جود لو- ممثل من بريطانيا
* محمد صالح هارون- مخرج من تشاد
* جوني تو- مخرج من هونج كونج


البرنامج الرسمي:
* فيلم الافتتاح: منتصف الليل في باريس- وودي ألين- الولايات المتحدة

* فيلم الختام: الأحباب الطيبون- كريستوف أونوريه (فرنسا)


أفلام المسابقة (20 فيلما):
* الجلد الذي أسكنه- بيدرو ألمودوفار (اسبانيا)
* أبولونيد: هدايا بيت التسامح- برتران بونيلو (فرنسا)
* باتر Patar- آلان كافالييه (فرنسا)
* طفل على دراجة- جان بيير ولوك داردان (بلجيكا)
* قيادة Drive- نيكولاس ويندنج ريفن (أمريكا)
* هاراكيري: موت الساموراي- تاكاشي ميكي (اليابان)
* حدث ذات مرة في الأناضول- نوري سيلان بيلج (تركيا)
* الهافر Le Havre- أكي كوريسماكي (فنلندا)
* اكتئاب Melancholia- لارس فون ترايير (الدنمارك)
* مايكل- ماركوس شلنزر (النمسا)
* بوليس Polisse- مايوين (فرنسا)
* الجمال النائم- جوليا لي (استراليا)
* أصل النساء- رادو ميهالينو (بلجيكا، ايطاليا، فرنسا)
* لابد ان يكون هذا هو المكان- باولو سورنتينو (ايطاليا)
* شجرة الحياة- تيرنس ماليك (أمريكا)
* لدينا بابا جديد Habemus Papam - ناني موريتي (ايطاليا)
* يجب أن نتكلم عن كيفن- لين رامزي- (بريطانيا- أمريكا)
* ملحوظة- جوزيف سيدار (إسرائيل)
* هانيزو نو تسوكي Hanezu No Tsuki- نعومي كاواسي (اليابان)
* الفنان- ميشيل هانافسيو (فرنسا)


الملصق الرسمي للدورة 64
 نظرة خاصة (19 فيلما)
* أريانج- كيم كي-دوك (كوريا الجنوبية)
* بونساي- كريستيان جيمينز (شيلي)
* يوم وصوله- هونج سانج-سو (كوريا الجنوبية)
* توقف بين المحطات- أرندرياس درسن (ألمانيا)
* من الشيطان- برونو ديمون (فرنسا)
* الصياد- باكور باكورادزه (روسيا)
* ثلوج كليمنجارو- روبرت جديجويان (فرنسا)
* ممارسة الدولة- بيير شوللر (فرنسا)
* طفل الحب- كاتلين ميتوليسكو (رومانيا، صربيا، فرنسا، السويد)
* مارتا مارسي ماي مادلين- شون ديركن (أمريكا)
* الآنسة بالا- جيراردو نارانجو (المكسيك)
* بدون راحة- جاس فان سانت أمريكا)
* أوسلو 31 أغسطس- جواكيم تريير (النرويج)
* حليق الرأس- أوليفر هيرمانوي (جنوب افريقيا، فرنسا ألمانيا)
* تاتسومي- إريك خو (سنغافورة)
* ترابالار كانسا Trabalhar cansa – جوليانا روخاس وماركو دوترا (البرازيل)
* توميلا Toomelah- ايفان سن (استراليا)
* إلى أين نذهب الآن؟- نادين لبكي (لبنان)
* البحر الأصفر- نا هونج- جن (كوريا الجنوبية)

خارج المسابقة (4 أفلام):
* الفنان- ميشيل هازانافيسيوس (فرنسا)
* الفتح- زافيير ديرنجيه (فرنسا)
* القندس The Beaver- جودي فوستر (أمريكا).
* قراصنة الكاريبي: في مياه غريبة- روب مارشال (أمريكا).

عروض منتصف الليل (فيلمان):
* ويو زيا Wu Xia- بيتر شان هو-صن (الصين).
* أيام المجد- ايفرادو جاوت (المكسيك).

من فيلم "موت الساموراي"
عروض خاصة (4 أفلام):
* لابرادور- فريدريك اسبوك (الدنمارك)
* معلم تزوير الجحيم- ريثي بانا (كمبوديا)
* ميشيل برتوشياني- مايكل ردفورد (ايطاليا، فرنسا، المانيا)
* كل شيء في لارزاك- كريستيان رواو (فرنسا).

مسابقة الأفلام القصيرة
* شبح- ما داسي (كوريا الجنوبية)
* ملابس السباحة- فانيس دستوب (بلجيكا)
* أنا سعيدة جدا- فلاديمير دوران _(الأرجنتين)
* دب- ناش ادجيرتون (استراليا)
* جرح الجسد- ليسا ماري جاملم (النرويج)
* رأس ميت- سام هوست (نيوزيلندا)
* هذا ليس شيئا- نيكولاس روي (كندا)
* رحم الأبوة- ميجوم يتازاكي (اليابان)
* صليب- مارينا فرودا (فرنسا)
=================================
نصف شهر المخرجين
 21 فيلما طويلا بالاضافة الى 14 فيلما قصيرا و4 أفلام روائية التي ستعرض عروضا خاصة.

قائمة الأفلام الطويلة:
 * بعد الجنوب- جان جاك جوفريه (فرنسا)
* تنفس- كارل ماركوفيتش (استراليا)
* طائر أزرق- جاس فان دن برج (بلجيكا)
* بوسونج- بالاوان دستان (الفليبين)
* شاتراك- فيمولكتي جافاسوندارا (الهند)
* الكود الأزرق- أورسولا أنطونياك (الدنمارك)
* كورنو سيلستي- أليس روهرفاشر (ايطاليا، سويسرا، فرنسا)
* ايلدفجال- رونار رونارسون (الدنمارك، أيسلندا)
* في المدينة- برتران شيفر (فرنسا)
* ما لا يغتفر- أندريه تشينيه (فرنسا)
* جين أسيرة- فيليب راموس( فرنسا)
* الرسوم- فيونا جوردون، دومنيك أبيل، برونو رومي (فرنسا، بلجيكا)
* نهاية الصمت- رونالد ادزارد (فرنسا)
*
لعمالقة- رولي لانرز (بلجيكا، فرنسا، لوكسمبرج)
* المنحدر الفضي أو أبيسمو براتيدو – كريم عينوز (البرازيل)
* لعب- روبين أستولوند (السويد)
* بوتوفوليو- اليخاندرو لاندز (كولومبيا، أوروجواي، الأرجنتين، فرنسا)
* العودة- ليزا جونسون (أمريكا)
* على متن السفينة- ليلى كيلاني (المغرب، فرنسا، ألمانيا)
* الجزيرة- كامن كاليف (بلغاريا)
* الجانب الآخر من النوم- ربيكا دالي (نيوزيلندا، المجر، أيرلندا)
من فيلم "بوليس" الفرنسي في المسابقة

أسبوع النقاد
يقام هذا الاسبوع على هامش مهرجان كان بالتعاون بين اتحاد نقاد السينما الفرنسيين واتحاد النقاد والصحافة السينمائية الدولي (فيبريسي). وتحتفل التظاهرة هذا العام بمرور خمسين عاما على تأسيسها (تأسست عام 1961).

فيلم الافتتاح: 
( إعلان الحرب- فاليري دونزيلي (فرنسا)
  فيلم الختام:  أيام العزوبية ولت- كاتيا لوكوفيتش
عرض خاص:  ابتعد يارينيه- جوناثان كاويت (أمريكا، فرنسا، بلجيك)
 فيلم الاحتفال باليوبيل الذهبي:  أميرتي الصغيرة- إيفا إيونيسكو (فرنسا)

 أفلام الأسبوع:
 1- زهور الأكاسيا- بابليو جيورجيلي (الأرجنتين)
2- أفيه Ave – كونستانتين بوجانوف (بلغاريا)
3- 17 ملفا- دلفين كولان وميوريل كولان (فرنسا)
4- ساونا في القمر- زو بنج (الصين)
5- العاهرة- هاجر بن عاشر (إسرائيل)
6- جرائم بلدة الثلج- جوستين كيرزيل (استراليا)
7- اتخذ لنفسك ملجآ- جيف نيكولس (أمريكا)
وبالإضافة إلى أفلام الأسبوع السبعة يعرض خلال التظاهرة عشرة أفلام قصيرة ومتوسطة الطول من البرازيل وكوريا الجنوبية ونيوزلندا وفرنسا وأمريكا وبلجيكا وأوروجواي.
======================================
مصر ضيف شرف مهرجان كان
أعلن جيل جاكوب رئيس مهرجان "كان" السينمائى الدولى وتيرى فريموه المفوض العام للمهرجان اختيار مصر ضيف شرف الدورة 64 للمهرجان، وذلك تحية لثورة 25 يناير التى كان لها صداها فى العالم وتغيير رؤيته للشعوب العربية، واختيار مصر كضيف الشرف هذه الدورة يعد تقليداًَ جديدا وللمرة الأولى فى تاريخ مهرجان "كان"، وسيستمر هذا التقليد فى الأعوام القادمة بأن تختار كل عام دولة ما لتكون ضيف شرف المهرجان.
وفي هذه المناسبة يعرض يوم 19 مايو بالمهرجان "كيوم مصري خالص" يعرض فيه فيلم (18 يوما) وهو عبارة عن عشرة أفلام قصيرة أخرجها عشرة من المخرجين البارزين والشباب حول "ثورة 25 يناير".
والأفلام العشرة هي (احتباس) لشريف عرفة و(داخلي / خارجي) ليسرى نصر الله، و"تحرير 2 - 2" لمريم أبو عوف و(19- 19) لمروان حامد و(لما يجيك الطوفان) لمحمد علي و(خلقة ربنا) لكاملة أبو ذكري و(حظر تجول) لشريف البنداري و(كعك التحرير) لخالد مرعي و(شباك) لأحمد عبد الله و(حلاق الثورة) لأحمد علاء.
كما يعرض أيضا الفيلم المصري (البوسطجي) الذي أخرجه عام 1968 حسين كمال عن قصة للكاتب يحيى حقي ويعد الفيلم من كلاسيكيات السينما المصرية في قسم كلاسيكيات كان.
ومن المقرر ان تشارك مصر بوفد يراسه وزير الثقافة عماد أبو غازي. ومن المنتظر أن يشارك في المهرجان مجموعة من نجوم السينماالمصرية منهم عمر الشريف ويسرا وإيناس الدغيدي ومحمود عبدالعزيز وإلهام شاهين وعزت أبو عوف وخالد النبوي ومني زكي وهند صبري وخالد أبو النجا. كما يشارك مخرجو الأفلام القصيرة العشرة. وستتكفل وزارة الثقافة بتكاليف سفر الوفد.
=====================================
السعفة الذهبية الفخرية لبرتولوتشي
ابتداء من دورة 2011، سيقوم منظمو مهرجان كان السينمائي بتسليم جائزة السعفة الذهبية الفخرية الى المخرج الإيطالي الكبير برناردو برتولوتشي خلال حفل الافتتاح.
برتولوتشي مخرج بارز صاحب إنجازات متميزة ولكن لم يسبق أن حصل أي من افلامه الحصول على السعفة الذهبية. وكان رئيس المهرجان جيل جاكوب قد سلم في الماضي القريب كلا من وودي ألين سنة 2002 وكلينت إيستوود سنة 2009 هذه الجائزة الفخرية بالنيابة عن إدارة مهرجان كان السينمائي. وقد أصبح ذلك تقليدا حيت ستسلم الجائزة سنويا في افتتاح المهرجان.
قدم برناردو، ابن الشاعر أتيليو برتولوتشي، للسينما الإيطالية أفلاما حميمية مميزة كجداريات عملاقة: ابتداء بفيلم Prima Delle Revoluzione "قبل الثورة" (1964) وانتهاء ب Novecento أو (1900) سنة 1976، مرورا بفيلم Conformiste "الممتثل" سنة (1970) و Dernier Empereur"الامبراطور الأخير" (1987). وقد جعلت كل من مشاركته السياسية والاجتماعية ، من خلال عمق غنائي و إخراجه الدقيق والمتميز، أعماله تحضى بمكانة فريدة في تاريخ السينما العالمية.
وقد صرح كل من رئيس المهرجان جيل جاكوب والمندوب العام تييري فريمو بأن:"جودة اعماله الفريدة والمتألقة تتجلى لنا يوما بعد يوم، كما ان التزامه بالسينما والروابط التي تربطه بكان، جعلت منه أول متلق شرعي للجائزة".
ومن المقرر أن يتم تسليمه السعفة الذهبية الفخرية يوم 11 مايو خلال حفل افتتاح الدورة الرابعة والستين من مهرجان كان بحضور لجنة التحكيم التي يترأسها روبرت دي نيرو الذي قام بدور البطولة في فيلم "1900" Novecento.

الأربعاء، 6 أبريل 2011

تجربة مايك لي في فيلم "تعرية"





بقلم: أمير العمري


بعد ما حققه فيلم "الحياة حلوة" Life is Sweet لمايك لي من نجاح كبير، جاء فيلم "تعرية" Naked إلى مهرجان كان السينمائي عام 1993 لكي يرسخ موهبة مخرجه ومؤلفه.
وأظن أن "تعرية" هي أفضل ترجمة لإسم هذا الفيلم البديع، فالمقصود ليس الإشارة إلى العري بالمعنى الجسدي لكي تصبح الترجمة "عاري" بل الإشارة إلى تعرية الواقع، وكشف الحقيقة، وبالتالي هو يقصد التعرية بالمعنى الاجتماعي الشامل.
وقد جاء الفيلم بمثابة "نقلة" كبيرة في المسيرة الفنية الإبداعية لمخرجه مايك لي، صاحب الرصيد البارز في المسرح الإنجليزي والتليفزيون، بالاضافة إلى أفلامه الروائية الثلاثة التي سبقت هذا الفيلم، وكعمل كبير لا يتوصل إلى تحقيقه سينمائي إلا بعد سنوات طويلة من البحث الشاق، النظري والعملي، في الدراما والشكل السينمائي، حتى يمكنه تحقيق أسلوب خاص مميز هو ما سيطبع كل أفلامه بعد ذلك حتى يومنا هذا.
وكما كان فيلم "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man للمخرج البريطاني ليندساي أندرسون قمة ما وصل إليه مخرجه في 1973، يمكن القول إن "تعرية" – ليس قمة أفلام مايك لي، فسيصل إلى تلك القمة فيما بعد، في تحفته الكبرى "عام آخر" Another Year بعد 17 عاما، وإنما بداية الطريق الحقيقي نحو القمة. إنه شهادة بصرية هائلة عن الواقع البريطاني، وعمل يكشف عن أسلوب مميز لا يحاكي أسلوبا آخر مما سبقه.
إن "تعرية" فيلم واقعي، ومضاد للواقعية في آن. إن أساسه هو ذلك البطل الفردي، ولكنه البطل- اللابطل، أو البطل النقيض anti-hero الذي يخوض تجربة تنتهي به إلى الهزيمة. وهو فيلم عن لندن: المدينة والبشر، بل أحد أهم ما ظهر من أفلام عن تلك المدينة التي تخفي أكثر مما تظهر، لكنه أيضا فيلم عن الدنيا الواسعة، وعن الإنسان في كل مكان، في أرجاء ذلك العالم الجديد الذي اضطربت أركانه واعتزت أسسه وتضاءلت معالمه.
إنه رحلة داخل رحم مجتمع شديد التعقيد، لكنها رحلة قد تنتهي إلى ولادة الجديد أو إجهاضه، إلى تقدم الإنسان ونجاحه في تجاوز محنته، أو اندثاره ككائن لديه القدرة على ترك ما يشهد على ابداعاته وإضافاته الخلاقة إلى الطبيعة.
والطبيعة في هذا الفيلم حزينة، شاحبة. ورغم أنه مصور بالألوان إلا أن صورة الواقع المعاصر التي نراها هي صورة أقرب إلى الوحات التجريدية المرسومة بالأبيض والأسود. وإذا كان الأداء التمثيلي – كما في كل أفلام مايك لي - أحد العناصر الرئيسية التي تساهم في تكثيف دراما الانهيار الاجتماعي، والسقوط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، والتدهور الثقافي، إلا أن الضوء الذي يحدد لنا معالم الصورة ويتحكم فيما يصل إلينا من خلالها، هو أيضا عنصر أساسي في أفلام هذا المخرج الموهوب.

ومن الممكن رصد مصادر الرؤية في فيلم "تعرية" في المسرح والأدب والفلسفة العدمية والتشككية cynicism جنبا إلى جنب مع أفكار أخرى مثل فكرة الحلم وإجهاض الحلم، وعلى صعيد الشكل، يعلي كايك لي هنا كثيرا من دور الكاميرا المهتزة التي تعكس عبثية المنظور، وهي رؤية سادت السينما الأخرى منذ تجارب المصور الفرنسي راؤول كوتار في أفلام الموجة الجديدة الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأشهرها فيلم بلاشك، "على آخر نفس" لجان لوك جودار.

إن "تعرية" في عبارة واحدة، هو امتداد مفتوح على أفق التسعينيات، لكل من "تكبير" Blow Up لأنطونيوني من الستينيات، إلى "يالك من رجل محظوظ" لأندرسون من السبعينيات.

البطل هنا، ويدعى "جوني"، هو شاب في السابعة والعشرين من عمره، ليس ثائرا ولا متمردا على قوانين المجتمع كما كان بطل "البرتقالة الآلية" The clockwork Orange لستانلي كوبريك مثلا، فهو لا يسعى إلى الثورة أو التمرد من أجل التمرد، كما أنه لا يتباكى على فشل ثورة مايو 1968 التي تم تدجين أبطالها واستيعابهم في إطار "النخبة" السائدة، بل هو في الحقيقة ابن التسعينيات، الذي ارتضى السقوط، عن وعي وعن يقين، مدفوعا بموقف كلبي، لا مبالي، يكاد يكون منبت الصلة بعالم السياسة، وهو يندفع نحو مصيره بثبات دون أن يلتفت أبدا خلفه. إنها طاقة التدمير الذاتي المخيفة بعد جفاف الثورة، وسقوط الأيديولوجيا.

"جوني" نتاج لمجتمع البطالة، على العكس من بطل أنطونيوني في "تكبير" الذي كان نتاجا لمجتمع الوفرة في الستينيات. وهو أيضا نتاج للتشرد والحرمان والتهميش وانهيار القيم الطبقية القديمة في حقبة مرجريت تاتشر وما بعدها، حيث انتفى الحلم في الصعود اعتمادا على "الموهبة" أو الجدارة وحدها، وأصبح يتركز في القدرة على التلاعب والغش والاندماج في لعبة الفساد الاجتماعي.

إن جوني شاهد ومشارك في آن. هو إذن يجمع بين المتناقضات: العفونة والانتهازية التي لا يسعى لتبريرها، والرثاء الرقة والعاطفة التي يحاول في معظم الأحيان، إخفاءها. وهو لا يبرر، بل يمنطق الأشياء بمنطق المثقف، فقد كان في الماضي معلما، لكنه هجر التعليم لإحساسه الشخصي بالعبث.. عبث الواقع، لكنه اللامنتمي "الكلبي" وليس اللامنتمي المتفلسف ففلسفته تبرر كل شيء رديء. وقد قرر أن ينحدر طواعية الى الدرك الأسفل عن طريق الإغراق في الجنس والمخدرات وغشيان العالم السفلي حيث يجتمع الهامشيون والمنبوذون من جيل الشباب الذ اختار القطيعة مع الواقع.

يبدأ الفيلم بجوني في إحدى أزقة مدينة مانشستر مع بائعة هوى قبيل انبلاج الفجر، يمارس معها ساديته العنيفة التي تشي بطبيعة تكوينه المضطرب، حتى تكاد المرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلا أنها تتمكن من ضربه ثم الإفلات منه والنجاة بنفسها مهددة متوعدة. ويقرر "جوني" أن يغادر المدينة بأسرها فرارا مما قد ينتظره من مشاكل محتملة. إنه يسرق سيارة ويقودها الى لندن، العاصمة الفسيحة التي يتوه فيها النهار في أحشاء الظلمة.

وفي لندن يلتقي جوني بصديقته السابقة ورفيقتها في السكن. وتجذبه هذه الفتاة الأخيرة بضياعها واستعدادها الواضح للانسياق معه في نزواته الغريبة، فهي مثله، تشعر بقسوة الدمار الداخلي وتسعى إلى مده على استقامته.

ترتبط الفتاة به وتلتصق به كظله، ويمارس الاثنان معا التدهور بشتى صوره وأكثرها قسوة وإغراقا في العنف إلى أن يشعر جوني بوطأة الفتاة واثقالها عليه فيهجرها دون أن يهجر المسكن الذي يعود في الواقع إلى ممرضة ذهبت في رحلة طويلة إلى افريقيا.

يترك جوني العنان لنفسه، كبطل تراجيدي يسعى تجاه مصيره، لا تحركه الأقدار العاصفة بل طغيان الإحساس بالدمار. وهو يلتقي بعد ذلك بشاب شبه مختل عقليا جاء من اسكتلندا، وأصبح ضائعا في فراغ لندن، يبحث عن صديقة له تدعى "مرجريت" طيلة الوقت، ثم يلتقي جوني حارسا ليليا يؤدي عملا روتينيا في إحدى الشركات، ويقضي معظم الوقت في القراءة، أو في التلصص على امرأة في خريف العمر، ترقص وحدها وتتعرى في غرفتها ليلا. وينتهي حوار بين جوني والحارس الليلي الى انهيار قناعات الرجل تماما فيسلم قياده إلى جوني، أي أن منطق البطل النقيض anti-hero يفرض هنا نفسه بشكل سحري، على كل من يلتقي بهم "جوني" من الشخصيات اللندنية المهزومة سلفا، باستثناء شخصية واحدة لا يمكنه أن يفرض إرادته عليها هي صديقته السابقة "لويز" التي تشعر بالرثاء له، وتحاول باستمرار رده الى ذاته واستعادته إلى حقيقة نفسه، كما تسعى لاستعادة ما كان بينهما من حب. وفي اللحظة التي تتصور أنها قد نجحت في سعيها تكون الخيوط قد أفلتت بشكل نهائي من بين يديها. تجتمع جماعة من الشباب حليق الرءوس، يوسعون جوني ضربا، فييكسرون ساقه، ويستولي هو على بضعة جنيهات من منزل لويز ويغادر المنزل وهو يسير بصعوبة بالغة، حيث يترك نفسه في شوارع لندن المقفرة الباردة، يتجه صوب لاشيء، نحو المجهول.

يعتمد هذا الفيلم في المقام الأول، على البناء المحكم للشخصيات، وبالتالي على عبقرية الأداء التمثيلي لمجموعة الممثلين وفي مقدمتهم الممثل ديفيد ثيوليس في الدور الرئيسي.

في الفيلم شخصية شديدة الأهمية لشاب ينتمي للطبقة الوسطى الميسورة، يجسد مايك لي من خلاله، ما بلغته هذه الطبقة من تدهور واغراق في الملذات الحسية بشتى الطرق وأكثرها تطرفا وشذوذا، دون أن تبالي بما يحدث حولها. لقد أصبحت جزءا من ذلك التدهور وكأنها تسير نحو نهايتها.

هذا الشاب، الذي يدعى سباستيان، يغشى الحانات والمطاعم الفاخرة، يتمكن بوسامته وبما يملكه ويبعثره من مال، من إغواء أي فتاة جذابة تقع عليها عيناه: من الساقية، إلى أخصائية التدليك، وهو يذهب في تطرفه إلى درجة أن يقرر في النهاية أن يسيطر على مستأجري المنزل الذي يملكه، فيذهب الى المنزل حيث يقيم جوني مع لويز ورفيقتها، ويحاول إغواء الفتاتين، ويعرض على إحداهن مالا، وتقبل هي بسبب عزلتها وانسحاقها وإحساسها الواضح بالانسحاب من الحياة. ومقابل ذلك يمارس معها ما يشاء من شتى أنواع الشذوذ السادي المريض إلى أن توشك على الانهيار. لكنه يتشاجر مع لويز فيقرر البقاء في المنزل والاستيلاء على الشقة التي تقيم فيها الفتاة، ولا تنجح كل محاولات الفتاتين في اخراجه من تلك الشقة إلى أن تعود فجأة صاحبة الشقة من رحلتها الافريقية.

هذه المرأة ممرضة لاتزال تتمسك بتقاليد الطبقة الوسطى، وتتخيل أن المجتمع الذي تركته قبل غيابها لسنوات باق على ما كان عليه، غير مدركة لما وقع من تدهور سريع. إنها تفاجأ بانهيار النسق القديم بفعل ما تلحظه داخل مسكنها نفسه من مفارقات وطبيعة ما أصبح يضمه من شخصيات غريبة، انتهت علاقتها بالحياة الواقعية فأغرقت نفسها في الخيال المريض، يسعون جميعا لستر إحساسهم بالرعب الاجتماعي عن طريق الإغراق في الجنس في أدنى صوره.

ويعبر مايك لي من خلال السيناريو المتميز الذي كتبه، عن صدمة الفتاة بأن يجعلها، ليس فقط عاجزة عن القيام بأي تصرف إيجابي، بل وعاجزة عن نطق الكلمات التي اعتادت عليها على نحو صحيح.. الأمر الذي ينتج عنه اضطراب لغوي مثير للضحك.

ويتحكم مايك لي في الأسلوب الواقعي الصارم الذي يصل في الكثير من المشاهد الخارجية إلى الواقعية التسجيلية، بتركيزه على أدق التفاصيل في الواقع. ولكن الواقعية هنا تخرج بشكل ما، عن نسق الواقعية القديمة، ففي سياق الفيلم، وعلى الرغم من كثرة مشاهد العنف، تظل هناك لمحات شاعرية خاصة من خلال التصوير الذي يضفي غلالة ضبابية خاصة على لقطات الليل والنهار، وهي غلالة تضفي أيضا إحساسا بالاختناق وكأننا نغرق داخل أحشاء مدينة جهنمية لا يعرف من يدخلها أنها ستبتلعه.

ويساهم الطابع التجريدي للصور التي تقترب من الأبيض والأسود، في كسر حدة الواقعية وإضفاء لمسات جمالية خاصة، نشعر بها ونحسها، دون أن تنحرف بأنظارنا عن متابعة الشخصيات. إنها الواقعية الشاعرية التي تتجسد من خلال الكثير من الإشارات الكامنة داخل الصور، والتي تنتج عنها علاقة ذهنية وثيقة بالواقع الاجتماعي والانساني دون أن تكون الصور مباشرة في دلالاتها.

وكما في كل أفلام مايك لي، رغم قتامتها وعنفها وقسوة ما تعيشه الشخصيات، هناك الكثير من اللحظات والمواقف الضاحكة التي تنبع الكوميديا فيها من التناقضات في السلوك، والافراط في التعبير عما يجيش في الصدور، والمبالغة في تصوير الإنسان داخل المأزق الإنساني، ومحاولاته الإفلات من مصيره دون نجاح يذكر.

إنها رحلة "أبوكاليبسية" تجمع في طياتها بين أشياء كثيرة: الفرد والمجتمع والطبقة والقيم الجديدة- القديمة، الضحك والبكاء والمرض والإيذاء البدني والنفسي (ولكن بعيدا عن منطق التحليل النفسي الدرامي).. أو هي تجمع ببساطة، بين البدء والمنتهى، في صيرورة حتمية.

ربما نشعر في النهاية أن العالم ينهار بفعل قوة سحرية خارقة، لكن مايك لي يؤكد أن انهياره ناتج أساسا، عن انهيار الإنسان، وأن الإنسان سيتمكن من بدء مسار جديد إذا ما استيقظ من غيبوبته التي استسلم لها طواعية، وهو ما يجعل من "تعرية" رغم كل تشاؤمه، عملا متفائلا يشعل بالأمل في مستقبل افضل.


الاثنين، 28 مارس 2011

"زمن الترسو": فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"


((هذا فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"- تأليف امير العمري، الصادر أخيرا عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، وهو احدث كتب المؤلف)).

عرفنا السينما، عندما كنا أطفالا وصبيانا صغارا في مقتبل العمر، أنا وأبناء جيلي، في "الترسو"، أي في الجزء الأمامي من صالات دور العرض الشعبية. فقد كانت "الصالة"، أو الجزء الخلفي من دار العرض، و"البلكون"، أي الجزء العلوي منها، لا يجلس فيه عادة سوى أفراد الأسر أو الكبار الذين يترددون على السينما بمعدل معقول، وليس مثلنا نحن الذين كنا نغشاها باستمرار، أحيانا فرارا من حصص الدروس الثقيلة التي لم تكن هناك ضرورة لها من وجهة نظرنا. ورغم الانسجام الشخصي مع الدراسة بشكل عام، إلا أن هذا لا يمنع من الإحساس بوجود دروس ثقيلة على النفس في مرحلة معينة، عندما بدأت المدارس "بقرار سياسي" مثلا، في تدريس ما أطلق عليه إبان العهد الناصري "ميثاق العمل الوطني"، فقد كنا نراه مليئا بالشعارات العامة التي لا نفهمها لأننا، بكل بساطة، لم نكن نستطيع أن نلمسها في الواقع.
لم يكن هناك في ذلك الوقت، لدى أي منا، أي موقف معارض لنظام عبد الناصر، فقد كنا أصغر من أن نستطيع أصلا الحكم على ما كان يجري على الساحة السياسية، بل على العكس، كنا نحب عبد الناصر حبا شديدا جارفا، ونؤمن إيمانا لا يتزعزع بقدرته على الإتيان بالمعجزات لمصر، وكان لدينا شعور غامر بالعزة الوطنية، خصوصا عندما كنا نستمع إليه وهو يلقي خطاباته الشهيرة التي كان يردد فيها كلمات تدغدغ حواسنا، بل وتهزنا هزا، وتشعرنا أن المستقبل أمامنا، ينتظرنا، ويدخر لنا مصيرا عظيما في بلدنا، ألم يكن عبد الناصر هو صاحب المقولة الشهيرة "إن هذا الجيل جاء في موعده مع القدر". ورغم أنه كان يقصد الإشارة إلى جيله هو، الذي صنع ثورة 23 يوليو، فقد كانت العبارة تطربنا أيضا، وتوحي لنا بأنه يقصد جيلنا، الجيل الصاعد الذي غنى له عبد الحليم حافظ أغنيته الشهيرة.
كنا نشعر ونحن نستمع إلى خطابات "الزعيم" بأنه يخاطبنا شخصيا، يوجهنا، يبثنا أفكاره وأشجانه، ويدفع فينا الروح الوطنية، والرغبة في الفداء والتضحية من أجل الوطن. كان عبد الناصر، دون شك، زعيما جماهيريا يمتلك "كاريزما" خاصة، ومشروعا سياسيا طموحا، ويحلم باستعادة أمجاد العرب القديمة، لكن الأخطاء أيضا كانت كبيرة.
صحيح أننا، ونحن أطفال، كنا نعيش في زمن عبد الناصر بشموخه، لكننا كنا نعيش أيضا، أحلى سنوات الحلم من خلال السينما، فقد كنا نعيش زمن "الترسو" الذي كنت أعتبره "عالما" قائما بذاته. كان جمهوره عادة من أولاد وشباب من أبناء الطبقة العاملة، وتلاميذ المدارس من أبناء الطبقة المتوسطة، وبعض الخادمات، اللاتي كان لديهن ميل واضح إلى التردد على الأفلام العاطفية والكوميدية بوجه خاص، وأتذكر ذلك بوجه خاص، لأن واحدة من تلك الخادمات، وكانت تدعى "جمالات"، كانت تتردد على منزلنا، لأغراض التنظيف الأسبوعي وقضاء بعض الحاجيات، وكانت، وهي تعمل في تنظيف الأرضيات والسجاجيد، لا تتوقف عن سرد قصص الأفلام بالتفصيل، وكنا نستمع إليها في انبهار، فقد كانت تمثل وهي تروي، وتجيد محاكاة الممثلين والممثلات، وعندما كانت تصل إلى سرد موقف عاطفي مثير، كانت أحيانا تبكي بالفعل، ولاشك أن تأثير "جمالات" علي وأنا بعد صبي صغير، كان عظيما، فقد أثارت خيالي، وجعلتني أحب السينما، لدرجة أنني كنت أترجى أمي أن تسمح لي بالذهاب إلى السينما مع هذه المرأة التي لم نكن نعتبرها مجرد "خادمة" بل واحدة من أهل البيت. وكانت جمالات تصطحبني معها أحيانا إلى عروض الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد أن تكون قد انتهت من أشغال البيت عندنا. وكنا نجلس في "الترسو" بطبيعة الحال، وكانت تأتي معها ببعض حبات البطاطا الساخنة الشهية، والذرة المشوي، وكان تناول هذه المأكولات داخل السينما، من أجمل وأشهى ما يمكن ونحن نشاهد أفلاما مثل "شارع الحب" و"البنات والصيف". وكنت أفاجأ بأن هذه المرأة معروفة جيدا للكثير من رواد الترسو في دور العرض الشعبية التي كنا نتردد عليها، وكان الكثيرون يلقون إليها بالتحية، وكانت نموذجا مجسدا لبنت البلد التي تتميز بـ"الجدعنة" والذكاء وخفة الظل، ولم تكن متزوجة، وكانت بالتالي مطمع الكثير من الرجال، ومنهم من كان يعرض عليها الزواج بمنتهى البساطة، بشكل عابر عندما يرونها في دار السينما، وكانت هي تضحك وترد بنوع من الدلال قائلة "ده بُعدك"!
كان طعم "الترسو" يختلف بالطبع تماما، عن عالم "الصالة" و"البلكون" حيث كنت أتردد عادة في صحبة الأسرة في أوقات أخرى. ولازلت أتذكر أن من أوائل الأفلام التي شاهدتها وأنا طفل صغير، فيلم "غزل البنات". وكان يسبق الفيلم بث أغنية "عاشق الروح" تلك الملحمة الغنائية الرائعة التي تألق فيها محمد عبد الوهاب، واتضح فيما بعد، أي بعد مشاهدة الفيلم، أن عبد الوهاب كان يظهر بنفسه في الفيلم لكي يغني تلك الأغنية العبقرية الفريدة في موسيقاها (الشبيهة بالموسيقى الأوبرالية) باستخدامه المميز للكورس الذي يردد خلفه، وكانت مشاهدة عبد الوهاب للمرة الأولى على الشاشة في عمر مبكر جدا، أمرا خارقا من وجهة نظر طفل صغير. ولم أكن قد لحقت بالطبع بأفلام عبد الوهاب الغنائية الشهيرة التي قام ببطولتها وعرضت في الثلاثينيات والأربعينيات مثل "الوردة البيضاء" و"رصاصة في القلب" و"يوم سعيد" وغيرها من الأفلام التي لا تنسى أبدا، والتي شاهدتها مرات ومرات بعد أن بدأ التليفزيون فيما بعد، يعرضها باستمرار من وقت إلى آخر.


أما أكثر الأفلام جاذبية لجمهور الترسو فكانت تلك التي يقوم ببطولتها "ملك الترسو" بلا منازع، فريد شوقي. وكنا نستمتع أكثر وأكثر، عندما يكون أمامه في دور الشرير، الممثل الفذ محمود المليجي. والغريب أننا كنا نحب محمود المليجي كثيرا جدا رغم أنه كان يقوم عادة، بأدوار الشرير: القاتل والمخادع والمحتال. وكان جمهور الترسو، عموما، يحبه ويحترمه. وقد فكرت طويلا في السبب، وتوقفت أمام هذه الظاهرة الغريبة التي لم تكن معتادة، ففي العادة كان الجمهور، ولايزال، يتماثل مع البطل: المظلوم، المضطهد، الطيب القلب، الشجاع، الذي يعول أسرة، أو يبحث عن المال لإجراء عملية جراحية تنقذ ابنته الصغيرة من العجز أو المرض العضال، وقد تُورطه ظروفه وتجعله يقع ضحية لعصابة من الأشرار (يكون زعيمها بالضرورة هو محمود المليجي). وكان يقوم بدور البطل في الغالب، فريد شوقي، أو شكري سرحان.

أما أن يتعاطف الجمهور مع البطل، وفي الوقت نفسه ينظر بإعجاب إلى "الشرير" الذي يمثله محمود المليجي تحديدا، فهو أمر يستحق أن نفهمه. وما توصلت إليه هو أن جمهور "الترسو" كان يذهب إلى السينما لكي "يتفرج" على "فريد شوقي" و"محمود المليجي"، أي على هذين الممثلين العملاقين وهما يؤديان، أو يشخصان، أو يقومان بدورين، ويعرف الجمهور مسبقا أنهما "يمثلان"، أو يتقمصان دوريهما على الشاشة، كما لو كانا يشتركان معا في "لعبة" مسلية، يثق الجمهور أيضا في أنها ستنتهي بانتصار البطل الطيب على المجرم الشرير. ورغم هذا، كنا في "الترسو"، نشعر دائما بالإثارة والترقب، بل وننفجر أيضا في عاصفة من التصفيق عندما يقوم البطل بضرب الشرير ويتغلب عليه، أو عندما يتمكن البطل من إنقاذ ابنه الذي اختطفته العصابة، أو تخليص حبيبته من بين أيدي رجال زعيم العصابة، بينما كنا نستاء عندما تحضر الشرطة، كالعادة، في اللحظة الأخيرة، لكي تقبض على المجرم وأفراد عصابته، فقد كان ما تفعله الشرطة بالنسبة لنا نحن جمهور الترسو، نوعا من "تحصيل الحاصل"، في حين أن "البطل" أو "الشجيع"، أو تحديدا فريد شوقي (وحش الشاشة) يكون قد قام بالواجب كله على أكمل وجه قبل وصول الشرطة.

كان أساس الإعجاب هنا، أننا كنا نشاهد عرضا ممتعا. صحيح أننا نندمج مع أبطاله، لكننا نعلم مسبقا أننا سنشاهد "المليجي" وهو يلعب لعبة جديدة يتظاهر فيها بالشر، وأننا سنرى فريد شوقي يمثل علينا دور البطل الخارق الذي ينهض من العدم لكي يستعيد حيويته وطاقته، ويستعين بالله (كان كثيرا ما يردد لازمة كلامية شهيرة هي "ياقوة الله..." قبل أن يسدد ضربة موجعة إلى عدوه الشرير)، أو يحاول في البداية التظاهر بأنه رجل لا يريد اللجوء للأذى والعنف عندما يرمي خصمه بنظرة تحذير فيها الكثير من الطيبة والوداعة، ويقول له "الطيب أحسن"، ثم يعاجله بلكمة قوية تسقطه أرضا، أو وهو يحلف بـ"شرف أمه" أنه سينتقم من الأشرار، أو يردد القسم ذاته قبل أن يقوم بعملية غير قانونية، كأن يشترك مع العصابة في عملية سطو مثلا ويتعهد لهم بأنه سيحرص على نجاح العملية "بشرف أمه"، في حين نعرف نحن جمهور الترسو أنه يضحك عليهم بالطبع، وأن موضوع "شرف أمه" مجرد عبارة لا معنى لها في الواقع، مجرد خدعة. وقد اشتهر فريد شوقي أيضا بعبارته الشهيرة التي كان يوجهها إلى الشرير في الكثير من أفلامه الشعبية وهي: تصدق وتآمن بالله يامعلم؟ فيرد المعلم في عفوية: لا إله إلا الله يابني. هنا وبكل برود يرد فريد بقول: حلو.. مادام اتشهدت على روحك يبقى خد"، ويعاجله بلكمة قاسية ثم يهرب، ويجن جنون جمهور الترسو من السعادة بالطبع، فـ"الملك" لا يمكن أن يُهزم أبدا. وفي بعض الأفلام التي كان فريد شوقي يُضرب فيها أحيانا ضربا مبرحا من جانب أفراد العصابة حسب مقتضيات الدور وقبل أن يثار لنفسه، كان جمهور الترسو أحيانا يثير الشغب داخل دار العرض، فكيف يمكن أن يُضرب "الملك" بهذا الشكل؟ مستحيل!

ورغم عنف "وحش الشاشة" وضرباته الموجعة لخصومه الأشرار، وشجاعته التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، كانت هناك أيضا طيبة ما في ملامح وجهه، وكان أداؤه مشوبا بخفة الظل، والكثير من "الجدعنة" التي تعجب بالطبع، جمهور "الترسو".

بعد أن تقدم العمر بـ"الملك" في السبعينيات والثمانينيات، تخلى عن أدوار العنف والمغامرات، أي خلع ببساطة، ملابس "وحش الشاشة"، وآثر أن يمثل دور الأب. وقد تفوق كثيرا على سبيل المثال في فيلم "قطة على نار" للمخرج سمير سيف أمام نور الشريف، و"السقا مات" للمخرج الراحل صلاح أبو سيف، وهو من أجمل ما أنتجته السينما المصرية في تاريخها كله. وفيه قام فريد شوقي بدور "مطيباتي الجنازات" ببراعة كبيرة ذكرتنا على نحو ما، بدوره الذي لا ينسى في فيلم "بداية ونهاية" من إخراج صلاح أبو سيف، أمام عمر الشريف وأمينة رزق وسناء جميل، وهي كلاسيكية أخرى من كلاسيكيات السينما المصرية.


أما محمود المليجي فقد كنا نعلم جيدا أنه "رجل طيب"، رغم شره الواضح، ونظرات عينيه المخيفتين اللتين كان الشرر يتطاير منهما، وكان المليجي أحيانا يتكلم بطريقة تجعلنا نرتعد ونحن نشاهده ونتطلع إلى بريق عينيه الذي يشي بالجنون والقسوة المفرطة والسادية المرضية، خصوصا قبل إقدامه على قتل إحدى ضحاياه، خنقا مثلا، أو ذبحا بسكين. ومع ذلك، كان المليجي محبوبا. كنا نراه ممثلا لا غنى عنه أمام فريد شوقي في أفلام مميزة جمعت بينهما مثل "سواق نص الليل" و"رصيف نمرة 5" و"عبيد الجسد" و"المصيدة" و"سوق السلاح" و"النشال" والمصيدة" و"العملاق" و"بطل للنهاية".. وغيرها.

وكان المليجي قد برز وحده، أي دون مشاركة وحش الشاشة أو ملك الترسو، فريد شوقي، في فيلم "الوحش" (1954) الذي أخرجه ببراعة صلاح أبو سيف. وكان هذا الفيلم من الأفلام التي يعاد عرضها في دور السينما الشعبية لسنوات وسنوات بعد ظهوره. وكان يقوم فيه بدور سفاح أسيوط الذي ظلت الشرطة لسنوات تبحث عنه دون أن تتمكن من الإيقاع به، إلى أن سقط بسبب إدمانه الأفيون. وكان يقوم بدور الضابط أمامه أنور وجدي، فلم يكن الثنائي فريد والمليجي قد ارتبطا معا بعد.

ولعل من أهم ملامح أفلام سينما الترسو، أي الأفلام الشعبية التي كانت تلقى إقبالا كبيرا من جمهور السينما، وأنا هنا أتكلم عن "عصر السينما" أي في ذروة تردد الجمهور على دور العرض، أنها تمكنت من خلق "شيفرة" خطابية خاصة بينها وبين الجمهور. ويمكن اعتبار هذا أكبر ما حققته السينما المصرية من نجاح في تاريخها كله، أي ابتكار تلك "الشيفرة" الخاصة، التي أصبحت وسيلة "مضمونة" للتخاطب بين السينمائيين والمشاهدين، أو بين الفيلم – كوسيط، والجمهور كمتلقي.

وقد تكونت تلك اللغة الخاصة أو "الشيفرة" المميزة في لغة التخاطب التي تستند إلى الثقافة الشعبية، عبر عشرات الأفلام. وقد نجحت هذه الأفلام، رغم تأثر الكثير منها بأفلام أجنبية، في خلق "خيالها الخاص" الذي يستطيع المشاهد أن يتعرف عليه، ويتمثله، ويجد نفسه في داخله. وقد يدور هذا الخيال حول "الحكاية" أو رواية قصة، تحتوي على الصراعات بقدر ما تحتوي على دروس أو حكايات ذات مغزى أخلاقي واجتماعي، مع تقديم هذه الأفلام في إطار من التزويق والمشهيات والمشاهد المثيرة التي تشد المتفرج لكي تجذبه داخل "الحلم" الذي كان ينتهي عادة، نهاية سعيدة. ورغم أن هذه النهاية السعيدة تكون معروفة سلفا، إلا أن الجمهور يظل دائما يتطلع إليها وينتظرها.

كان الجمهور العام الذي يشتري تذاكر الدخول إلى دور العرض يتكون في معظمه من الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، بحكم التوجه الفكري لصناع تلك الأفلام، والاستعداد الطبيعي لدى جمهور الطبقة الوسطى للتعامل مع ذلك "الخيال المصور المتحرك" كسلعة لا غنى عنها للتسلية، بل وكإطار للمعرفة بما يدور في المجتمع أيضا، ولو على مستوى المتخيل. ولكن كان هذا الجمهور يشد معه جمهور الطبقات الأدنى الأكثر شعبية. وإذا كانت تلك الشريحة الثانية من الجمهور تتماثل مع "أبطال" أفلام "الترسو"، فلم يكن هذا يعني أنها لم تكن تتماثل أيضا مع نجوم من أبطال الطبقة الوسطى (شخصيات الأبطال التي قدمها يحيى شاهين وأنور وجدي وكمال الشناوي وأحمد مظهر ورشدي أباظة وعماد حمدي وشكري سرحان وعمر الشريف وحسن يوسف.. وغيرهم).

كان لدور العرض السينمائي رونقها وسحرها، بما في ذلك دور العرض في الأحياء الشعبية أو مدن الأقاليم، فقد كانت السينما لاتزال تُعامل معاملة العروض المسرحية، أي ينظر إليها على أنها جديرة بدور تناسبها، يمكنلهذه الدور أيضا أن تتحول، عندما يقتضي الأمر، إلى مسارح تقدم عليها المسرحيات، أو الحفلات الغنائية، كما كان حال سينما قصر النيل مثلا التي اشتهرت بالحفل الشهري للسيدة أم كلثوم، وكذلك سينما ميامي أو سينما ريفولي التي كان يغني على مسرحها عبد الحليم حافظ على ما أتذكر.


ولكن ما الذي كان يشد جمهور السينما العريض إلى فيلم مثل "غزل البنات"، وما السبب الذي جعل هذا الفيلم تحديدا، يحقق كل ما حققه من نجاح في زمنه؟ هذا التساؤل كان دائما يشغلني، رغم أنني لم أشاهده وقت ظهوره الأول عام 1949 فلم أكن قد وُلدت بعد، بل شاهدته بعد ذلك بسنوات عدة، وكان لايزال يعرض ويحقق نجاحا. وواضح أن دور السينما كانت تعيد عرض الأفلام التي تحقق إيرادات كبيرة ولم يكن هناك قانون وقتها، يحدد ضرورة عرض نسبة معينة من الأفلام المصرية، أو يحدد مدة زمنية لعرض فيلم ما، منعا للاحتكار أو ما إلى ذلك من أمور استجدت فيما بعد، وأثارت الكثير من اللغط حولها.

قصة فيلم "غزل البنات" (غالبا المقصود "معابثة الفتيات المراهقات") قصة بسيطة تتلخص في وقوع مدرس طيب القلب، رجل تجاوز منتصف العمر، هو "الأستاذ حمام"، الذي يقوم بدوره نجيب الريحاني، في غرام تلميذته "ليلى"، ابنة الباشا، التي تقوم بدورها ليلى مراد، والتي تحب رجلا آخر، مما يدمي قلب الأستاذ حمام، فهو أولا، ليس على المستوى الاجتماعي اللائق، بحيث يمكنه أن يتطلع إلى حب إبنة الطبقة العليا في المجتمع، طبقة الباشوات. وهو، من ناحية أخرى، يكبرها كثيرا في العمر. ولكنه لا يستطيع أن يخفي مشاعره طويلا، وتشعر ليلى تجاهه بعاطفة احترام وتقدير، لكنها توحي له بطريقتها الخاصة في المعابثة، وبتصرفاتها المراهقة، بأنه يتمتع بجاذبية خاصة، وأنها ترتاح إليه، وأنه لا يجب أن يقلل من قيمة نفسه، وأنها بدأت "تستظرفه" وترى أنه "حبوب"، وغير ذلك من الكلمات التي تجعله يتجه نحو المرآة، يتطلع إلى وجهه المتغضن قليلا، إلا أن نظرات عيني نجيب الريحاني توحي لنا بأنه استرد ثقته في نفسه، ونراه يتناول وردة بيضاء يضعها في عروة سترة البذلة، ثم بنوع من الإعجاب بالذات ودلالة على استعادته ثقته في جاذبيته، يغمز بعينه لنفسه في المرآة، وهي لمسة من اللمسات الإضافية التي يضيفها الريحاني إلى اللقطة بعبقريته الخاصة. لكن الانتقال إلى لقطة أخرى، يأتي مباشرة لكي يوصل للمتفرج معلومة تقضي على أي أمل لديه في إمكانية تحقق مثل هذه العلاقة بين ليلى وحمام، ففي اللقطة التالية مباشرة نرى ليلى وهي تتحدث بلهفة في التليفون، مع الحبيب المفترض (أنور- محمود المليجي)، الذي لا نراه، ويتعين علينا الانتظار إلى ما قبل النهاية حتى نراه في "الكباريه" عندما يكتشف الأستاذ حمام أنه مجرد محتال، يطمع في الحصول على ثروتها والهرب بها مع امرأة أخرى من نفس نوعه، فتكون صدمة كبيرة لليلى، لكنها سرعان ما تقع في حب طيار مدني وسيم هو "أنور وجدي" الذي ينقذها من المحتال، ولا يجد الأستاذ حمام بُدا من الاستسلام للأمر الواقع، والتضحية بحبه من أجل أن تنال "ليلى" ما تستحق مع خطيبها المهذب الوسيم.

في هذه القصة البسيطة عوامل عديدة ساهمت في تحويلها إلى أسطورة سينمائية لاتزال تعيش حتى يومنا هذا، رغم ما يمتليء به الفيلم من مواقف ساذجة، مصنوعة صنعا، ومبالغات عديدة، سواء في الحوار (ليس من المعقول مثلا أن تقول فتاة أرستقراطية وابنة باشا لحبيبها عبر التليفون: بحبك يامضروب!)، أو في عدم واقعية الحدث (أن يتكلم الشرير "أنور" ببساطة مع صديقته في الكباريه عن خطته للاستيلاء على أموال ليلى والفرار، في حين يسمعه الأستاذ حمام والمحيطون به بوضوح. وليس من الطبيعي أن يوافق طيار على دخول كباريه لتمثيل دور ابن عم ليلى حتى ينقذها من الشرير، بناء على طلب الأستاذ حمام هكذا بكل بساطة).

ولكن مثل هذه التساؤلات عن "الواقعية" و"منطقية الحدث" والقدرة على الإقناع أو "الإيهام بالواقع" لم تكن قد رسخت بعد لدى مشاهدى السينما عموما، فالفيلم الواقعي، أو الذي يحاول الإقناع بواقعية ما يصوره، لم يكن قد أصبح راسخا بعد في السينما المصرية كما هو الآن، خاصة بعد الدور الكبير الذي لعبته، ولاتزال تلعبه، المسلسلات التليفزيونية الاجتماعية العديدة التي تعرض يوميا على شاشة التليفزيون، والتي جعلت من الحياة اليومية مادة دائمة لها، مهما اختلفنا حول إخلاصها للواقعية المذهبية.

كان هناك اتفاق عام بين مشاهدي السينما (من خلال تلك الشيفرة الخطابية التي أشرت إليها من قبل) على قبول ما لا يمكن قبوله في الواقع، وكان الأهم بالنسبة للجمهور، هو متابعة الجانب الإنساني من القصة، وهو الجانب الذي أجاد الريحاني تحديدا (صاحب النزعة الإنسانية بلاجدال) ترجمته على الشاشة من خلال الشخصيات التي كان يقوم بها، خاصة وأنه كان يشترك في كتابة السيناريو أو الحوار.

كان نجيب الريحاني في المسرح والسينما، بطلا يصارع من أجل إثبات وجود ابن الطبقة الوسطى الصغيرة، دائم السخرية من القيم السائدة الجوفاء والمظاهر البراقة، مفلس لكنه يتمسك بالمبادئ، أكثر إخلاصا في مشاعره من أبناء الطبقة العليا. لقد كان الريحاني ببساطة، يعبر عن فكر يمتزج فيه الذكاء بالثقافة بخفة الظل بالقدرة على الإيقاع بأعدائه والانتقام للبسطاء (ولو على الشاشة).
الطابع الكوميدي هو الطابع الغالب على هذا الفيلم، رغم ملامح التراجيديا التي تتكثف قبيل نهايته، خاصة مع الاستخدام المؤثر لأغنية عبد الوهاب "عاشق الروح"، والريحاني يستمع إليها بكل جوارحه، بينما تتمزق مشاعره، ويعرف الجمهور، المتوحد معه، استحالة أن تنتهي القصة تلك النهاية السعيدة التقليدية، أي بحصوله على قلب الفتاة، ورغم ذلك، لا يخلو الفيلم من غمزات واضحة في اتجاه النقد الاجتماعي. صحيح أن شخصية "الاستاذ حمام" هي شخصية تتسق تماما مع تلك الشخصيات التي كان يقوم بها الريحاني في المسرح (والسينما أيضا)، فهو يقوم بدور رجل ينتمي إلى الشريحة السفلى من الطبقة الوسطى، لديه قسط من التعليم، يؤهله للعمل كمدرس، غير أنه يفقد عمله بسبب جديته وطيبة قلبه وسوء طالعه، لكنه سرعان ما يعثر على وظيفة مدرس خصوصي لابنة الباشا. ويصور الفيلم الباشا كرجل متحرر، جاد ولكن غريب الأطوار، مهتم كثيرا بتعليم ابنته اللغة العربية. وداخل القصر، عندما يذهب المدرس لاستلام وظيفته الجديدة، يندهش كثيرا عندما يجد أن الخادم المخصص لتقديم القهوة للضيوف يتمتع بدرجة عالية من الأناقة فيحسبه الباشا نفسه ويقف له احتراما إلى أن يكتشف الحقيقة، ثم يتكرر الأمر مع الموظف المكلف برعاية كلب الباشا، الذي يخاطبه بلهجة متعالية ويقول له خلال حوارهما الطريف إنه يحصل على راتب يبلغ 30 جنيها، وهو مبلغ كبير بمقاييس تلك الأيام. ولا نستبعد هنا أن يكون استخدام هذه الشخصية نوعا من "الغمز" إلى "أنطوان بوللي" مربي الكلاب (الإيطالي) في قصر الملك فاروق والذي لعب دورا مشهودا في الفساد السياسي في المراحل الأخيرة من العهد الملكي. ولكن هذه الشخصية هنا، تُستخدم في سياق رصد التناقضات الطبقية الهائلة. ولا ننسى أن الأستاذ حمام، يرد عندما يسأله مربي الكلب عن عمله بقوله، ساخرا من نفسه ومن الوضع بأكمله: "أنا بتاع كتب.. أنا (ثم يصدر صوتا بفمه دلالة على الاستهجان والسخرية ويكمل).. بتاع علم". فلا يملك مربي الكلب سوى التساؤل بدهشة: بس؟ فيجيب الريحاني بمرارة: بس. فيأتي التعليق الأخير من الرجل: أنعم وأكرم.. نهارك سعيد.. اتفضل اقعد!
هذا المشهد يلخص ببراعة ومن خلال الحوار البسيط الذكي (اشترك الريحاني مع بديع خيري في كتابة الحوار)، وأيضا من خلال أداء الريحاني وتعبيرات وجهه ونغمة صوته، ذلك التناقض الاجتماعي الصارخ، والتحسر على قيمة العلم والتعليم.. أليس هذا هو الحال نفسه الآن، بل وأسوأ كثيرا بالطبع، بعد مرور أكثر من ستين عاما على ظهور الفيلم!

ورغم الطيبة الواضحة في شخصية الباشا (يقوم بالدور ببراعة كبيرة سليمان نجيب) إلا أن طريقة تقديم الشخصية كما رسمت في السيناريو، تجعلها أيضا هدفا للسخرية أحيانا، كما نرى عندما يؤكد للأستاذ حمام إلمامه الكبير منذ طفولته، باللغة العربية، ومعرفته بأخوات كان، ويأخذ في استعراض معرفته بها، غير أن "الريحاني- الأستاذ حمام"، يتوقف عند "ما انحل" لينفي نفيا قاطعا أن تكون "ما انحل" من أخوات كان، فيصر الباشا بحدة على أنها منهن، أي يصر على أن يفرض الباطل على الحق. ولأن الأستاذ حمام مر لتوه بتجربة فقدان عمله لسبب تافه، سرعان ما يستدرك ويوافق الباشا على رأيه في حين نعرف نحن المشاهدون أنه يتظاهر بالموافقة لكي يتجنب الطرد، إلا أنه كرجل من "أبناء البلد" عن حق، يستدرك أيضا بطريقته الخاصة: هي من أخوات كان صحيح، ولكن من أب تاني ياسعادة الباشا!

الباشا ربما تعجبه هذه المزحة فيقرر رفع راتب الأستاذ حمام، من سبعة جنيهات إلى 15 جنيها مرة واحدة، وربما يكون، كما يمكننا أن نرى من تحت جلد المشهد العبقري نفسه، قد أراد أن يشتري تستر المدرس على خطئه فيما يتعلق بـ"ما انحل" أمام ابنته ووكيل أعماله، فكيف يمكن أن يخطيء الباشا في معرفته بأخوات كان وهو الذي بدأ لتوه بالقول إنه يحفظها عن ظهر قلب منذ طفولته. وبعد أن يأمر الباشا مدير أعماله (مرزوق افندي- عبد الوارث عسر) بزيادة راتب المدرس، وفي لفتة عبقرية من السيناريو (والأداء التلقائي الجاد ولكن بصورة لا تملك إلا أن تجعلنا نضحك) لا ينسى الباشا قبل أن يترك الأستاذ حمام يواصل عمله أن يؤكد له وهو يشير بإصبعه في وجهه: "ما انحل.. إنت فاهم.. ما انحل" (أي لا يجب أن تجادل في أن "ما انحل" هي من أخوات كان) فالباشا دائما يجب أن يكون على حق.. أليس هو الباشا!

ولاشك أن من عوامل النجاح الكبير الذي حققه الفيلم أيضا وجود كل هذا العدد من النجوم الأسطوريين معا في فيلم واحد، وإسناد أدوار مناسبة تماما لشخصياتهم الحقيقية إليهم.. فهناك أولا نجيب الريحاني، نجم النجوم في عصره، وأنور وجدي وليلى مراد وسليمان نجيب وفردوس محمد وعبد الوارث عسر وزينات صدقي ومحمود المليجي واستيفان روستي ونبيلة السيد، بل إن هناك أيضا عملاق التمثيل يوسف وهبي، الذي يقوم بدوره الحقيقي، ولا ننسى أيضا ظهور الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي يؤدي ملحمته الغنائية الأوبرالية "عاشق الروح" قبل نهاية الفيلم. ومن كان يحلم أصلا باجتماع كل هذا العدد من العمالقة في فيلم واحد، بل وهناك أيضا ممثل سيصبح له شأن كبير بعد ذلك، هو فريد شوقي الذي يقوم بدو ثانوي عندما يظهر في مشهد واحد داخل الكباريه في دور أحد حراس المكان، بينما يقوم استيفان روستي بدور صاحب الكباريه.

ولعل من أهم العوامل التي ساعدت على رواج الفيلم ونجاحه الكبير الأغاني الجديدة البديعة لليلى مراد، التي كُتبت خصيصا للفيلم، وقام بتلحينها محمد عبد الوهاب، الذي كان طرفا مشاركا مع أنور وجدي، في إنتاج الفيلم.

يبدأ الفيلم بأغنية "اتمختري واتميلي ياخيل" وهي أغنية رومانسية شاعرية يقدم الفيلم بها شخصية ليلى، المحاطة بصديقاتها، وكلهن على ظهور الخيل، ثم طبعا أغنية "أبجد هوز" وهي أغنية خفيفة أقرب إلى "المونولوج"، لم يكن من المتصور أصلا أن يلحنها محمد عبد الوهاب بل ويبرع في تلحينها على هذا النحو، فقد أدخل فيها للمرة الأولى، إيقاعات الرقص الذي يعتمد على الطرق بالأقدام على الأرضية، وهو نوع من الرقص كان قد انتشر في أمريكا في الثلاثينيات، وبرع فيه بوجه خاص، الراقصون السود. وقد أخرج فرنسيس فورد كوبولا فيلما كاملا هو فيلم "نادي القطن" (1985) وكان أساسه هذا النوع من الرقص. وقد جعل عبد الوهاب الطرقات الإيقاعية السريعة على الأرضية تنفرد بشريط الصوت في الأغنية في دقات منفردة، كما استخدم أيضا آلة كانت جديدة تماما على الموسيقى العربية في ذلك الوقت هي آلة خشبية يصفق بها العازفون فتصدر صوتا مميزا له رونق خاص، ناهيك بالطبع عن كلمات "أبجد هوز" الطريفة جدا التي كتبها حسين السيد.

وهناك أغنيات أخرى أصبحت بعد الفيلم من أشهر أغاني ليلى مراد مثل "عيني بترف" و"الحب جميل" و"الدنيا حلوة" و"مليش أمل".

ولاشك أن ليلى مراد تألقت في هذا الفيلم، وبدت شديدة الفتنة والجمال والجاذبية الناعمة، وكانت تتمتع بخفة الظل، والرقة والصوت العذب الهامس الجميل، بل والمدهش أيضا أنها تمكنت من التمثيل بصورة طبيعية، وأضفت على الدور ملامح رومانسية جميلة لاتزال عالقة في الذاكرة حتى يومنا هذا.

كانت ميزة فيلم "غزل البنات"، أن كلا من جمهور "الترسو" وجمهور الطبقة الوسطى معا، تعرف على نفسه في شخصية الأستاذ حمام، وتعاطف مع ذلك المدرس البائس، تعيس الحظ، الذي تسوقه الظروف إلى حيث يدق قلبه بالحب، ولكنه ذلك الحب المستحيل، فيستسلم لمصيره، ويُضحي بحبه من أجل إسعاد حبيبته. ولعل بساطة العرض وتبسيطه، وتغليفه بتلك المسؤولية "الأبوية" التي تدفع الأستاذ حمام إلى التخلي عن أنانيته ورغبته في التحقق من خلال الحب، نزولا على واجبه تجاه فتاة هي في عمر ابنته، من أسباب وصول الفيلم إلى الجمهور العريض.

ولاشك أن جمهور الترسو أيضا، استمتع بـ"الشجيع"، أو نموذج "البطل" الذي جسده أنور وجدي، بطل تلك المرحلة، عندما أخذ يسدد اللكمات إلى الشرير "أنور" (محمود المليجي) داخل الكباريه، وتمكن من إنقاذ ليلى.. تلك الزهرة البريئة من بين أنياب الوحوش.. في ذلك الزمن.. زمن الترسو!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger