الجمعة، 26 فبراير 2010

فيلم "إنفكتوس" لكلينت ايستوود: تحية تليق بمانديلا

لاشك أن أفضل تحية أو تكريم للزعيم الافريقي الكبير نيلسون مانديلا في الذكرى العشرين لإطلاق سراحه، هو بدء العروض العالمية لفيلم "إنفكتوس" Invictus وهي كلمة لاتينية تعني "من لا يقهر".هذا الفيلم الكبير من إخراج الممثل والمخرج الكبير كلينت إيستوود، يحقق حلما شخصيا طال انتظاره للممثل الأمريكي مورجان فريدمان، الذي يقوم هنا بدور مانديلا بعد سنوات من التأهب له، والبحث الدءوب عن المشروع السينمائي المناسب الذي يحقق له حلمه الفني.سيناريو الفيلم، الذي كتبه أنطوني بيكهام، مستمد من كتاب جون كارلين "ملاعبة العدو: نيلسون مانديلا واللعبة التي صنعت أمة". وهو يعتمد على وقائع حقيقية شأنه في ذلك شأن فيلم "فروست/ نيكسون"، إلا أن كاتب السيناريو يسمح لنفسه هنا بتجاوز ما حدث في الواقع، ليسبح في محيطه الطبيعي، أي ينسج من خياله ما يدعم الأحداث ويقويها ويمنحها طابعا دراميا حقيقيا يمكن تجسيده بشكل مؤثر ومقنع في السينما.
"إنفكتوس" فيلم سياسي لكنه أساسا، عمل إنساني كبير، أساسه القدرة الإنسانية على التسامح ونسيان الماضي وتجاوزه، والسعي الحثيث لتحقيق هدف أكبر وأشمل كثيرا من مجرد الانتقام الشخصي أو تصفية حسابات الماضي، هذا الهدف يتعلق بإعادة توحيد صفوف أمة بجميع عناصرها، بعد صراع عنصري عنيف، وحرب أهلية دامية استغرقت عشرات السنين.

الأربعاء، 24 فبراير 2010

حول الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار 2010

من فيلم "بريشيس"
من فيلم "خزانة الألم"

شاهدت 7 أفلام من تلك الأفلام العشرة المرشحة لجائزة أحسن فيلم في مسابقة الأوسكار. هذه الأفلام هي "بريشيس" Precious و"التعليم" Education و"أفاتار" Avatar و"خزانة الألم" Hurt Locker و"رجل جاد" A Serious Man و" "أوغاد مجهولون" Inglourious Basterds و"إلى أعلى" Up ولم أشاهد ثلاثة أفلام بعد وهي "عاليا في الهواء" Up in the Air و"الجانب المظلم" The Blind Side و"مقاطعة 9" District 9 ولا اعرف ما اذا كانت الترجمات الثلاث الأخيرة صحيحة أم لا فهي مجرد اجتهادات إلى أن اشاهد هذه الأفلام.
ويمكنني القول إنني أرى بشكل عام أن قائمة الأفلام المرشحة للحصول على جائزة أحسن فيلم، وخمسة منها مرشحة لجائزة أحسن إخراج، أنها قائمة ضعيفة كثيرا قياسا بقوائم السنوات العشر الماضية.
إن هناك أفلاما ضمن هذه القائمة أرى أنها لم تكن تستحق أصلا أن ترشح على الاطلاق لهاتين الجائزتين مثل "بريشيس" الذي اراه فيلما مسرحيا أو اذاعيا مملا بل ومنفرا أيضا، ولا يثير الاهتمام فيه أي شيء من الناحية الفنية البحت، وافهم أنه أثار تعاطف المرشحين في الأكاديمية الأمريكية لفنون السينما بسبب موضوعه.
ومن الأفلام العادية التي لا تثير أي اهتمام ايضا فيلم الاخوين كوين "رجل جاد" الذي لم أدهش أنه استبعد من كل مسابقات المهرجانات الكبيرة في العالم كونه فيلما يصلح وصفه بأنه من أفلام الطائفة، والمقصود بالطائفة هنا الطائفة اليهودية في أمريكا تحديدا، ويحتاج من يشاهده إلى قراءة مكثفة في المفاهيم والأفكار اليهودية ومعنى الكلمات واصولها التاريخية في المجتمعات اليهودية المغلقة في أوروبا الشرقية، والاحتفالات اليهودية..إلخ
أما فيلم "التعليم" البريطاني فأراه فيلما تقليديا كلاسيكيا من أفلام الرسالة، يسير بالحرف على "الكتاب" أي كتاب الإخراج الكلاسيكي الذي يعتمد على وحدة الحدث والزمان والمكان، ويروي في شكل أدبي يعتمد على التمثيل والحوار، قصة فتاة تعثر تمر بتجربة التمرد على حياتها الأسرية وتعليمها المدرسي في زمن التمرد (بداية الستينيات) إلى أن تنضج على نيران التجربة فتعود على الطريق القويم (من وجهة النظر الاجتماعية التقليدية المحافظة). ولعل أفضل ما في هذا الفيلم أداء الممثلة الشابة كاري موليجان وهي احدى الممثلا المرشحات لجائزة أحسن ممثلة وقد حصلت على جائزة مشابهة في مسابقة بافتا البريطانية أخيرا.
فيلم "أوغاد مجهولون" (الذي حير الجميع في ترجمة إسمه على نحو يستحق التأمل!) سبق أن كتبت رأيي فيه تفصيلا في مشاهدته في مهرجان كان. وارى بموضوعية أنه رغم كل تحفظاتي الفنية عليه، إلا أنه قد يكون أفضل هذه الأفلام العشرة المرشحة لجائزة أحسن فيلم، فقط لأنني أرى أنه يمثل سينما 2010 بينما معظم الأفلام الأخرى تنتمي إلى السينما التقليدية العتيقة.. سينما القصة التي يحاول المخرج أن يجعلها قصة جذابة، بما في ذلك فيلم "أفاتار" الذي يستخدم أحدث تكنولوجيا الصورة، لكنه لا يقدم نموذجا لسينما المستقبل كما يقول لنا كثيرون من الذين ينبهرون بالإمكانيات الكبيرة التقنية التي توفرت لهذا الفيلم. وقد سبق أيضا ان كتبت مقالا تفصيليا عنه. وربما يميل ذوقي الشخصي إلى تفضيل فيلم "إلى أعلى" Up عليه، فهو فيلم أكثر إنسانية واكثر براءة وجمالا ورقة ومتعة أيضا في رواية قصة تصلح للكبار والصغار. وهو كذلك من نوعية أفلام الأبعاد الثلاثة.

من فيلم "التعليم"
يظل هناك الفيلم اللغز "خزانة الألم". وقد شاهدت هذا الفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي (سبتمبر 2008). وكان عرضه في المسابقة الرسمية هو عرضه الأول على الصعيد العالمي. وكانت مسابقة المهرجان العريق في تلك السنة تعاني من الضعف الشديد، وكانت لجنة التحكيم الدولية تبحث عن فيلم واحد في المسابقة تتفق على كونه العمل الأهم والأبرز لكي تمنحه جائزة الأسد الذهبي. وكان النقاد يضربون كفا بكف ويسيرون حائرين على شاطيء الليدو وهم يتساءلون عما حدث للسينما، واين اختفت الأفلام البارزة فنيا. وقد مر عرض "خزانة الألم" مرور الكرام.
حقا لفت الفيلم أنظارنا إلى الزاوية الإنسانية الجديدة التي يتناول منها الوضع في العراق، من زاوية التركيز على خبير نزع ألغام وقنابل في الجيش الأمريكي يساهم في تجنيب المدنيين والعسكريين الكثير من المصائب والويلات، ويدفع حياته ثمنا لقيامه بتلك المهمة.
ولكني أود أن اضيف أيضا أن الكثير من النقاد رأوا في هذا الفيلم انه ينحرف عن الموضوع الرئيسي لكي يجعلنا نتعاطف مع جندي أمريكي، وجوده في العراق نفسه، محل تساؤل بعد كل ما جرى ولايزال يجري. وكان ما يميز الفيلم التقنية العالية المستخدمة في اخراجه لكنه لا يصل ابدا في رأيي، على مستوى الخيال والرؤية والتجسيد السينمائي لفيلم يسبقه بسنوات عديدة عرض في فينيسيا أيضا عام 1995 للمخرجة نفسها، كاثرين بيجلو، وهو فيلم "الأيام الغريبة" Strange Days
ولم يحصل فيلم "خزانة الألم" على أي جائزة من أي نوع في مهرجان فينيسيا في تلك السنة، ولم يشكو أحد بسبب خروجه من المهرجان بدون جوائز، في حين تشبثت لجنة التحكيم بآخر فيلم عرض في المسابقة وهو فيلم "المصارع" The Wrestler فمنحته جائزة الأسد الذهبي.
وقد لفت نظري بالطبع عودة الاهتمام بفيلم "خزانة الألم" أخيرا، وتلك الرغبة العارمة في لفت الأنظار إليه، والترويج له بشتى الطرق، وإبرازه في كل المجالات (الفيلم حصل على 6 جوائز في مسابقة بافتا ومرشح لتسع من جوائز الأوسكار وهو أمر مدهش بكل المقاييس، ويعكس في تصوري، غياب الأفلام العظيمة عن السينما الأمريكية في 2010. ولاشك لدي أيضا في أن هذا الفيلم سيخرج بنصيب الاسد من الجوائز بالتقاسم مع فيلم "أفاتار" لجيمس كاميرون الزوج السابق لمخرجة "خزانة الألم".. وكأن السينما الأمريكية انقسمت بين الزوجين!
ملحوظة: شاهدت أخيرا فيلم "عاليا في الهواء" واكتشفت أنه قد يكون اضعف الأفلام العشرة، فلم اشعر بالتعاطف مع اي من شخصياته، بل ولم أفهم كيف يمكن أن يرشح جورج كلوني أيضا لجائزة أحسن ممثل عن دوره في هذا الفيلم، لأنه دور عادي للغاية، وتصنيف الفيلم على أنه كوميدي تصنيف غريب لأنني لم ار فيه أي كوميديا، بل ربما عملا كئيبا.. وهذا رأي شخصي على أي حال!

السبت، 20 فبراير 2010

فيلم "عصافير النيل": إرضاء التطلعات الفنية ومغازلة السينما التجارية

لاشك أن الأفكار الكبيرة في السينما، خاصة السينما المصرية، جاءت أساسا، من الأدب، أي من عالم الرواية. وهنا لابد أن نتذكر تأثير طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم ويحيى حقي ولطيفة الزيات، وكثيرين غيرهم، على الفيلم المصري، سواء في مضمونه الاجتماعي ودلالاته النقدية، أو في أشكاله السردية، حتى أن المرء يخال أحيانا أن نجيب محفوظ كان يكتب وعينه على السينما، أي أنه كان يتأثر كثيرا في كتابة رواياته، في مرحلة ما من مسيرته الأدبية في الستينيات على وجه التحديد، بالسيناريو السينمائي، خاصة وأنه مارس كتابة السيناريو منذ منتصف الخمسينيات حينما ارتبط مع المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف من بداياته الأولى في أواخر الأربعينيات، حتى المرحلة الأهم في حياة أبو سيف التي تميزت بأفلامه الواقعية في الخمسينيات والستينيات.
المخرج مجدي أحمد علي (صاحب يادنيا ياغرامي، البطل، أسرار البنات، خلطة فوزية) يعود إلى الأدب للمرة الأولى في مسيرته، في فيلمه "عصافير النيل" (2009)، وتحديدا إلى رواية ابراهيم أصلان الذي سبق أن قدم للسينما رواية "مالك الحزين" التي استمد منها داود عبد السيد فيلمه "الكيت كات". وكان مجدي يأمل من وراء ذلك، أن يقدم رؤيته السينمائية للرواية التي لاشك أنها تتلاقى مع رؤية المؤلف، في الكثير من المواقف والشخصيات والأحداث، بل وفي الفلسفة العامة للعمل، ودلالاته الفكرية.
تشابهات وتقابلات
للوهلة الأولى يمكن القول إن هناك علاقة ما بين فيلم "عصافير النيل"، والفيلم السابق لمجدي أحمد علي "خلطة فوزية"، وربما يكون ممكنا رصد ملامح هذه العلاقة في النقاط التالية:

1- يدور الفيلمان حول شخصية فردية، ريفية أو شبه ريفية، تعيش على هامش المجتمع، في الأحياء العشوائية القريبة من نهر النيل بكل ما يجسده النيل من انسيابية وتدفق، كما لو كان في سرمديته وامتداده الذي يبدو موغلا في أعماق التاريخ، شاهدا أيضا على ما يقع فوق ضفتيه من أحداث. الشخصية الأساسية في الفيلم الأول هي "فوزية"، وفي الفيلم الثاني "عبد الرحيم"، وكلاهما يعاني من الإحساس بنوع من انعدام الأمان، الشعور بالرهبة من المدينة، والرغبة في إقامة علاقة جسدية مع الآخر، لعلها يمكن أن توفر نوعا من "الأمان" والدفء المفقود. ولاشك أيضا أن هذا الشعور، بكل ما يعتريه من اندفاع، بل وتهور أحيانا، يمكن أن يقود الشخصية إلى الصدام مع الواقع.

2- الحضور القوي للموت في مجاورته للحياة في كلا الفيلمين. ولكن على الرغم من قسوة الموت، ورغم الإحساس الشجي بالحزن الذي يغلف دواخل الشخصيات في الفيلمين، إلا أن الرغبة في الاحتفال بالحياة، هي رغبة دائمة ممتدة، تحمل في داخلها القدرة على التجدد لبطلي الفيلمين، كما تحمل للمشاهدين الأمل، على الرغم من الموت الكامن بكل ما يخلفه من أثر كئيب في النفس البشرية. هنا تتجلى قدرة مجدي أحمد علي كمخرج، في التعبير عن ذلك التناقض بين الحياة بكل عنفوانها، والموت في سكونه كنهاية للجسد، وهو تناقض يبدو "بسيطا" على المستوى الظاهري، إلا أنه شديد التعقيد على المستوى الأعمق.

3- الحبيب الأكثر تأثيرا يظل في الفيلمين هو الأقرب إلى الشخصية الرئيسية، لكنه بعيد عنها بعد أن فقدته: في "خلطة فوزية" يتمثل في شخصية السباك (عزت أبو عوف) أحد أزواجها السابقين قبل أن تنفصل بالطلاق عنه، لكنه لم يعد موجودا بعد وفاته المفاجئة، ويظل يتراءى لها شبحه طوال الوقت، فقد كان الأقرب إلى عقلها وربما أيضا إلى قلبها، رغم خياناته الصغيرة لها. وفي "عصافير النيل" تظل شخصية "بسيمة" هي الشخصية الآسرة، التي لا تفارق خيال البطل، فهي المرأة الأولى التي التقاها في القاهرة وتعرف عليها وأنس لها، ثم هجرته بسبب تردده في حسم موقفه تجاهها: هل يشترك مع أهل الحارة في اعتبارها امرأة "منحرفة" بالمعايير الأخلاقية السائدة، أم يستمع إلى نداء قلبه الذي يقول له إنها المراة النظيفة الجميلة التي يمكنها أن تعيش له فقط؟

4- التقلب بين الرجال بحثا عن الشريك الكامل المكتمل الذي يمكنه أن يستوعب طاقة وحيوية وعنفوان البطلة في "خلطة فوزية"، أو بحث البطل الدائم عن المتعة الأبدية مع المرأة، وهو ما يجعله ينتقل من واحدة إلى أخرى في "عصافير النيل"، مما يعكس أيضا فكرة النهم إلى الاستمتاع بالحياة، والتي تتجسد عن طريق الجنس، الجنس بغرض الارتواء، والاشباع النفسي، والتعويض عن الإحساس الدائم بالخسارة عند البطل في "عصافير النيل"، ولعل هذا يتجسد كأفضل ما يكون، في المشهد الذي يصور ما بعد مضاجعته عاهرة داخل مصعد، عندما يضبطه الجيران متلبسا في أحضان تلك المرأة، سكرانا، يغط في النوم، بل ويرفض أيضا أن ينهض ليمضي في حالة سبيله، وهو الفعل- الفضائحي الذي يكلفه وظيفته.

ورغم هذه التقابلات إلا أن هناك أيضا فروقا جوهرية بين الفيلمين ذات علاقة بالفرق بين المرأة والرجل في مجتمعاتنا المحافظة بطبيعتها في النظر إلى المرأة التي لا يمكنها التعبير ببساطة عن مشاعرها أو الظهور بالمظهر الذي تحبه.

في "عصافير النيل" مثلا هناك مشهد نرى فيه أحد المتشددين الأصوليين يعترض سبيل "بسيمة" في الشارع وينهرها عن تناول الطعام علانية في الطريق العام، بدعوى أن هذا "حرام"!

ولاشك أن في الفيلم الكثير من المشاهد البديعة التي تتميز بالحس الرفيع، والشفافية الجميلة الموحية، مثل مشهد اللقاء في بداية الفيلم، بين بسيمة وعبد الرحيم، ثم مشهد اصطياد العصفور بسنارة صيد السمك وما يوحي به، ثم مشهد عبد الرحيم بعد إعفائه من العمل كساعي بريد عقب فضيحة "المصعد" وهو يعود إلى قريته التي جاء منها للقاهرة، وهناك يجلس في ظل شجرة، ويناجي نفسه بينما الأفق يبدو متسعا أمامه، وهو من المشاهد التي تتيح للمتفرج مساحة للتأمل والتفكير والمتعة.

ولاشك أن أداء فتحي عبد الوهاب في الدور الرئيسي هنا، أداء واثق ومتماسك، لا يهبط أبدا إلى مستوى محاكاة الريفيين بطريقة مفتعلة على غرار ما نشاهد في الكثير من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، بل يقبض بقوة على الأداء حتى أنه يساعد الممثلين والممثلات الذين يقفون أمامه في الفيلم، على الارتفاع إلى مستواه ومجاراته في إبداعه مما جعل التمثيل من أفضل النواحي الفنية في الفيلم.

تجسيد الأفكار

ولاشك أيضا في أن المخرج نجح في الكثير من المشاهد، من التعبير عن التناقض بين الريف والمدينة، عن فكرة تجاور الموت والحياة، وفكرة البحث الدائم عن الحب ولو من خلال الجنس، وفكرة الجنس كرغبة تعكس القلق وانعدام الثقة في المحيط، وربما أيضا تجسدا لتلك الفكرة الشائعة عند الريفيين عن "نساء المدينة" الشهيات اللاتي يقدمن أنفسهن بسهولة. ومن أكثر العلاقات في الفيلم تجسيدا لهذا التناقض بين الشاب الريفي ونساء المدينة، ربما على نحو يذكرنا – ولو من بعيد – بفيلم "شباب امرأة"، تلك العلاقة بين "أشجان".. الأرملة الأربعينية، والشاب الريفي عبد الرحيم، المندفع الذي لا يهدأ له بال في بحثه القلق عن السكينة.

"أشجان" تعرف كيف تغويه بعد أن تدرك أنه النموذج المستعد للوقوع في يدها بسهولة، لكنها تستدرجه وتوقع به لمصلحتها هي وطبقا لشروطها. إنها نموذج لامرأة المدينة، التي تعرف كيف تتحكم في الشاب الريفي المتدفق العاطفة، وتدفعه للسير إلى الوجهة التي تريدها، فتجعله يتزوجها رغم أن لديها ثلاثة أبناء، ثم هي التي تقرر فيما بعد، أن تنهي زواجها منه بالطلاق، عندما تجد أن زواجهما يتعارض مع مصالحها المادية المباشرة، فربما تفقد بسببه، منحة تقاعد زوجها الراحل. وكأنما هي صاحبة الكلمة والقرار. وهو ما يدفعه إلى العودة إليها بعد وقوع الطلاق، لكي يغتصبها في مشهد مصنوع جيدا، يريد أن يقول لنا إنه كريفي خشن، لا يقبل ان تلتقطه امرأة على هذا النحو، ثم تلقي به إلى الخارج وقتما تشاء هكذا، وكأنه يريد أن يحقق معها لحظة النشوة التي انقطعت، بالمفهوم الحسي المباشر، كما أنها، بسبب قوة شخصيتها، تظل في خياله المرأة الأكثر إثارة من الناحية الجسدية الصرف، وهو ما يؤكده لنا الراوي من خلال التعليق الصوتي من خارج الصورة.

ولعل هذه المشاهد بين أشجان وعبد الرحيم، من أكثر مشاهد الفيلم إحكاما وتعبيرا وسيطرة من ناحية الإخراج: تقطيع المشهد بحيث يستخلص منه أكبر شحنة تأثير درامية ممكنة، التحكم في الإيقاع: إيقاع الممثلين، وحركة الكاميرا، والسيطرة على الأداء، واختيار زوايا التصوير، واستخدام الموسيقى بحذر، واستخدام تقنية "الفوتومونتاج" في المشهد الذي يدور في الحمام فيما بعد، وإن كان شريط الصوت المصاحب يفسده، وهو ما سأتطرق إليه بعد قليل.

أما "بسيمة" المطلقة الشابة التي كانت تجاورهم في السكن (عبد الرحيم يقيم مع شقيقته نرجس وزوجها البهي افندي، موظف البريد) فهي تظل مثل الفاكهة المحرمة، رغم أنه نالها أيضا من البداية، لكنها حرمته من نفسها، بعد أن تردد في الثقة بها. وظل يعتبرها رمزا للجمال، والرقة، والأنوثة، والدفء الذي كان يحتاج إليه بشدة. لكن الاثنين يلتقيان مجددا في المستشفى بعد أن تكون الشجرة قد ذبلت، أي بعد أن يصيب المرض العضال عبد الرحيم، وتكون بسيمة بالفعل قد سكنت المستشفى بعد اصابتها بالسرطان.يموت زوج شقيقة عبد الرحيم، أي "البهي"، وتموت "نرجس" نفسها بعد ذلك، ولكن تظل الأم: أم عبد الرحيم ونرجس، التي تقيم في "البلد" أي القرية، تحلم بالأرض التي ربما تكون قد ضاعت بالفعل إلى الأبد، وتتذكر أشخاصا رحلوا عن عالمنا، لكنها لاتزال، بعد أن اصبحت طاعنة في السن، تتشبث بالحياة، في الوقت الذي تعد فيه لاستقبال الموت. وعندما يصطحبها عبد الرحيم للعيش في المدينة، لا يمكنها أن تتحمل، بل نراها في المشهد الأخير من الفيلم تغادر المدينة عائدة إلى القرية غالبا، لكي تموت هناك.

التأثير الأدبي

الرؤية الأدبية تلقي بظلالها على فيلم عصافير النيل"، تمنحه الكثير من قيمته، وفلسفته ورؤيته وصوره الأخاذة بفضل مدير التصوير الكبير رمسيس مروزق، الذي يعرف كيف ينتقل من النهار إلى الليل، ومن الليل إلى النهار، وكيف يستخدم ببراعة المصادر الطبيعية للضوء. ورغم ذلك، يعاني الفيلم من الترهل في الإيقاع، عند الكثير من المحاور، مما يكاد ينسف الفيلم لولا أن مجدي يتمكن بحرفيته العالية، من شد المتفرج مجددا إلى الشاشة.
والمشكلة أن سيناريو الفيلم استسلم كثيرا لسطوة الأدب، والرغبة في التعبير عن الكثير من الأفكار الأدبية الكامنة في الرواية، مما أدى إلى شيوع بعض الاضطراب في الفيلم. ويمكن القول هنا: إن ليس كل ما يرد في العمل الأدبي من "أفكار"، يصلح بالضرورة لكي يدخل إلى سياق الفيلم، ما لم تتم معالجته بطريقة لا تفقده قيمته البصرية وعلاقته "الخارجية" مع الصور واللقطات والمشاهد الأخرى في الفيلم، كما لا تفقده علاقته "الداخلية" بالفكرة الأساسية التي تدور حولها الدراما.. فوحدة الحدث (أو الفكرة) في هذا النوع من الأفلام شرط أساسي لنجاحه، مع مشروعية تطعيمه بالطبع، بكل ما يثري الحدث ويغذي الفكرة الرئيسية من أفكار أخرى، لا تجرنا بعيدا عن السياق الرئيسي.

إلا أن الفيلم كثيرا ما ينحرف خارج الفكرة الرئيسية، إلى أفكار فرعية لا تضيف أي جديد، بل تساهم، في الكثير من الأحيان، في تشويش الرؤية عند المتفرج: من هذه الافكار مثلا: فكرة التطرف الديني وتأثيره علىالشارع، والتي يعالجها الفيلم بطريقة ساذجة كثيرا حتى لو كان هذا ما ورد في رواية ابراهيم اصلان، فالجماعات الدينية المتطرفة لم تكن تنهر الفتيات بسبب تناولهن مأكولات في الطريق العام، ولا تضرب الرجال ضربا مبرحا، لأنهم لا يتوجهون لصلاة الفجر في المسجد، بل كانت تركز اهتمامها على أمور أكثر خطورة!

في الوقت نفسه، هناك ابتسار كبير في تقديم الشقيقين، أي ابني البهي ونرجس وهما: سلامة وابراهيم، والمفترض أن احدهما، وهو ابراهيم، يتجه يسارا (لا أعرف إلى أين تحديدا.. فالفيلم لا يقول لنا شيئا عن نشاطه ولا حتى عن مواقفه الفكرية مما يحدث، بل هو صامت معظم الوقت، وعندما يتكلم يلقي بتعليقات عامة وسطحية)، في حين يختفي الإبن الثاني من الفيلم تماما لكي يعود قرب النهاية، ونفهم أنه مرتبط باليمين الديني، وأنه يمكن حتى أن يشي بشقيقه للشرطة، مما يصيب أمه بصدمة توقعها مريضة إلى أن تغادر الحياة!هذا الموضوع كان من الأفضل تجنب النفاذ إليه لأنه حتى من الناحية الزمانية، يبدو غريبا على أحداث يفترض أن تقع في الستينيات من القرن الماضي، في حين لم تبرز الظاهرة المتطرفة إلا في التسعينيات.

وتحديد الزمن هنا أمر شديد الأهمية، حتى مع المشروعية التامة بالطبع، للانتقال بين الأزمنة، واعتماد أسلوب التداخل في السرد، الذي يقوم على الانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي القريب. والمقصود بتحديد الزمن هو تحديد الزمن "الحاضر" الأساسي في الفيلم، الذي تدور الأحداث من حوله، ذهابا نكوصا.

وفي الفيلم استطرادات لا يندمج مغزاها في السياق بل ربما تكون كفكرة أدبية في الرواية جذابة، مثل السيارة من موديل فيات 128 (عرفت في الستينيات) التي يمتلكها "سيد عثمان"، نموذج الرجل الذي يعرف كيف يراكم المال حتى من الحرام (هناك مشهد في أول الفيلم له وهو يلتقط قطعة نقدية سقطت من أحدهم أثناء الصلاة في المسجد!)، ثم يدور على نساء الحي يشكو من هذا الحفيد، أو تلك الإبنة الصغيرة، التي نرها تقوم بتفريغ عجلات السيارة باستمرار دون أي هدف، وهو ما يستهلك زمنا طويلا من الفيلم، دون أن يضيف شيئا.

من زاوية المتفرج

وأعترف هنا أنني لم أقرأ رواية ابراهيم أصلان "عصافير النيل"، ولا أظن أن قراءتها يجب أن تكون شرطا أساسيا قبل مشاهدة الفيلم، إلا في حالة واحدة فقط، إذا كان الناقد سيقوم بإعداد "دراسة مقارنة" بين الفيلم والرواية، وهو ليس مجال اهتمامي هنا، لأنني أكتفي بأن أضع نفسي مكان المتفرج، وأحاول أن أفهم الفيلم وأتفاعل معه، من زاوية المتفرج العادي، ولا أظن أنه ملزم بقراءة الرواية قبل مشاهدته الفيلم.

ولكني أرى، رغم ذلك، أن هذا "الإخلاص" الشديد في السيناريو لكل ما ورد في الرواية، ربما يكون قد أدى إلى بعض التشتت في البناء، والهبوط في الإيقاع العام للفيلم، وهبوط الإيقاع في الكثير من المشاهد ايضا.لاشك في ولع المخرج بتجسيد الكثير من الأفكار والمواقف، وتحرره في السرد استنادا إلى أنه يخرج فيلما غير تقليدي، أي لا يقوم على حبكة تقليدية أو ذروة، تنفك بعدها العقدة، وتنفرج الأحداث عن "حل تطهيري". ولاشك أن من العناصر الفنية الجيدة في الفيلم استناده إلى نسيج أفقي من الشخصيات والأحداث، تلتقي وتفترق معا، تماما كما يجسد الفيلم فكرة مرور الزمن التي تبدو على ملامح الشخصيات وتنعكس مثلا كأفضل ما يكون، على نرجس مع تقدمها في السن، وزوجها البهي، الذي يصل إلى مرحلة الهلوسة التامة قبيل موته، كما أن الأطفال يكبرون، وعبد الرحيم يصاب بالمرض (غالبا سرطان الرئة) وتبدو عليه آثار الزمن والمرض، وكذلك بسيمة، دون أن تفقد سحرها.

كل هذا صحيح تماما، غير أن هذا البناء يظل رغم ذلك، يعاني من الطموح الزائد. فقد انتهج مجدي خطة لفيلمه افقدته الكثير من حرارته، وكان يمكنه ببساطة، أن يعدل بناء السيناريو ويقومه، ويتحكم أكثر في طول المشاهد، بل ويستبعد البعض منها على طاولة المونتاج إلا أنه لم يفعل. ولاشك أنه كان من الممكن استبعاد اكثر من 20 دقيقة من الفيلم، دون أن يؤثر هذا على أفكاره وشخصياته الرئيسية.

مثالا على ذلك، المشهد الطويل الذي نرى فيه مرشح البرلمان "الدرديري" (الذي يقوم بدوره عزت أبو عوف) الذي يخدع الناس في دائرته، ويبدو كما لو كان شاذا أو محتالا.. لا أدري، بل ولم أفهم أصلا لماذا دخل هذا الشخص إلى الفيلم وخرج منه، وماذا يلخص، وما مغزى دوره هذا، هل هو انتقاد السلطة، أي سلطة، هل هي السلطة في زمن السادات، أي أيام الانفتاح الاقتصادي كما يبدو من خلال تلك الأغنية التي نستمع إليها في الخلفي، وما علاقة الفيلم بنقد السلطة سياسيا!

اللغة والأسلوب

وهناك مشهد عبد الرحيم وأخته نرجس في زيارة أسرة "أفكار" الممرضة التي كان يرغب في الزواج منها، وموضوع التفاح، وكيف يتناول عبد الرحيم تفاحة يأكلها دون أن يلحظ طعمها الملوث بالكيروسين، لأنه "اعتقد ان هذا هو طعم التفاح"- كما يقول، دلالة على أنه لم يسبق له تناوله من قبل.. وهو مشهد لم أجد له ضرورة في سياق الفيلم، بل ويبدو مصمما على أساس ترجمة سينمائية لـ"نكتة" لفظية!

وهناك المشهد "الانتحاري" الذي يخصصه مجدي أحمد علي للبهي افندي، موظف البريد المتواضع المستوى، حياتيا وتعليميا، وهو يندفع فجاة، ويهتف وسط أهل منزله، بمونولوج هاملت الشهير في مسرحية شكسبير، وباللغة الانجليزية (أكون أو لا أكون)، في حين يتابع الجمهور المشهد الطويل (حوالي 5 دقائق) عن طريق الترجمة المطبوعة. وهذا المشهد تحديدا أعتبره "انتحاريا" لأنه كاد يقضي على منطق الفيلم كله ويضر ببساطته وشخصياته البسيطة، كما يضر بايقاع الفيلم، الذي يهبط كثيرا بعده، بل ويبدو خارج السياق تماما، بل وخارج طبيعة الشخصية وطبيعة الفيلم نفسه. وكان الأفضل أن يتخلص منه مجدي تماما في المونتاج، خاصة ان ما نشاهده من مشاهد على خلفية هذا المونولوج الشكسبيري، لا علاقة لها بما يقوله "البهي"، بل معظمها لقطات لعبد الرحيم في غزواته النسائية التي لا تتوقف!

من ناحية اللغة والشكل والأسلوب: يستخدم مجدي في فيلمه ثلاثة أصوات للراوي: صوت الراوي المحايد الذي يبدو مطلعا على كل ما يقع للشخصيات، وهو هنا صوت المؤلف، وهذه وسيلة أدبية قديمة معروفة، أضفت طابعا أدبيا تقليديا على الفيلم، كما يستخدم صوت عبد الرحيم نفسه، الذي يروي أيضا ويعلق على بعض المواقف والأحداث من وجهة نظره الذاتية، ويستخدم بدرجة أقل، صوت بسيمة، التي تروي وتعلق على بعض ما يخصها من خارج الصورة.

هذه الوجهات المختلفة، لم أجد أنها ضرورية من الناحية السينمائية الصرف، فبوسع الجمهور أن يدرك، من دون هذا التأكيد، ما إذا كانت التداعيات من ذهن هذه الشخصية أم تلك.ربما يكون استخدام الراوي التقليدي المحايد، قصد منه أن تبدو بعض أحداث الفيلم كما لو كانت تنتمي إلى الماضي البعيد، في حين أن بالفيلم ما يناقض هذه الفكرة "عن الماضي البعيد" ويجعلنا نرتد كثيرا إلى "الماضي البسيط أي القريب" جدا!

ويستخدم مجدي ببراعة القطع على شريط الصوت قبل الانتقال في شريط الصورة، أي قبل أن ننتقل من مشهد إلى آخر، وهي وسيلة معروفة تزيد من تكثيف الموضوع، وتجعل المشاهد ينتبه، وينتقل من الاستغراق إلى المتابعة الذهنية، كما أنها تمهد نفسيا للانتقال إلى مشهد آخر.

وفي الفيلم بعض اللقطات الزائدة الخارجة عن سياقه أو التي سببت بعض التشوش في السرد، وكان يجدر بالمونتير أحمد داود أن يتخلص منها، مثل لقطة سريعة عابرة للأم العجوز قرب النهاية، وهي في الخارج، تدفع بعربة، ثم مشهد طويل لبسيمة وعبد الرحيم مع باقي المرضى داخل المستشفى في الزمن "المضارع" يرقصان ويصران على المضي في الاحتفال بالحياة حتى النهاية. بعد ذلك هناك مشهد مركب على خلفية من الصور المتعددة بينما نشاهد عبد الله (الذي يفترض أنه يجري بلا توقف) ولكننا نراه يجري واقفا داخل الاستديو على تلك الخلفية من الصور المتعددة مما يحدث في الشارع، وكأنه مطارد من قبل الشرطة، ثم نعود إلى الأم العجوز بعد ذلك في إضاءة ليلية خافتة تصطبغ باللون الأخضر، وهي تحاول أن توقف عربة من عربات الخضار لكي تعود إلى بلدتها.

لكن المشكلة الخطيرة من ناحية المونتاج هنا، أن هذه المشاهد الثلاثة، لا تنجح في خلق نهاية جيدة ومحكمة للفيلم: أحد هذه المشاهد يدور داخل المستشفى للمرضى وبينهم عبد الرحيم وبسيمة يرقصون، وهو مصور بالحركة البطيئة، وينزل فوقه التعليق الصوتي الطويل للراوي (المحايد) الذي يروي لنا كيف كان عبد الله يفشل في اصطياد العصافير وهو صغير، وكيف أنه رأى ذات يوم عصفورا جريحا فخبأه ثم عاد إلى المنزل وقال لأمه "نرجس: إنه سيخرج لاصطياد عصفور، ثم كيف انه عندما أمسك بالعصفور محاولا ان يضع قدمه في الفخ، أفلت العصفور وسقط من أعلى السطوح على أرضية الشارع، واخذ الأولاد يطاردونه، ثم جاء عبد الله يحاول أن يمكسه فنشب العصفور الجريح أظافره في يد عبد الله ثم أخذ يقفز بقدمه السليمة نحو الحرية.

هذه النهاية الأدبية الطويلة يفسدها المونتاج بعدم اكتراثه، لأن المونتير لم يتدخل، سواء لتقليص حجم الحكي الصوتي، أو لزيادة جرعة صور ولقطات عبد الله نفسه وهو يهرب من الشرطة، بدلا من جعل هذه الحكاية تظهر على مشاهد شديدة التناقض مع بعضها البعض كما أشرنا، وهي أساسا، مسؤولية المخرج أيضا، لكن كان يمكن للمونتير أن يتدخل، وأن يقول رأيه، ويوجه النصح، فهذا الخليط المضطرب في نهاية الفيلم، لا أظن أنه يمكن أن يصل بسهولة إلى المتفرج. ولعل من نقاط الضعف الخطيرة في الفيلم أيضا، إلى جانب المونتاج، تلك الموسيقى المصاحبة للفيلم التي وضعها راجح داود (صاحب البدايات المبهرة في الكثير من الأفلام). لقد انتهى راجح داود، بكل أسف، إلى محاكاة موسيقى فؤاد الظاهري، بمبالغاتها ونغماتها العالية واستطراداتها واقحامها اقحاما على الصورة، بحيث لا تدع أي مساحة أمام المتفرج للتأمل، للتوقف، للصمت، بل تحاول أن تفرض عليه "فكرة" ما، أو تضغط من أجل انتزاع مشاعره انتزاعا، وهي بهذا تعكس تراجعا مخيفا إلى موسيقى ميلودرامات الخمسينيات، في حين أن نسيج الفيلم نفسه، بدا مغايرا.

ولعل الرغبة في مغازلة الجمهور أيضا، هي التي دفعت مجدي إلى الإبقاء على ذلك المشهد الذي لا معنى له قرب نهاية الفيلم، ونرى فيه الزوجة الثالثة لعبد الرحيم وهي تستغل استغراقه في غيبوبة المرض على فراشه في المستشفى، لكي تنتشل لباسه الداخلي، بعد أن رفض ان يقرضها إياه حتى تتمكن من زيارة الطبيب للفحص. هذا المشهد وضع بالطبع في قالب هزلي، وبدا أيضا كما لو كان نكتة مترجمة إلى أداء مسرحي، وكان من الأفضل أن يستبعد من الفيلم لتناقضه مع الطبيعة الشاعرية لمشاهد النهاية، خاصة بعد أن نجح المخرج بما يكفي، لتجسيد فكرته عن إشاعة المرح رغم الموت المحلق.

لكن هذا ما تؤدي إليه، تلك العادة في التأرجح ما بين السينما السائدة، والسينما الفنية، بين سينما تريد أن تعبر بشفافية وشاعرية عن المشاعر الإنسانية، وسينما أخرى، تريد أن تغازل متفرجي السينما السائدة بتقاليدها المعروفة، وهي سينما تطمح من ناحية، إلى تطوير الشكل، وسينما أخرى كسولة، تريد أن تلعب على ما هو "مضمون". وإن كانت النتائج نفسها ليست دائما "مضمونة"!

((تحذير: الحقوق محفوظة.. ولا يسمح بالنشر أو الاقتباس إلا بإذن خاص مكتوب من الناشر))

السبت، 13 فبراير 2010

كلاسيكيات حديثة: تأملات من وحي فيلم "خلف السحب" لأنطونيوني

كان فيلم "حلف السحب" Beyond the Clouds هو الفيلم الروائي الطويل الأخير الذي يقدمه المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني Antonioni قبل رحيله عن الحياة. وكان الفيلم حدثا منتظرا عندما عرض في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1995 وكان أنطونيوني وقتها في الثالثة والثمانين من عمره، وقد أقعده المرض العضال قبلها بسنوات، ولم يستطع أن يخرج أفلاما منذ فيلم "التعرف على امراة" Identification of a Woman في 1982. وكان أنطونيوني أيضا آخر من بقى، على قيد الحياة من جيل السينمائيين الإيطاليين العظام الذين صنعوا اسم السينما الإيطالية في العالم عبر سنوات، أي جيل روسيلليني ودي سيكا وفيلليني وفيسكونتي. وقد توفي بعد ساعات من وفاة العبقري السويدي العظيم انجمار برجمان في أواخر يوليو 2007.
ولم يكن ممكنا أن يتحقق هذا الفيلم إلا بفضل قوة إرادته، ورغبته المدهشة في قول كلمته التي ربما تكون الأخيرة قبل ان يغادر دنيانا، وبفضل المساعدة الهائلة التي قدمتها له زوجته إنريكا، التي وقفت بجواره طوال فترة مرضه الطويل الذي افقده القدرة على الحركة والكلام، دون أن تسلبه قدرته على التفكير والتأمل. وكان وراء تحقيق مشروع أنطونيوني أيضا المخرج الألماني فيم فيندرز، الذي كان دائما يكن لأنطونيوني إعجابا كبيرا خاصا جعله يتأثر بأسلوبه في عدد من أفلامه، ولم يبادر فيندرز فقط إلى تمويل مشروع فيلم أنطونيوني، بل ساعده في تنفيذ بعض المشاهد منها المقاطع النهائية في الفيلم التي يظهر فيها مارشيللو ماستروياني وجين مورو.
يلخص أنطونيوني في فيلمه هذا حكمته وفلسفته الخاصة التي كان يعبر عنها بأسلوبه البصري المتميز في كل أفلامه، عاكسا تجربته الثرية في الحياة، طارحا، كعادته، أفكاره الخاصة المثيرة للتساؤل حول لغز السعادة الإنسانية، كيف ينظر الرجل للمرأة، وما الذي يجذبه فيها، وكيف أصبحت هي تتعامل معه بعد أن فقدت الكثير من عذوبة روحها في عالم جديد أصبحت تسيطر عليه أفكار تتعلق بالترويج والسلعية والمظاهر السطحية البراقة التي تغفل الجوهر، وكيف يمكن أن يوجد الحب الجسدي بمعزل عن الروح، وهل يتحقق التواصل من خلال الحب، وما طبيعة هذا الحب ومكنونه وجوهره، وهل يكبر الإنسان حقا، أم يظل يخفي في داخله طفلا يتشبث في عناد بأفكاره الملحة، وهل تستطيع الفكرة أن تهزم الواقع، أم أن ما يجري على سطح الواقع أكبر من الأفكار واسبق.
كل هذه الأفكار والتساؤلات، يجسدها أنطونيوني من خلال تناوله السينمائي لأربع من قصصه القصيرة التي كتبها قبل أكثر منذ ثلاثين عاما، ونشرت ضمن مجموعته القصصية التي صدرت عام 1983.
أنطونيوني في فيلمه هذا، يتحدث بضمير المتكلم. إنه يصف مشاعره كفنان من خلال المعادل السينمائي له في الفيلم، أي شخصية البطل الذي يظهر في القصص الأربع، يخوض التجربة تلو الأخرى، يلقي بنفسه في أتون النفس البشرية، ويطرح الكثير من التساؤلات التي لا يملك في معظم الأحيان، أن يقدم إجابات شافية عنها.
هذا فيلم "مثالي" من عالم أفلام أنطونيوني، عن تلك العلاقة الغامضة التي تشد الرجل إلى المرأة، وتجعل المرأة تستسلم إلى الرجل، دون أن تدرك ما يدور من عجائب داخل نفس الرجل، عن استحالة التواصل، ليس على مستوى الخلفية الاجتماعية في مجتمعات الغرب الصناعية الاستهلاكية وهي الخلفية الرئيسية في أفلام أنطونيوني خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بل على المستوى الروحي. إنها علاقات داخلية تتكثف في تصرفات وسلوكيات خارجية، يطبعها المكان بسحره الأخاذ في قصص الفيلم الأربع التي ينتقل خلالها أنطونيوني عبر عدد من البلدات الأوروبية الصغيرة الشديدة الجمال، في الريف الفرنسي والإيطالي، من كوماتشينو وفيرارا (موطن انطونيوني)، إلى بورتوفينو، ومن ايس أون بروفيس، وصولا إلى المرآة الكبيرة لمعرض النفوس البشرية في باريس.
الرجل، البطل، مخرج سينمائي ، وهو بمثابة مرآة ترى فيها المرأة- محور القصص الأربع- نفسها.
في القصة الأولى وهي بعنوان "يوميات حب لم يولد" علاقة حب غريبة بين شاب وفتاة يلتقيان مصادفة ثم يفترقان، وبعد مرور زمن، يلتقيان مجددا ويتذكران بعضهما البعض، يتشبث الشاب باللقاء، ويريد أن يمده على استقامته، يذهب مع الفتاة إلى مسكنها في البلدة، يتأمل فيها كما لو كان يرغب في النفاذ إلى أعماق أعماقها ويسبر أغوارها، لكنها تعرض عليه "السطح".. الخارج، أي جسدها، فتكون هذه هي لحظة النهاية والفراق. يغادر الشاب ولا يعود أبدا. فقد أراد أن يبقي على اللحظة نقية صافية، أبدية كزهرة يتأملها دون أن يستطيع أن يقطفها. يقول أنطونيوني من خلال بطله إن علاقة الحب الغريبة هذه استمرت اثنتي عشرة سنة دون أن تتحول إلى علاقة حب حقيقية، فما هذا اللغز الإنساني، وكيف يمكن أن ينتظر رجل اثنتي عشرة سنة ثم عندما يحين اللحظة، يفقدها!
تتركنا القصة الأولى في الفيلم ونحن نعيش مع لوحاتها التي تنتمي إلى عصر النهضة، وكأنها لوحات من ريميني تلك المنطقة التي استمد منها الكثير من الرسامين لوحاتهم المليئة بالأفكار التي تدور فيما وراء الطبيعة.
في القصة الثانية، التي تدور في بورتفينو، نرى فتاة فرنسية (صوفي مارسو) تشد بطلنا إليها من النظرة الأولى. إنها عاملة في حانوت لبيع الملابس، يصفها هو في قصته بأنها تتحرك حركات محسوبة كانها تدربت عليها طويلا، أو كأنها ممثلة مدربة على عدم لفت انظار الزبائن لكي تتيح لهم الفرصة كاملة للتركيز في السلع المعروضة في الحانوت. وهي تبدو كأنها إحدى قطع الديكور الموجودة في لامكان. لكنها تصبح في نظر بطلنا هذا، العنصر الوحيد الذي يجذب انتباهه حتى من قبل أن تطأ قدماه الحانوت، بل عندما يلمحها من الخارج عبر فتحة الباب في الصباح الباكر والضباب لايزال يلف الأفق وكاننا بين الحلم واليقظة.
ابتسامة وكلمتان أو ثلاث كلمات ثم لقاء، والرجل لا يعرف ما الذي يجذبه إليها بالضبط. تريد هي أن تفضي إليه بأمر خطير الشأن في الغالب، ويعرف هو أن في داخلها سر تحتفظ به لكن نظراتها تشي بذلك. لقد قتلت أباها قبل فترة. وهي تشير إليه بينما هو يسيران على شاطيء البحر، إلى حيث ارتكبت جريمتها التي لم تكتشف أبدا. لكنها تعيش مع الجريمة، إنها إذن ليست على ما تبدو عليه من الخارج، من حلاوة ووداعة وسحر وجاذبية، فهي قادرة أيضا على ارتكاب فعل القتل. لكنه لا يستطيع رغم ذلك أن يقاوم رغبته فيها، بل لعل هذه الرغبة تشتد وتلح عليه إلحاحا. ويتحقق التواصل الجسدي في مشهد يحيطه أنطونيوني بكل برودته التي تدعونا دوما، إلى التأمل، وليس إلى الاندماج أو التأثر العاطفي أو الإثارة الجنسية. وبعد أن ينتهي الاثنان من تبادلا الحب عى هذا النحو البارد الذي قد لا يبدو لنا مفهوما.
يجلس بطلنا على أرجوحة للاطفال، ويترك نفسه يتأرجح وهو يفكر فيما جرى، وفيما كان. من هذه المرأة، وماذا تريد، وماذا وراءها، وماذا يريد هو منها؟ لقد قضى الليلة معها، لكنه خرج أكثر جهلا بها عما كان قبل أن يلتقيها، أن أن هذا هو ما نشعر به ونحن نشاهد هذه القطعة السينمائية الرائعة من الفنان الكبير.
ودائما هناك البحر ومياه البحر، في القصص الأربع من الفيلم، لكنه لا يكثف هنا معادلا للحرية كما في أفلام العبقري الآخر فيلليني، بل يوحي بالغموض الكبير الذي يلف النفس البشرية، مما لا قبل للمرء بفهمه أو الإحاطة به.
في القصة الثالثة التي تدور في باريس زوجان يعانيان من عدم القدرة على التكيف مع بعضهما البعض. المرأة توهم نفسها بالحب، أو لعلها تحب زوجها فعلا على طريقتها الخاصة. لكنه مشغول عنها، يحادثها من مخدع امرأة أخرى، ثم يصارحها برغبته في الانفصال عنها. وتدرك هي الأمر وتستوعبه، وتبدا في البحث عن سلوى لها، وتلتقي برجل انهارت علاقته بحبيبته حديثا. وفوق انهاير العلاقيتين تنشا علاقة جديدة بين هذا الرجل وهذه المرأة، لكننا لا نعرف ما اذا كانت هذه العلاقة الجديدة ستستمر أم لا، ولا نعرف هل هي علاقة حب أم علاقة احتياج في ظرف ما، أم تراها وهما بالحب، فأنطونيوني هنا يتأمل ويطرح التساؤلات، لكنه لا يجيب.
وفي القصة الرابعة نحن في بلدة ايطالية صغيرة مليئة بالكنائس والأبراج القديمة والشوارع والأرقة الحجرية الضيقة، وكأننا في إحدى قرى العصور الوسطى. الريفيون يستيقظون مبكرا يوم الأحد للذهاب إلى الكنائس، ومن بين هؤلاء فتاة جميلة كالزهرة المتألقة، تمتليء بالرونق وقد تفتحت ملامحها الحسية. وبينما هي في طريقها إلى الكنيسة، يلتقي بها شاب ينجذب إليها، ويصاحبها دون أن يدري السبب، وعندما يكتشف أنها ذاهبة إلى الكنيسة التي لا يتردد عليها أبدا، يدخل معها، ويراها تشارك في الأناشيد والتراتيل الدينية الكنسية الطويلة ضمن قداس الأحد الذي يستمر ساعات وساعات حتى يحل المساء. وصاحبنا يشعر بالإرهاق فيرقد ويستسلم للنعاس على إحدى الأرائك الخشبية داخل الكنيسة. ولا يدري إلا والفتاة توقظه كي يصحبها إذا كان يرغب، في طريق عودتها إلىالمنزل. وهي مشدودة إليه، ترغب فيه وتريد صحبته، ولكنها في نصف عقلها وروحها مشدودة إلى عالم الكنيسة، إلى حب من نوع آخر ينتهي قبل أن يبدأ. ويأتي السؤال الطبيعي من جانب الشاب: هل يمكن أن أراك غدا؟ تبتسم هي لعدة ثوان قبل أن تمنحه الجواب اللغز الذي لا يمكنه استيعابه أبدا: غدا سألتحق بالديرن ثم تدلف من باب المنزل وتختفي.
ما هذا اللغز المحير، كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم رغباته العاطفية والحسية وأن يقمعها هكذا في حسم وهو لايزال بعد في عمر الزهور، وكيف يكون ذلك الانفصال بين العقل والعاطفة، وبين الروح والجسد، وهل يمكن أن يكون ذلك الحب "الإلهي" بديلا عن الحب الإنساني؟
وكالعادة، هي تساؤلات تدعونا إلى التأمل لكنها لا تنتهي بإجابات تشفي غليلنا إلى معرفة الحقيقة، فالطريق غلى الحقيقة شاق ومعذب.
إنه لغز الوجود ذاته ما يتناوله أنطونيوني في آخر أفلامه، محيطا إياه بكل ما يميز هذا الوجود من جمال في الصورة، وعذوبة ورقة في حركة الكاميرا، التي تتسلل في رصانة بين الشخصيات، تصنع بينها وبين الأماكن علاقة تبدو وكأنها الدهر.
ربما يكون هذا هو العالم المتخيل لأنطونيوني نفسه: قرى ذات شوارع ضيقة مبلطة، كنائس قديمة تمارس الطقوس نفسها منذ مئات السنين، شوارع مهجورة، شاطيء البحر السرمدي الممتد بلا نهاية، أنا قليلون، ينتمون إلى طبقة واحدة، لكنهم يبدون كما لو كانوا يقفون على خشبة مسرح، أو داخل فضاء يمثل عالم أنطونيوني نفسه الذي لا يكشف أبدا سوى عن سحطه الخارجي، فالداخل يظل لغزا.. ربما لأن أنطونيوني نفسه لا يعرف حتى بعد تقدمه في العمر، كيف يصف لنا الداخل.. بل هو ينهي مسيرته الفنية كطفل مندهش أمام العالم.. كما يراه بالطبع.
يقطع أنطونيوني سياق القصة الثانية بمشهد غريب خارج عن الحكاية، حينما نرى فنانا يرسم منظرا طبيعيا في البلدة، تقترب منه امرأة وتطرح عليه في استفزاز واستنكار تساؤلات عن مغزى ما يرسمه وقيمته مقارنة مع الطبيعة نفسها التي يصورها في رسومه، وتسأله في حدة: ما هذا؟ هل تسمى ما ترسمه هذا فنا، وهل يمكنك حقا أن تحاكي الطبيعة وأن تحيط بها في لوحتك؟ وما فائدة إضاعة الوقت في شيء لا يمكن أن يصل أبدا إلى مستوى الأصل؟
وتأتي إجابات الرجل، دفاعا بسيطا وتلقائيا عن قيمة الرسم، وعن معنى الفن والتعبير الفني. هذا هو المشهد الذي يشترك في تمثيله مارشيللو ماستروياني وجين مورو، وهو المشهد الذي اخرجه فيم فيندرز لكي يكثف خلاصة رؤيته، ومعنى تساؤلات أنطونيوني، وقيمة عمله الفني أيضا.
إلى جانب ماستروياني ومورو، شارك بالتمثيل في "خلف السحب" عدد من ألمع نجوم السينما الأوروبية منهم صوفي مارسو وأيرين جاكوب وكيارا كسيللي وبيتر ويللر وفاني أردان، والممثل الأمريكي جون مالكوفيتش.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة للناشر ويحظر النقل والاقتباس بدون إذن مكتوب))
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger