الأحد، 31 يناير 2010

يوميات مهرجان روتردام 4


كان لابد أن يكون اليوم مختلفا عما سبقه من أيام. استيقظنا على موجة هطول كثيف للجليد استمرت طيلة انهار، وخرجت أمشي بصعوبة وبحذر شديد فوق الثلوج التي انتشرت وغطت المدينة بأكملها. لكن هذا لم يمنع خروج عشاق السينما أفواجا، وجدت فوجا كبيرا منهم يصطف أمام قصر المهرجان (بداخله قاعتان للعرض السينمائي) في انتظار أن يفتح ابوابه في التاسعة صباحا.
هذا الاقبال الكبير من جانب جمهور روتردام هو إحدى العلامات المميزة لهذا المهرجان الذي يحقق سنويا طفرة في عدد مرات الدخول التي تتجاوز 336 ألف تذكرة دخول للقاعات.
موجود هنا من بين أصدقائنا السينمائيين والنقاد (وهم قليلون جدا) السينمائي العراقي قتيبة الجنابي الذي حضر أساسا لاجراء اتصالات للحصول على تمويل لفيلم يعتزم اخراجه ليكون فيلمه الأول كمخرج بعد أن صور 7 افلام.
قتيبة مصور عظيم درس التصوير السينائي في معهد السينما ببوادبست، لكنه يريد أن يصبح مخرجا ويترك التصوير وهو ما دعاني إلى أن أقول له: كلكم تريدون هجر التصوير والتحول للإخراج فمن الذي سيصور الأفلام إذن؟ وكان زميله الصديق قاسم عبد قد هجر أيضا التصوير وأخرج فيلمه الطويل الأول من النوزع التسجيلي وهو فيلم "زمن السقوط".
قتيبة قال لي ردا على استفساري إنه لم يعد يطيق أن ينتظر وراء المخرج سنوات حتى تتاح له فرصة العمل بالتصوير، أي أنه يرفض تلك التبعية للمخرجين وانتظار أن تنفذ مشاريعهم، ويرغب بالتالي في تولي أموره بنفسه. وقد حصل بالفعل على جزء من التمويل من مؤسسة هيوبرت بالس الهولندية، ويسعى حاليا لتسويق مشروع فيلمه هنا في سوق روتردام الشهير.
رغم الثلوج، أو ربما بسبب الثلوج، قررت أن أشاهد اليوم ستة أفلام، أي أن أقضي اليوم كله في الخارج. وقد نجحت التجربة وشاهدت الأفلام الستة من التاسعة صباحا حتى الحادية عشرة مساء دون أن أغادر أي عرض من العروض قبل نهايته.
وعلى العكس من أفلام الأمس، كان هناك عدد لا بأس به من الأفلام الجيدة اليوم، منها الفيلم الإيراني "طهران للبيع My Tegran for Sale الذي يستحق مقالا خاصا نظرا لأهميته ولأنه اكتشاف حقيقي. ويكفي أن أقول إن الفيلنم صور بكامله في طهران (سرا بالطبع) ويتضمن الكثير من المشاهد الجريئة التي لم يسبق ظهورها في فيلم ايراني من قبل، كما أنه رغم جرأته السياسية، لا يبيع باستخذاء بضاعته للغرب للحصول على مباركته، بل على العكس تماما من الفيلم سيء الصيت "لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية" لبهمن قبادي الذي سبق أن عرض للمرة الأولى في مهرجان كان، وطاف بعد ذلك عددا من المهرجانات آخرها هنا في روتردام. وشتان ما بين الفيلمين في اللغة والأسلوب الفني بل وتفاصيل الموضوع. إنه عمل هجائي آسر من خلال أسلوب شعري مبتكر يجعلك لا تستطيع أن ترفع عينيك دقيقة واحدة بعيدا عن الشاشة.
الفيلم الثاني المتميز هو فيلم من الانتاج السلوفيني الألماني الصربي الكرواتي المشترك. وهو بعنوان "فتاة سلوفينية" Slovenian Girl للمخرج دميان كوزول. ويصور كيف تتحول طالبة في الجامعة في الثالثة والعشرين من عمرها إلى عاهرة محترفة تتردد على الفنادق الفاخرة، تختار زبائنها من الأوروبيين الأجانب لطن أحد هؤلاء الزبائن يسقط ميتا قبل أن يمارس معها الجنس في غرفته بالفندق، فتبلغ الإسعاف وتهرب لكي تصبح بعد ذلك مطارة من جانب الشرطة. هذا الموضوع ينجح السيناريو الممتاز في جعله عملا يحمل في طياته الكثير من التفصيل الانسانية المهمة، وينتقل من أسرة الفتاة الممزقة، إلى علاقتها بأستاذها في الجامعة، إلى تطلعها لشراء شقة في المدينة، إلى محاولات مستميتة من جانب اثنين من القوادين لتطويعها والسيطرة عليها بالقوة، إلى علاقة فاشلة لها مع رجل ترك زوجته بسببها دون أن يعرف بالطبع أنها تمتهن الدعارة. الحياة المزدوجة للفتاة مقدمة هنا على صعيد الدراما الاجتماعية النفسية، ومن خلال اسلوب واقعي تماما، وليس على طريقة العبقري لوي بونويل في "حسناء النهار" Belle de Jour مثلا. ولعل أهم جانب في الفيلم هو ذلك الأداء العبقري من جانب الممثلة المسرحية نينا إيفانسين التي تتحكم في أداء دور الفتاة التي تختار عن وعي وعن تصميم وعن حسابات دقيقة الانتقال إلى الجانب الآخر، ولكنها تظل أساسا نموذجا إنسانيا يفتقر إلى الحب وإلى الإحساس بالحياة.
وكان هناك أيضا فيلم ثالث بعنوان "رابيا" Rabia مكسيكي (مشترك مع كولومبيا واسبانيا) أعتبره تحفة في موضوعه المثير الذي يذكرك بشبح الأوبرا ولكنه يؤنسن الموضوع أكثر ويجعله قريبا من قلوب المشاهدين ويدخل عليه الكثير من التفاصيل المتعلقة بالواقع الذي تدور في اطاره الأحداث. إنها قصة حب بين شاب وفتاة يصيبها من البداية سوء الطالع مما يؤدي إلى ارتكاب الشاب جريمة قتل عن طريق الخطأ ثم الهرب والاختباء في غرفة علوية في منزل السادة الذين تعمل لديهم حبيبته الفتاة الجميلة البريئة "روزا" خادمة.
الشاب مهاجر غير شرعي يطرد من عمله بسبب تأديبه لرجلين تهكما على علاقته بالفتاة، ثم يتشاجر مع رئيسه في العمل الذي يطرده ويحرمه بالتالي من المسكن غير الانساني الذي وضعه فيه مع غيره من المهاجرين غير الشرعيين (ستة أفراد في غرفة واحدة)، ثم ينتقم من ابن أصحاب المنزل بعد أن يغتصب روزا، بأن يخنقه ويصور الأمر على أنه حادثة. وهو لا يجرؤ أبدا على النزول من مخبئه هذؤا والاعتراف ذلرزوا بما فعله بل يفضل العيش مع الفئران، وتقاسم فضلات الطعام معها على أن يعرض روزا للخطر بسببه.
الفيلم بالطبع لا ينتهي هنا لكنه يحمل في كل مشهد من مشاهده مفاجأة تطور الحبكة وتدفع الفيلم إلى الأمام، لتجل المشاهدين يتابعون باهتمام تفاصيل السيناريو المحكم والاخراج الذي لا يسقط في أي خطأ، حيث لا توجد لقطة أو مشهد أطول مما ينبغي، أو أقصر مما كان يجب.
ولعل أفلام اليوم المتميزة جاءت في معظمها، من السينما التقليدية التي تعتمد على رواية قصة وليس على الأفلام التي تسعى إلى تجاوز الأشكال التقليدية والسباحة في عوالم أكثر رحابة، فهذه النوعية فشلت من خلال ما شاهدته هنا حتى الآن في اقناعي بأنني أمام عمل متماسك يبشر بموهبة حقيقة، باستثناء الفيلم الإيراني الذي أخرجته الشاعرة جراناز موسوي التي تقف وراء الكاميرا للمرة الأولى كمخرجة. ولنا حديث آخر حول هذا الفيلم تحديدا.

السبت، 30 يناير 2010

يوميات مهرجان روتردام 3



كتبت أمس أن كثرة عدد الأفلام في مهرجان ما، ليست ميزة في حد ذاتها، وكنت أقصد أنني أفضل أفلاما أقل ولكن جيدة، على أفلام كثيرة معظمها رديء.
اليوم يوم الأفلام الرديئة في المهرجان بلا شك. فيلم ياباني بالأبيض والأسود يدعى "عائلة صيف" من التمويل الفرنسي، يتحذلق ويفتعل لكي يرضي الفرنسيين، حتى أنه جعل اليابانيين يفكرون في الحياة مثل الفرنسيين، أي جعلهم يفتقدون أهم سماتهم الأصيلة أي ثقافتهم!
فيلم آخر من فرنسا نفسها بعنوان "ليلة زرقاء" لا علاقة له بما يمكن أن يوحي به العنوان بل ولا علاقة له بأي شيء يمكن فهمه، لدرجة أنك تتحسر على ما أنفق عليه من مال!
أما كارثة الكوارث فهي الفيلم الفرنسي – مرة أخرى- الذي أخرجته اللبنانية ديما الحر بعنوان "كل يوم عطلة" أو كل يوم عيد، وهو عنوان متحذلق ومفتعل لا علاقة له بالفيلم، لا من قريب ولا من بعيد.
والفيلم، إذا اعتبرنا هذا فيلما حقا، فهو يصلح مشروعا للتدريب على التصوير، يدور في لبنان، ولكنه لبنان المجرد من كل ما نعرفه عنه، وهذا ليس عيبا، لكنه يدخلنا بعد ذلك في قصة عجيبة حول مجموعة من النساء يركبن حافلة تتوجه إلى سجن خارج المدينة، لزيارة أزواجهم. وفي الطريق تتعرض الحافلة لاطلاق نار مما يؤدي إلى موت السائق، وتجد النساء أنفسهن في بقعة صحراوية خربة، ثم تنفصل ثلاث نساء هن بطلات الفيلم عن المجموعة، لكي يعدن أدراجهن. وفي الطريق نرى أن هناك انفجارات من بعيد وأصوات طائرات في الجو، ومنازل خربتها الحرب، ورجل يحمل أقفاصا من الدجاج فوق شاحنة يعرض توصيلهن لكنه يتخلى عنهن بعد ان يذب لتلبية نداء فرقته الأمنية، فهو رجل أمن لكن لأي جهة، لا ندري.
النساء الثلاث منهن واحدة فرنسية لا تتكلم العربية شأنها شأن هذا الفيلم الذي يندر استخدام العربية فيه بل ان سائق الحافلة الكهل يستخدم أيضا الفرنسية قبيل انطلاقه في الرحلة، كما تستخدمها سيدة عجوز من راكبات الحافلة، تتحدث حديثا كله هراء، عن ولعها بالتدخين ونحو ذلك من ترهات.
أما النساء الثلاث فالكاميرا تتركز على سيقانهن أكثر من وجوهن، وهن يمشين في الصحراء وتتذكر كل منهن مأساتها مع زوجها: الأولى تحمل في حقيبة يدها مسدسا لتوصيله إلى زوجها حارس السجن، والثانية ترغب في زيارة زوجها الذي قبض عليه ليلة زفافهما، والمرأة الثالثة تحمل أوراق قضية طلاق وتسعى لاقناع زوجها بتوقيعها.
ولا نريد أن نتغلغل في تفاصيل الموضوع لأن اهتمام صاحبة الفيلم ليس بالموضوع بل باختلاق مواقف سخيفة للغاية، لكي تتباكى من خلالها على تفكك البنية اللبنانية وضياع المرأة بين فكاك الرجال حتى دون أن نراهم في الفيلم، واختلاق مشاهد مفتعلة تعاني من البطء القاتل، وأسلوب في السرد يقتلك من الملل، وكاميرا تتوقف أمام اللقطة الواحدة لعدة دقائق أحيانا، وحكايات مقززة من نوع ما ترويه إحدى النساء عن تلك الرائحة القذرة التي تنبعث من جسدها بين فترة وأخرى، تخنقها، وتقتلها، والمرأة تطلب أن تغتغسل، وتفتح ساقيها وتنزل ملبسها الداخلي، وتتركز الكاميرا عليها في هذا الوضع الغريب وهي تر دد كلمات كثيرة عن الرائحة الخانقة، فهل هناك انعجام للحس والذوق أكثر من هذا!
هل هذا هو الشعر السينمائي، أم نوع من الهواجس المرضية، والرغبة المقيتة في تعذيب المشاهدين وتنفيرهم من السينما. وما تلك المشاهد المتراكمة الجامدة التي لا تضيف أي شيء إلى هذا الموضوع المفتعل افتعالا لإرضاء الفرنسيين، فقد بات يكفي عند بعض السينمائيين، أن يأتي بعدد من النسوة في أي مكان من العالم العربي، وحبذا لو تكون بينهن امرأة فرنسية، لكي تتكلم عن عذاب النساء في مجتمع يشيع فيه الاضطهاد والتفرقة والقتل وما إلى ذلك، من قوالب وأفكار مستهلكة.
في الفيلم خمس سيارات لدفن الموتى تسير في الصحراء والصوت الصادر من احداها هو صوت المقريء عبد الباسط عبد الصمد، يقرأ القرآن، ثم نرى خمسة نعوش يحملها أشخاص غامضون لدفنها في الصحراء. وواضح أن هذا النوع من المشاهد المنفصلة المفتعلة افتعالا، هو ما أغرى هذه المخرجة المبتدئة التي ضلت طريقها تماما، بالاقدام على صنع فيلم يصلح للتدريس على طلاب السينما لمعرفة النوعية الرديئة التي يتعين عليهم تجبنها.
"كل يوم عطلة" وكل يوم فيلم رديء لدرجة أنني أفكر جديا في تجنب الكتابة عن الأفلام الرديئة وتركها تذهب إلى مصيرها وحدها مع نفايات التاريخ، فالأفضل بكل تأكيد أن يكتب المرء عما يحبه، وعما يجده مفيدا للآخرين!
طبعا انا مصر على أن هذا فيلم فرنسي بالكامل حتى لو كان قد صور في لبنان باستخدام بعض الممثلات اللبنانيات، فهو أولا من الإنتاج الفرنسي، وثانيا كل العاملين فيه من الفنيين: الصوت والتصوير والمونتاج والموسيقى .. إلخ من الفرنسيين أيضا.
وجدير بالذكر أن مخرجة الفيلم، ديما الحر، تقول عن نفسها إنها "تحلم بالعربية، وتنحدث بالإنجليزية، وتكتب وتقرأ بالفرنسية".. فأي اغتراب، وأي اغتراب!

الجمعة، 29 يناير 2010

يوميات مهرجان روتردام 2


إذا لم يملك عاشق السينما أو الناقد المحترف أو أي شخص يريد التردد لمتابعة أفلام المهرجان، برنامجا دقيقا، يبذل وقتا وجهدا كبيرا في وضعه والتدقيق في، لفاته الكثير، وشعر بالضياع وسط هذا المهرجان الكبير وكل المهرجانات الكبيرة التي تزدحم بعروض الأفلام بما يزيد عن الطاقة البشرية أحيانا.
ازدحام البرنامج هنا ملحوظ لدرجة أن من الممكن أن يواصل المرء المشاهدة لسبع أفلام يوميا، شريط أن يتوقف عن تناول الطعام والشراب ولقاء البشر ويستغني عن الراحة، وعن العمل، بل وعن التفكير فيما يشاهده. وقد كان رأيي دائما أن كثرة المشاهدة ليست دليلا على أن "الناقد يقوم بدوره" كما يتخيل البعض، بل العبرة بماذا يشاهد، وكيف يشاهد، وما الذي يبقى في رأسه من المشاهدة، وكيف يتعامل مع ما شاهده تعاملا نقديا جادا في النهاية بحيث يفيد القاريء.
وهذا هو الفرق بين الناقد وبين"هاوي السينما" cinephil فالأخير يسعد كثيرا بالمشاهدة لمجرد المشاهدة، وبالخروج من فيلم لكي يدلف لمشاهدة الفيلم التالي، فهو ستمتع بالتواجد داخل قاعة العرض، ويحتفل بالسينا أكثر كثيرا ا يحتفل بالحياة التي تصنع منها السينما، كما تصنع حولها وحول تعقيداتها. وشخصيا لو خيرت بين تجربة إنسانية جميلة تثري معرفتي بالدنيا والعالم، وبين أن أشاهد فيلما عظيما، سأختار بلا تردد، التجربة الإنسانية، أو "المغامرة" لأن الفيلم يمكن الحصول عليه ومشاهدته فيما بعد، أما اللحظة الإنسانية الخاصة فلا يمكن تعويضها.. أليس كذلك؟!
من الناحية الأخرى، يجب أن يمارس الناقد أيشاء أخرى كثيرى أكثر من مجرد المشاهدة، فهو لابد أن يقرأ، وأن يتذوق الموسيقى، وأن يشاهد المسرح، وأن يستمع إلى الشعر، وأن يتردد على المعارض لمشاهدة أعمال الفن التشكيلي وفن التصوير التي هي كما نعرف، أساس السينما كفن يعتمد بالدرجة الأولى على الصورة.
وهذه كلها بديهيات معروفة وليست اختراعا، لكنها تداعت إلى ذهني وأنا هنا في روتردام الآن، بعد أن رأيت كيف "يعسكر" بعض هواة السينما داخل قصر المهرجان، ويظل كل منهم يدخل ويخرج إلى قاعات العرض طوال اليوم، وبعضهم يتبارى مع رفقائه في عدد الأفلام التي يساهدونها، وكم يمكن لكل منهم أن يشاهد في اليوم الواحد، وبعض النقاد أيضا يفعل للأسف، وكأننا نخوض سباقا، لنرى من منا سيربحه ويخرج بجائزة أكثر مشاهدي الأفلام عددا.. والعدد بعد ذلك، كما نعرف، في الليمون!
المهم، أنني أجد زحام الأفلام أيضا زحاما مفتعلا، أقصد الكثيرة الهائلة في عدد الأفلام التي تعرض في برامج المهرجان، فالكثير جدا من هذه الأفلام متوسط أو حتى ضعيف المستوى، والمهرجانات الكبيرة مثل كان وفينيسيا وبرلين، تعاني عادة في العثور على الأفلام الجيدة التي تدرجها في برنامجها الذي لا يزيد في كل أقسامه عن 80 فيلما. أما مهرجانات الجمهور العريض، أي تلك التي تري أن تبيع لكل شرائح الجمهور وجنسياته وطبقاته، أفلاما يشاهدها على مدار 12 يوما كما في روتردام، أو 15 يوما كما في مهرجان لندن مثلا، فهي لا تهتم كثيرا بالمستوى بقدر ما تهتم بهذا التمثيل الذي يراعي التنوع، فهذه بلدان تعيش فيها أقليات من خلفيات ثقافية مختلفة، ولابد بالتالي أن تجد أفلاما تعبر عن ثقافاتها.
أما العرب الذين يمثلون ثلث سكان المدينة (عدد سكانها حوالي مليون نسمة) فسينماهم هذا العام تحديدا شبه غائبة كما اشرت أمس. هناك فقط فيلم المخرج الفلسطيني ايليا سليمان "الزمن الباقي" (باعتباره من الإنتاج الأوروبي- فرنسي – بريطانيا- ايطاليا- بلجيكا)، وفيلم "كل يوم عطلة" للمخرجة اللبنانية ديما الحر ومن الإنتاج الأوروبي أيضا (فرنسي، ألماني). وهي ظاهرة تتناقض في الواقع مع وجود عدد لا بأس به من الأفلام التي كانت جديرة بالعرض طالما أنهم "فتحوها" لعشرات الأفلام من جنوب شرق آسيا كالعادة دون أن تكون بالضرورة أفلاما جيدة.
من هذا الأفلام المخيبة للآمال بشدة، فيلم الافتتاح "باجو" للمخرجة بارك تشان أوك من كوريا الجنوبية. وربما يكون هذا هو أسوأ فيلم يفتتح به مهرجان روتردام على ما أعي، ومنذ أن بدأت في التردد عليه في 2002.
الفيلم يدور حول موضوع إنساني من زاوية اجتماعية نفسية، وأسلوب تقليدي سبقت تجربته في آلاف الأفلام هو أسلوب الفلاش باك المتعدد المتقطع على مدار الفيلم. لكن المشكلة الرئيسية أن الفيلم يفشل في جذا المتفرج إلى تلك الشخصيات المعذبة التي تبدو كما لو كان قد كتب عليها أن تعاني وتتألم. رجل تهجره صديقته بعد أن يتسبب في حادث يصيب طفلها الصغير (يصاب بحروق نتيجة إنشغال الرجل وفتاته في ممارسة الحب على نحو ما يفتتح فيلم "ضد المسيح" للمخرج الدنماركي لارس فون ترايير).. ويتوجه الرجل بعد ذلك إلى بلد باجو حيث يتزوج لكن زوجته تموت بعد أن ينفجر امسكن بفعل انفجار أنبوب للغاز، ثم يجد صاحبنا نفسه مشدودا إلى شقيقة زوجته الصغيرة، ويخوض في الوقت نفسه معارك ضارية ضد السلطات التي تسعى لهدم منازل المنطقة لصالح طبقة المستثمرين.. وأحداث كثيرة ندور حول هذه النقطة تحديدا وكيف يمكن للفتاة أن تنجو وتحتفظ بالمنزل الذي ورثته عن والديها، وموقف شركات التأمين، وموقف البلدية، واحتجاجات الناشطين، وأشياء أخرى لا تدعو للاكتراث، بل إن الفيلم الذي يبدأ بداية قوية موحية بتناقض إنساني شيق، سرعان ما يتحول إلى أحد أفلام الاحتجاج ولكن بدون قوة ولا اقناع، لا في الاخراج ولا في التمثيل. ومع ذلك، يقال لنا إن هذا الفيلم استقبل استقبالا حماسيا في مهرجان بوسان في كوريا الجنوبية!

الفيلم الذي أعجبني من عروض اليوم هو الفيلم المجري "أنت لست صديقي" الذي يجسد من خلال تصوير تناقضات العلاقة بين 4 رجال و4 نساء، أزمة الخواء الروحي والعاطفي، وغلبة الحسابات الخاصة الصغيرة، وتفشي الخيانات الكبيرة، التي تتوالد وتتداخل بطريقة مستعصية على الفهم أحيانا، وكيف تحول الرجال إلى "خنازير" يمعنى الكلمة، بل وحتى من خلال الصورة التي يظهرون عليها في هذا الفيلم: كل همهم التلاعب بالمرأة واستغلالها كأبشع ما يكون، والسعي وراء أي فرصة لهدر الوقت، والاستيلاء على المال، والعجز عن مواجهة المرأة في النهاية سواء في الفراش، أم في الدنيا الواسعة. وهذا بالطبع هو الإطار النظري للفيلم. أما عظمة هذا العمل وبلاغته، فتمكننان في طريقة استخدام الممثلين والسيطرة المدهشة عليهم رغم كونهم جميعا من غير المحترفين، والتفاصيل التي يمتليء بها السيناريو، وهي تحمل من السخرية بقدر ما تحمل من قسوة، والربط بين كل هذه الشخصيات معا في شكل أقرب إلى "اللعبة" التي لا تنتهي إلا بانتقام النساء من الرجال، كل واحدة على طريقتها الخاصة!
هذا الفيلم الذي أخرجه العبقري جيورجي بالفي Georgy Palfi يمتليء بالمفارقات الكوميدية على طريقة الكوميديا السوداء، ولكن الممزوجة بالحزن، على ما آلت إليه العلاقات في مجتمع بودابست اليوم "بعد التحرر" أي بعد سقوط النظام الاشتراكي، ودخول الرأسمالية ومعها كل قيم "السوبرماركت"!

الأربعاء، 27 يناير 2010

يوميات مهرجان روتردام 1

الرحلة بالطائرة من لندن إلى أمستردام تستغرق بالضبط، 45 دقيقة. وبالقطار من مطار أمستردام إلى روتردام نفس المدة بالضبط أيضا. وهي لذلك رحلة مريحة تماما، خاصة أن القطارات الهولندية مشهورة بكفاءتها وسرعتها وانتظامها.
على جانبي طريق القطار الثلج منتشر في كل مكان، يغطي المزارع الهولندية الشهيرة. علمت قبل أن أحضر أن درجات الحرارة تهبط هنا لتصل إلى 4 و5 درجات تحت الصفر، أكثر برودة بكثير عن العام الماضي. لندن نفسها تركتها ودرجة الحرارة فيها حوالي 5 درجات، أي أفضل من هنا قليلا. لكن المشكلة ليست في البرودة بل في أنني وصلت إلى روتردام لأجد سماءها ممطرة مطرا سخيفا أي أنه ليس بالمطر الغزير الذي ينتهي بعد فترة، ولا بالرذاذ الناعم المنعش، بل بنوع من الأمطار المصحوبة بما يسمى sleet
لا يوجد الكثير الذي يمكن فعله الليلة فاليوم هو يوم الافتتاح، وليس هناك سوى فيلم الافتتاح الذي سأشاهده غدا ضمن العروض الصحفية. والحقيقة أن المهرجان بأكمله يبدأ غدا، كل شيء، العروض الرسمية والصحفية، عروض مكتبة الفيديو لمن يريد، السوق الدولية للأفلام، وغير ذلك. وكنت عادة أحضر في اليوم الثاني من المهران لأنني لا أحضر حفلات الافتتاح بل ولا يسمح للصحفيين هنا بحضورها بل بمجرد الفرجة عليها عبر الشاشات. ولكني وجدت أنني اذا حضرت في اليوم التالي سيكون وصولي في المساء، وفضلت بالتالي المجيء واستلام البيانات والمعلومات وكتالوج المهرجان ودراسته وإعداد برنامجي للمشاهدات وتناول قسط من الراحة تمهيدا للماراثون الذي سيتم على ما يبدو، في أسوأ جو يمكن تخيله في أي مهرجان سينمائي، والانتقال من هنا إلى هناك بملابس "الميدان" الكاملة، أي الملابس الصوفية الثقيلة جدا، فإن لم تتحصن جيدا من الممكن أن تهلك!
الهولنديون في هذه المدينة لا يبدو لهم أثر في المساء.. ثلث عدد سكان روتردام من المغرب العربي. لكن المدينة يندر أن تجد فيها مطعما عربيا يقدم المأكولات الشرقية المألوفة في حين أن النسبة الغالبة على مطاعمها هي المطاعم الصينية ومطاعم نوب شرق آسيا عموما، ربما بحكم التاريخ الاستعماري لهولندا التي كانت تحتل فيتنام لسنوات طويلة.
في المكتب الصحفي التقيت بصديقنا انتشال التميمي المسؤول عن ترشيح الأفلام العربية لمهرجان روتردام الدولي والمدير الفعلي لما عرف باسم مهرجان روتردام العربي (وهذا المهرجان تحديدا له قصة طويلة معقدة يمكن أن يختلف حولها بالطبع لكني لا أحب أن أتطرق إليها، ولا أن أكون طرفا بأي حال ولو حتى من باب النقد لهذه "الظاهرة" الخارقة التي تردد عليها الكثير من أصدقائنا النقاد والسينمائيين لسنوات، ولم أكن أبدا منهم لحسن الحظ!
المهم أن انتشال، وقد ترك تلك الظاهرة أو التظاهرة العربية، وأصبح نشاطه الآن يمتد إلى مهرجان أبو ظبي ومهرجانات أخرى دولية مرموقة، لم ينجح هذا العام على ما يبدو، في إقناع القائمين على برنامج مهرجان روتردام، بضم عدد لا بأس به من الأفلام العربية أو من إخراج سينمائيين عرب، إلى برنامج الدورة الـ39 اتي ستنطلق رسميا غدا بعد الافتتاح بفيلم "باجو" Paju من كوريا الجنوبية.
وقال لي انتشال إنه لا يملك سلطة إدراج الأفلام في برنامج المهرجان بل ينتهي الأمر عند ترشيحه ما يرى من أفلام وإتاحة الفرصة لكي يشاهدها فريق الاختيار. ويبدو أن المبرمجين هذا العام كان همهم الرئيسي، ليس السينما العربية التي كانت عادة تلقى اهتماما جيدا هنا، بل السينما الافريقية، أو تحديدا "سينما افريقيا السوداء" أي جنوب الصحراء.
ينظم المهرجان ها العام أكبر تظاهرة من نوعها لهذه السينما حيث يعرض عشرات الأفلام الطويلة والقصيرة من بلدان افريقية تحت عنوان "إنس افريقيا" و"أين افريقيا" والعنوانان مختاران لهدف محدد بالطبع.
هنا أفلام من أوغندا وجنوب افريقيا وانجولا وزامبيا وتنزانيا ومالاوي ورواندا وموزمبيق وكينيا والكونغو والكاميرون والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وساحل العاج، بل وهناك أيضا أفلام من مدغشقر. فهل سبق أن شاهد أحد من القراء أو من النقاد فيلما مدغشقري من قبل؟.. أشك كثيرا!
ويبدو أن دورة كأس افريقيا لكرة القدم انتقلت إلى هنا على صعيد التباري بالأفلام، وهو أفضل وأجمل كثيرا بكل تأكيد من وجهة نظر كاتب هذه السطور، على الأقل لأنه لا يحول التنافس الرياضي المفترض أن يتصف بالرقة والجمال والتسامح، إلى معارك حربية ترفع أعلاما ولافتات شوفينية متخلفة، وقد تتحول من لعبة بريئة إلى جريمة فقأ عين إنسان كما حدث من قبل أمام عشرات الآلاف من الشهود، دون أن يعتبر مرتكب تلك الجريمة مجرما يوضع وراء قضبان السجن كما يليق بأي مجرم حقا، بل تم التغاضي عن جريمته، وترك ليرحل بهدوء إلى بلده!
آسف جدا أنني تطرقت لهذا الجانب الذي لا يستهويني عادة، لكنها تداعيات من وحي اللحظة.. وإلى اللقاء.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger