إقرأ المقال بالضغط على هذه الوصلةأفلام على محور السياسة والتاريخ والذاكرة
كتابات نقدية حرة عن السينما في الحياة، والحياة في السينما............. يحررها أمير العمري




إشارات ورموز
ليس في فيلم "الجبل المقدس" قصة بالمعنى المتعارف عليه، ولا يوجد أيضا سياق قصصي أو narrative يسير نحو ذروة أو عقدة معينة. وشأنه شأن كل أفلام كبار المبدعين من "مؤلفي" السينما، أي أصحاب الرؤية السينمائية: البصرية والفلسفية، لا يحتوي الفيلم على "موضوعة" يمكن تبسيطها وبسطها، لكنه يتضمن سياقا من نوع آخر مختلف عن السياق القصصي المألوف في الدراما المعتادة.
هناك "توليفات وتنويعات" من اللقطات التي تعكس ولع صاحبها بفكرة الطوطميات أو النقوش التي رسمها الإنسان منذ فجر التاريخ، على الأحجار والكهوف والأرض، مسجلا عليها إشارات ورموز معينة، يرى خودوروفسكي أنها ترتبط معا في علاقة ما دفينة تعكس معان محددة لها علاقة ربما، بالبحث عن اصل الكون، وعن سر الوجود.
ويبدأ الفيلم بمشهد يعكس ذلك الولع. إمرأتان شقراوتان ترتديان ملابس بيضاء متشابهة: فستانا يكشف عن الصدر وعن الذراعين. نراهما أولا معا في لقطة قريبة (كلوز أب) تظهر الوجه والصدر، ثم في لقطة متوسطة من نفس الزاوية، ثم في لقطة عامة للمكان كله حيث نراهما مع راهب أو رجل دين قد يكون بوذيا، يرتدي قبعة سوداء ضخمة تغطي وجهه، وملابس سوداء. وهو يجلس على الأرض على خلفية من بلاط حائط أبيض منقوش بصلبان سوداء.
يتناول الراهب ابريقا فضيا من على يسار الكادر، يصب منه الماء ببطء في إناء فضي على الجهة الأخرى من الكادر، ثم يضع الابريق على الأرض ويخرج من الإناء قطعة قماش بيضاء يطويها ويعصرها ثم يفردها ويمكسها بيده. إنها فوطة صغيرة مبللة. وفي اللقطة التالية مباشرة نرى الراهب (من ظهره) يضع فوطتين كل منهما على وجه امرأة من المرأتين، ثم لقطة عكسية من الأمام، ثم في لقطة أخرى متوسطة نراه وهو ينزع إظفر احدى المرأتين ثم الخاتم الذهبي من أحد أصابعها، ثم ينزع عن المرأتين في لقطة أخرى ملابسهما من أعلى الجسد. ويمسك المقص ليقص شعرهما.. إلى أن تصبحا حليقتين تماما. في لقطة متوسطة يقترب من رأسيهما الحليقتين، تتحسس يداه جسديهما، ثم يهبط برأسه يغطي جزءا من رأسيهما بقبعته الضخمة السوداء.

وتتراجع الكاميرا في "زووم أوت" إلى لقطة عامة، ثم يقطع على لقطة أخرى تتحرك فيها العدسة "زووم أوت" إلى الوراء نرى فيها نقوشا زرقاء تصطبغ باللون الأحمر.. خرزات زرقاء.. رسما لعين كبيرة.. رسما لخرزة في يد.. رسما لمفتاح فضي.. جثثا ملتفة في ملاءات بيضاء.. أشكالا غريبة ورسوما وشكلا كبيرا مضلعا. هنا، مرة أخرى يستخدم خودوروفسكي النقوش القديمة التي تحمل رموزا مثل المفتاح أو رءوس الحيوانات أو الحيوانات نفسها (الثور والعنزة والجمل ذو الصنمين) التي سيعود إلى إظهارها بشكل كامل في مشاهد أخرى.
اللص والتوبة
إن بطل هذا الفيلم البديع، إذا جاز ان هناك بطلا، هو لص يجعله المخرج-المؤلف قريب الشبه من المسيح. هذا اللص يمر عبر الجزء الأول من الفيلم، بشتى أنواع الاختبارات والمحن والتحديات التي يكتوي خلالها بنيران العالم الحديث وقيمه: الجشع والغش والانتهازية والقمع والتدهور الأخلاقي واستخدام الدين للتضليل بدلا من التنوير، وإساءة استخدام السلطة. ذنبه أنه يشبه المسيح مما يجعل مجموعة من الأطفال العراة يقومون بصلبه ثم يأخذون في قذفه بالأحجار، لكنه يتمكن من تخليص نفسه من الصليب ثم يطاردهم بدوره ويقذفهم بالأحجار ويلعنهم. قزم مبتور الساقين والذراعين (يتكرر ظهوره في أفلام خودوروفسكي الثلاثة "الطوبو" و"الجبل المقدس" و"الدماء المقدسة") يصادقه، يدخن معه الحشيش ثم يصحبه إلى المدينة. في المدينة نرى جثثا عارية غارقة في الدماء فوق شاحنة.
اللص يحمل القزم وهو يضحك، وفي الجزء الثاني يلتقي اللص بـ"المُخلِص" أو الساحر (الذي يلعب دروه خودوروفسكي نفسه) الذي يقوده إلى رحلة يتعرف خلالها على سبعة من الرجال المتنفذين في المجتمع: السياسيين والصناعيين كما يقول له أي "لصوص مثلك بطريقة أخرى" منهم صاحب مصنع للأسلحة، وتاجر للعاديات، ومستشار مالي لرئيس الجمهورية، ورسام يصنع الفن الهابط الاستهلاكي، ومعماري يعمل من أجل ان يحقق المقاولون الملايين من الأرباح على حساب الناس الذي يكفيهم كما يقول "أن نبيع لهم مأوى وليس مسكنا".
سر الأبدية
الأشخاص السبعة (بينهم امرأة) من رجال الصناعة والمال والسياسة والفن، يمثلون الكواكب السبعة. ورغم نفوذهم وقوتهم إلا أنهم يذهبون إلى الساحر لكي يمنحهم سر الحياة الأبدية، ومن أجل الوصول معه إلى "الجبل المقدس" والحصول على السر العظيم هم على استعداد للتخلي عن كل شئ: المال والسلطة والنفوذ والشهرة. ولكن يتعين عليهم الآن التجرد ونبذ كل شئ من أجل الوصول إلى الخلود والتغلب على الموت، أقدم فكرة تعذب الإنسان منذ بدء الخليقة. يطلب منهم الساحر التخلص من رغباتهم: الشهوة والجنس والأسرة والمال الذي يلقون به أكواما داخل محرقة تدور فتقضي عليه دون أي أثر. وعندما ينتهون من حرق المال، يكون مطلوبا منهم أيضا التخلص من الصورة التي صنعوها لأنفسهم، فيحرقون دمى عارية تشبههم تماما.


إنها عملية التطهير اللازمة قبل أن يندمج مع الآخرين في الرحلة الروحانية نحو الجبل السحري. رؤية معاصرة غير أن خودوروفسكي لا يغفل في فيلمه عن العالم وما يحدث فيه من عنف وقهر وقمع واستغلال. وفيلمه من هذه الناحية معاصر تماما أي ابن عصره وبيئته.
الجنود يحملون ذبائح تصطبغ بالدم يرفعونها على أسنة البنادق ويسيرون في مسيرة استعراضية في الشارع. ربما تكون معادلا رمزيا لفكرة التضحية أو القربان. الرهبان القريبون من الكنيسة يقبضون على اللص، يضعونه داخل قالب خشبي ثم يصبون كتلا من الجبس السائل فوق جسده ووجهه يريدون أن يصنعوا قالبا مماثلا له تماما في الشكل.. لصنع تماثيل للمسيح. وبعد أن ينتهوا من أمره، يلقون به فوق كومة من حبات البطاطا. تنهضه راهبة تسقيه، ثم ينظر حوله فيفزع من التماثيل، فيأخذ في تحطيمها بعنف وهو يصرخ، ثم يحمل تمثالا واحدا للمسيح ويتجه نحو الكنيسة. في طريقه يقابل مجموعة من العاهرات يرتدين ملابس تكشف عن صدورهن وسيقانهن، وبينهم طفلة صغيرة يحمل وجهها كل براءة العالم. ونرى رجلا يتأمل العاهرات بشهوة، وعندما يرى الفتاة يستوقفها.. يقبل يدها برقة ثم يمد يده وينزع عينا من عينيه ويضعها في يد الفتاة، ثم يغمر يدها بالقبلات.
الشعر والحقيقة
هذه المفردات هي مفردات الشعر السينمائي التي تميز أسلوب خودروفسكي الذي لا يرى أن الحقيقة التي نراها امامنا هي بالضرورة الحقيقة، وهو يلجأ كثيرا إلى استخدام العنف كأحد المكونات الأساسية في الإنسان كما يراها هو، في تعبير الإنسان عن نفسه، عن رغباته، عن شهواته، عن اندفاعه المجنون نحو الاستحواذ. إن العنف بهذا المعنى في أفلام خودوروفسكي ليس عنفا مجانيا، بل عنف يحمل دلالاته الفلسفية والشعرية.
في مشهد آخر يدور داخل الكنيسة نرى الجنود وهم يرتدون الأقنعة الواقية من الغاز وهم يرقصون مع شباب يرتدون ملابس عادية، ربما يكونون من العمال أو من الثائرين المعتقلين المرغمين على تلك الرقصة. وعندما يدلف اللص إلى الكنيسة نلمح في أحد الأركان جنديا يختلي بشاب في أحد الأركان، إشارة إلى السلطة العسكرية الغاشمة التي لا تتورع حتى عن تدنيس الأماكن المقدسة.
وفي مشهد سقوط اللص على الأرض داخل الكنيسة نرى لقطة قريبة لكتاب الانجيل مفتوحا على صفحة قديمة تتسلل الديدان السمينة من خلالها. وعندما يريد الساحر- الكاهن - الإله اختبار قوة عزيمة اللص- المسيح يناوله سيفا ويشير إليه أن يقتله، ولكن اللص يضرب ليجد نفسه وقد هوى على جسد عجل فمزقه. إنه شئ اقرب إلى فركة الضحية أو القربان أو الكبش الذي يفتدي اسماعيل. وهي كلها أفكار تعكس سيطرة الهاجس الديني عند صاحب هذه الرؤية السينمائية المدهشة.
ولعل من أبرز مشاهد الفيلم وأكثرها سيريالية وغرابة وكمالا أيضا من ناحية الإضاءة والتصوير، ذلك المشهد الذي يحاكي فيه الحاوي في السوق، غزو الإسبان للمكسيك باستخدام عدد من الضفادع والحرباء بعد الباسها بثياب المحاربين والمتخفين في ثياب رجال الدين. وعندما تصاب احدى الضفادع التي ترمز للشعب المكسيكي يجعلها خودوروفسكي تتطاير إلى أعلى وتلتصق بسطح أحد الديكورات ثم نرى دماء غزيرة حمراء قانية تتسلل لتصبغ الديكور كله. ويستخدم خودوروفسكي موسيقى نشيد عسكري نازي لكي يصاحب المشهد الفانتازي الغريب.
إن "الجبل المقدس" رحلة ذهنية وروحانية داخل الصورة السينمائية من أجل المعرفة والاستنارة، ومشاهدته مغامرة لا تقل عن مغامرة الصعود إلى قمة الجبل المقدس، ولعل المفاجأة التي تأتينا في النهاية بعد أن تضاء الأنوار، هي أننا كنا نشاهد فيلما، ولكن هل سنعود ببساطة نمارس حياتنا كما كنا نفعل قبل مشاهدته.. لا أظن.
شاهد مشهد الساحر واللص بالفيديو