الأحد، 1 مارس 2020

العبقرية الألمانية ومهرجان برلين في زمن كورونا


يخطئ خطأ فادحا كل من يؤمن بما يسمى بـ”العبقرية الألمانية”. فمهرجان برلين السينمائي الذي ستفتتح دورته الجديدة الأسبوع المقبل، وهو مهرجان قديم أقيم لأول مرة عام 1951، قام قبل سنوات بإحلال اسم مضحك لا يفهمه سوى سكان المدينة محل اسمه التاريخي.
فبعد أن كان الاسم المعروف هو “مهرجان برلين السينمائي الدولي” أصبح يطلق على نفسه اسم “برليناله”، وهي كلمة غريبة وأنا شخصيا لم استخدمها ولا استخدمها أبدا في كتاباتي عن هذا المهرجان، فهو يبقى بالنسبة لي كما بالنسبة للغالبية العظمى من نقاد السينما في العالم “مهرجان برلين السينمائي”.
ولكن هناك من يستخدمها من الصحافيين العرب ربما تأثرا بما تنقله قناة “دويتش فيلله” الألمانية أو موقعها على شبكة الإنترنت باللغة العربية، وأشك كثيرا أن يفهم الكلمة القراء العرب بالطبع وأولهم حضرتي، بل ولا يهمني أن أفهمها أصلا، فالكلمة يجب أن تكون ذات معنى في سياق اللغة التي توجد فيها وإلاّ صارت مجرد لغو.
وقد اقتضى الأمر من المهرجان نفسه أكثر من عشرين عاما إلى حين أن أدرك القائمون عليه (هناك إدارة جديدة هذا العام) أنه لا يصح أن توجد أفلام في البرنامج يطلقون عليها “داخل المسابقة- خارج المسابقة” بدلا من “البرنامج الرسمي- خارج المسابقة” كما تفعل المهرجانات التي تدرك أهمية اللغة!
وربما أكون أنا الوحيد الذي أبدى اعتراضا من قبل على هذه المسألة وتحدثت فيها مع المسؤولين عن المكتب الصحافي، ولكن دون جدوى بالطبع، فالتغيير شبه مستحيل في ألمانيا والبيروقراطية أبشع كثيرا من البيروقراطية الإنجليزية، وكنت أتصوّر أن الألمان أقل تمسكا بالتقاليد القديمة مثل الإنجليز، ولكني اكتشفت أنهم يخضعون لها بشكل غريب حقا.
وعندما كنت أناقش مسألة التناقض في عبارة “في المسابقة- خارج المسابقة” مع بعض النقاد الأجانب الأقدم مني حضورا لهذا المهرجان، كانوا يتوقّفون ويفكّرون طويلا وكأنهم اكتشفوا فعلا أمرا غريبا للمرة الأولى لم ينتبهوا له من قبل. ولكنهم أيضا قالوا إنهم لا يفهمون معنى أن تكون هناك أفلاما في المسابقة ولكن خارج المسابقة. لكن الحمد لله أن بعض الألمان من المديرين الجدد، فهموا أخيرا هذا التناقض المحيّر الذي كان يؤدي إلى أخطاء كثيرة في التقارير التي تنشر عن مسابقة المهرجان.
مهرجانا كان والبندقية هما الأرقى في العالم، بسبب وضوح الأقسام وعددها وعدم تفرعها إلى تسميات من دون هدف
أما ما يبقى عصيا على الفهم فيما يتعلق بأسرار “العبقرية الألمانية” أنه بعد أن كان للمهرجان موقع على شبكة الإنترنت، جذّاب وجيّد التصميم ويسهل التعامل معه، ويتيح لنا الفرصة لخلق حساب يمكن من خلاله عمل “أجندة” خاصة للتعامل اليومي مع أفلام المهرجان وأحداثه وفعالياته، ويمكن للمرء ربطها بهاتفه المحمول لتسهيل الدخول إلى الموقع وتحديد ما يريد مشاهدته، قاموا هذا العام بإلغاء الموقع كله وإلغاء الأجندة وإلغاء إضافة الأفلام إلى جدولك الخاص بعد أن أنشأوا موقعا جديدا أقل جاذبية وفعالية من الموقع القديم. ومرة أخرى وقفت أتساءل عن كيف تعمل هذه “العبقرية”!.
ولا يقتصر الأمر على هذا فقط، بل إنك إن أردت مثلا أن تعثر على قائمة أفلام المسابقة التي أعلن عنها بالفعل، داخل موقع المهرجان ودخلت على قسم بعنوان “المسابقة الرسمية” لن تجد سوى تعريف بالمسابقة وجوائزها وتاريخها، لكنك لن تجد قائمة الأفلام المتسابقة هذا العام. وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الأقسام.
العبقرية الألمانية أيضا ابتكرت أقساما فارغة المعنى مثل: الملتقى، الملتقى الممتد أو امتداد الملتقى، جيل، جيل 14.. وأقساما عديدة أخرى مربكة ومحيرة تماما، مع أعداد هائلة من الأفلام. لذلك يظل مهرجانا كان وفينيسيا هما الأفضل والأرقى في العالم في رأيي الشخصي، بسبب دقة التقسيم (ولننس الآن مسألة التنظيم فهو مفروغ منه في المهرجانات الأوروبية بوجه عام)، أي وضوح الأقسام وعددها وعدم تفرعها إلى أقسام من داخل أقسام وتسميات من داخل تسميات دون هدف أو معنى.
أما أكثر الأمور مدعاة -لا للضحك- بل للاستياء الشديد، فهو ما أعلنه المسؤولون عن المهرجان أخيرا من أنه من أجل مكافحة انتشار وباء كورونا سيقومون بوضع علب تحوي مادة مطهرة في أماكن مختلفة من المهرجان. أما الوافدون والضيوف القادمون من الصين فسيوزعون عليهم بعض الإرشادات في المطار. وبالتالي أصبح وجودك داخل قاعات العرض التي تمتلئ عن آخرها بالمشاهدين، وكثيرون منهم من لا يتوقفون عن السعال والعطس.. الخ، مسـألة محفوفة بأشد المخاطر حقا.
وكنت أتوقع أن تكون إجراءات التأمين على القادمين من الصين مثلا، وغيرها من المناطق الموبوءة أشد حزما وصرامة. لكن “العبقرية الألمانية” ستظل تدهشك!
هل كان الأفضل مثلا أن يقوم مسؤولو المهرجان بتوزيع كمامات على المشاهدين بحيث تصبح العروض السينمائية الحديثة في واحد من أكبر مهرجانات الأفلام السينمائية من حيث عدد الأفلام وعدد الجمهور، عروضا بكمامات؟!
لا أعرف. سأكون في المهرجان لأكتب لـ”العرب” من هناك عن كل ما أراه من أفلام جديرة بالاهتمام، وكذلك عن كيفية تعامل “العبقرية الألمانية” مع هذه الظواهر الجديدة، كما سأراعي الابتعاد بقدر ما أستطيع، عن الذين يسعلون ويعطسون خلال العروض السينمائية. ولله الأمر من قبل ومن بعد!

الجمعة، 15 نوفمبر 2019

أبوية "كبير العيلة"!






من ضمن الملامح العتيقة في الثقافة العربية تلك النزعة الأبوية الاستعلائية التي تتلبس الكثيرين ممن يجدون أنفسهم على رأس السلطة، دون أن تكون ملائمة لشخصياتهم بالضرورة. ولاشك أنها نزعة تنحدر من الفكر القبلي العشائري، مهما اتسعت الدولة وتشعبت طبقاتها الاجتماعية. 
كان الرئيس أنور السادات مثلا يحب دائما أن يقال له "كبير العيلة المصرية" يقصد بالطبع "كبير العائلة"، الذي يجب أن ينحني الجميع لرغباته ويتفقوا معه فيما يقوله ويقرره، مهما اختلفوا. وكان يلح كثيرا في خطاباته على هذه الفكرة واضعا نفسه فوق التناقضات والخلافات السياسية، أي تكفي كلمة منه لحسم أي خلاف، وهي نزعة تعرف في الأدبيات السياسية بـ "البونابرتية" نسبة إلى لويس بونابرت، لكن استنساخها يقتضي توفر الكثير من الظروف والمعطيات السياسية بالطبع.
وقد تسببت تلك النزعة الأبوية في الكثير من المواقف المحرجة والمضحكة للرئيس السادات خلال مواجهات كانت تبث على الهواء مباشرة عبر شاشة التليفزيون. كان هناك مثلا من حاول السادات ممارسة أبويته عليه فما كان منه إلا أن واجهه قائلا إنه لا جيد مفرا سوى أن يشكوه إلى الله، فثار السادات وطالبه بأن يسحب "شكوته" قبل أن يغادر الجلسة!
كان السادات أيضا مغرما باستخدام كلمة "يابني"، يخاطب بها نواب الشعب خصوصا المعارضين لسياساته. أتذكر مثلا كيف أدار حوارا مباشرا مع أعضاء مجلس الشعب عقب انتفاضة يناير 1977 مباشرة، وكان يقاطع العضو الذي لا يعجبه حديثه ليقول له شيئا مثل: "طيب.. ياكمال يابني.. عشان نختصر الكلام.. اللي حصل ده انتفاضة شعبية أم انتفاضة حرامية؟". وبشكل عام كان الكثيرون يمتنعون عن الرد، سواء تأدبا أو خوفا من تالعواقب.
ويروي الناقد الموسيقي الراحل كمال النجمي في كتابه البديع "مطربون ومستمعون" كيف أن الموسيقار محمد عبد الوهاب اتخذ عام 1948 قرارا بعدم الغناء في الحفلات العامة، بعد أن شعر أنه لن يستطيع تلبية ما يطلبه منه جمهوره من أداء المواويل الطويلة الصعبة التي اشتهر بها في الماضي. ولكن جمال عبد الناصر أصر في عام 1954 على أن يغني عبد الوهاب في العيد الثاني لحركة الضباط التي كانت قد سيطرت على مقاليد الأمور في البلاد في يوليو 1952. ورغم مقاومة عبد الوهاب إلا أنهم أفهموه أنه ليس بوسعه عصيان "أوامر" عبد الناصر. وقد ذهب عبد الوهاب إلى الحفل وغنى أغنيته الشهيرة "كل ده كان ليه؟"، وأتصور أنه كان من ناحية يحتج احتجاجا لطيفا على هذا الاستدعاء الخشن، لكنه من ناحية أخرى، أخذ يعيد ويزيد، ويستطرد ويرتجل الكثير من المواويل الطويلة، مما جعل أعضاء مجلس قيادة الثورة يبقون في مقاعدهم حتى وقت متأخر من الليل. وبعد أن انتهى الحفل، صافح عبد الناصر محمد عبد الوهاب وبادره بقوله: "والله رجعت لنا شبابنا ياأستاذ عبد الوهاب"!
ويعلق كمال النجمي ساخرا: ترى ما الذي كان يقصده عبد الناصر، وعن أي شباب كان يتحدث، وهو الذي لم يكن قد تجاوز وقتها، السادسة والثلاثين من عمره، بينما كان عبد الوهاب قد اقترب من الخامسة والخمسين؟
إنها تلك النزعة الأبوية الاستعلائية لدى رجل السلطة، يريد دائما أن توحي للآخر بأنه يقف أمام "الأب"، "الزعيم"، "كبير العيلة". ألم يطلق الزعيم التركي مصطفى كمال على نفسه لقب "أتاتورك" أي "أبو الأتراك"، بينما لم يكن قد أكمل الثامنة والخمسين من عمره عندما توفي!

الجمعة، 21 يونيو 2019

مشكلة الترجمة





بعض من يكتبون عن السينما لا يحترمون الترجمة، بل إن "المجتمع الثقافي" العربي بشكل عام، لم يعد يحترم الترجمة، فقد صارت الترجمة مهنة على المشاع، أي مهنة يمارسها كل من يعرف، ومن لا يعرف. والمقصود بالمعرفة ليس فقط معرفة اللغة الأجنبية التي يترجم عنها، أو أصول اللغة العربية التي يترجم إليها، بل معرفة وإلمام كاف بالمادة موضوع الترجمة، فترجمة كتاب في جانب من جوانب الفن السينمائي مثلا، ليس مثل ترجمة كتاب في العلوم الطبيعية. فلكل مادة المتخصصون فيها.

لم يعد هذا، بكل أسف، هو الحال، بل أصبحنا نرى الكثير من الكتب التي تصدر في الغرب، سرعان ما يتم تعليبها في ترجمات عربية سريعة، رديئة، استهلاكية، فيها قدر كبير من الضحك على ذقون القراء.

من هذه الكتب، على سبيل المثال، كتاب روجيه جارودي "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" الذي صدرت منه فور صدوره في فرنسا، ترجمة عربية رديئة للغاية، معظمها كلام خاطيء أوغير دقيق، وكان الهدف انتهاز فرصة ما أثاره الكتاب من ضجة في فرنسا والعالم، لبيع أكبر كمية منه دون تدقيق بل ودون فهم لمادة الكتاب ممن تولى الترجمة. بعد ذلك، صدرت ترجمة جيدة من الكتاب نفسه، ولكن بعد ان كانت الترجمة الرديئة قد انتشرت وثرأها الكثيرون، فأدت الغرض منها، أي إفساد مضمون الكتاب وتقديم مادة مثيرة حراقة يريدها بعض القراء وينتظرونها، وتدفع من أجلها بعض دور النشر وترحب بنشرها، ولتذهب الأمانة والدقة العلمية إلىالجحيم!

وهناك أحيانا مترجمون من الكبار، أي من أساتذة الأدب الانجليزي، قد لا يعرفون جيدا المادة التي يترجمونها أو يقتبسون منها في كتبهم، رغم معرفتهم باللغة الإنجليزية وآدابها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتوفرة لمن يبحث ويجتهد. وقد لمست بنفسي نموذجا لما أقوله، كتابا صدر منذ سنوات عن "الهولوكوست" مبني بكامله على ما يدعوه مؤلفه، وهو من أساتذة الأدب الإنجليزي طمحاكمة ديفيد إرفنج في لندن" عام 2000 في حين أن إرفنج لم يكن يحاكم بل هو الذي قاضى أساتذة الأدب اليهودية الأمريكية ديبور ليبشتادت، بسبب اتهاماها له علاية، بالكذب والتضليل.

ولعل من أجمل ما قرأت في معرض التعبير عن فوضى الترجمة والكتابة، ما قاله محمد حسنين هيكل ذات مرة: "نحن نؤلف ونحن نترجم، ونترجم بينما نؤلف"!

أما ترجمة الكتاب السينمائي فمأساة أخرى، فالكثير من المترجمين "الهواة" يتطوعون ويطرحون أنفسهم على بعض دور النشر باعتبارهم ضالعين في المجال، لكي يحصلوا على ترجمات لكتب السينما، لا تعكس أي فهم أو معرفة بعالم السينما، وفنها وأبجدياتها، بل تأتي كل أسماء الأفلام مضحكة، وأسماء المخرجين المرموقين، هزلية، والكثير من المعلومات التي تكتب تناقض الحقيقة تماما، فهناك- على سبيل المثال من ترجم تعبير "لا نوفيل فاج" ومعناها "الموجة الجديدة"، وهو تعبير فرنسي شهير يعرفه كل دارسي السينما في العالم، إلى "الرواية الغامضة". وهناك من يترجم مصطلح "الترافلنج" المقصود به حركة الكاميرا في متابعة لحركة شخصية أو أكثر، إلى "حركة الرحيل".. وهكذا!

والمشكلة أن لا أحد يهتم بأن يلفت النظر إلى هذا التهريج باسم الترجمة، فالمهم أن تتراص الكتب ويباع منها أكبر كمية بفعل العناوين الجذابة والصور المثيرة، ولا يهم أن تنتشر بين القراء مفاهيم مغلوطة، ومصطلحات لا معنى لها. فالسينما - كما يراها البعض في عالمنا العربي- مجرد رجز من عمل الشيطان!

الأحد، 2 يونيو 2019


ولغة النقد لا يجب أن تكون مجرد لغة انشائية أدبية مفتعلة تتلاعب بالألفاظ وتدخلك في سياق من العبارات المبهمة المنفصلة العمومية التي تبدو من الظاهر تقليدا باهتا لبعض ما ينشر في مجال الشعر المنثور الشعوائي الذي يفتقد للمعنى أصلا.. ففي حالة مثل هذا النقد، لا يمكنك أن تضع يدك على مفاصل العمل الفني، ولا أن تفهم لماذا يطنب الكاتب في مديحه على نحو ما يفعل، ولا أن ترصد عناصر الجمال فيه، فهي مجرد تهويمات من خيال شخص إما أغرق نفسه في الخمر قبل أن يبدأ في كتابة "تجلياته" الشخصية الانطباعية الساذجة، أو قرر مسبقا أنه لابد أن يعجب بل ويترك نفسه أيضا ينتحر في في ثقافة معينة، خاصة كل ما يأتي من اسرائيل التي يشعر امامها بالدونية والانسحاق والانبهار مع كراهيته لمحيطه وثقافته ورفضه لكل ما يصدر عن المحيط الذي يعيش فيه، أو من فرنسا وثقافتها التي يسبح بحمد كل ما يأتيه منها باعتباره "غير قابل للنقد" أصلا، ومن لا فهمه أن يستوعبه أو يدبي اعجابه به كما يفعل المنبطح، فهو لا يفهم، ولا يعرف، ولا يمتلك الأدوات الانبطاحية التي يمتلكها هو بعقده النفسية الخطيرة النابعة من وجوده الملفق بل وأحيانا أيضا اسمه الملفق ووضعه (القدري) في مجتمع ثقافي يعجز عن التآلف معه بل وينفر منه ويعاديه، وكلما وجد غيره يكتب ما يعتبره كشفا لضحالته وجهله تزداد عدوانتيه تجاه الآخر. وكلها ظواهر هلامية طفحت فوق جلد واقعنا الثقافي بسبب غياب الجرأة على التصدي لها وفضح تهافتها أمام القاريء، لكن القاريء أذكى ممن يحاولون الضحك عليه بالعبارات الانشائية الفارغة من المعنى.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger