السبت، 4 يوليو 2015

مليار دولار من أجل الديناصورات!




في أحد المشاهد المبكرة من فيلم "العالم الجوراسي" Jurassic World يقول عرفان خان- الذي يقوم بدور المستثمر الرئيسي في حديقة الديناصورات المخصصة لتسلية السياح والأطفال على شاكلة ديزني لاند ولكن بديناصورات حقيقية، يقول لمديرة الحديقة الشاسعة: "إننا نريد أن نرى "ديناصورات أكبر.. بأسنان أكبر". وهذا تحديدا ما يبدو لي أنه كان الهدف الأساسي من وراء إنتاج هذا الفيلم، وهو الرابع في سلسلة أفلام الديناصورات التي بدأها المخرج ستيفن سبيلبرغ عام 1993 بفيلمه الشهير "العالم الجوراسي".

ديناصورات أكبر، وأسنان أكبر، ومناظر أكثر إثارة، تجسد الصراع بين الإنسان والديناصور الشرير، وكيف يمكن للإنسان ترويض الديناصورات الطيبة، وتطويعها لخدمته في الخير، وليس في الحرب كما يرغب أحد القادة العسكريين الذي يضع خطة "شريرة" للتحكم في الديناصورات واستخدامها في الحروب التي تشنها الولايات المتحدة لتقليل الخسائر البشرية، وعندما يشاهد الديناصورات العملاقة وقد انطلقت من عقالها، وأصبحت تعيث دمارا وتخريبا وقتلا في الناس، يعلق في حسرة واضحة: "آه لو كنا استخدمناها في تورا بورا"!

تعتمد "التركيبة" هنا على استخدام الأطفال كالعادة، والمرأة ولكن كنموذج جاف معقد في البداية، ترفض الانصياع للرجل- الفتوة، ثم تنصاع أمام قوته وشجاعته، وتقبل الانضواء تحت معطفه، كاشفة عن ضعفها التقليدي الذي تكمن فيه جاذبيتها الجنسية!

ليس سهلا أن يقاوم المرء الذهاب لمشاهدة هذا الفيلم الجديد، رغم أنك تعرف مسبقا محتواه، وتدرك سذاجة فكرته، ولكن ما يدفعك لمشاهدته الإطلاع على ما يمكن أن يضيفه للقصة التطور الكبير الذي حدث في مجال تكنولوجيا الصورة، وبعد أن بلغت تكاليف إنتاج الفيلم ما يقرب من 200 مليون دولار، معظمها أنفق على المؤثرات، وحقق الفيلم حتى كتابة هذه السطور، أي بعد عشرة أيام من بدء عروضه العالمية، مليار دولار!

المؤسف بعد ذلك أنني وجدت أن قصة الديناصورات والعالم الجوراسي الخيالية، التي لقيت من قبل اقبالا من جانب الكبار والصغار، فقدت طزاجتها وحيويتها، بل وبراءتها، ففي هذا الفيلم الجديد، لا يجب أن تسأل عن السيناريو، فليست هناك شخصيات مقنعة تتمتع بأبعاد وملامح واضحة، وليس هناك إخراج يضارع على الأقل أو يقترب من مستوى إخراج سبيلبرغ في الفيلم الأول. وستجد أن البطولة الحقيقية في الفيلم للمؤثرات الخاصة، التي تعتمد بالطبع على تقنية توليد الصور المتحركة من أنظمة الكومبيوتر أو ما يعرف بـ "CGI"، لدرجة أنك تشعر بأن الحديقة التي يفترض أنها تدار بأحدث أنظمة التحكم الالكتروني وأكثرها دقة في العالم، كان من الأفضل تجسيدها وتجسيد أحداث وشخصيات الفيلم، من خلال عالم الرسوم "الكارتون"، أوما يعرف بـ "التحريك"، ولاشك أن الفيلم كان سيصبح أكثر إقناعا وقدرة على الإمتاع لو كان قد صنع كفيلم من أفلام الرسوم المتحركة.

الفيلم يصيب عشاق السينما الحقيقية الرفيعة بالاحباط الشديد، فعندما يصبح "العالم الجوراسي" هو النموذج الذي يندفع لمشاهدته الملايين من جمهور السينما في العالم، وعندما تجد أن ديناصورات السينما تخرج ألسنتها لأفلام الفن الرفيع وتدفع بها إلى الظل والظلام، فلابد أن تشعر بنوع من الإحباط، فهل هذا ما وصلنا إليه بعد كل ما كشفت عنه السنيما من قدرات هائلة على تصوير أكثر المواضيع حساسية ورهافة، بما يتجاوز لغة الشعر والأدب الرفيع والفن التشكيلي والموسيقى؟ لاشك أن ديناصورات العالم الجوراسي تضعنا اليوم أمام مأزق كبير!

 

السبت، 27 يونيو 2015

عن النقد السينمائي والصحافة والسيميائيات







منذ أن وعينا على الكتابة وعالم النقد السينمائي، ونحن نرى ونسمع ونقرأ ويمر علينا بين كل يوم وآخر، من يخصصون وقتهم لنقد النقاد العرب، والتقليل من قيمة ما يكتبونه.
وبدلا من أن يركز هؤلاء جهودهم على تطوير مناهجهم ولغة كتاباتهم ويتوسعون في الإطلاع على أعمال السينما العالمية ويعودون للقراءة في شتى مجالات المعرفة خصوصا التاريخ والفلسفة والأدب، يأتي هؤلاء ليعطونا دروسا في النقد، مع إبداء الازدراء للنقد القائم بل والشطب عليه بالكامل، أو إعتباره مجرد "مراجعات" سينمائية وليس نقدا. وعادة ما تتم أيضا مقارنته مع النقد الغربي (خصوصا الفرنسي) الذي أصبح "كعبة" لدى البعض ممن يدورون في فلك تلك الثقافة الأخرى.
ينسى هؤلاء أو يتجاهلون عمدا، أن هناك مستويات للنقد، وأن ما يمكن نشره في مقال من 1000 كلمة مثلا في صحيفة ما، يختلف بالضرورة عن دراسة منهجية عميقة من عشرة آلاف كلمة مثلا، أو عن كتاب متخصص في موضوع واحد، فليس من الممكن أن يحتوي مقال من هذا النوع على ما يريدونه من "تنظير"، لكن الأهم أن يكون مستندا إلى منهج واضح في فهم وقراءة وتفكيك العمل وتحليل العلاقات بين الصور في داخله، من دون تقعر، وفي حدود المساحة التي يتحملها "القاريء المتوسط" الذي يتوجه إليه الناقد بل ويجب أن يكون توجهه الأساسي إليه، كما أن مقالا كهذا من الممكن أيضا أن تتحمله الصحيفة أو المطبوعة أو الموقع، خصوصا إذا لم يكن من النوع المتخصص في النقد السينمائي.
يتصور البعض أن "النقد العلمي" الصحيح يجب أن يعتمد على السيميائيات أو علوم السميوطيقا، أي التحليل الذي يرتبط بنظريات ظهرت في عالم نقد النصوص واللسانيات، وتهتم بنظام الإشارات والعلامات الكامنة داخل النصوص الأدبية وبالعلاقات التي تربط بين المفاهيم والعلامات والأفكار. وكلها يمكن أن يشملها المقال النقدي من دون أن يتباهى بالإشارة إلى أنه يعتمد على "السيميائيات" أو يردها إلى أساتذتها الغربيين الذين يغرم كثير من مثقفي العرب بذكر أسمائهم في ثنايا مقالاتهم حتى يضفوا عليها نوعا من الأهمية، أمثال فردينان دو سوسيور ورولان بارت وكلود ليفي شتراوس وغيرهم. كما أن هناك أيضا من يعتقدون أن ذكر اقتباسات (عادية تماما) من أقوال سينمائيين معروفين عالميا، يضفي على مقالاتهم أهمية خاصة رغم أن الناقد يمكنه أن يعبر عن المعنى ذاته دون أن يشير إلى اقتباسه من مخرج معين، لكنها تلك الحالة من الدونية التي تسيطر على الكثير من الكتاب!
لاشك أن منهج البنيوية والتفكيكية الذي يرتبط بالأبحاث السيميائية التي تهتم أساسا باللغة وتدور في دائرة "فلسفة اللغة"، قد أضافت إلى علوم النقد الأدبي والسينمائي أيضا، لكن بعض الأساتذة العرب من القادمين إلى نقد السينما من أجناس أخرى، يميلون إلى الاعتقاد ان النقد السينمائي الوحيد الصحيح هو النقد الذي يقوم على السيميائية، وماعداه لا يعد نقدا بل مجرد انطباعات صحفية، وذلك لاضفاء العظمة على ما يقدموه من دراسات، معظمها مكتوب بلغة لا يفهمها القاريء العربي بحكم أن معظمها ترجمات واقتباسات اجتهد الكاتب أو الباحث في نقلها عن لغات أجنبية لا يجيدها عادة ولم يدرسها في بلادها الأصلية لكي يدرك مغزى تلك المصطلحات والكلمات في إطار تطور ثقافتها ولغتها.
يعتقد كثير من المغرمين بتلك النظريات أن الفيلم السينمائي مثله مثل الكتاب أو الرواية، أي مجرد نص يمكن تفسيره طبقا لعلوم اللسانيات، وهو نزوع متعسف لا يؤدي سوى إلى تضليل القاريء، بل إنك حينما تطبق المنهج البنيوي مثلا على فيلم بسيط من الأفلام التي يخرجها الشباب العرب هنا أو هناك، ستبدو كما لو كنت تطبق بهيكل عملاق على صدر كائن هش ضعيف يهتم بالوصف أكثر من اهتمامه بالتفلسف والتأمل والإحالات المعقدة كونه نابعا من بيئة ثقافية محدودة للغاية. وتكون النتيجة تدمير الكائن الهش، وانهيار الهيكل العملاق!
من المهم أن ينفتح الناقد على كل المذاهب والاتجاهات النقدية ويستفيد منها، غير أن من الخطأ أن يغلق نفسه على مذهب واحد يعتبره "مقدسا" فيصبح مثله مثل عبيد الأيديولوجيا، الذين يرفضون الاستفادة من أي مذهب خارج نطاق أيديولوجيتهم التي يعتقدون أنها تقدم تفسيرا شاملا للعالم.
والمشكلة أن من يكتبون هذه الانتقادات يكتفون عادة بالتنظير والاكتفاء بنقد النقد، ولدون أن يتصدوا لنقد الأفلام بينما الوظيفة الأساسية لأي ناقد سينمائي هي "نقد الفيلم". وإذا كان من الممكن تطبيق أرقى النظريات النقدية على الأفلام الفلسفية التي تبتكر وتطور أساليب سينمائية مركبة مثل أفلام جودار أو ديفيد لينش أو جريناواي، فليس من الممكن تطبيق المنهج السيميائي على كل ما هو شائع من أفلام تجارية بسيطة التركيب، وإلا فلماذا لا يكلف أحد من هؤلاء الناقدين نفسه تقديم تحليل سيميائي مثلا لفيلم لأفلام "تتح"  و"سالم ابن أخته" و"الألماني" و"صنع في مصر"!

إن النقد السينمائي الذي ينشر في الصحافة أكثر تأثيرا على القاريء- المشاهد للأفلام، من النقد الأكاديمي الذي يعتمد على النقل من المراجع الأجنبية ويكتب عادة في استطرادات طويلة مليئة بالألفاظ الاستعراضية. فكيف سيفهم القاريء المتوسط  كلمات مثل "التمفصلية" و"الابستمولوجية" و"الظاهراتية" و"المتغيرات الدلالية" و"المدلول التجاوزي"؟!
خارج الصحافة لا وجود للنقد السينمائي ولا تأثير له، فالدراسات والأبحاث التي تنتج لكي ينال أصحابها الدرجات العلمية، تظل عادة حبيسة الأدراج، وإذا صدرت في كتب فهي لا تنتشر بل تصدر في طبعات محدودة للغاية، كما أنها لا تصل إلى القاريء المتوسط الذي يحجم عنها لتعقيدها واستغلاقها عليه سواء من ناحية المادة أو اللغة.
حري بنا أن نطالب الصحافة بالاهتمام بتخصيص مساحات أكبر للنقد السينمائي، وباصدار المطبوعات والمواقع الالكترونية المتخصصة في النقد السينمائي (وليس في نشر أخبار النجوم والفضائح) بدلا من أن نشطب على النقد الذي ينشر في الصحف والترويج لمنهج واحد ووحيد سيظل للأسف، يُتداول داخل دائرة محدودة من المتخصصين دون أن يكون له تأثير حقيقي على تطور السينما والجمهور وصناع الأفلام، وهم- في النهاية- الهدف الأساسي للنقد.
 

الأربعاء، 3 يونيو 2015

حول إيقاف مهرجان أبوظبي السينمائي







مهرجانات السينما في العالم تتوسع، في برامجها وأقسامها وطموحاتها بل وتتجه أيضا إلى عرض الأفلام في مدن أخرى غير المدينة التي يقام فيها المهرجان، ومهرجانات السينما تنشر الثقافة السينمائية وثقافة الصورة، وتساهم في محاربة الفكر المتطرف، وتلعب دورا حضاريا من خلال عرض أفلام العالم، من تواصل بين الثقافات. وهي ليست فقط مناسبات احتفالية بانجازات الفن السابع، لكنها أرضية صلبة للمناقشة والبحث وأساس حقيقي لدعم صناعة السينما في البلد الذي يقام فيه المهرجان.
وقد جاء خبر إيقاف مهرجان أبوظبي السينمائي مفاجئا وصادما لكل عشاق السينما ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم. فهذا مهرجان أثبت خلال ثماني دورات، أنه ولد ليعيش ويستمر، وقد لعب بالفعل دورا رائدا في دعم الإنتاج السينمائي العربي من خلال المنح المالية والفنية التي يقدمها "صندوق سند" الذراع الإنتاجية التابعة له. وكان من المدهش أن يصدر بيان من الجهة التي تنظم المهرجان يقول إن إيقاف المهرجان جاء بسبب الرغبة في التركيز على نشاط "صندوق سند" ونظام دعم الأفلام!
فهل كان وجود المهرجان عائقا أمام نشاط صندوق الدعم (سند) أم أن "الصندوق" كان يستند عمليا إلى كيان المهرجان ويحقق ما يحققه بفضل ما اكتسبه المهرجان من سمعة دولية بفضل جهود عشرات الأشخاص الذين عملوا في إدارته وعلى رأسهم المخرج الإماراتي الشاب علي الجابري، الذي أدار الدورات الثلاث الأخيرة، ومن قبله المدير الأمريكي بيتر سكارليت،. والغريب أن إيقاف المهرجان يأتي بعد أن كان قد أصبح حدثا سنويا راسخا متميزا ببرنامجه وأفلامه وندواته ومطبوعاته، على نحو لا يتوفر لكثير من المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي.
لقد توقف مهرجان دمشق السينمائي منذ فترة بسبب الأوضاع المضطربة في سورية، ووصل مهرجان قرطاج العجوز إلى حالة من الإرهاق والتعب أصبح يحتاج معها الى دخول "العناية المركزة"، وتوقف مهرجان ترايبكا – الدوحة بعد فشل التجربة التي حاولت استنساخ تجربة المهرجان الأمريكي الشهير في نيويورك، غافلة عن طبيعة المنطقة التي يقام فيها المهرجان، ودوره الأساسي في جمع شمل السينمائيين العرب والأجانب معا، كما توقف منذ العام الماضي مهرجان أفلام الخليج، ولم يعد هناك سوى مهرجان دبي السينمائي الذي شهد خفضا في ميزانيته من العام الماضي بنسبة كبيرة أدت إلى الغاء بعض أقسامه وإلغاء السوق الدولية التي كانت تقام على هامشه.
لم يعد يقام في المنطقة حاليا سوى مهرجان القاهرة السينمائي الذي يكافح من أجل استعادة دور سابق له كان قد ولى بعد ذلك التراجع الكبير في مستوى السينما المصرية بشكل عام والثقافة السينمائية في مصر بوجه خاص، وفساد المؤسسات الرسمية على أكثر من صعيد. كما يستمر مهرجان آخر ولد ميتا في مصر هو مهرجان الاسكندرية السينمائي، ويحاول مهرجان مستجد هو الاقصر للسينما الإفريقية أن يعلب الدور الذي كان لمهرجان قرطاج في الماضي ولكن في ظروف متغيرة عسيرة.
يأتي توقف مهرجان أبوظبي يأتي في الوقت الذي كان قد بدأ يصبح نافذة مهمة للأفلام التي تظهر في المنطقة بل وفي الإمارات أيضا حينما عرض في افتتاح دورته الماضية فيلما إماراتيا روائيا طويلة من "من ألف إلى باء" يعتبر رغم أي ملاحظات سلبية عليه، خطوة إيجابية على طريق التأسيس لسينما روائية في الإمارات. كيف يمكننا أن نستوعب فكرة أن إيقاف مهرجان أبوظبي يمكن أن يخدم ويفيد المؤسسات الإنتاجية التي تركز أساسا على دعم مشاريع الأفلام سواء من خلال "سند" أو الأفلام الأجنبية التي تصور في الإمارات وتمولها شركة "إيماج نايشن" الإماراتية؟
كيف يصدر قرار كهذا في وقت تشهد المنطقة هجمة من التطرف السياسي باسم الدين، بينما يمكن أن تصبح السينما حاجزا منيعا في وجهه؟ وهل من الممكن إعادة النظر في هذا القرار الذي أرى صادقا- أنه يؤدي إلى خسارة فادحة بالنسبة لدولة الإمارات، وهي في النهاية خسارة تتجاوز كثيرا أضعاف ما كان ينفق من مال على إقامة المهرجان!

الثلاثاء، 24 مارس 2015

عقدة تاركوفسكي









الكثير من هواة السينما وأيضا من المخرجين الشباب في العالم العربي، أصبحوا اليوم مولعين، حد الهوس أحيانا، بأفلام المخرج الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي. هذا الولع يتجسد في الاستشهاد بأقواله أو بمقاطع من أفلامه أو بمحاكاة أسلوبه في الإخراج كما يتضح في كثير من الأفلام الجديدة التي يصنعها شباب يتصورون أنهم بهذا، سيتخلصون من الأساليب التقليدية، ويصلون إلى العالمية.

مع الانتشار الكبير لشبكة الانترنت، أصبح الشباب ممن يخرجون أفلاما محدودة الإمكانيات، يستطيعون مخاطبة الكثير من مهرجانات السينما العالمية التي تقام في الشرق والغرب، وكثير منها، خاصة المهرجانات الأوروبية، ترحب بالطبع بمشاركة "عينات" من أفلام الشباب من "العالم الثالث"، سواء تحت إسم "الربيع العربي" أو "الخريف البطريركي" وغير ذلك!

وأصبحت النظرة السائدة المستقرة لدى هؤلاء الشباب، أن مهرجانات السينما الغربية يمكنها أن ترحب بهم فقط إذا كانوا يصنعون أفلامهم طبقا للأساليب الغربية في السرد والتصوير، خاصة لو كانت أفلامهم تحاكي أسلوب تاركوفسكي.

وينسى هؤلاء أن تاركوفسكي هو إبن ثقافته ومحيطه الاجتماعي والتاريخي، أي انه مخرج روسي ينتمي للثقافة الروسية بكل مكوناتها وجوانب الخصوصية فيها. صحيح أنه من كبار المجددين، أو من "فلاسفة التعبير بالصورة"، وصحيح أنه كان يطبق طريقته الخاصة في التعامل مع الصورة ومع الزمن، إلا أن إيقاع أفلامه لاشك أنه يستند إلى تراث خاص تتميز به الثقافة الروسية. هذا التراث لاشك أيضا أن له علاقة باللغة، بالحركة، بالأدب، بالتاريخ المصطبغ بالحزن، بالعلاقات بين البشر، بالثقافة المسيحية الأورثوذوكسية الروسية، بالشخصية الروسية التي عانت كثيرا في الماضي، وتأثرت بالسينما الأوروبية الحديثة، سينما بريسون وبرجمان وبونويل وأنطونيوني.

يمكنك أن تأمل في التعبير عن هواجسك وأحلامك من خلال أسلوبك الخاص في التعامل مع الصورة في فيلمك، لكن من حق الجمهور الذي توجه له أفلامك، أن يرى ما يثير اهتمامه. إن الناس في بلادنا عندما يتكلمون معا فإنهم يواجهون بعضهم البعض، يتطلعون في وجوه بعضهم، بل يمكن القول إننا ننتمي إلى "مجتمعات التحديق" بامتياز، التحديق في الآخر، وليس غض النظر والتظاهر بأننا لا نقتحم الآخر بنظراتنا كما في ثقافة تاركوفسكي والثقافة الأوروبية عموما، التي تعتمد على اللامباشرة، ويمكن بالتالي لشخص ما أن يتخاطب مع شخص آخر بينما هو جالس يدير له ظهره مثلا.

أليس لإيقاع اللغة التي يتكلمها الناس في الشارع، صلة مباشرة بإيقاع الفيلم، بحرارته وتوهجه ومناطق السخرية فيه مثلا؟ هل كانت أفلام صالح أبو سيف مثلا، ستصبح أفضل لو أنه صنعها على غرار أفلام برجمان؟ أليس لكل واقع خصائصه؟

إن "عقدة تاركوفسكي" لن تساهم في تطوير الفيلم العربي، بل في طمس هويته وتدمير علاقته بالجمهور، ايا كان المستوى الفني للفيلم نفسه.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger