الاثنين، 8 سبتمبر 2014

جوائز مهرجان البندقية.. احتفاء بالشعر والإنسان


  روي أندرسون يحمل الاسد الذهبي
                                                          


أمير العمري-البندقية



وفقت لجنة التحكيم الدولية برئاسة الموسيقار الفرنسي ألكسندر ديشبلات عندما منحت الجائزة الكبرى لمهرجان البندقية السينمائي -وهي جائزة "الأسد الذهبي"- لفيلم "حمامة تقف فوق غصن تتأمل الوجود" للمخرج السويدي روي أندرسون.
هذا فيلم يقترب من لغة الشعر السينمائي الرفيعة التي تتكون من الصور والإشارات والعلاقات البصرية متحدثة عن نفسها، فالحوار في الفيلم ليست له وظيفة مباشرة في التعبير عن العلاقات بين البشر، بل عن ما وصلت إليه العلاقات الإنسانية، خاصة في المجتمعات الأوروبية، من برودة وانفصال وانعدام القدرة على التواصل، والأهم عدم القدرة على تفهم المأزق الذي يعيشه الآخر، والذي قد يكون مكثفا لمأزق أكبر وأشمل.
فيلم روي أندرسون هو خاتمة ثلاثية بدأها هذا المخرج البالغ من العمر 71 عاما بفيلم "أغنيات من الطابق الثاني" عام 2000، ثم ثناها بفيلم "أنت.. الذي تعيش" عام 2007، وتتميز أفلامه -خصوصا فيلمه الأخير- بطابعها السيريالي الساخر، ومشاهدها الثابتة ولقطاتها الطويلة التي لا تصطف ضمن سياق درامي تقليدي، بل تعتمد على ذكاء المتفرج في التقاط العلاقات الذهنية بين الشخصيات والأماكن التي تظهر فيها، وتحمل نبرة سخرية تميز أسلوب الكوميديا السوداء التي تنتمي لها.
هنا، يقسو أندرسون في هجائه الإنسان الأوروبي، متخلصا تماما من تلك النزعة المركزية الأوروبية، معلنا استنكاره حتى لتاريخ من الانتصارات الزائفة والممارسات الاستعمارية البشعة، ومصورا المستعمر البريطاني تحديدا وهو يقدم تسلية لطبقة رجال الأعمال الأوروبيين عن طريق شواء مجموعة من نساء ورجال وأطفال إحدى المستعمرات الأفريقية داخل أسطوانة نحاسية ضخمة تدور، وتحتها نيران مشتعلة.

ساعي البريد
كما منحت لجنة التحكيم جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج للمخرج الروسي المرموق أندريه كونتشالوفسكي عن فيلم "ليالي ساعي البريد البيضاء" الذي تدور أحداثه في قرية نائية في أقاصي الشمال الروسي، حيث يعيش الأهالي هناك في عزلة تامة عن ما يحدث في روسيا والعالم، ولم تلمس التغييرات التي وقعت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي حياتهم ولم تغير فيها شيئا، وسيلتهم الوحيدة للاتصال بالجانب الآخر في المدينة هو ساعي البريد الذي يأتي إلى قريتهم راكبا دراجته النارية، حاملا بعض الخطابات والرسائل التي قد لا تحمل سوى الأخبار السلبية.
ويتميز الفيلم بأسلوبه الذي يموج بين الروائي والوثائقي، ويقوم بالدور الرئيس فيه، أي دور ساعي البريد، موظف حقيقي يعمل ساعيا للبريد في المنطقة، كما استعان المخرج بالكثير من سكان المنطقة للقيام بأدوارهم الحقيقية.
وذهبت جائزة أحسن ممثل إلى الأميركي آدم درايفر، وجائزة أحسن ممثلة إلى زميلته الممثلة الإيطالية ألبا روروتشر، صاحبي الأداء المتميز كثيرا في فيلم المخرج الإيطالي "قلوب جائعة" الناطق بالإنجليزية، وهو الفيلم الذي رشحه عدد من النقاد للجائزة الكبرى، وعلى الرغم من أنه من الممكن اعتباره فيلما من أفلام الرعب فإن أسلوب المعالجة السينمائية لموضوعه الإنساني ترك تأثيرا لا شك فيه على المشاهدين.
ويصور الفيلم كيف ترغب زوجة أنجبت حديثا في حرمان وليدها الصغير من تناول أي طعام بروتيني من أي نوع، وتكتفي بتدليك جسمه بزيت نباتي معين، فهي النباتية تعتقد أن المأكولات الغنية بالبروتين تقتل الإنسان، في حين يشاهد والده كيف يتضاءل جسد ابنه يوما بعد يوم، ويضطر لسرقة الطفل والخروج به بعيدا عن عيني الأم لكي يطعمه بنفسه، ومع تطور شخصية الأم تزداد حالتها النفسية سوءا مع تصاعد رغبتها في الاستحواذ على الطفل وتربيته بطريقتها الخاصة بما يشي بجنونها، ويحاول الأب مستعينا بوالدته انتشال الابن من المصير الذي ينتظره، وذلك على نحو يذكرنا بفيلم "طفل روزماري" لرومان بولانسكي (من عام 1968).


مذابح إندونيسيا
وذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى المخرج الأميركي جوشوا أوبنهايمر عن فيلمه التسجيلي الطويل "نظرة الصمت" الذي يستكمل فيه ما بدأه في فيلمه الوثائقي السابق "فعل قتل" (الحاصل على الأوسكار)، ولكن في حين كان الفيلم السابق يعرض اعترافات مباشرة لأشخاص شاركوا في مذابح إندونيسيا ضد أعضاء الحزب الشيوعي في أعقاب انقلاب عام 1965 على الرئيس سوكارنو، يعرض الفيلم الجديد القصة ولكن ليس من خلال وجهة نظر القتلة، بل من وجهة نظر الضحايا والشهود على تلك المذابح التي لا تزال موضوعا يثير الجدل في إندونيسيا حتى اليوم.
ومنحت لجنة التحكيم جائزة أحسن سيناريو إلى المخرجة رخشان بني اعتماد وفريد مصطفاوي كاتبي سيناريو فيلم "حكايات" الإيراني لمخرجته بني اعتماد الذي تلخص فيه ما جاء في أفلامها السابقة منذ فيلم "نرجس" من شخصيات تعاني وطأة الضغوط الاجتماعية والبيروقراطية، ولكن من خلال النقد الاجتماعي الخفيف الذي لا يصل إلى توجيه النقد لجوهر النظام وطبيعته الاستبدادية.
أما جائزة "مارسيللو ماتسروياني" التي تمنح لأحسن ممثل أو ممثلة في الدور الأول فقد ذهبت إلى الممثلة الفرنسية روان بول عن دورها في الفيلم الفرنسي "ضربة المطرقة الأخيرة" الذي تقوم فيه بدور أم انفصلت عن زوجها وأصبحت مسؤولة عن تربية ابنهما المراهق الذي يرغب في استئناف علاقته بأبيه رغم أنه لم يره منذ عشر سنوات، كما أن الأم تعاني من سرطان الدماغ وتستعد لإجراء عملية جراحية.
والفيلم عمل شديد الرقة والتأثير، يفيض بالمشاعر الإنسانية ويقدم صورة شديدة الصدق والواقعية لصبي يتطلع إلى الالتحاق بعالم الكبار لكنه يقاوم البقاء في كنف أمه الوحيدة.
وقد نظر كثيرون إلى الجائزة الخاصة التي منحتها لجنة التحكيم للفيلم التركي "سيفان" على أنها جائزة تحمل نوعا من المجاملة بمناسبة الاحتفال بمائة عام على بدء تاريخ السينما في تركيا، أما الفيلم نفسه فهو عمل غير متميز سينمائيا، كما أنه يمتلئ بالمشاهد التي تثير النفور كتعذيب وإيذاء الحيوانات، وكيف ينساق طفل وراء الكبار في الولع بمصارعة الكلاب حتى الموت.
نشر في موقع الجزيرة

الأحد، 24 أغسطس 2014

"القانون في هذه الأجزاء": شريعة الاحتلال!







هل المهم أن يطبق المحتل القانون الذي وضعه، أم أن القانون وضع أصلا كأداة شكلية لتحقيق الانتقام من "العدو" حتى لو كان هذا العدو مغلوبا على أمره، وجد نفسه ذات يوم تحت الاحتلال؟ هل المحاكمة تؤدي إلى إظهار الحقيقة، أم أنها محاكمة محكوم فيها من قبل أن تبدأ بفعل ثقافة "الانتقام" التي تسخر فيها فكرة العدالة، لإنزال العقاب بـ "الآخر".. الفلسطيني حتى لو لم تكن هناك أدلة على مخالفته القانون سوى شهادات ضباط الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) ضده؟ هل القانون في خدمة العدالة أم في خدمة الاحتلال، وهل يمكن أن يضع المحتل نظاما قانونيا ينصف المحتل ويعترف بـ "إنسانيته" وبحقه المشروع حسب القانون الدولي في "مقاومة الاحتلال"، أم سيعتبره دائما "إرهابيا" لا يجوز له ما يجوز لغيره في مكان آخر؟
هذه التساؤلات وغيرها هي ما تطرح في سياق الفيلم الوثائقي الإسرائيلي "القانون في هذه الأجزاء" The Law in These Parts للمخرج رعنان ألكسندروفيتش Ra'anan Alexandrowicz الذي يتخذ في هذا الفيلم وجهة غير مسبوقة، فهو من خلال أسلوب عقلاني تحليلي استقصائي، وبناء جدلي شبه تعليمي، يكشف ويعري ويفضح منظومة القهر التي تخضع لها حياة ملايين الفلسطينيين، من خلال تقنين الاحتلال، وتشريع ما يبدو ظاهريا أنه يحقق لهم نوعا من العدالة، لكنه في حقيقة الأمر – كما يكشف هذا الفيلم- ينتهي إلى أن يضرب بالقانون نفسه عرض الحائط، لكي تعلو فقط شريعة المحتل.
ينتمي الفيلم إلى تلك الموجة من الأفلام الإسرائيلية التي تحاول- من وقت إلى آخر- أن تطرح تساؤلات جادة حول ديمقراطية إسرائيل المزعومة، وهل هي ديمقراطية للجميع، وهل يمكن أن يوجد نظام قانوني عادل يطبق القوانين التي وضعها خبراء التشريع الإسرائيليون، على المحتل، تماما كما يطبقه على المحتلين.
ولكن الفيلم، بدلا من التركيز على "الضحايا" أي على الطرف الفلسطيني وما يتعرض له منذ 1967، يركز على "صناع القانون" ومن يقومون بتطبيقه. يختار المخرج مجموعة من خبراء القانون والقضاة العسكريين، وكلهم كانوا يعملون في القضاء العسكري، وكان مطلوبا منهم من أول يوم لاحتلال الضفة وغزة في 1967 وضع منظومة قوانين تنظم- كما يقولون- العلاقة بين السلطات العسكرية الاسرائيلية والفلسطينيين الذين أصبحوا الآن واقعين تحت الاحتلال.

شكل تخيلي
فوق منصة  يضع المخرج بنفسه في أول مشاهد الفيلم، منضدة ومقعدا على خلفية من شاشة خضراء، ويتناوب القضاة العسكريون والقانونيون الجلوس واحدا وراء الآخر فوق المقعد، أمام المخرج الذي يطرح الأسئلة عليهم، وقد أصبحوا الآن (خارج الخدمة) بعد أن تقاعدوا. وهو يترك لهم المجال للحديث والتبرير ومواجهة أنفسهم، دون تدخل كبير من جانبه، وعلى الشاشة الموجودة خلفهم يعرض لقطات معظمها مصور بالأبيض والأسود، للكثير من الأحداث والوقائع والقضايا التي تعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة بعد 67، منها بعض الحالات التي يناقشها مع هؤلاء القانونيين الإسرائيليين الذين يتخذون مقعد الشاهد. ويستخدم أيضا الوثائق والأوراق التي تتضمن وقائع الكثير من الدعاوى القانونية والأحكام القضائية، يقرأ منها ونراها مصورة أمامنا على الشاشة، ويقتبس من الأحكام ومبرراتها، ويناول الأواراق للشخصية التي تجلس أمامه لكي ينعش ذاكرتها.
يقسم المخرج فيلمه هذا الفيلم الوثائقي الطويل (98 دقيقة) إلى خمسة أقسام، يكتب عنوان كل منها على الشاشة، وبعد أن يضع الطاولة والمقعد، تظهر على الشاشة لقطات لقوات الاحتلال تحرس عشرات المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967. ويستخدم المخرج التعيلق الصوتي، بصوته، وباستخدام ضمير الأنا، فيقول إن الفرق بين الوثائقي والروائي أن الأول يتناول الحقائق بينما يعبر الثاني عن الخيال، ويستطرد: "قد يكون هذا صحيحا لكنه ليس دقيقا تماما". والمقصود كما سنعرف فيما بعد، التشكشك في صدق الكثير من "الوثائق" التي يعرضها. وهو يقدم فيلمه بقوله إن القانون يفترض أن ينظم الحياة بين الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين السلطات، وإنه سيستعرض في فيلمه النظام القضائي الذي أنشيء بعد الاحتلال من خلال الذين أنشاوه وطبقوه وطوروه وحافظوا عليه.
القسم الأول من الفيلم بعنوان "الأوامر والبلاغات". يمسك أحد القضاة العسكريين بوثيقة يقدمها له المخرج مكتوبة بالعبرية والعربية.. إنها الوثيقة الأولى التي أعلنت على شكل بلاغ رسمي بعد الاحتلال مباشرة في يونيو 67، لكنه يفجر مفاجأة حينما يقول إن هذا البلاغ العسكري كان قد أعد قبل سنوات من الاحتلال الإسرائيلي في 67، وقد طبع منها عشرات الآلاف من النسخ ووضعت في صناديق تابعة للجيش الى حين يأتي موعد استخدامها. وتتضمن الوثيقة أن الأراضي الفلسطينية أصبحت الآن تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي، وأن كل ما يصدر عن الحاكم العسكري قانون يجب الانصياع له.
ثم نرى لقطات توضح كيف فرض الجيش على الفلسطينيين إصدار بطاقات جديدة للهوية. ثم يأتي تنظيم جمع الضرائب وإعادة تنظيم البريد والاتصالات ونظم التأمين وقانون المرور وتحويل التعامل النقدي الى العملة الاسرائيلية.
يوجه المخرج سؤالا إلى أحد الخبراء القانونيين حول السبب الذي جعلهم يسنون قوانين خاصة للأراضي الفلسطينية في حين كان يمكن تطبيق القوانين الاسرائيلية، فيقول الرجل إنهم إذا فعلوا ذلك لأصبح الفلسطينيون في الضفة والقطاع مواطنين إسرائيليين بالضرورة، فليس من الممكن تطبيق القانون على الأرض دون البشر!


شيطنة الآخر
الفصل الثاني يحمل عنوان "إرهابيون ومجرمون". نرى لقطات من الجريدة الإخباريةالعسكرية الاسرائيلية التي تصف زيارة موشيه ديان الى الفلسطينيين المصطافين على شاطيء البحر في يافا (كذا!)، ثم جانبا من المحكمات العسكرية التي تجري يوميا للفلسطينيين، ولقطات من داخل ساحات المحاكم وقاعاتها، ويناقش المخرج مع أحد المدعين العسكريين قضية تعود إلى عام 1969 كان يمثل الادعاء فيها ضد 8 من الفلسطينيين أعضاء منظمة فتح، أتهموا بمحاولة تفجير مطار بن جوريون، ويركز على قائد المجموعة الذي يقول انه ولد في القدس لكنه اضطر للمغادرة الى الأردن، وإنه كان يقاوم الاحتلال، لكنه حوكم كإرهابي. ويتساءل المخرج لماذا لا يطبق عليه القانون الدولي الذي يبيح للواقعين تحت الاحتلال المقاومة؟ فيكون رد الخبير القانوني الاسرائيلي: ليس من الممكن اعتبار أمثال هؤلاء أسرى حرب حسب اتفاقية جنيف لأنهم يقتلون المدنيين!
يتوقف الفيلم أيضا أمام قضية امرأة فلسطينية تدعى عريفة ابراهيم (من عام 1976) اعتقلت بتهمة الاشتراك في اعمال ارهابية في حين أن كل ما فعلته أنها كانت تقدم الطعام والشراب الى مجموعة من الفدائيين الذين تسللوا من الأردن وكانوا يختبئون قرب قريتها.
يتحدث القاضي دوف شيفي عما يطلق عليه "الحيطان لها آذان" أي كيف يعتمد الجيش على عملاء وسط الفلسطينيين، ويناقشه المخرج حول ما يدلي به هؤلاء العملاء من شهادات ولماذا يجب تصديقها دائما، وهل كان القضاة يناقشون مثل هؤلاء الشهود، وكيف يأخذ القضاة بأقوال شهود لم تتح لهم فرصة مناقشتهم، ولكن الرد يكون دائما ان هذه السرية مقصودة حماية للعملاء كمصدر مهم للمعلومات عند الجيش.
في أحد المشاهد يعترف أحد القانونيين منفعلا بعد أن يحاصره المخرج بالأسئلة، بأن القضاء العسكري في النهاية يعمل عند الجيش الاسرائيلي، وأن هناك فارقا بين العدالة وبين النظام، وليس شرطا أن يتفق الاثنان دائما.
في القسم الثالث يصور الفيلم بدايات تطبيق سياسة الاستيطان في الضفة والقطاع، وكيف تلقف إريل شارون نصيحة من أحد القضاة العسكريين (يظهر في الفيلم ويتحدث عن التجربة) تعيد استخدام مادة في القانون العثماني تتعلق بما يطلق عليه "أرض ميتة" أي اعتبار كل أرض مهملة لا يزرعها أصحابها أرضا ميتة يجوز للجيش الاستيلاء عليها وتشجيع المستوطنين على البناء فوقها، وهو ما نراه عمليا في الفيلم من خلال الوثائق المصورة.
في الجزء الرابع بعنوان "حلول مناسبة" يصور الفيلم الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 وكيف كانت السلطات الاسرائيلية تطور في التشريعات والتطبيقات وتتجاوز الكثير لكي تواجهها وتقضي عليها. 
وفي أحد أهم المشاهد الوثائقية في الفيلم تدور الكاميرا في لقطات بالألوان على عدد من السجناء الفلسطينيين داخل زنازين مختلفة من وراء القضبان ويسألهم المصور واحدا وراء الآخر: لماذا أنت هنا فتأتي اجاباتهم جميعا متطابقة: لقد كانوا ضمن الانتفاضة. الأول يقول انه كان يلقي بالأحجار، وعندما يسأله المخرج: وما الحكم الذي صدر عليك؟ يقول: 14 شهرا. والثاني كان يوزع منشورات ويكتب على الجدران شعارات مناهضة للاحتلال، وقد ناله حكم بالسجن لمدة سنتين ونصف، والثالث قام بالقاء الاحجار وتوصيل أحد الفلسطينيين بسيارته وقد ناله حكم بالسجن لستة أشهر ونصف، وغرامة 500 شيكل!!

جهد توثيقي
يصور الفيلم في مونتاج جدلي مثير مع مزج على مقاطع من المقابلات مع القانونيين العسكريين، وعلى خلفية من موسيقى البيانو التي تبدو كالنذير بايقاعاتها الرتيبة، نسف البيوت الفلسطينية، مواجهة المظاهرات بأقصى درجات العنف، عمليات الترحيل الجماعي عبرالحدود، إقامة الحواجز والتفتيش وقطع الصلات بين المناطق والمدن الفلسطينية، وكلها اجراءات يراها القانونيون "ضرورية" اي أنهم يقرون بسياسة العقاب الجماعي للسكان.
من الواضح أن المخرج رعنان الكسندروفيتش، بذل جهدا هائلا مع فريق عمله من أجل توفير كل ما يلزم من وثائق ولقطات تدعم رؤيته التي لا يشوبها أي غموض من البداية، فهو يتخذ وجهة نظر المحقق الذي يبحث ويحاسب ويدقق ويوجه الأسئلة الموجعة، لهؤلاء اللذين يتحدثون بلغة القانون في حين أنهم يتجاوزون كل القوانين الانسانية المعروفة، ويبرون ما لا يمكن تبريره من ممارسات.
ليس في الفيلم ما هو زائد، كما لا ينقصه شيء، بل يبدو متماسكا من ناحية الايقاع رغم غزارة المادة البصرية وكثافة المقابلات المصورة التي يتم تقطيعها على مسار الفيلم وفصوله المختلة بذكاء وبحيث ينجذب المشاهد إلى الفيلم ويظل يتابع ما يكشف عنه كل مشهد من ملوماة جديدة أو وثيقة مصورة نادرة، وينجح في توصيل فكرته الفيلم الأساسية التي تتلخص في: كيف يتم "طبخ" القوانين من أجل تكريس سلطة الاحتلال، وهي قضية أخلاقية كما هي سياسية بالطبع.
ورغم الثبات الراسخ لدى قضاة الجيش الاسرائيلي وخبرائه القانونيين الذين يظهرون غير نادمين بالمرة في الفيلم، إلا أن بعضهم لا يملك أمام إلحاح المخرج بأسئلته القاسية الباردة تماما التي تأتي من خارج الكادر لتحاصر الشخصية التي يحاورها ، سوى الإقرار بأن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه ليس من الممكن دائما الحديث عن العدالة بينما تكون أنت كقاض- تعمل لدى جيش احتلال. وهذه هي خلاصة رسالة الفيلم التي تصل الى الملايين عبر العالم.
جدير بالذكر أن هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجان صندانس الأمريكي كما نال جوائز دولية أخرى.  

نشر أولا في موقع "الجزيرة الوثائقية"

الخميس، 14 أغسطس 2014

ليس بالبؤس وحده نصنع الفيلم الوثائقي!




(هذا المقال منشور في موقع الجزيرة الإخبارية- 13 أغسطس 2014)


 
أمير العمري



من بين الملامح البارزة التي تميز معظم ما ينتج على ساحة الفيلم الوثائقي في العالم العربي حاليا، ذلك النزوع إلى تصوير البؤس الإنساني في مستوياته الأدنى، والتركيز على قصص وحكايات البشر ممن يعيشون على هامش المجتمع، بحيث أصبحت تجربة المشاهدة من فيلم إلى آخر، تبدو متكررة، وكأنها تجربة "موحدة"، عمادها رغبة دفينة لدى صناع هذه الأفلام في سبر أغوار الواقع، بدعوى أن الفيلم الوثائقي هو "فيلم التعبير عن الواقع"، في مقابل الفيلم الروائي الذي هو - بالضرورة عند هؤلاء- تعبير عن الخيال السينمائي.
وبدعوى التعامل مع الواقع، يبحث معظم مخرجي الأفلام الوثائقية العرب عن مواضيع لأفلامهم، تتشابه مع بعضها البعض، ليس فقط في طبيعة الشخصيات التي تظهر في هذه الأفلام أو تدور الأفلام نفسها عنها، بل في تكرار الأسلوب نفسه الذي يقوم بصفة أساسية، على إجراء مقابلات من وراء الكاميرا مع تلك الشخصيات الهامشية المستبعدة من دائرة الوجود الاجتماعي، وهي مقابلات لا يعرف المخرج أين وكيف يديرها، أين تبدأ ومتى تنتهي، وما الذي يمكنه أن يستخدمه منها وما يستبعده، بل يبدو أن هناك ولعا خاصا بتسجيل وعرض كل ما ترويه تلك الشخصيات البائسة، باعتبار أن شهاداتها أكثر صدقا وتأثيرا من الصور التي تنقل وتترجم وتعبر- عادة- بلغة السينما، عن موضوع الفيلم وطبيعته وقضيته.

مقاعد وحوارات
لا يهتم المخرجون العرب الشباب بالصورة وبتركيب الفيلم وبنائه والتعامل معه باعتباره وسيطا ديناميكيا يملك إيقاعه الخاص وجمالياته الخاصة، يمكن أن يضارع الفيلم الروائي في تشويقه وجاذبيته، بقدر اهتمامهم بما تقوله الشخصيات التي تجلس أمام الكاميرا، والكاميرا نفسها تبدو مهتزة تتأرجح يمينا ويسارا بحيث تربك عين المتفرج التي تتأرجح معها أيضا، وذلك تحت دعوى أن تلك هي الواقعية، وأن السينما المسواة المصقولة أي المصنوعة جيدا، تخون الواقع ولا تعكس حالة البؤس الاجتماعي كما تعكسها الصورة المهتزة.
هذه الأنماط من الأفلام الوثائقية لا يصح أن نطلق عليها أفلاما، فهي عبارة عن مزيج بين التقرير التلفزيوني (الريبورتاج) وبين البرنامج التلفزيوني الحِواري.
"تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك "القيد" الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع"
وإذا كان بعض صناع هذه الشرائط يستخدمون أحيانا بعض الصور الحية المصورة من الواقع نفسه، من الحياة، من الشارع، ومن شتى الأماكن، إلا أن التركيز الأساسي لصانع الفيلم يكون على المقابلات، لأن الاعتقاد السائد أن المقابلة المصورة يمكن أن تكون أكثر بلاغة في التعبير عن القضية. والمشكلة أنهم بهذا الاستسهال يجعلون صنع الفيلم عملية "عشوائية" يمكن أن يقوم بها أي إنسان، دون أن يكون لديه أصلا مخطط واضح لفيلمه: موضوعه، تكوينه، بناؤه، إيقاعه، مفرداته، لقطاته.
إن تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك "القيد" الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع الذي يناقشه أو يعرضه. فالكاميرا ليست هي التي تصنع الأفلام بل يصنعها السينمائي الذي يقف خلفها، تماما كما أن القلم (أو الكيبورد) ليس هو الذي يكتب للكاتب مقالاته.
ومن أبرز المشاكل التي نشاهدها في هذا النوع من "أفلام البؤس" -إذا جاز التعبير- أنها تبدو بلا بناء ولا حبكة ويغيب عنها الترابط المطلوب في أي عمل فني، أي أن الفيلم يمكن أن يستمر لساعات أو ينتهي بعد دقائق، فلا إحساس بالزمان ولا بالإيقاع هناك، لأن المخرج عادة ما يقع في غرام كل ما يكون قد صوره، وخصوصا أن اهتمامه الرئيسي ينصب عادة على إبراز "الموضوع" و"القضية" وليس بناء عمل سينمائي متماسك يملك الجدة وقوة التأثير بالفن وليس بالشعارات.
والملاحظ أن هذا النوع من الشرائط المصورة انتشر انتشارا كبيرا بوجه خاص، بعد ظاهرة الانتفاضات والثورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تحت تصور أن الواقع المتغير الملتهب، يوفر مادة ثرية يكفي تصويرها وتعليبها في فيلم أو شريط، لكي تكتسب قوتها من تلقاء نفسها.
ومن المؤسف أيضا أن كثيرا من المهرجانات، سواء تلك التي تقام في العالم العربي أو الخارجي، تسعى وراء ها النوع مما تطلق عليه "أفلام الثورات والربيع العربي" وتمنحها الاهتمام أو حتى الجوائز بغض النظر عن مستواها، فقد أصبحت بمثابة "موضة" رغم أن التلفزيون بتقاريره اليومية، يسبقها كثيرا في تغطية مثل هذه الأحداث. وكأن الاهتمام منبعه سياسي وليس فنيا أو جماليا، وصناع هذه الأفلام يشعرون بغبطة خاصة لاختيار أفلامهم في المهرجانات كأنها تقدم مفهوما جديدا للسينما!

البؤس والواقعية
الملحوظة الأخرى التي تتبدى في معظم أفلام "الواقع" كما يحب صناعها أن يطلقوا عليها، هي سمة البؤس والكآبة والمغالاة الشديدة في تصوير البؤس بحيث لا يعود هناك أي مخرَج للإنسان من وضعه الاجتماعي، وكأن البؤس حالة سرمدية قدرية مغلقة لا يملك المرء أمامها سوى الاستسلام أو التباكي عليها.
"هناك فارق كبير بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الإنسان، أما الواقعية فتهتم أساسا بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه"
لم تكن فكرة الواقعية أن ننقل البؤس دون أن ننير الشاشة ببصيص ضوء وأمل في إمكانية التغيير. وهناك فارق كبير لاشك، بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الإنسان، أما الواقعية فتهتم أساسا، بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه. ولعل من المهم هنا أيضا أن نؤكد أن فكرة تصوير الواقع كما هو لا تمت بصلة إلى الواقعية، بل هي فكرة ثبت بالتجربة مدى سذاجتها، فليس هناك فيلم يمكنه أن يزعم أنه "يصور الواقع"، بل إن أكثر الأفلام مباشرة، تعكس "رؤية" المصور والمخرج لما يراه في الواقع، فزوايا التصوير والمونتاج وتركيب الصوت والمؤثرات والتعليق.. كلها تتدخل في "صياغة" واقع آخر يشاهده المتفرج، هو واقع الفيلم وليس واقع الحياة.
 
وليست الواقعية في النهاية، هي الشكل الوحيد للفيلم الوثائقي. من الضروري أن يستمد الفيلم الوثائقي مادته من الواقع ومن الحياة، ولكن في الحياة الكثير جدا من الأشياء غير الفقر وحياة الهامش والتدني الاجتماعي والأخلاقي والبؤس والكآبة، بل ويمكن أيضا القول إنه من جوف الصورة التي تعكس البؤس يمكننا أيضا أن نرى قوة الإرادة والرغبة في الاحتفال بالحياة، شريطة أن يعرف السينمائي أساسا، كيف يقتنصها وكيف يعبر عنها، بدلا من تلك الرغبة الدائمة، في صدم العين.. وصفع المجتمع!

السبت، 26 يوليو 2014

الفيلم السوري "مريم".. وجوه متعددة ومصائر واحدة




أمير العمري


رغم ما تشهده سوريا من دمار وخراب وصراعات مسلحة، لا يتوقف المبدع عن الإبداع الفني والبحث عن الجديد القريب من نفسه، والذي يعكس -على نحو ما- رؤيته للعالم، بكل ما يدور فيه من عنف وصخب واشتباكات ومعارك.
ولعل ظهور الفيلم السوري "مريم" خير دليل على الإصرار على مواصلة الإبداع من جانب الفنان الفرد، رغم كل ظروف القهر المحيطة به، بل والقدرة على التعبير الشجاع عن موقف واضح من التاريخ السياسي، والاحتجاج ولو بشكل غير مباشر على ما يمارس من خداع وتضليل.

و"مريم" هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج الفلسطيني السوري باسل الخطيب، صاحب التاريخ الطويل من المسلسلات التلفزيونية المتميزة. وهو يعود بهذا الفيلم إلى سبر أغوار موضوع من المواضيع الأثيرة لديه، أي التاريخ في علاقته بالإنسان، أو كيف يلقي التاريخ بظلاله الكثيفة على المرأة في سوريا، وكيف ينعكس مساره على مصائرها.
والمرأة عند الخطيب، هي أكثر من تنعكس عليه الأحداث، وهي التي نسمع صوتها في مطلع الفيلم تردد: "الحرب تجعل الناس لا يعودون إلى بيوتهم.. إلى أعز ما لديهم.. فهم لا يعودون بعدها أبدا إلى ما كانوا عليه".
يتم تجسيد المرأة في السيناريو الذي كتبه باسل الخطيب مع شقيقه تليد، من خلال ثلاثة نماذج من عصور مختلفة، ترتبط مصائرها بما شهدته سوريا من حروب وصدامات مسلحة أو بما نتج عن محاولتها العثور على طريق مستقل منذ ما بعد زوال الاستعمار العثماني وحتى اليوم، دون أن تعثر قط على هذا الطريق، بل وتبدو تلك الدائرة الجهنمية المشتعلة بنيران الحروب، وكأنها أصبحت قدر سوريا، وقدر المرأة في سوريا.


انتقال في الزمن
ينتقل الفيلم من خلال مونتاج جدلي واضح بين الأزمنة والأمكنة، وبين الشخصيات والأحداث، وبين الواقع والخيال، وبين الأحلام والهواجس والكوابيس، بين مسلمي سوريا ومسيحييها، وبين الأجيال المختلفة التي تنتقل تجربتها من جيل إلى آخر، ولكن دون أن تفقد الثقة في العثور على تحقيق للذات.
يبدأ الفيلم بـ"مريم".. تلك الفتاة الجميلة الرقيقة كالنسيم، التي لا تملك مصيرها في يدها بل تستسلم لقدرها المحتوم عندما ترضخ لرغبة والدتها في الغناء أمام "كبير البلدة" أو "نديم بك" في نهاية الحكم العثماني عام 1918، وتلقى مصرعها محترقة بفعل حريق يلتهم جسدها النحيل وسط ذهول الجميع.
وينتهي الفيلم بـ"مريم" -الزمن المضارع- التي ترفض أن يضع والدها جدتها (وهي شقيقة مريم الأولى) بعد أن تقدم بها العمر في دار للعجائز، وتصر على إخراج الجدة من الدار والقيام معها برحلة عكسية تقطع فيها الريف السوري البديع نحو البلدة التي تنتمي إليها في الشمال.

وبين الاثنتين هناك "مريم"- القنيطرة 1967- التي تواجه العدوان الإسرائيلي وحيدة بعد أن يموت زوجها في الحرب وتموت زوجة عمها في حريق يشب داخل الكنيسة أثناء الصلاة بفعل القصف الإسرائيلي للجولان، إلى أن تلاقي هي الأخرى مصيرها بعد أن تترك ابنتها الصغيرة "زينة" أمانة لدى الجندي السوري الوحيد الذي يبقى -إلى حين- على قيد الحياة، يسلمها بدوره إلى من تأخذها معها إلى دمشق -كما سنعرف فيما بعد- لكي يكمل هوالمعركة التي ستحسم مصيره الشخصي.

عمل مركب
فيلم "مريم" عمل مركب شأن أعمال الفن الكبيرة التي لا تميل إلى التبسيط والتنميط والمباشرة، وينتمي أساسا إلى السينما الشعرية، التي تعتمد على اللقطات المنفردة والتداعيات، التي يمكن عن طريق إعادة ترتيبها في ذهن المتفرج تحقيق معنى ما، إحساس يريد المخرج التعبير عنه، وليس بالضرورة "رسالة" سياسية مباشرة.
ويعتمد أسلوب السرد في الفيلم خطا متعرجا وليس صاعدا نحو ذروة معينة، فهو ينتقل في المشاهد الأولى من الفيلم -مثلا- بين الأزمنة والأماكن الثلاثة، لكي يجعلنا نتعرف على مناخ المكان وطبيعة الشخصيات.
فمريم الأولى -المغنية الشابة ذات الصوت البديع- في بلدة صافيتا، لا تريد أن تترك المهرة قبل أن تنتشلها مع صديقها، من الوحل الذي تعثرت فيه، وهي تتوقف أمام صورة ضخمة في نزل "نديم بك" لمهرة أخرى شديدة الجمال، شامخة، تتأملها في فزع ورهبة وتسرح بعيدا بذهنها.

تسيطر عليها فكرة حزينة غامضة، تتجلى من خلال ذلك الموال الذي يأتينا على خلفية شريط الصوت، دون أن نراها أبدا وهي تغني قبل أن تغيب عن العالم، وكأن موتها إيذان ببدء مشوار الحزن والألم الذي يقودنا فيه باسل الخطيب وهو ينتقل فجأة من جامع يحترق في صافيتا، إلى كنيسة تحترق في القنيطرة، وكأن التاريخ رحلة رعب مركبة ممتدة في المكان والزمان. وكأن الحريق عنده هو معادل للقدر.
كيف كان ممكنا أن تحترق "مريم" المغنية الحسناء الشابة بهذه البساطة؟ وكيف كان ممكنا أن تضيع أيضا هضبة الجولان بمثل هذه البساطة؟ هل هناك شيء ما يربط بينهما؟ وفي اللحظة التي تحترق فيها يتم انقاذ المهرة من مصيرها وكأن مريم تفتديها بحياتها. أما مريم 1967 فهي تفتدي ابنتها بحياتها، بينما ترفض مريم العصر الحاضر التخلي عن جدتها مهما كلفها الأمر، متحدية والدها، وكأنها بذلك تتحدى من يسعى لسلب إرادتها.

عن الأسلوب
باسل الخطيب يخرج كل لقطة ومشهد برؤية تشكيلية رائعة، فهو يهتم ببناء وتصميم الصورة، ويستخدم الحركة البطيئة للكاميرا، كما يستخدم كثيرا المزج كوسيلة للانتقال بين اللقطات، للإيحاء بمرور الزمن أو بالربط بين الأزمنة.
وهو يستخدم إضاءة مناسبة -بمساعدة مديرالتصوير الإيراني فرهاد محمودي- لكل جزء من أجزاء الفيلم دون أن يفقد الفيلم تجانسه: الألوان الصفراء والبنية الكئيبة تطغى على المشاهد التي تدور في 1967 بينما تطغى الألوان الطبيعية الخضراء والزرقاء على مشاهد الفترة القديمة، وتغلب الإضاءة الساطعة مشاهد الفلاش باك أو التذكر.
ويتمتع أسلوب الإخراج بالقدرة على خلق إيقاع خاص، يتسق مع تلك النزعة الشعرية التي ترتبط بتوليد المعاني من علاقة اللقطات ببعضها البعض وليس من خلال الحوار المباشر أو الانتقال الذي يخلق تصاعدا في الأحداث. إن الخطيب هنا معني بنقل "حالة ذهنية" أكثر من رواية أحداث ووقائع تاريخية، فالتاريخ هنا "حيلة" للحديث عن الحاضر، ولتجسيد معاناة المرأة كما لو كانت المرأة هي سوريا وسوريا هي المرأة.


ويبرع باسل الخطيب في تنفيذ كل المشاهد الصعبة بدقة وواقعية تشوبها نزعة شعرية: مشاهد الانفجارات والحرائق وخصوصا مشهد احتراق مريم في الجزء الأول من الفيلم، ومشهد غرس الفرس في الوحل، ومشهد الحريق داخل الكنيسة.
كما يتميز الفيلم عموما، بالاختيار البديع لمواقع التصوير الخارجية والداخلية، البيوت وتفاصيل الطبيعة، وتنويع زوايا التصوير بحيث نشاهد الشخصية دائما في إطار المكان، مع القدرة على الاستفادة -بدرجة كبيرة- من الديكورات الداخلية والإكسسوارات، وتطويع المكان للتعبير عن تلك الحالة الشعرية الخاصة التي يريد المخرج نقلها إلينا من خلال استعراضه لأقدار المرأة عبر تاريخ سوريا الحديث خلال ثلاث حقب وصولا إلى التوقف أمام مستقبل غامض مفتوح على كل الاحتمالات.
إن فيلم "مريم" هو بلا شك، أقرب أعمال باسل الخطيب قربا من نفسه، وأكثرها تعبيرا عن رؤيته الشخصية للعالم. إنه يعبر عن إحساسه الشخصي بالألم الداخلي النابع من مأساة شعبه الفلسطيني. وهو يهدي فيلمه إلى روح والده يوسف الخطيب، ويضع في مطلع الفيلم، كلمات الأب التي حفرت في ذاكرة الابن: لقد فقدنا كل شيء.. ولكن الحب يبقى".


** هذا المقال نشر في موقع الجزيرة الاخبارية بتاريخ 3 ابريل 2014
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger