الخميس، 19 ديسمبر 2013

"ضباب الحرب" رؤية كاشفة لأمريكا الأخرى


إيرول موريس


يعتبر المخرج الأمريكي يعتبر المخرج الأمريكي إيرول موريس أحد أهم السينمائيين الذين يصنعون ما يعرف بالأفلام الوثائقية أو غير الخيالية non-fiction في عالمنا اليوم.
وقد أخرج حتى الآن 12 فيلما من هذا النوع، بدأها عام 1978 بفيلم "بوابة الجنة" Gates of Heaven  الذي يوثق لتجربة إنشاء مقبرة للحيوانات المنزلية الأليفة في كاليفورنيا ومغزاها الفلسفي وأهدافها التجارية أيضا، أما أحدث أفلامه فهو فيلم "كانوا هناك" They Were There (2011) الذي صنع في إطار الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس شركة أي بي إم الشهيرة.
وقد عرف موريس بكونه أحد السينمائيين القلائل في عالمنا الذين أعادوا الاعتبار الى الفيلم الوثائقي، وقاموا بتطويره وإعادة إطلاقه في ثوب جديد، بحيث يتخلص من التقاليد القديمة الجافة التي ارتبطت بسيطرة الفكرة الأيديولوجية وحدها، وكان البعد التعليمي فيها هو الأكثر بروزا. أما أفلام إيرول موريس فهي تسعى إلى جعل الفيلم الوثائقي جذابا بنفس قدر جاذبية الفيلم الخيالي أو الروائي الدرامي، بل إن لأفلامه أيضا "دراماتها" الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور وطريقة تركيبها معا، وكذلك من المفاجآت التي تكشف عنها، ومن خلال طريقته الخاصة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق العديدة المباشرة التي يصورها أو يعثر عليها ويعيد توليفها معا في سياق خلاق دونما حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي المباشر.
ولعل من أهم أفلام موريس وأكثرها ذيوعا وبلاغة في التعبير عن أسلوبه فيلم "ضباب الحرب: أحد عشر درسا من حياة روبرت مكنمارا" (95 دقيقة) Fog of War: Eleven Lessons from the Life of Robert McNamara  الذي شاهدناه في عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي عام 2003، وكان حقا مفاجأة مدهشة، وذهب بعد ذلك ليحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي في العام، ويذيع صوته كأحد أهم الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما.
وقد حضر موريس في تلك السنة إلى مهرجان كان لتقديم فيلمه ومناقشته مع حشد كبير من النقاد والسينمائيين غاب عنه بكل أسف، معظم النقاد العرب في المهرجان.
يتخذ الفيلم من شخصية غير عادية بالمرة هي شخصية روبرت مكنمارا (1916- 2009) محورا لكي يقص علينا باستخدام المادة الوثائقية الهائلة كيف يرى هذا الرجل القرن العشرين الذي كان طرفا مباشرا في صنع أهم تراجيدياته، فقد كان وزيرا للدفاع في فترة من أخصب فترات التاريخ الأمريكي والعالمي في عهد الرئيس جون كنيدي ثم خلفه الرئيس ليندون جونسون في الستينيات، وبعد ذلك رأس البنك الدولي المعروف بتوجهاته التي تخدم السياسة الأمريكية، لمدة 13 عاما،كما رأس شركة فورد.
لكن مكنمارا لا يظهر هنا بعد أن أصبح شيخا طاعنا في السن، لكي يبرر، ويبحث عن ذرائع لتفسير المواقف الأمريكية التي لعب فيها دورا المخطط بل والعقل المدبر أيضا للكثير من السياسات الهجومية الأمريكية في أكثر فترات الحرب الباردة سخونة، والتي كادت أن تنفجر وتتحول إلى حرب نووية إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961.
لكن مكنمارا يقدم هنا شهادته كرجل التحم بالسياسة الأمريكية، ولكن من وجهة نظر نقدية كأنه يراجع مسار حياته الشخصية، بعد أن نضج العقل والفكر، وأصبح يمتلك رؤية نافذة وبصيرة شفافة يمكنها التأمل في الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه حتى لا تنغمس أمريكا مجددا في تلك الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في كوبا (عملية الغزو الفاشلة في خليج الخنازير)، وفيتنام (الحرب الضارية التي كلفت أمريكا عشرات الآلاف من الأرواح) فيما بين 1965 و1973 وانغمس فيها مليونان ونصف مليون جندي أمريكي في بلاد بعيدة لم تكن تمثل أي خطورة مباشرة على المجتمع الأمريكي 

بين الخاص والعام
ويعود الفيلم مع تلك الشخصية التراجيدية الكبيرة الى دور مكنمارا في قيادة التفكير الاستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية، والخطط الجهنمية التي تم التوصل اليها وقتذاك وكانت تتجاوز في حجم ما أنتجته من دمار كل ضرورة استراتيجية حربية، كما يتوقف أمام دور مكنمارا فيما بعد الحرب الثانية، في قيادة مؤسسة فورد للسيارات والمركبات العسكرية، والدور السياسي المباشر الذي لعبته في مناطق الصراعات في العالم.
روبرت مكنمارا

من الحياة الخاصة لمكنمارا، الطالب المتفوق صاحب المعدل الاستثنائي للذكاء، ابن الطبقة الوسطى، الذي يلتحق بجامعة هارفارد، وسرعان ما يشق طريقه إلى عالم السياسة في واشنطن، ومن تكوينه الشخصي وميله إلى التفوق، وزواجه م شريكة حياته وانجاب أولاده، ثم إلى مكنمارا صاحب الدور العام الذي يتحكم بشكل ما، في مصير العالم: كيف تغيرت السياسة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس كنيدي واصبحت أكثر ضراوة وتوحشا في عهد خليفته جونسون، وكيف أصبح التورط الأمريكي في فيتنام معادلا لكل شرور البشرية التي تتمثل، ليس فقط في قتل البشر، بل في إبادة مساحات شاسعة من البيئة الطبيعية، والتسبب في كوارث لايزال كوكبنا الارضي يعاني منها حتى يومنا هذا بل إن المعاناة تزداد يوما بعد يوم.
وكالعادة يمزج إيرول موريس هنا بين المقابلات الطويلة العميقة مع مكنمارا (الذي يفتح قلبه وعقله ليقدم حقا شهادته للتاريخ) وبين الكم الكبير من الوثائق السينمائية النادرة، والعودة لمواقع الأحداث، والتوقف أمام تواريخ معينة ودعمها بالصور الفوتوغرافية أحيانا، أو بالتسجيلات الصوتية أخيانا أخرى، مع التوقف امام هذه الرؤية الهائلة المرعبة لدور الفرد في تشكيل العالم، مع محاولة اللحاق بتلابيب الصورة والقبض عليها من خلال الموسيقى اللاهثة التي وضعها فيليب جلاس Philip Glass شريك موريس في معظم أفلامه.
ولعل من اهم ميزات هذا الفيلم انه ليس أحد الافلام "الماضوية"، أي تلك التي تضفي صورة خاصة ساحرة على الماضي أو تعرضه كجانب "تاريخي" انقضى وأصبح من الذاكرة، بل كونه يتواصل مع المشاهدين طيلة زمن عرضه، ويذكرهم على نحو غير مباشر، بما تفعله أمريكا اليوم: في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم، كيف أصبح العملاق الأمريكي يكرر أخطاءه، وكيف تجتمع الطاقة الهائلة على الدمار، مع القدرة على تدمير البيئة والطبيعة في كوكبنا، وما هي المخاطر الحالية التي تحدق بنا وكيف يمكننا وقفها. وهو بهذا المعنى، عمل شديد المعاصرة.

الاستخدام المفرط للقوة
مكنمارا يكشف أيضا حلال مقابلاته في هذا الفيلم البديع عن الكثير من الجوانب التي لم تكن معروفة من قبل مثل الاستخدام المفرط للقوة في اليابان قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية كما يكشف مثلا من خلال تسليط الضوء على حملة تدمير المدن كما حدث عندما القيت كميات هائلة من القنابل المدمرة على مدينة طوكيو بعد ان كانت اليابان قد استسلمت بالفعل مما تسبب في قتل مائة الف ياباني دون أي ضرورة حربية بل لمجرد الترويع!
وفي حالة نادرة من حالات تقريب الأمور الى العقل الأمريكي يعقد مكنمارا مقارنات بين المدن اليابانية التي تم تدميرها مثل هيروشيما وناجازاكي ويوكوهاما وطوكيو، وبين مدن أمريكية مشابهة في الحجم وعدد السكان، وماذا كان يمكن أن يحدث لها في حالة تعرضها لقصف مشابه بنفس أنواع أسلحة الدمار.
يتوصل مكنمارا في لحظة نادرة من لحظات الوعي ويقظة الضمير وهو في الخامسة والثمانين من عمره، يخوض تجربة الاعتراف والتكفير على مقعد أمام كاميرا إيرول موريس، إلى أن مقولة الكولونيل الأمريكي كيرتس لوماي كانت صحيحة تماما عندما قال "إننا لو كنا قد خسرنا الحرب العالمية الثانية لكنا قد حوكمنا باعتبارنا مجرمي حرب". ويتساءل: ما الذي يجعل الأمر غير أخلاقي في حالة الهزيمة، وأخلاقيا في حالة النصر"؟
هل يدين مكنمارا نفسه في هذا الفيلم؟ هل كانت ادانة النفس هدفا أساسيا يهدف الى ارضاء المشاهدين، أم أنه يدين، ربما من حيث لا يدري، عصرا، وسياسات وتصورات كانت سائدة في زمن الحرب الباردة، وأفكارا وممارسات كانت مدفوعة بالرغبة في تحقيق أهداف محددة في زمن الصراع بين كتلتين كبيرتين؟ هذا ما يُترك للمشاهدين للتوصل الى استنتاجات بشأنه.

ميزة الفيلم
ولعل الصعوبة الفنية في السيطرة على تلك المادة الهائلة التي تمكن من جمعها ايرول موريس، هي في ذات الوقت، الميزة الكبرى التي يتحلى بها هذا العمل البديع الاخاذ. فنحن أمام مزيج فني دقيق ومتقن من الوثائق البصرية المصورة، المقابلات، الصور الفوتوغرافية، قصاصات الصحف، التسجيلات الصوتية للمكالمات التليفونية(بين جونسون ومكنمارا مثلا)، صور من نشرات الأخبار التليفزيونية، مقتطفات مصورة من المؤتمرات الصحفية لمكنمارا وغيره، تقارير اخبارية من الستينيات، صور لاجتماعات كنيدي مع وزرائه ابان أزمة الصواريخ الكوبية مع تسجل صوتي لما قيل في تلك الاجتماعات، لقطات من الطائرات لعمليات القصف الجوي الوحشي للقرى الفيتنامية.. وغير ذلك الكثير والكثير.
إن "ضباب الحرب" في النهاية فيلم معاصر يساهم في إزالة الكثير من الضباب، ليس فقط من عالم السياسة وما يجري في كواليسها، بل ومن عالم الفيلم الوثائقي وما يحيط به من أفكار مسبقة باتت في حاجة ضرورية حاليا للمراجعة والتنقيح.
وقد بات حري بالمهرجانات السينمائية العربية أن تحتفي بهذا المخرج وأعماله وتسلط الضوء عليها. ولمن عودة ثانئة إليه لتناول المزيد من أعماله المهمة.

* نشر في موقع الجزيرة الوثائقية 

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

أزمة السينما... والثورة!




بقلم: نادر عدلي

جريدة "اليوم السابع" 6 ديسمبر 2013


حالة هستيرية مفتعلة تسود الحياة السينمائية، فالكل يتحدث عن «الأزمة» التى أودت بحركة صناعة السينما وجعلتها شبه متوقفة، على أساس أننا كنا ننتج 40 فيلماً سنوياً خلال العقدين الأخيرين، بينما لا يزيد الآن على 10 أفلام أو 15 فيلماً سنوياً، وهى أرقام غير دقيقة، حيث بلغ متوسط الإنتاج فى السنوات الثلاث الأخيرة حوالى 30 فيلماً سنوياً، وهو رقم حقيقى وواقعى لا يكمن لأحد أن ينكره!
ولست فى حاجة للإشارة إلى أن مسألة «أزمة السينما» هذه، عنوان أساسى فى الحديث عن السينما منذ الأربعينيات، ولم نحاول معالجتها بشكل حقيقى وصحيح.. وهذه مشكلة أخرى.
فما هى المشكلة أو «الأزمة» الآن؟!
يتصور المتحدثون عن الأزمة، أن ثورة 25 يناير 2011، كان من توابعها اضطراب فى سوق السينما، بسبب عدم الاستقرار الأمنى والمظاهرات، ثم سيطرة الإخوان «تجريم وتحريم الفن»، ثم حالة الطوارئ وحظر التجوال.. وأصحاب هذا الرأى يرون ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة للتغلب على الأزمة، وقد أصبحوا يتصدرون المشهد، وأصبحت لهم الكلمة الأولى فى الحالة السينمائية وتحليلها وتحديد اتجاهاتها!
من هؤلاء؟.. وكيف وصلوا لهذه المكانة؟!
بحكم «المهنة» انتبه هؤلاء مبكراً إلى ضرورة «تصوير» أنفسهم فى «ميدان التحرير»، ثم فى الاعتصام ضد وزير الثقافة الإخوانى، وقدموا أنفسهم بأنهم «صوت» السينمائيين!.. فلما جاء وزير الثقافة الانتقالى د. صابر عرب، حرص كل الحرص على إرضاء هذه المجموعة، صاحبة الصوت العالى «الثورى»!.. رغم علمه بأنها نفس المجموعة التى كانت تحرك السينما طوال الـ30 سنة الماضية ، وهم جزء من الأزمة وأسبابها (!!).
فتح لهم الوزير باب الوزارة ليرتعوا - على أساس أنه لا يفهم فى السينما! - فأصبحوا مستشاريه، وأقنعوه بأن يقيم «المهرجان القومى» حتى لو لم يحضره أى من السينمائيين.. وأن يؤجل مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وإلغاء هذه الدورة.. فامتثل لهم!.. وأن يمنحهم كل مقاعد «لجنة السينما» بالمجلس الأعلى للثقافة.. ففعل!.. ويسمح لهم بالسيطرة على المركز القومى للسينما.. فرحب!
أما الشىء العبقرى - بالفعل - الذى حققوه، فكان إقناع رئيس الوزراء د. حازم الببلاوى بتشكيل لجنة من 8 وزراء (تصوروا)، وبرئاسة نائبه للشؤون الاقتصادية د. زياد بهاء الدين «للنهوض بصناعة السينما وتطويرها وحل مشاكلها»، وينضم لهذه اللجنة أعضاء غرفة صناعة السينما، وهذه المجموعة الثورية؟!.. ومر شهران ونصف الشهر دون أن تجتمع هذه اللجنة أصلاً!.. ونستطيع أن نتكهن بأن مطالب هؤلاء هى مجموعة إجراءات لتحقيق مصالحهم فى مزيد من الأرباح على حساب السينما وأزمتها!.. بالإضافة إلى تحقيق مزيد من أحلام الشهرة، وشهوة التقرب إلى السلطة!

أما أزمة السينما الحقيقية، فليس لها علاقة بكل ما ذكروه فى الصحف والبرامج التليفزيونية فهل يصح أن ندعو من «أفسدوا» السينما إلى إصلاحها؟!

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

سنوات المعرفة: ذكريات من مهرجان لندن السينمائي







كنت أعتقد، قبل أن أحضر للإقامة في العاصمة البريطانية لندن عام 1984، أن مهرجان لندن السينمائي يقتصر فقط على عرض الأفلام "الفنية"، أي تلك التي لا تسعى للوصول إلى الجمهور العريض، لكني وجدت عند حضوري أول دورة لي في نوفمبر- ديسمبر 1984 أن المهرجان ربما يكون الأكثر إحتفالا بالسينما الأمريكية: هوليوود والسينما المستقلة. وهو احتفاء استمر مع المهرجان رغم تغير مديريه مرات عدة خلال الثلاثين سنة التي تابعته فيها بشكل أو آخر رغم غيابي عنه لفترات متقطعة بسبب تركي لندن لبعض الوقت حينما كنت أذهب للإقامة في القاهرة أو لخوض تجربة العمل في الخليج مرتين: في أبو ظبي والدوحة وهما تجربتان لم يكتب لهما النجاح، ليس لسبب يتعلق بظروف العمل بل بسبب عدم قدرتي على التأقلم على العيش هناك.

ربما يكون الاهتمام بعرض أكبر عدد من الأفلام الأمريكية الجديدة والاحتفاء بها وبنجومها الأمريكيين، أصبح في مرحلة تالية، أكبر من إهتمام المهرجان "البريطاني" بعرض الأفلام "البريطانية" المتميزة لكبار السينمائيين البريطانيين مثل بيتر جريناواي وستيفن فريرز ومايك لي وكن لوتش ونيل جوردان، وهو ما دفعني منذ سنوات، تحديدا خلال دورة عام 2007، إلى الكتابة لمديرة المهرجان في ذلك الوقت، ساندرا هيبرون Sandra Hebron منتقدا سياستها في الاكتفاء بتسليط الأضواء على الأفلام البريطانية "التي هي أقرب ما تكون إلى أعمال تجريبية شبابية غير مكتملة أو ليست على المستوى الاحترافي بدرجة كافية ومعظمها مصنوع للتليفزيون أساسا، مع تجاهل تام لأفلام "البريطانيين الكبار" الذين صنعوا السمعة الجيدة للسينما البريطانية في أوروبا والعالم" كما قلت لها حرفيا. والمفارقة أن معظم هؤلاء المخرجين الذين أشرت إليهم كانت لهم أفلام جديدة جيدة متوفرة في تلك السنة لم تسع السيدة هيبرون وطاقمها، للحصول عليها وتقديمها بما كانت تستحقه من اهتمام، بل ذهبت تلك الأفلام للعرض في مهرجانات أخرى، مثل كان وفينيسيا وبرلين.

لاستكمال قراءة الموضوع كاملا إنقر هنا:





الجمعة، 22 نوفمبر 2013

"قطار منتصف الليل إلى لشبونة": كيف أفسدت المعالجة السينمائية العمل الأدبي الكبير







بقلم: أمير العمري


لاشك أن العلاقة بين الأدب والسينما كانت دائما علاقة وثيقة، أثرت السينما من ينابيع الأدب، وتركت تأثيرها على السينما سواء في أساليب الحكي أو في الإيقاع العام وترتيب مسار الأحداث.
ويمتليء تاريخ السينما بمئات الأفلام التي تعتمد على أصول أدبية، من روايات وقصص ومسرحيات، لكن الشرط الأساسي لنجاح أي فيلم يعتمد على نص أدبي أي على وسيط يختلف تماما سواء في تقنياته أم في جمهوره، يعتمد عى قدرة السينمائيين على إعادة معالجة المادة الأدبية بحيث يصبح من الممكن التعامل معها بسلاسة من خلال أدوات السينما: الكاميرا، الميزانسين (الإضاءة، زوايا التصوير، الديكورات، المؤثرات، التكوينات..إلخ)، المونتاج، التمثيل.
ولا يعد الإصرار على الإخلاص الحرفي للعمل الأدبي عند تحويله إلى فيلم سينمائي عادة، ميزة إيجابية بالضرورة، بل يصبح هذا الإخلاص والتمسك بكل أو بمعظم مكونات النص الأدبي في الكثير من الأحيان، عبئا على الفيلم السينمائي قد يؤدي إلى عجزه عن الوصول إلى جمهوره فيما يبقى الأصل الروائي شامخا لا يضاهيه شيء!
أجد هذه المقدمة القصيرة ضرورية قبل الانتقال لعرض وتحليل فيلم جديد عرض خارج المسابقة في مهرجان برلين السينمائي (فبراير 2013) وهو فيلم "قطار الليل إلى لشبونة" Night Train to Lisbon من الإنتاج الألماني السويسري ومن إخراج المخرج الدنماركي الشهير بيللي أوجست صاحب التحفة التي تنتمي إلى سينما الثمانينيات، "بيللي الغازي"، الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان وجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 1989.

الفيلم مقتبس عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه، والإنتاج أوروبي تماما، ليس فقط كون الإنتاج والعمل الأدبي ينتميان إلى قلب أوروبا، بل ويضم الفيلم طاقما من الممثلين الأوروبيين المرموقين مثل جيريمي أيرونز وشارلوت رامبلنج وكريستوفر لي وتوم كورتناي من بريطانيا، وبرونو جانز من ألمانيا، ولينا أولين من السويد.. وغيرها. والفيلم ناطق بالإنجليزية حتى يسهل تسويقه عالميا.

صدرت رواية "قطار الليل إلى لشبونة" للكاتب السويسري باسكال ميرسييه (وهو إسم مستعار يستخدمه الكاتب الحقيقي الفيلسوف بيتر بيير) باللغة الألمانية عام 2004، وأصبحت من أكثر الأعمال الأدبية السويسرية نجاحا وانتشارا بعد أن ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ووزعت نحو مليوني نسخة في البلدان الناطقة بالألمانية.



أفكار كبيرة
تنتمي هذه الرواية إلى الأدب الفلسفي الذي يقوم على طرح الكثير من التساؤلات حول مغزى ما يفعله الإنسان الفرد في حياته، مغزى وجوده، وإلى أين تمضي رحلة الحياة، وما الذي يبقى بعد أن يمضي قطار العمر، وهل زمن العيش القصير الذي نحياه يكفي لسبر أغوار الذات، أم أننا كلما مضينا في رحلة الحياة كلما تعمق شعورنا بالوحدة، وغير ذلك من الأفكار "الوجودية" الكبيرة، وهو يجعل هذه الأفكار تأتي في سياق الرواية- والفيلم، عبر السرد الأدبي الخاص الذي تركه خلفه رجل برتغالي كان جزءا أصيلا في حركة المقاومة اليسارية لديكتاتورية سالازار في البرتغال.

بطل الفيلم مدرس في مدرسة ثانوية في مدينة برن السويسرية، ويدعى ريموند جريجوريوس، وهو متخصص في تدريس اللغات القديمة اللاتينية والعبرية والرومانية (يقوم بالدور جيرمي إيرونز)، يلمح ذات يوم أثناء ذهابه إلى العمل، فتاة تشرع في إلقاء نفسها من أعلى جسر بالمدينة، فيلحق بها ويتمكن من إنقاذها ويصطحبها معه إلى الفصل الدراسي، لكنها تغافله بعد ذلك وتختفي تاركة وراءها معطفا أحمر وكتابا صغيرا بداخله ورقة دون عليها رقم تليفون، وبطاقة سفر بقطار الليل إلى لشبونة الذي سيقلع بعد 20 دقيقة. يطالع الرجل بعض صفحات صفحات الكتاب الصغير، وهو لطبيب برتغالي يدعى أماديو دو برادو، من هواة الأدب، لم يكتب سوى هذا الكتاب الذي دون فيه بعض أفكاره الخاصة عن العالم. وتتردد مقتطفات من أفكار أماديو على شريط الصوت مثل "إننا نرحل إلى ذواتنا لكي نواجه وحدتنا.. وإننا نحيا قسطا قصيرا جدا من تلك الحياة الطويلة التي أمامنا" وغير ذلك.

تسيطر أفكار أماديو تماما على ذهن ذلك المدرس الإنجليزي الذي تجاوز منتصف العمر، وتأسره شخصية أماديو الذي شارك في المقاومة اليسارية ضد ديكتاتورية الجنرال سالازار الذي حكم البرتغال بقضبة حديدية في الفترة من 1933 إلى 1974.

يهرع الرجل إلى محطة القطارات للبحث عن الفتاة، ينتظر قلقا بلا جدوى فيقرر أن يتخلى عن عمله وحياته ويقفز داخل القطار ويقرر البحث عن تلك الفتاة الغامضة وعن حقيقة هذا الرجل الذي وضع تلك الأفكار الآسرة.
هذه البداية المثيرة لاهتمام المتفرج، كانت كفيلة بأن تأخذنا في رحلة سينمائية مشوقة توفر متعة التأمل وجمال الصورة. لكن ما يحدث بعد أن يصل بطلنا إلى مدينة لشبونة، أن يستغرق في البحث عن حقيقة الكاتب من خلال الاتصال بكل من عرفوه قبل وفاته المبكرة، ويبدأ أولا بشقيقته (تقوم بالدور شارلوت رامبلنج) التي تخبره أن شقيقها ليس له سوى هذا الكتاب الذي قامت هي بنفسها بتحريره ونشره.. وترفض أن تطلعه على أي تفاصيل أخرى تتعلق بفترة النضال ضد فاشية نظام سالازار وما حدث لشقيقها، ثم يلتقي بعد ذلك بماريانا، طبيبة العيون، التي تقوده إلى عمها الموسيقار العجوز الذي يقيم حاليا في منزل للمسنين، والذي يقص عليه بعضا من ذكرياته عن فترة النضال ضد الديكتاتورية مع المجموعة اليسارية التي كان يتزعمها أماديو في السبعينيات من القرن الماضي، وكيف تعرض للتعذيب على أيدي رجال الشرطة السرية، وكيف كسروا عظام يديه وجعلوه بالتالي، عاجزا عن العزف على البيانو.



عن البطل الغائب
من هنا يصل ريموند إلى خورخي (يقوم بالدور برونو جانز) ثم إلى ستيفانيا (لينا أولين) والإثنان ارتبطا بعلاقة حميمية مع أماديو، وكانت ستيفانيا محورا للغيرة والرومانسية والنضال السري والعشق المبرح، فقد وقع الإثنان في حبها، واختلطت العاطفة بالغيرة التي دفعت أماديو إلى محاولة قتل خورخي بدعوى أنه خائن للتنظيم السري اليساري.

أجواء الحب الرومانسية والغيرة والصداقة والنضال السياسي ومطاردات الشرطة السرية والشكوك في الرفاق.. هي التي تملأ نسيج الفيلم من خلال ما ترويه الشخصيات الرئيسية عن البطل الغائب.

ويظهر أماديو في الكثير من مشاهد الماضي (الفلاش باك)، كشاب شديد الحماس والتدفق العاطفي والمثالية الرومانسية، فهو يتمرد على أسرته الأرستقراطية ووالده الذي كان قاضيا كبيرا مقربا من النظام، كما أن أماديو نفسه أصبح مقربا من أحد جنرالات الأمن بعد أن أنقذ حياته ذات مرة.. كل هذه التفاصيل تتدفق في الفيلم، من خلال ما تتذكره الشخصيات التي عاصرت أماديو ومازال معظمها على قيد الحياة، كما نستمع عبر شريط الصوت على الكثير من أفكار وآراء أماديو. ولكل هذا الازدحام والرغبة في الاحتفاظ بكل ما ورد في الرواية الأصلية، تجعل الفيلم يفقد بريقه ويتحول، بسبب تلك المعالجة التي تعتمد على السرد (الأدبي الطابع) إلى عمل ثقيل في إيقاعه.
وتكمن المشكلة الرئيسية هنا في السيناريو الذي كتبه كل من جريج لاتر وأولريخ هيرمان، فقد أصبح لدينا فيلم أفقي لا يمتلك حبكة محكمة، أو تطور حقيقي في الموضوع، بل إنه ينسى تماما شخصية الفتاة التي ظهرت في البداية، إلى ان يتذكرها قرب النهاية عندما نعرف أنها إبنة ستيفانيا حبيبة أماديو التي يقابلها بطلنا ويستمع أيضا إلى قسط من ذكرياتها.
على حين أننا في الأدب يمكننا تقبل قراءة أكثر من 400 صفحة من الوصف الأدبي التفصيلي للعديد من الشخصيات التي تكشف عن تلك الشخصية الرئيسية الغائبة التي تبدو غامضة ومثيرة للاهتمام من وجهة نظر ذلك المدرس الباحث عن المعرفة.. معرفة حقيقة الشخصية التي تأسره فلسفتها في الحياة، إلا أننا في السينما، يجب أن نحصل على التفاصيل من خلال الحدث الدرامي الذي يتجسد في صور وليس كلمات، فمن الضروري أن يحتوي فيلم يعتمد على رواية فلسفية من هذا النوع، على طريقة أو مدخل للربط بين الشخصيات والأحداث بشكل متماسك لكي يروي قصة تقع في نحو ساعتين، يشدنا إليها إلى أن تبلغ ذروتها
أما ما حدث فهو أن كاتبا السيناريو وقعا في غرام كل شخصيات الرواية فحافظا على هذه الشخصيات، ولم ينجحا في تقديم معالجة سينمائية جذابة تحول الأفكار الأدبية إلى صور ومشاهد ولقطات وعلاقات حية وانتقالات محسوبة في الزمن، بالشكل الذي يجذب المشاهدين، بل إستخدما تلك الشخصيات المتعددة في الكشف عن بعض الجوانب المتعلقة بشخصية أماديو.. وبهذا فقد المشاهد اهتمامه بالفيلم في نصفه الثاني.

أسلوب الإخراج
ولعل العلاقة الوحيدة التي يطورها الفيلم بين بطلنا وإحدى تلك الشخصيات هي علاقة ريموند بماريانا طبيبة العيون، التي تبدي اهتماما خاصا به، وهو يكشف لها في مشهد وحيد في الفيلم شيئا من حياته التي لا نعرف عنها سوى القليل، عندما يقول لها إنه كان متزوجا لكن زوجته تركته لأنها كانت تجدها شخصية "مملة"، فتقول له ماريانا إنها لا تجده مملا، بل على العكس، تجد صحبته ممتعة. وينتهي الفيلم ونحن نرى ريموند يقرر البقاء في لشبونة بعد أن يدرك تمسك ماريانا به وينمو حبهما المشترك، وهو بهذا القرار، أي البقاء، يلقي وراء ظهره بكل ما كان في حياته المغلقة التي كان يعيشها في برن، ويتمرد على ماضيه مقتنعا بأن لحظة البحث عن النفس لا يضاهيها شئ مهما بدا أنها أتت متأخرة في حياة المرء!
يعتمد الفيلم على الحوارات المكثفة، وعلى الانتقال من الحاضر إلى الماضي عبر مشاهد الفلاش باك، وعلى السرد الذي يدور حول الشخصية الرئيسية مثار اهتمام الفيلم، دون القدرة – كما أشرنا- على تطوير الحدث، ودون الاستفادة من طبيعة المكان، أي مدينة لشبونة بتضاريسها وطبيعتها الخاصة. إنه حقا يقدم لقطات ممتعة بصريا للحي القديم من المدينة الذي يتميز بالشوارع الضيقة الملتوية الصاعدة، والمناظر التي نراها من القلعة التاريخية القديمة أو تظهر القلعة في خلفيتها، بل ويجعل الفندق الصغير الذي يقيم فيه ريموند في ذلك الحي، يطل في الوقت نفسه، على المحيط، في حين أن المحيط الأطلسي يبعد كثيرا عن الحي القديم. لكن الفيلم يفشل بشكل عام في استخدام تلك الخلفية الخاصة للمدينة في تعميق الجانب الدرامي للموضوع، بل يدور في معظمه، داخل ديكورات داخلية.
أسلوب إخراج بيللي أوجست، كلاسيكي، يتميز بالإيقاع البطيء وبالكاميرا الثابتة، واللقطات ذات الأحجام المتوسطة والعامة، وهو يمزج الأفكار الفلسفية التي وردت بالرواية عبر شريط الصوت  فنسمعها من خارج الصورة، وهو أسلوب عتيق، يتكرر عبر الفيلم، ويعكس عجزا في تجسيد الموضوع من خلال الشكل الدرامي الذي يقوم على حركة الشخصيات والكاميرا في الفضاء، وعلى تعقد العلاقات بين الشخصيات، بل إن شخصيات الفيلم تبدو في معظمها كما لو كانت منفصلة عن بعضها البعض. ولذلك جاء أداء الممثلين، رغم مواهبهم الكبيرة بالطبع، باردا يفتقد للحرارة، بل وبدا كما لو كانوا لا يشعرون بالجو العام للفيلم. ولذلك جاء تمثيل جيرمي إيرونز جافا، لا يتغير من مشهد إلى آخر بل يسير على وتيرة واحدة عبر الفيلم رغم ما تكشف له عنه الشخصيات التي يلتقي بها ويستمع إلى شهاداتها عن فترة صاخبة في تاريخ البرتغال.
ولكن لعل من أفضل جوانب الفيلم أنه أعاد تجسيد فترة خصبة من تاريخ النضال اليساري ضد حكم سالازار في البرتغال، وكشف للكثير من المشاهدين في العالم تفاصيل مجهولة في تاريخ تلك الفترة الصاخبة.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger