الأحد، 26 مايو 2013

أكاذيب تكشفها حقائق: فضائح الصحافة العربية والمستعربة!




تمتليء الصحف والمواقع بأخطاء فادحة تنم عن الجهل والسطحية والاستعجال في نشر الأخبار.. منها على سبيل المثال ما حدث اليوم الاحد 26 مايو عندما نشرت وكالة الأنباء الفرنسية التي تعتز باسمها الفرنسي فرانس برس، وهي وكالة عريقة يعمل فيها طاقم من المحررين والمترجمين الذين يفترض أنهم يتمتعون بقدر من المهنية، أقول عندما نشرت هذه الوكالة التي أفسدها الهواة خبرا عن فوز الفيلم الفرنسي "حياة أديل" (أو"الأزرق أكثر الألوان دفئا") بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان، وفوز بطلتي الفيلم بجائزة التمثيل وهو خبر خاطيء تماما في النصف الثاني منه، صحيح فقط في قسمه الأول... فجائزة أحسن ممثلة ذهبت الى الفرنسية برنيس بيجو بطلة فيلم "الماضي" اخراج الايراني أصغر فرهادي. والملاحظ عموما أنه ليس لدى الفرنسيين ما يفخرون به أصلا ففيلم "حياة أديل" من اخراج التونسي عبد اللطيف قشيش (وليس كشيش!!) وفيلم "الماضي" اخراج مخرج ايراني كما ذكرنا، والممثلة برنيس بيجو ليست فرنسية الأصل بل أرجنتينية متجنسة.



ومن الأخطاء بل الخطايا التي مشرت أيضا الأحد في أكثر من مجلة وموقع خبر يقول "فوز الفيلم الفلسطيني بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وهذا ليس فقط خطأ بل وقاحة تستوجب العقاب أيضا، وانعدام تام للمهنية، ففيلم "عمر" المقصود" لهاني أبو أسعد، لم يكن مشاركا أصلا في مسابقة المهرجان الرسمية بل في قسم نظرة خاصة، وهو لم يفز بالجائزة الأولى بل بجائزة لجنة التحكيم الخاصة أي بالجائزة الثانية. ولاشك أنه فيلم جيد وسنكتب عنه فيما بعد، لكن الحقيقة هي الحقيقة وهي أنه لم يفز بالسعفة الذهبية، ومن العيب أن ينشر هذا الكلام في أي مكان حتى لو كان مجلة الحائط في مدرسة عين الجمل الابتدائية بغزة!!

 وجدير بالذكر أن لجنة تحكيم هذا القسم، أي قسم "نطرة خاصة" لا تمنح أصلا، لا سعفة ذهبية ولا غير ذهبية، لكنها الشوفينية الفلسطينية التي تنتج عن الشعور بالدونية والهزيمة، التي تريد أن تبالغ في الاحتفاء ولو كذبا، بأي إنجاز ولو محدود، يحققه أي فلسطيني، وهذا شأن العرب جميعا، في مصر وفي المغرب، في الجزائر وفي تونس وفي الكويت وغيرها، حيث يعتبر أي نجاح ولو محدود للغاية ولا يذكر، تفوقا ساحقا، يشار إليه بالبنان، ويتم تضخيمه كثيرا جدا تماما كما حدث عند حصول يوسف شاهين على جائزة عن مجمل أفلامه في مهرجان كان عام 1998، فقد أخذ الإعلام المصري يطبل ويزمر الاعلام المصري وقتها طويلا لهذا الفوز الذي أعتبر فوزا بالسعفة الذهبية في المهرجان.. والمشكلة أن البعض لا يريد أن يفهم أن الأفلام السينمائية ومشاركتها في مهرجانات السينما غير مباريات كرة القدم ومنافساتها الدوليى، فالفيلم في النهاية يمثل صاحبه ولا يمثل الدولة فالدول لا تصنع الأفلام!!

ولا أجد في الختام سوى أن أسترجع بيت المتنبي: ياأمة ضحكت من جهلها الأمم...

الثلاثاء، 14 مايو 2013

من فضائح المركز القومي للسينما في عهد المصور كمال عبد العزيز

كتب هذا التحقيق الصحفي محمد شكر ونشره في جريدة "الوفد" المصرية بتاريخ الأثنين  29 أبريل 2013 ويتناول جانبا من الفضائح التي تحدث في المركز القومي للسينما في القاهرة الذي يديره حاليا المصور كمال عبد العزيز..  هنا نص مقال الوفد:





                                               كمال عبد العزيز
ما زالت وزارة الثقافة تدار بأهواء الجالسين على كراسيها بغض النظر عن القوانين الحاكمة التى كان يجب أن تسود بعد ثورة يناير ولكن مع تراجع الثورة تراجعت أحلام التغيير فى مؤسسات وزارة الثقافة التى يتم التعامل معها باعتبارها «عزبة» يتحكمون فى المبدعين ويعملون على تفريغ الوزارة من كوادرها وتجاهل أوامر صاحب العزبة معالى الوزير وهو ما حدث مع المخرج سميح منسى المدير السابق لمركز الثقافة السينمائية، والذى شغل منصب مدير عام الإنتاج بالمركز القومى للسينما فى شهر اكتوبر الماضى


، ولكنه فوجئ بتهديدات من رئيس المركز بإقالته من منصبه وهو ما دعا شباب مخرجى المركز للاعتصام أمام وزارة الثقافة فى شهر مارس الماضى ليطالبوا بإصلاح إدارى ومالى إلى جانب المطالبة ببقاء سميح منسى فى منصبه مع المضايقات العديدة التى تعرض لها ورغم وعد وزير الثقافة ورئيس ديوانه محمد أبو سعدة ببقاء «منسى»، فإن رئيس المركز تجاهل قرارات الوزير وأصدر قراراً بإقالة سميح وتكليف زميل تبقى على انتهاء خدمته ثلاثة أشهر دون إجراء انتخابات أو الإعلان عن شغل المنصب طبقاً للقانون.
ويقول سميح منسى إنه لم يتعجب من قرار إقالته المفاجئة دون إنذاره أو إعلامه بموعد انتهاء علاقته بمنصب مدير عام الإنتاج لمعارضته لسياسات رئيس المركز التي لا تهدف للارتقاء به، ومنع إهدار المال العام الذي يمارس بشكل احترافى، وهو ما لفت نظره منذ بداية توليه لإدارة الإنتاج فتقدم بطلب لتشكيل لجنة لفحص عروض أسعار المعدات السينمائية، لم يتم الالتفات له بعد اكتشاف تباين واضح في أسعار المعدات من فيلم لآخر، يصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد على ضعف السعر الأصلى كما في حالة فيلم «شد الحبل» الذي احتاج لإيجار شاريوه بسعر 900 جنيه لليوم، كما هو ثابت في فواتير وميزانية الفيلم وفيلم «أنا إخوان» الذي أجر نفس الشاريوه بإيجار يومي 2000 جنيه وهو ما اعتبره سميح تربح من أموال الشعب، مؤكداً أن مواجهته للفساد قد يكون سبباً في إقالته لأنه بهذا يكون قد دخل عش الدبابير.

وشدد سميح علي أن توقيت إقالته من منصب مدير عام الإنتاج مثير للشكوك، خاصة ونحن علي أعتاب سنة مالية جديدة كما أنه قام بعمل خطة للعام المالى القادم ضمت 25 فيلماً من بينها أفلام للفنانين الشبان بالمركز. وأكد أن هناك ميزانيات أفلام التي قدمها في خطته الإنتاجية تراوحت ميزانياتها بين 15 و38 ألف جنيه، ولكنك تجد فيلماً مثل «مفتش آثار» لمحمد مرزوق ميزانيته تعدت 158 ألف جنيه كما هو ثابت بالمستندات، وبعد مناقشة هذا الفيلم تم تخفيضه لمبلغ 148 ألف جنيه وهناك ميزانيتان للفيلم كل منهما برقم مختلف، وهو ما يعتبر تلاعباً وكأن المركز يتعامل مع فكرة الإنتاج بنفس طريقة «الفصال» في سوق الخضار ليخفض الميزانيات ولم يهتم رئيس المركز بالتحقيق في هذه الوقائع أو يوافق علي سد باب إهدار المال العام باعتماد لجنة لمراجعة إيجار المعدات التي تعتبر الباب الخفى للاستيلاء علي أموال المركز بغير وجه حق.




وأشار سميح منسى إلي ضرورة تشديد الرقابة علي المركز القومي للسينما كجهة إنتاج فيها كثيراً من أموال الدولة، مؤكداً أنه التقى بوزير الثقافة، وقال له إنه لن يترك المركز ينهار وسيجلس علي مقاعد المعارضة بغض النظر عن المنصب، وأن الوزير أكد له أنه لن يسمح بأي تجاوزات، كما أن المهندس محمد أبو سعدة الذي وعده بالاستمرار في منصبه ودفع الضغوط التي يمارسها رئيس المركز عنه، ولكنه اكتفى بمراقبة قرار إقالته، وقال إنه عنفه علي اتخاذ قرار فردي دون الرجوع للوزارة.
أضاف منسي أنه سلم صورة من الخطة التي وضعها للإنتاج لوزير الثقافة وطلب منه الإشراف عليها بنفسه، حتي لا ينكل رئيس المركز وحاشيته بشباب السينمائيين الذين كانوا شغله الشاغل طوال فترة عمله من خلال توقيع اتفاقية تعاون مع المركز الثقافي الفرنسي التي لم تفعل حتى

ا

 لآن وتطوير إدارة الرسوم المتحركة التي رفض رئيس المركز إعطاءها بلاتوه ليستمر نزيف الأموال في إيجار بلاتوهات خارج المركز رغم توفر المكان الذي حصل عليه المخرج مجدى أحمد علي أثناء فترة رئاسته ووضع برنامج «حنين سينمائى» الذي قدم لرئيس هيئة قصور الثقافة لنشر الثقافة السينمائية ومشروع ورش السينما الفنية والإبداعية الذي لم يتم الالتفات إليه، والأسماء الوهمية التي تتقاضى أجوراً كما في فيلم «أبيض وأحمر» والمكافآت التي تصرف للمحاسيب عمال علي بطال بدون وجه حق وأغلبها يكون للإداريين ممن لديهم حظوة لدي رئيس المركز أو الرئيس السابق لقطاع الإنتاج الثقافى.


السبت، 27 أبريل 2013

الثورة والفيلم والسيجار




بقلم: أمير العمري


قبل أن نشاهد أفلاما من السينما الكوبية، كانت فكرتنا عن كوبا عموما، أنها بلد فقير، محاصر، خاضع لنفوذ السوفيت، ليس لديه سوى السكر والسيجار الهافاني الشهير الذي ارتبط به الزعيم الكوبي الأشهر، فيدل كاسترو.
وكان هناك بلاشك، تناقض ما، بين المزارعين الكوبيين الفقراء في مزارع قصب السكر، وبين السيجار الهافاني الذي لا يدخنه سوى أثرياء "البورجوازيين". لكن الغريب أن كوبا- الثورية جعلت من السيجار الهافاني رمزا للثورة، بعد أن اصبح العلامة المميزة ليس فقط لفيدل كاسترو،، بل للزعيم "الأسطوري" تشي جيفارا الذي كان أيضا رمزا لفكرة "الأممية" الاشتراكية، فهو أرجنتيني ومع ذلك، فقد حمل السلاح وشارك في الثورة الكوبية، وبعد انتصار الثورة، لم يشأ أن يستمتع بكرسي الوزارة، بل فضل الرحيل إلى بوليفيا لاستئناف النضال ضد الامبريالية او الاستعمار الجديد، حيث لقي مصيره التراجيدي المعروف. وكان هذا الموت العبثي، الذي قيل إنه جاء نتيجة وشاية من قبل "رفيق" كان معه في غابات بوليفيا، مثار حزن كبير حقا، خلده الشيخ إمام في ملحمته الغنائية الشهيرة "جيفارا مات" من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، كما كتب عنه محمود دياب مسرحية الشهيرة "ليلة مصرع جيفارا". وكان مصرع جيفارا بمثابة مؤشر أولي على انحسار المد الثوري في العالم الثالث بعد أن ظل هذا المد يؤرق مضاجع الاستعمار الجديد طوال الخمسينيات والستينيات. لم تكن فكرة "الثورة الدائمة" التي كان يعتنقها ويبشر بها جيفارا واضحة تماما، فقد كانت تتنافى مع الفكرة السوفيتية التي كانت قد استقرت حول "إمكانية تحقيق الاشتراكية في دولة واحدة" أي أنه لا يشترط لضمان نجاح الاشتراكية في دولة ما، أن تطبق في جميع الدول المحيطة بها كما كان متصورا من قبل، وإن كان الأمل أن تعم الاشتراكية العالم باعتبارها الفكرة الأكثر إنسانية.
كنا ونحن شباب صغار، في مقتبل العمر، نتطلع إلى الاشتراكية والفكر الاشتراكي، من الزاوية الإنسانية، من زاوية تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، وإقامة مجتمع يسوده التعاون بين البشر، والحب، وروح تنشد التحقق وتحقيق الرخاء للمجتمع وللفرد أيضا. ولم تكن أبدا، الأفكار الاشتراكية واليسارية عموما تلاقي هوى لدينا نتيجة ولع بـ"الأيديولوجي" في حد  ذاته، بل كان التوجه يتلاقى مع الوجه الإنساني للاشتراكية. وكان هذا حلم جيلنا. وأظن أنه كان حلما ينشد تحديث المجتمع بالعلم، دون أن يهمل القيم الأخلاقية والإنسانية عموما، فهي جزء من التراث الديني والوطني. ولكننا لم نكن نتخيل، في أسوأ السيناريوهات الممكنة، أنه سيأتي علينا يوم نجد أن السعي إلى تحقيق التقدم الاجتماعي والإنساني واللحاق بالعصر، قد تحول إلى نوع من الهستيريا الماضوية، الشبيهة باللوثة التي أخذت تطبق بتلابيبها على كل شيء. لكن ما حدث كانت أسبابه كامنة في فشل الكثير من المشاريع، أهمها دون أي شك، مشروع احتكار العمل السياسي باسم الجماهير، سواء من خلال أجهزة أمنية، أو من خلال حزب هو عبارة عن وعاء مترهل لجهاز الدولة، تحميه أجهزة الأمن أيضا!
وجدت من الضروري أن أسوق هذا المدخل لأن الاشتغال بالنقد والكتابة والتعبير هو عمل له علاقة وثيقة بالفكر الاجتماعي والسياسي في عصره، وليس مجرد سباحة تجريدية في "عالم الفن"، أي ليس مجرد "صرعة" كما قد يتخيل البعض. كنا نود أن نصبح جزءا من العالم، نتفاعل مع ما يحدث فيه، ونؤثر فيه ونتأثر به أيضا. وكانت السينما، بهذا المعنى، نافذة كبيرة على الدنيا وعلى العالم. 
والآن إلى كوبا، التي لديها تجربة خاصة في الاشتراكية أظن أنها تجربة ناجحة كثيرا، فقد نجحت في إقامة نظام يحقق التوازن الاجتماعي في بلد كان يعاني من العبودية والاستغلال البشع من جانب الاحتكارات الأمريكية التي كانت تستولي على كل ثرواته المحدودة، ولم تكن تترك له سوى الفتات، وكانت نخبة قليلة العدد من وكلاء رأس المال الأجنبي من العاملين في خدمة الشركات الاجنبية، من الكوبيين، هي التي تحكم، يمثلها في الحكم ديكتاتور يحمي المصالح الأجنبية (الأمريكية بوجه خاص)، ويقمع شعبه بكل قوة ووحشية.
جاء النظام الاشتراكي إلى كوبا عن طريق نضال طويل وصل إلى ذروته في إعلان الثورة المسلحة، إلى أن وصل للحكم، بفضل تأييد القوى الشعبية العريصة من الفلاحين أساسا، والمزارعين البؤساء، والعاملين بالسخرة.  
وكنت أقرأ منذ عام 1972 عن السينما الكوبية، بل وقمت أيضا بترجمة دراسة طويلة عن هذه السينما وبعض أفلامها، كتبها الناقد البريطاني ديفيد ثومبسون، كما قرأت كثيرا عن السينما الثالثة، والسينما غير المكتملة، ودور مؤسسة السينما الكوبية "الايكايك" ICAIC (أو حرفيا "المؤسسة الكوبية للفنون والصناعة السينمائية")، وتأثير مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية على سينمائيين كوبيين مثل جارثيا اسبينوزا وجوتييريز آليا اللذين درسا في معهد السينما في روما. ولكني لم أكن أتخيل أن كوبا يمكنها أن تنتج أفلاما فيها من الطموح الفني ما نجده، على سبيل المثال، في السينما الأوروبية المتقدمة بما فيها السينما السوفيتية بالطبع. إلى ان جاء "أسبوع الأفلام الكوبية" في القاهرة عام 1975 في سينما أوديون، بالتعاون بين العلاقات الخارجية الثقافية، والسفارة الكوبية في مصر. كان هذا حدثا جللا، فقد اكتشفنا من خلال متابعة أفلام هذا الأسبوع، التي عرض بعضها أيضا في "نادي السينما" أننا أمام تجربة متقدمة كثيرا في التعبير من خلال السينما، وليست تلك السينما البدائية التي كنا نتخيلها.
كانت هناك أفلام مبهرة مثل و"لوسيا"، و"أيام الماء"، وغيرها. وكان يكفي في الحقيقة مشاهدة فيلم واحد مثل "ذكريات التخلف" لكي تتغير رؤية المرء تماما لهذه السينما بل لاتلك الدولة الصغيرة التي كانت تكافح من أجل البقاء أمام حصار أمريكي مفروض عليها منذ 1959.
انتصرت الثورة الكوبية المسلحة في يناير 1959 ونجحت في الإطاحة بنظام الديكتاتور باتيستا الذي فر إلى أمريكا. وفي مارس من العام نفسه، أنشئت مؤسسة الفنون والصناعة السينمائية (إيكايك، كما تأسست بعد ذلك مدرسة السينما التي تخرج منها عدد من ألمع السينمائيين في أمريكا اللاتينية.
كان "ذكريات التخلف" Memories of Underdevelopment عملا ملهما، لا مثيل له من قبل. كان فيلما "حداثيا" بمعنى الكلمة، أوروبيا في ظاهره، ولكنه "لاتيني" تماما في خصوصية التجربة التي يصورها، وأجوائها، والتساؤلات التي يطرحها.
صحيح أن الكثير من هذه التساؤلات تأتي على صعيد يبدو وجوديا، ربما تأثرا بأفلام الموجة الجديدة الفرنسية، وأفلام أنطونيوني أيضا في الستينيات التي كانت تدور حول عزلة "البورجوازي"، وفشله في إقامة علاقات ناجحة مع المرأة، وتدهوره النفسي بسبب عدم تحققه مما يفعله، وغير ذلك من الأفكار التي يلعب عليها الفيلم كثيرا في تصوري الشخصي، ولكنه يصوغها ويصبها، في سياق سياسي اجتماعي نقدي، يتعلق بخصوصية التجربة الكوبية: تاريخ كوبا الخاص، وتطور الصراع فيها، كما يخرج ويدخل من وإلى أسلوب التداعيات المميز للسينما الأوروبية في الستينيات، لكنه يستخدم أسلوبا سينمائيا يعتمد اعتمادا أساسيا على المونتاج، يمزج بين التسجيلي والوثائقي والخيالي، بين الوثيقة الصوتية او المصورة، وبين التعليق الصوتي المباشر من خارج الصورة، بين الطابع التعليمي الذي يتوقف أمام بعض المعلومات ذات الدلالة الخاصة في سياق الفيلم، وبين الصور الثابتة والرسومات. ويستخدم أيضا لقطات من الجريدة السينمائية ومن الأرشيف، ويعتمد كثيرا على الكاميرا الحرة المحمولة على الكتف التي تجعل المنظور مهتزا تماما بغرض إكساب المشهد الطابع التسجيلي على نحو يذكرنا بالأفلام السوفيتية التي صنعت في عشرينيات القرن الماضي، ويستوحي من أيزنشتاين، كما يستلهم من جودار. ويمتليء الفيلم بالكثير من الإشارات إلى الماضي، إلى التاريخ، في بناء جدلي مركب ومثير، ولكن دون أن يفقد الفيلم في أي لحظة، طابعه الحداثي الأخاذ، وقدرته على جذب المتفرج، دون أن ينحرف أبدا عن هدفه في الكشف عن تناقضات الشخصية الرئيسية التي يدور حولها موضوع الفيلم. 


مخرج الفيلم توماس جوتييريز آليا، وكان ألمع السينمائيين الكوبيين على الإطلاق (توفي عام 1996)، كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى (البورجوازية) ولكن إلى أسرة "تقدمية"، وقد أيد الثورة الكوبية ووقف معها بقوة من البداية، وإن لم يحول إيمانه بالثورة، دون توجيه النقد لبعض الممارسات السياسية والاجتماعية، في بعض أفلامه، وخاصة في "ذكريات التخلف".
ويلعب عنوان الفيلم على كلمة ستصبح فيما بعد من الكلمات أو الأوصاف الشائعة كثيرا في عالمنا، في وصف البلدان التي تعاني من مشاكل "التخلف"، خصوصا فيما يسمى بـ" العالم الثالث". والمقصود هنا "التخلف" من وجهة نظر بطل الفيلم، وهو رجل في نهاية الثلاثينيات، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ورث مجموعة من الشقق السكنية يعيش على الدخل الذي يأتيه من تأجيرها. وقد أممتها الحكومة الجديدة لكنه يستطيع الاستفادة من دخلها لمدة 12 عاما.  هو إذن، "عاطل بالوراثة"، أي يعتبر "عالة اجتماعية" في مجتمع الثورة والعمل والبناء، في كوبا الجديدة.  
يبدا الفيلم في عام 1961، أي مباشرة بعد الغزو الأمريكي الفاشل بمساعدة اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة الذين يطلق عليهم "المنفيين الكوبيين"، وهي العملية العسكرية الشهيرة التي عرفت باسم عملية "خليج الخنازير"، وينتهي في أكتوبر عام 1962 وقت بلوغ أزمة الصواريخ الروسية التي نشرها السوفيت على الأراضي الكوبية، ذروتها، فقد كادت أن تتسبب في مواجهة نووية بين القوتين العظميين وقتها لولا أن بادر السوفيت وقاموا بسحبها.
الإطار الزماني إذن، يتحدد في فترة ساخنة سياسيا، شهدت أيضا نزوح الآلاف من البورجوازيين الكوبيين الذين رفضوا الاندماج في المجتمع الجديد، فهاجروا إلى الولايات المتحدة. ومن بين هؤلاء أصدقاء وأقارب بطلنا "سيرجيو"، بل وزوجته. وفي المشاهد الأولى من الفيلم  نرى طوابير المهاجرين الكوبيين في مطار هافانا، وبينهم "لاورا" زوجة سيرجيو، وهو معها يودعها، غولكن دون أن يبدو على وجهه أي شعور بالفقدان، أو بالحزن، بل إننا نلمح نوعا من الشعور بالارتياح.
 لقد ذهبت لاورا ولكن بقيت أشياؤها في بيته، تذكره بنموذجها الذي يرفضه لكنه لا يعرف غيره، ويشعر بنوع من الحنين لاستعادته على نحو ما.
سيرجيو يرفض مغادرة كوبا، لكنه يرفض أيضا الانتماء إلى الوضع الثوري الجديد في البلاد، أن يكون جزءا من المجموع من حوله، فهو يعتبر الكوبيين "متخلفين"، ويصف نفسه بأنه "أوروبي" أكثر منهم جميعا، وهو كاتب ومثقف، يسجل يومياته وذكرياته باستخدام الآلة الكاتبة، لكي يطرح الكثير من التشكك والقلق الوجودي المرتبط بشعوره بانعدام الوزن: إنه يرفض طبقته، لكنه يرفض البديل الآخر، يسخر من الشعارات الجديدة، ويتشكك بوضوح في قدرة هؤلاء الشباب الذين يضيعون الكثير من الوقت في المناقشات والجدال، ويتطلع إلى الماضي، إلى علاقته التي لم تكتمل مع الفتاة الوحيدة التي أحبها وكانت "أجمل شيء في حياته".. يتجول في الشوارع، يتطلع إلى الناس من شرفة مسكنه المرتفع عبر المنظار: إلى الشاطئ، إلى الحركة الكثيفة في الشارع، إلى تمثال برونزي يتوسط ميدانا قريبا، وتتداعى الأفكار المتشككة عبر "المونولوج" الذي يأتينا عبر شريط الصوت من خارج الصورة، وكأن سيرجيو يعبر عن أفكاره التي يدونها ولو بصوت مرتفع.
ما الذي حدث؟ سيرجيو يجيب بتشكك: "لقد تحررت كوبا.. من كان يصدق". يلمح قمة نصب تذكاري خال من أعلى، ويعلق "أين ذهبت حمامة بيكاسو.. من السهل أن تكون شيوعيا في باريس.. لقد دبت الحياة ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى ميامي.. ولكن كل شيء يبدو مختلفا اليوم.. ما الذي تغير؟ اين أصبحت المدينة"؟
لا يروي الفيلم قصة، ولا يعتمد على بناء درامي تتصاعد فيه الأحداث في سياق رأسي، بل على بناء أفقي، يعرض، ويقدم، ويحلل من خلال تجسيد التناقض والتعارض بين الصور واللقطات، وهو بناء ثري، لا يهدف للوصول إلى ذروة ما، بل إلى تفكيك الشخصية، وتعريتها، والتوقف أمام أزمتها.. إنه لا يدين، ولا يبرر، بل يعري، ويكشف، ويفضح ذلك العجز، ويجسده. وهذا هو المدهش في هذا العمل الكبير في وقته.. أي كيف كان ممكنا ألا يأتي الفيلم الأول المهم من كوبا، لأهم مخرج سينمائي كوبي، عملا من أعمال "الواقعية الاشتراكية" مثلا، التي تجسد عادة "البطل الإيجابي"، وتوجه انتقادات مباشرة إلى الماضي، إلى حقبة باتيستا، لكي تبرر كل ما جاء بعدها، وتتغاضى عن أي نواقص أو سلبيات. على العكس من ذلك تماما، هنا يصبح مدخلنا إلى "الحالة الكوبية" مدخل فلسفي وذهني، ولكن من وجهة نظر مثقف من الطبقة الوسطى، عاجز عن حسم أي شيء في حياته.


زوجته رحلت، وهو يعود إلى مسكنه، يتطلع إلى أشيائها التي ظلت تذكره بها: يدير شريط تسجيل لكي يستمع إلى معابثته لها التي تصل حد الشجار. وفي لقطة تعكس البناء المركب للفيلم نراه أمام المرآة، يأتينا صوته عبر شريط التسجيل، وصورته من الماضي الذي يتذكره، وهو يعبث مع زوجته ويثير ضيقها، يرسم على المرآة بقلم التجميل الأحمر، ويقول لها كما يأتي إلينا عبر الشريط المسجل: إنني أفضل النساء اللاتي على شاكلتك.. المصطنعات، أكثر من النساء الطبيعيات.. أفضل الملابس الأنيقة والطعام الجيد، والماكياج والتدليك.. إنك اصبحت أكثر جاذبية الآن.. لم تعودي تلك الفتاة الكوبية المتخلفة..". هنا يكون هو قد ارتدى جوربها النسائي في رأسه وأخذ يتأمل صورته المشوهة أمام المرآة.. ثم ينزع الجورب من رأسه ويجلس في استرخاء وإرهاق على أحد المقاعد.. هذا يحدث في الزمن الحاضر.. الآن بعد أن ودعها في المطار وعاد لكي يكتشف موت أحد العصافير التي يحتفظ بها في قفص في شرفة مسكنه، يلتقطه ببساطة ويلقي به من الشرفة المرتفعة إلى أسفل، إلى الشارع، بينما يردد: إنها لحظة الفراق!
لكن البناء لا يعتمد فقط على التداخل بين الماضي والحاضر، من خلال سريط الصوت أو شريط الصورة، بل على المزج مع مشاهد ولقطات تسجيلية تتداعى في الذاكرة الفردية للبطل- اللابطل حينا، أو تستخدم من زاوية موضوعية وفي سياق نقدي أو "تعليمي" من وجهة نظر الفيلم، كما سنرى.
عمليا لا يفعل "سيرجيو" شيئا في حياته سوى التأمل والتجوال في الشوارع، ينظر إلى النساء بوجه خاص، يعلق عن طريق الصوت الذي ياتي من خارج الصورة، يتساءل بتشكك وهو يتطلع إلى عشرات الوجوه للرجال والنساء، وإلى صور ورسومات لكاسترو على الجدران، لقطات قريبة "كلوز أب" للكوبيات في العصر الجديد: قلق في العينين، نظرات توتر وعدم ارتياح. ما هذا القلق؟ هو بالقطع ليس من نوع القلق الذي يعاني منه سيرجيو. إنه يتساءل: ماذا تعني الحياة بالنسبة لهم؟ بل ماذا تعني الحياة بالنسبة لي؟ ويستدرك: "ولكني لست مثلهم...".
فيلمنا هذا يمكن القول إنه من نوع "دراسة الشخصية". ولكي يعمق هذه الدراسة ويسلط مزيدا من الأضواء عليها، يقوم السيناريو على تقديم بعض الشخصيات التي ارتبط بها بطلنا بشكل او بآخر ولعبت دورا في حياته. وهو يقدم هذه الشخصيات بادئا بكتابة الأسماء على الشاشة. هناك أولا "بابلو".. صديق سيرجيو الرافض بوضوح للثورة.. المتشكك في كل شيء يجري حوله، الذي حسم أمره بالفعل على ضرورة الهجرة الى أمريكا. وهو يعبر عن أفكاره هذه خلال جولاته بالسيارة مع سيرجيو قائلا إن ما يجري مجرد "لعبة بين الأمريكيين والروس، لكننا سندفع الثمن.. لا أريد أن أكون موجودا هنا عندما يأتي ذلك الوقت.. سأرحل".
يتوجه بابلو بالسيارة في صحبة سيرجيو إلى محطة للوقود. هناك بنزين ولكن لا يوجد هناك زيت للمحرك. وبعد هذا المشهد مباشرة يستخدم المخرج لقطات تسجيلية وصورا ثابتة فوتوغرافية ورسومات تظهر حالة الفقر والتخلف والمعاناة التي كان الكوبيون يعيشون فيها في الماضي: هناك لوحة تصور بعض العبيد يقيدون حركة واحد منهم على الأرض، بينما يقف السيد يمسك بالعصا وينهال عليه ضربا. (يأتينا صوت بابلو من خارج الصورة، يقول لسيرجيو: يقال إن الكوبي يمكنه أن يتحمل اي شيء سوى الجوع).
نرى لقطات أخرى لرجال جوعى، وأطفال يتضورون ارتموا على الأرض في ضعف واستكانة شديدتين، امرأة تحمل على صدرها طفلا رضيعا يحتضر من الجوع. ويأتي التعليق الصوتي "الموضوعي" وكأننا نشاهد فيلما تسجيليا في التليفزيون: في أمريكا اللاتينية يموت أربعة أطفال بسبب سوء التغذية كل دقيقة. بعد عشر سنوات سيكون قد مات عشرون مليون طفل، أي ما يوازي عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية".
الحوار بين سيرجيو وبابلو حول المسلحين الكوبيين الذين شاركوا في غزو بلادهم مع الأمريكيين في "خليج الخنازير" وتم اعتقال بعضهم، يؤدي إلى مشهد آخر، تسجيلي، يبدأ بالإشارة إلى مسؤولية الفرد في إطار الجماعة.. حسب المفهوم الماركسي.. ولكن في سياق استعراض السجناء من الكوبيين المسلحين، والتعليق الصوتي يأتينا قائلا إنه تم اكتشاف تنظيم اجتماعي داخل المنظمة العسكرية للغزاة أي المسلحين المناهضين للثورة وهذا التنظيم يعكس التكوين الاجتماعي و"اخلاقيات البورجوازية".

 إنه البطل العاجز المتردد في حسم أمره، الذي يكتفي بالتطلع عبر التليسكوب من نافذة مسكنه على الناس في الخارج، يبحث بوجه خاص، عن تجربة عاطفية يستر بها إحساسه بالعجز. وعندما يعثر أخيرا على فتاة تلهب خياله (إلينا)، تنتمي للطبقة صاحبة المصلحة في الثورة، نراه يحاول أن يحولها ربما دون أن يدري، إلى نموذج مشابه لنموذج زوجته التي يرفضها. يريدها أن ترتدي ملابسها، وأن تتصرف مثلها. إنه ذلك "الفكر" المتأصل داخله، الذي يرفض التعامل إلا مع نموذج المرأة من طبقته بسلوكياتها ومفاهيمها رغم احتجاجه المعلن على هذا النموذج أيضا وهنا سر أزمته: أي أنه لا يعرف ماذا يريد.. ولذا يظل على الهامش طيلة الوقت، عاجز عن اختراق المجتمع أو الاتصال مع الآخرين. غنهم جميعا في نظره يجسدون "التخلف".
هذه الفتاة "إلينا" هي نموذج يلخص تلك الحالة الجديدة المستعصية على فهمه.. "ابنة الشعب"، ولكن بدلا من محاولة النفاذ إليها وفهمها، يحاول سيرجيو تغييرها وشدها إلى عالمه، وفي زيارة إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي في هافانا، وتحول إلى متحف، تتجسد الهوة بين الشخصيتين. وتفشل علاقة الاحتواء المفترضة مع فتاة في السابعة عشرة من عمرها.
وتكاد مغامرته النزقة مع "إلينا" أن تؤدي إلى هلاكه، فأهلها يتهمونه باغتصابها، ويقولون إنها كانت عذراء عندما أغواها ودفعها إلىممارة الجنس دفعا، ويصل الأمر إلى القضاء، لكن القضية تنتهي بترئة سيرجيو الذي يعود لكي يستعيد لحظات علاقته الساخنة مع إلينا، وحيدا كما كان دائما، في حين تستعد كوبا لمواجهة تداعيات أزمة الصواريخ، وعلى شريط الصوت يأتينا صوت الرئيس الأمريكي كنيدي وهو يحذر ويهدد بضربة استباقية نووية، ثم كاسترو بالصوت والصورة، وهو يلقي كلمة يرفض فيها بشدة الخضوع للتهديدز في هافانا، في ليلة عاصفة، يتأهب الجميع، ويحسبون أنفاسهم.. تحسبا للخطة التالية.. وينتهي واحد من أعظم الأفلام في تاريخ السينما.

فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"

السبت، 30 مارس 2013

أفلام وكراسي: مرة أخرى!



هذا المقال البسيط الذي يحمل بعض التداعيات كتبته في هذه المدونة في إطار اليوميات من مهرجان روتردام
الدولي (وليس العربي سيء الصيت من فضلكم!) في 2009، ولعله لايزال صالحا اليوم..

غير أن المشكلة الأخرى التي تداعت عقب الانتهاء من مشاهدة هذا العمل الكبير، نتجت عن التفكير فيما فعلته كاميرا الديجيتال: فقد أنتجت خيرا وشرا في وقت واحد.
فإذا كانت كاميرا الفيديو الرقمية قد حررت السينمائي من ضغط الميزانية، وأتاحت أمامه فرصة لابتكار ما لم يكن ممكنا ابتكاره بسبب صعوبة حمل ونقل الكاميرا السينمائية واقتحام الكثير من المواقع بها، فقد أدى انتشار هذا النوع من الكاميرات أيضا إلى أن سقط الشرط الأساسي الذي يجب توفره في السينمائي، أي سينمائي، قبل أن يصبح سينمائيا معترفا به، هذا الشرط يتلخص في كلمة واحدة هي "الموهبة" التي ترتبط بالتأكيد بمساحة الخيال، والقدرة على استخدام لغة السينما، وطبعا لكي يعرف أي إمرء استخدام أي لغة عليه أولا أن يتعلم كيف يقرأها.
لكن المشكلة أنه بعد توفر كاميرا الديجيتال الرخيصة أصبح كل من هب ودب يعتبر نفسه مخرجا سينمائيا، وانتشرت بشدة ما يمكن أن نطلق عليه "أفلام الكراسي".
ما المقصود بأفلام الكراسي؟ الحقيقة أنني أقصد تحديدا كل ما يصور على شرائط من مقابلات مع شخصيات من هنا ومن هناك، أجراها مصور أو حتى مخرج (افتراضا) بالطريقة السهلة البسيطة أي أتى بكرسي وأجلس فوقه الضيف وأخذ يمطره بالأسئلة والضيف يجيب والمصور يصور.
وفي عملية المونتاج التي تعتمد تماما على "الفهلوة" يمكن ادخال بعض الصور واللقطات، من الحقول والشوارع والطبيعة الصامتة أو الناطقة، ثم يطلق صاحب هذا العمل عليه فيلما سينمائيا، ويقدم نفسه باعتباره مخرجا، ويظل يلف ويدور لمدة سنة كاملة على الأقل، على كل  المهرجانات السينمائية الدولية التي أصبحت تقبل كل هذا العبث متغاضية عن تهافته الفني وجرعة الملل التي تصيب المشاهد وهو يجلس أمام الكرسي، عفوا أقصد أمام الشريط الذي يحوي صورا متحركة، ويستمع إلى المحاضرة السخيفة عن أي شيء، من مشاكل البيئة إلى معنى الوجود، وسبب تريب المهرجانات يعود إلى ارتباط معظم هذه الأفلام بالحدث السياسي الساخن وهو لا يكفي بالضرورة لصنع فيلم جيد.
ولعل التليفزيون الذي يرحب بهذا النوع من المقابلات المصورة هو المسؤول عن انتشار ظاهرة أفلام ومخرجي الكراسي خصوصا في العالم العربي الذي انكسر فيه القيد عن الفن، فساح الفن وأصبح كل من هب ودب فنانا، وإذا تزوج شعبان البقال أيضا من "فنانة" يتم تعيينه على الفور "فنانا".. مع الاعتذار لعمنا الكبير الشاعر الصعلوك الأعظم أحمد فؤاد نجم صاحب قصيدة "شعبان البقال"!
مشكلة أفلام الكراسي أنها ليست أفلاما بل مقابلات مصورة، وأن مصوريها هم صناعها الحقيقيون كوثيقة للأرشيف أساسا، أي كمادة خام يمكن استخدام أجزاء منها في أعمال أخرى تماما مثل محفوظات دار الكتب، لكنها ليست أعمالا فنية، ولا تستحق أن تعرض في مسابقات بالمهرجانات السينمائية، فعلى أي شيء ستتنافس وكلها متشابهة. وكل من يزعمون أنهم مخرجون لهذا النوع من القطع المصورة يحتالون ويتحايلون على جوهر الفن السينمائي، أي ذلك السحر الخاص الذي يمنحه صاحب الرؤية للصور واللقطات التي يقوم بتركيبها معا وكأنه يولف مقطوعة موسيقية لها أول، ولها آخر، أما أفلام الكراسي فقد يكون لها أرجل تماما مثل الكراسي، لكن ليس لها أي دماغ.. فارحمونا من فضلكم أو خصصوا لهذا النوع من التحف الفريدة مهرجاناتها الخاصة واجعلوا شعارها الكرسي، الذي يجب أن يصطف صناع هذا النوع من الشرائط أمامه يوميا ليقدموا له الشكر الجزيل على استمرار وجودهم على قيد الحياة!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger