الأربعاء، 9 يناير 2013

أحداث أهم عام في التاريخ 1968 في فيلم تسجيلي




أمير العمري


من أجمل الأفلام التسجيلية التي أعجبتني فيلم "68" (90 دقيقة) للمخرج الفرنسي باتريك روتمان. وقد أخرج روتمان فيلمه هذا عام 2008  وهو يعتمد على كم هائل من الوثائق المصورة، منها الكثير من الوثائق النادرة التي نراها للمرة الأولى، منها لقطات بالألوان لانتفاضة مايو 1968 في باريس.
كان المخرج روتمان في ذلك الوقت، أي قبل 40 عاما من صنع فيلمه، طالبا في السوربون، وقد شارك في الأحداث كما كان شاهدا عليها. وقد ظل يبحث فيما وقع في 68 واصدر كتابا مهما في الموضوع، ثم جاء هذا الفيلم الذي لعل أكثر ما يميزه أنه يربط بين ما حدث في فرنسا في ذلك الصيف، وبين ما كان يحدث في العالم في تلك السنة المميزة في القرن العشرين.
لقد كان 1968 عام الثورة والغضب والتمرد والاحتجاج ضد الفقر والظلم والتفرقة العنصرية، والأهم ربما، أنه كان عام الاحتجاج والغضب على حرب فيتنام، وكان يمثل ايضا علامة فاصلة بين عصرين: عصر التقاليد العتيقة المحافظة، وعصر الفكر الجديد المنطلق والرغبة في نظام تعليمي جديد والاعتراف بالحقوق المدنية وإقرار مبدا الحرية الجنسية.
يأتي الفيلم في إيقاع ساخن لاهث سريع، مصحوب بالأغاني السياسية الغاضبة للفترة، وهي أغان لها معان واضحة محددة وكلماتها رقيقة بقدر ما هي عنيفة، أغاني جيمي هندركس وبوب ديلان وجيم موريسون وجانيس جوبلن وغيرهم.
وينتقل الفيلم من باريس إلى براغ، ومن واشنطن إلى المكسيك، ويشير إلى ما اجتاح، ليس فقط الدول الصناعية من حركات احتجاج، بل بلدان العالم الثالث أيضا.


ويصور انتفاضة "ربيع براغ" في تشيكوسلوفاكيا ضد البيروقراطية السوفيتية، ثم دخول قوات حلف وارسو إلى براغ، والمصير الذي انتهى إليه زعيم الحركة وزعيم الحزب الشيوعي وقتذاك الكسندر دوبتشك، ثم ينتقل إلى مقدمات وملابسات اغتيال مارتن لوثر كنج ثم روبرت كنيدي، حتى يصل إلى مصرع جيفارا.
لكن تبقى انتفاضة باريس بما لها وما عليها هي أساس الفيلم، ويستخدم المخرج ما توفر له من لقطات ووثائق لكي يجعلنا نرى كيف تحولت الحركة تدريجيا من حركة سلمية منظمة، إلى احتجاج غاضب ثم ما أدى إليه تدخل الشرطة العنيف إلى اتجاهها للعنف ثم انضمام العمال إلى الطلاب والمثقفين إلى الاضراب العام الذي شل البلاد والمعارك العنيفة التي دارت وأدت إلى تخريب قطاع كبير من باريس.
ويصور الفيلم كيف أدى هذا كله إلى تحول في موقف المتعاطفين مع الانتفاضة، واستغلال ديجول الموقف وإعلانه تدخل قوات الجيش لانقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي التام.
إنك تشاهد هذا الفيلم ولا تستطيع أن تدير وجهك ولو للحظة واحدة، رغم تدفق الصور واللقطات المباشرة الصادمة بكل ما تحتويه أحيانا من عنف وضراوة.

باتريك روتمان مخرج الفيلم

ويصور الفيلم دخول القوات السوفيتية وقوات حلف وارسو على اعاصمة الشتكية براغ، وكيف واجهها السكان.
إن الصورة هنا ليست للإثارة ولا لإطلاع المشاهد على ما حدث فقط، بل يستخدم المخرج أسلوبا تحليليا في قراءة الأحداث، سواء من خلال التعليق الصوتي المكتوب بعناية ودقة، أو من خلال التداخل بين الصور والتعليق والعناوين المكتوبة على الشاشة، واستخدام المقابلات المصورة من الفترة نفسها، والبرامج التليفزيونية والاذاعية والأغاني.
إن "68" أحد الأعمال الكبيرة في تاريخ الفيلم الوثائقي. ولحسن الحظ أن وسائل الاتصال أصبحت تجعله متوفرا بسهولة اليوم لمن يريد حقا أن يرى، وأن يتعلم!

ملحوظة: الفيلم متوفر على شبكة الانترنت في نسخة ناطقة بالفرنسية

الثلاثاء، 1 يناير 2013

مهرجانات سينمائية في يناير 2013

               

                 FlixStart Indie Fest

                 Mumbai, International
                Runs from
1st Jan 2013 to 31st Dec 2013
The Prestige Film Award
Eureka, United States
Runs from 1st Jan 2013 to 15th Mar 2013
Palm Springs International Film Festival
Palm Springs, United States
Runs from 3rd Jan 2013 to 14th Jan 2013
The New York Jewish Film Festival
New York, United States
Runs from 9th Jan 2013 to 24th Jan 2013
London International Animation Festival
London, United Kingdom
Runs from 10th Jan 2013 to 10th Jan 2013
On the Edge Family Film Festival
International Falls, United States
Runs from 17th Jan 2013 to 17th Jan 2013
Horror-on-Sea Film Festival
Essex, United Kingdom
Runs from 18th Jan 2013 to 20th Jan 2013
Slamdance Film Festival
Los Angeles, United States
Runs from 18th Jan 2013 to 24th Jan 2013
Festival Premiers Plans
Angers, France
Runs from 18th Jan 2013 to 27th Jan 2013
Eulenspiegeleien - Berlin Short Film Festival of Comedy and Satire
Ahrensfelde, Germany
Runs from 18th Jan 2013 to 20th Jan 2013
Animal Film Festival of New England
Andover, MA, United States
Runs from 19th Jan 2013 to 19th Jan 2013
Short Soup International Short Film Festival
WESTERN SYDNEY, Australia
Runs from 20th Jan 2013 to 20th Jan 2013
International Festival of Audiovisual Programs
Paris, France
Runs from 22nd Jan 2013 to 27th Jan 2013
DocPoint - Helsinki Documentary Film Festival
Helsinki, Finland
Runs from 22nd Jan 2013 to 27th Jan 2013
International Film Festival Rotterdam
Rotterdam, Netherlands
Runs from 23rd Jan 2013 to 3rd Feb 2013
Clarksdale Film Festival
Clarksdale, United States
Runs from 24th Jan 2013 to 27th Jan 2013
transmediale
Berlin, Germany
Runs from 29th Jan 2013 to 3rd Feb 2013
Fajr International Film Festival
Tehran, Iran
Runs from 31st Jan 2013 to 10th Feb 2013

الأحد، 30 ديسمبر 2012

كلمات راقصة (مع التحية والتقدير للراحل العظيم جلال عامر)




·             كان جلال عامر أحد أصحاب الأقلام القليلة بل النادرة التي تملك – ليس فقط ناصية الكتابة والتعبير بلغة رفيعة وبسيطة في آن- بل من أفضل مواهب الكتابة الساخرة في الصحافة المصرية. وكان مقاله القصير اليومي في أكثر من صحيفة مصرية مستقلة، قيمة كبرى، فقد كان يتابع بالتعليق الساخر يوما بعد يوم، ما يمر من أحداث على البلاد، ويصوغ تعليقاته في سياق فني لا يمكن لغير جلال عامر أن ينسجه بحيث كان يقيس كلماته كلمة كلمة، ويزنها لكي يأتي تعليقه مختصرا ولكنه نافذ، موجع لكنه مضحك، وكان بالتالي ينطبق على ما يولده المقال من ضحك: إنه ضحك لكنه كالبكاء!
كان جلال عامر مهموما بقضايا وطنه، وكان مثل كل الكتاب الموهوبين، يقف إلى جانب الناس ضد السلطة، ضد النظام القمعي، وكان يوقظ وينير ويدعو من خلال مقالاته اليومية، إلى الانتباه لما يحاك في الظلام من مؤامرات، ويسلط الأضواء على الكثير من السياسات القمعية بمنتهى الجرأة والشجاعة وفي أشد أزمنة القمع.
كان جلال عامر قيمة كبرى في حياة شعبه، وقيمة استثنائية في الصحافة العربية.

·             بعض الكتابات الكثيرة التي تنشر (في السينما) أو (في النقد السينمائي) في الكثير من المطبوعات والمواقع الالكترونية، لا يمكنك أن تكمل أكثر من بضعة أسطر منها، قبل ان تصاب بالتلبك المعوي، والبعض الآخر لا يمكنك أبدا ان تتركه أو تقلب الصفحة وتنتقل إلى صفحة أخرى في المطبوعة، مهما كنت مشغولا، فالكتابة الساحرة والأسلوب الجذاب يشدك بل ربما أيضا تشعر بنوع من الحزن عندما تنتهي من قراءة المقال لأنه انتهى!
·             نقاد التلبك المعوي تعرفهم من أسلوبهم في الكتابة، وهو أسلوب يتعامل مع الفيلم كما يتعامل الميكانيكي مع السيارة أي أن الفيلم عندهم ليس كيانا فنيا شاملا حيا نابضا متكاملا بل مجموعة من الأجزاء الميتة التي تؤدي مجموعة من الوظائف المحددةـ فإذا لم يعجب الكاتب بوجود ممثل معين في الفيلم يصبح الفيلم كله منعدما، وإذا كان السيناريو لا يحقق جذب المشاهد من خلال (الحركة) منذ الدقائق الخمس الأولى، يصبح الفيلم منعدم القيمة، باردا، لا يتطور، حتى لو كشف الفيلم بعد قليل من الوقت، عن بناء فني شيق ومدخل مبتكر تماما لتناول الموضوع. وكم من الأفلام العظيمة قتلها الاستعجال: في المشاهدة والرؤية والأحكام والكتابة... ومغادرة دار السينما لأن "الكتابة أهم من المشاهدة"!
·             بطبيعة الحال لا يكتب الناقد سوى عما يشاهده بالكامل، بل وعما يثير اهتمامه فهو ليس مطالبا بالكتابة عن كل ما يشاهده من أفلام مهما كان مستواها أو كانت درجة اهتمامه (الشخصي) بها، فلابد أن يثير الفيلم اهتمام الناقد وإلا أصبحت الكتابة عن كل الأفلام نوعا من "الواجب" الذي يؤديه الصحفي بكسل شديد وينتهي من الفيلم في بضعة أسطر يقدم من خلالها حكما نهائيا مبتسرا لا يحلل ولا يكشف ولا يتوقف حتى أمام زاوية محددة جيدة من الممكن أن تكون قد شدت انتباه الكاتب.
·             كان الصحفي الراحل ابراهيم الورداني يصف كتابات طه حسين بأنها أقرب إلى ثقافة الجن والعفاريت وإنه لا يفهمها، وإنه سيتوقف عن الكتابة إذا كانت هذه هي الثقافة!
·             طبعا كلنا نعرف من هو طه حسين لكني أشك أن أحدا من الأجيال الثلاثة الأخيرة يعلم شيئا عن ابراهيم الورداني.
·             وهذه النظرة هي تحديدا ما يتطلع من خلالها الكثيرون حاليا إلى بعض الأفلام التي يرونها (فوق المستوى) أو (خارج ذوق الجمهور أي تتعالى عليه) أو (فيها أكثر من اللازم من الثقافة) أو (تحتاج إلى دليل تفسيري)... وكل هذه التعبيرات مقصود منها شيء واحد فقط هو (رفض الفيلم) لأنه بعيد عن السائد أي أنه من ضمن ما اعتبره الورداني "ثقافة جن وعفاريت"!
·             أن يكون الفيلم منتجا فنيا له علاقة بالثقافة، بالجمال، بالفلسفة، بالتعبير الفني والفكري، بالعلاقة بين المبدع السينمائي والعالم، هذا الأمر مرفوض، ليس فقط من جانب الكثير من الذين يصنعون الأفلام في العالم العربي، الذين دائما ما يدافعون عن أفلامهم الرديئة التي يسلقونها ويتعاملون معها باعتبارها سلعة استهلاكية سريعة (تؤدي غالبا إلى عسر الهضم أيضا!)، بل إن الكثيرين ممن يكتبون عن الأفلام أيضا يعتبرون أن كل الأفلام التي لها علاقة بالتعبير الجمالي والفكري عن العالم هي أفلام "تدمر السينما" وتنفر الجمهور وتبعده عن دور العرض بل وتقتل السينما نفسها. وقد عرفنا ذلك الناقد (من جيل السبعينيات) الذي تخصص خلال العشرين عاما الأخيرة في إهالة التراب على كل ما نعرفه في تاريخ سينمانا من أفلام جيدة منحازا لسينما التسلية (العربية والأمريكية) باعتبار أن هذه هي السينما، وماعداها محض أوهام!

السبت، 22 ديسمبر 2012

'الشيخ امام في عصر الثورة والغضب': عندما كانت مصر تحبل طويلاً بالثورة!


بقلم: محمود عبد الشكور


عن جريدة "القدس العربي"- عدد 22 ديسبر 2012



 
أشعر بدين عميق كلما قرأت كتاباً يعيد شحن بطاريات العقل والوجدان، أفكر فوراً في أن أكتب بحماس يوازي قوة تلك الشحنة، وأتمنى ان يقرأ الآخرون ما قرأت، وأن يستمتعوا كما استمتعت، ويزيد ثقل الإحساس بهذا الدين، إذا كان قد فاتتني قراءة الكتاب في وقته، يحتاج الأمر هنا الى استدراك مضاعف، وتحية مزدوجة.
وقد فاتني الكثير بالفعل لأنني لم اقرأ كتاب الناقد أمير العمري وعنوانه 'الشيخ إمام في عصر السينما والغضب' حين صدوره في عام 2010، كان اهتمامي وقتها منحصراً في متابعة كتبه وقراءاته النقدية السينمائية الرصينة، كما كتبت وناقشت في ندوات، كتُبه الأخرى التي تنقل ملامح عصر السينما، والتي تنظر الى الحياة من منظور عين السينما، بل إنها تجعل الحياة في قلب السينما الجميلة.
الآن ، وبعد أن فرغت، وفي جلسة واحدة، من قراءة كتاب 'الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب'، أجدني مضطراً الى الإعتراف بأنه من المستحيل أن تفهم الأفكار الفنية والجمالية التي ينطلق منها أمير العمري في رؤيته للسينما أو العالم إلا بالعودة الى هذا الكتاب الحميم الذي تحضر فيه الذات لتستدعي العصر بأكمله، عصر الثورة والغضب الذي صنع ظاهرة نجم وإمام وتأثر بها.
لا أجد الكتاب منقطع الصلة بالسينما والفن عموماً، ليس فقط لأنه يعيد قراءة وتحليل بعضاً من روائع الشيخ إمام التي كانت تغني في ميدان التحرير في أيام ثورة يناير، ولكن لأنه يرسم ملامح زمن يمكن أن يصنع فيلماً سينمائياً كبيراً بشخوصة وبأفكاره وبتحولاته، يكفي أن نجم وإمام لم يظهرا روائياً إلا بصورة سطحية وساذجة في فيلم 'الفاجومي' الذي أخرجه عصام الشماع، ويكفي أن الفيلم الوثائقي المصري الذي يتم إعداده منذ عام ونصف عن الشيخ إمام مازال متعثراً حتى الآن، ويكفي أن أحداً لا يعرف مصير المادة الفليمية (على شرائط 35 مللي) عن إمام ونجم، التي يذكر الكتاب أنها بحوزة المخرجة اللبناينة هايني سرور.
على أن قوة الكتاب الأساسية، وهي أيضاً مصدر تأثيره، في صدقه الشديد، وكأن مؤلفه كتبه ليسترجع بعضاَ من نفسه، من حياته الجامعية، ومن الشخوص الذين عرفهم، وكأنه يجتر لذة أول مرة سمع فيها في مدرجات الجامعة إمام ونجم، ويربطها بأول مرة شاهدهما في التليفزيون وهما يغنيان أمام الناقد الراحل رجاء النقاش أغنيتهما الشهيرة 'جيفارا مات'، يومها قطعوا عنهم البث، وأذاعوا برنامجاً آخر، وكأن مؤلف الكتاب قرر أن يرسم زمناً بحجم الأحلام دون أن يفلت تفصيلة واحدة، وكأنه لايرى فارقاً بين إمام وعصره، جاء المغني الضرير ابن قرية 'ابو النمرس'، ليلتقي مع الشاعر الفاجومي ابن الشرقية، ليكونا على موعد مع الجيل الخارج من أنقاض الهزيمة، ليتقابل الجميع في زمن الحرب والإنتقال من عصر الإشتراكية الى عصر الإنفتاح.
يمتلك الكتاب طاقة عاطفية لا شك فيها، نوستالجيا شفيفة وآسرة، ولذلك لا يمكن أن تنزعج لاستطرادات تسربت من الذاكرة بفعل التداعي، فأكسبت السرد طزاجة وحيوية، ونقلت ألوان المكان ورائحته، ولكن الكتاب أيضاً به الكثير من التحليلات اللافتة والقراءات الذكية عن الشيخ إمام وعصره، لفت نظر العمري مثلا أن جمهور الشيخ إمام لم يكن إلا من الطبقة البرجوازية التي طالما سخر منها، جمهور مثقف محفلط تسخر منه أغنية مثل 'يعيش أهل بلدي'، جمهور قاهري بعيد عن جمهور إمام المفترض من البسطاء والعمال والفلاحين، بل إن الثنائي الشهير سرعان ما أقام الحفلات في لندن وباريس وسوريا ولبنان والجزائر.
أعجبني جداً تفسير هذا الإحتضان البرجوازي لظاهرة مضادة للبرجوازية باعتبار ذلك محاولة من مدمني الحلم بالثورة للتعبير عما يجيش في الصدور من إحساس بالذنب بعد كل ما وقع من نكسات، وكان في هذا النوع من الغناء تعذيب للذات أيضا على نحو ما، هذا تحليل وتفسير طريف ومختلف ويستحق النقاش، كما أن تفسير العمري لتعامل نظام مبارك مع ظاهرة نجم وإمام لا يخلو أيضا من وجاهة، فقد ارتأى النظام نفي الظاهرة الى الخارج، وتحجيمها باعتبارها مرتبطة أساسا بعصري عبد الناصر وانور السادات، والى حد كبير تحقق ذلك وخصوصاً بعد الخلاف بين القطبين إمام ونجم.
تندهش أيضاً لأن التحليل العقلي الإنتقادي الذي يتسلل عبر شحنة عاطفية تعبر عن إعجاب كبير بالشيخ إمام، انتهى الى ما يشبه النبوءة التي تحققت بالفعل بعد صدور الكتاب، يقول العمري بالنص :' يجب أن نأمل في أن أغاني الشيخ إمام ستعود بقوة لكي تحرك الجموع مستقبلاً، ولكن في إطار حركة وطنية ديمقراطية حقيقة تفرز قياداتها، وتطرح برنامجاً شاملاً للتغيير في مصر'، وهذا ما حدث فعلاً في ميدان التحرير، وكل ميادين الثورة في مصر في بداية عام 2011، إذ تصدرت الساحة أغنيات مثل 'يا مصر قومي وشدي الجيل'، و'صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر'، و'رجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تاني'، وكلها من روائع الشيخ إمام الغنائية.
ولكن الكتاب يضيف الى الشحنة العاطفية والتحليل النقدي حديثاُ تفصيلياً عن مجموعة من أهم أغنيات الشيخ إمام مع نجم أو مع غيره من الشعراء الكبار مثل نجيب سرور وزين العابدين فؤاد وفؤاد قاعود، بل ويحكي أمير العمري عن ليلة مولد لحن أغنية 'البحر بيضحك ليه' التي كان شاهداً عليها في منزل الكاتب عبده جبير في حي السيدة زينب، وبحضور 'سرور' وشخصيات أخرى معروفة مثل الصحفي أسامة الغزولي و الناقد الراحل عبد الرحمن أبو عوف، وكان نجيب سرور يطلب من الشيخ إمام أن يقوم بـ 'تدليع' الأغنية أكثر واكثر، خاصة في المقطع الذي يقول: بيني وبينك سور ورا سور/ وانا لامارد ولا عصفور / في إيدي عود قوّال وجسور / وصبحت أنا في العشق مثل.
يكشف الكتاب عن نسخة أخرى لا نعرفها بلحن آخر لأغنية 'فاليري جيسكار ديستان' قدمها إمام في حضور طلبة الجامعة، وكانت تبدأ بأبيات تقول :'شوف عندك يا تعبان/ واتفرج ع الجورنان/ فارد شنبات على تحت / ومداري مكان الكحت / ع القورة ولو فتّحت / حتشوفهم بالألوان '. ويناقش المؤلف فكرة محاولة احتواء نظام عبد الناصر لظاهرة إمام ونجم، كما يفرّق بين تلقائية الشيخ إمام الشعبية، وبين ما يبدو من تلقائية نجم التي تقف خلفها ثقافة وقراءة واسعة بالذات في الأدب والشعر، وفي الكتاب أيضاً ما يعطي حق أغنيات قدمها الشيخ إمام ولكنها أقل شهرة، مع أنها ليست اقل جمالاً مثل أغنية 'العزيق' و'الكمسري'، وهما من إبداع الشاعر الكبير فؤاد قاعود الذي رحل عن عالمنا عام 2006، أعجبني أيضاً بشكل خاص ذلك التحليل الذي يتتبع مسار تجربة إمام داخل وخارج مصر، وينتهي إلى محاولات المتأسلمين سرقة التجربة وتطويعها لشعاراتهم كما سرقوا شعارت اليساريين، واستخدموها تحت لافتات جديدة.
ربما يرجع تأثير الكتاب كذلك في نجاحه أن ينقل صورة لعصر وظاهرة نشأت في زمن مليء بالصراعات والتناقضات، عصر المخبرين حتى من بين طلاب الجامعة، زمن تليفزيون الأبيض والأسود وأجهزة التسجيل الضخمة العتيقة، أيام ثورة الطلبة والقصائد الجريئة ذات الألفاظ المكشوفة بما فيها قصيدة نجيب سرور ذائعة الصيت التي ألقاها بنفسه على الطلبة في قلب الجامعة، ثم إنك تتحدث عن موهبيتين بحجم إمام ونجم يمتلكان قدرة رائعة على السخرية والهجاء، يخرجان من السجن ليدخلاه من جديد، يظهران في التليفزيون ثم يختفيان الى الأبد، يصنعان أغنيات عن العمال والفلاحين ولا يسمعهما إلا المثقفون والطلاب، لم يتح لهما النظام أبداً أن يصلا الى الريف فظلا محبوسين داخل شرائط كاسيت وأوراق مكتوبة يتم نسخها وتهريبها، دراما كاملة عن عصر الثورة والغضب.
هذا كتاب تحضر فيه ذات مؤلّفه بكل ذكرياتها وأحلامها لتستحضر عصراً وظاهرة فنية استثنائية، تنمحى الفواصل بين الخاص والعام، الأحلام الكبيرة والتفصيلات الصغيرة، شهادة هامة على مرحلة لم تعشها أجيال كثيرة اقتنصها أمير العمري مثلما اقتنص ذكرياته عن عصر السينما ونواديها في السبعينات، فترة كانت يمكن أن تقودك الى سماع موسيقى كلاسيكية في قصر ثقافة دمياط، مثلما قد تقودك الى السجن مشفوعاً بوشاية زميلك الجامعي الذي كنت تظنه ثورياً ومناضلاً.
مازلت أرى أن في جعبة أمير العمري ما يستحق التسجيل عن تلك السنوات، حقبة السبعينات المليئة بالكثير من الأسئلة المعلّقة، أيام القلق والخوف والحرب والحب والحلم، الشيخ إمام وعبد الحليم حافظ وهيكل ونجم، الميني جيب والذقون والجنازير والسلاسل، حرب اكتوبر وزيارة القدس، عودة الوعي ونجيب سرور، التكفير والهجرة والتفكير في الهجرة.
أحسب أن في عنق هذا الجيل الذي عاش تلك الأيام الصاخبة بوعي وبحماس ديناً كبيراً يشبه ذلك الدين الذي أشعر به تجاه كل كتاب جميل وعميق ومؤثر.
لا نطلب منهم سوى أن يحكوا عن أنفسهم مثلما يحكون عن عصرهم كما فعل أمير العمري في كتابه/ الشهادة عن العبقري الراحل الشيخ إمام.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger