السبت، 22 ديسمبر 2012

'الشيخ امام في عصر الثورة والغضب': عندما كانت مصر تحبل طويلاً بالثورة!


بقلم: محمود عبد الشكور


عن جريدة "القدس العربي"- عدد 22 ديسبر 2012



 
أشعر بدين عميق كلما قرأت كتاباً يعيد شحن بطاريات العقل والوجدان، أفكر فوراً في أن أكتب بحماس يوازي قوة تلك الشحنة، وأتمنى ان يقرأ الآخرون ما قرأت، وأن يستمتعوا كما استمتعت، ويزيد ثقل الإحساس بهذا الدين، إذا كان قد فاتتني قراءة الكتاب في وقته، يحتاج الأمر هنا الى استدراك مضاعف، وتحية مزدوجة.
وقد فاتني الكثير بالفعل لأنني لم اقرأ كتاب الناقد أمير العمري وعنوانه 'الشيخ إمام في عصر السينما والغضب' حين صدوره في عام 2010، كان اهتمامي وقتها منحصراً في متابعة كتبه وقراءاته النقدية السينمائية الرصينة، كما كتبت وناقشت في ندوات، كتُبه الأخرى التي تنقل ملامح عصر السينما، والتي تنظر الى الحياة من منظور عين السينما، بل إنها تجعل الحياة في قلب السينما الجميلة.
الآن ، وبعد أن فرغت، وفي جلسة واحدة، من قراءة كتاب 'الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب'، أجدني مضطراً الى الإعتراف بأنه من المستحيل أن تفهم الأفكار الفنية والجمالية التي ينطلق منها أمير العمري في رؤيته للسينما أو العالم إلا بالعودة الى هذا الكتاب الحميم الذي تحضر فيه الذات لتستدعي العصر بأكمله، عصر الثورة والغضب الذي صنع ظاهرة نجم وإمام وتأثر بها.
لا أجد الكتاب منقطع الصلة بالسينما والفن عموماً، ليس فقط لأنه يعيد قراءة وتحليل بعضاً من روائع الشيخ إمام التي كانت تغني في ميدان التحرير في أيام ثورة يناير، ولكن لأنه يرسم ملامح زمن يمكن أن يصنع فيلماً سينمائياً كبيراً بشخوصة وبأفكاره وبتحولاته، يكفي أن نجم وإمام لم يظهرا روائياً إلا بصورة سطحية وساذجة في فيلم 'الفاجومي' الذي أخرجه عصام الشماع، ويكفي أن الفيلم الوثائقي المصري الذي يتم إعداده منذ عام ونصف عن الشيخ إمام مازال متعثراً حتى الآن، ويكفي أن أحداً لا يعرف مصير المادة الفليمية (على شرائط 35 مللي) عن إمام ونجم، التي يذكر الكتاب أنها بحوزة المخرجة اللبناينة هايني سرور.
على أن قوة الكتاب الأساسية، وهي أيضاً مصدر تأثيره، في صدقه الشديد، وكأن مؤلفه كتبه ليسترجع بعضاَ من نفسه، من حياته الجامعية، ومن الشخوص الذين عرفهم، وكأنه يجتر لذة أول مرة سمع فيها في مدرجات الجامعة إمام ونجم، ويربطها بأول مرة شاهدهما في التليفزيون وهما يغنيان أمام الناقد الراحل رجاء النقاش أغنيتهما الشهيرة 'جيفارا مات'، يومها قطعوا عنهم البث، وأذاعوا برنامجاً آخر، وكأن مؤلف الكتاب قرر أن يرسم زمناً بحجم الأحلام دون أن يفلت تفصيلة واحدة، وكأنه لايرى فارقاً بين إمام وعصره، جاء المغني الضرير ابن قرية 'ابو النمرس'، ليلتقي مع الشاعر الفاجومي ابن الشرقية، ليكونا على موعد مع الجيل الخارج من أنقاض الهزيمة، ليتقابل الجميع في زمن الحرب والإنتقال من عصر الإشتراكية الى عصر الإنفتاح.
يمتلك الكتاب طاقة عاطفية لا شك فيها، نوستالجيا شفيفة وآسرة، ولذلك لا يمكن أن تنزعج لاستطرادات تسربت من الذاكرة بفعل التداعي، فأكسبت السرد طزاجة وحيوية، ونقلت ألوان المكان ورائحته، ولكن الكتاب أيضاً به الكثير من التحليلات اللافتة والقراءات الذكية عن الشيخ إمام وعصره، لفت نظر العمري مثلا أن جمهور الشيخ إمام لم يكن إلا من الطبقة البرجوازية التي طالما سخر منها، جمهور مثقف محفلط تسخر منه أغنية مثل 'يعيش أهل بلدي'، جمهور قاهري بعيد عن جمهور إمام المفترض من البسطاء والعمال والفلاحين، بل إن الثنائي الشهير سرعان ما أقام الحفلات في لندن وباريس وسوريا ولبنان والجزائر.
أعجبني جداً تفسير هذا الإحتضان البرجوازي لظاهرة مضادة للبرجوازية باعتبار ذلك محاولة من مدمني الحلم بالثورة للتعبير عما يجيش في الصدور من إحساس بالذنب بعد كل ما وقع من نكسات، وكان في هذا النوع من الغناء تعذيب للذات أيضا على نحو ما، هذا تحليل وتفسير طريف ومختلف ويستحق النقاش، كما أن تفسير العمري لتعامل نظام مبارك مع ظاهرة نجم وإمام لا يخلو أيضا من وجاهة، فقد ارتأى النظام نفي الظاهرة الى الخارج، وتحجيمها باعتبارها مرتبطة أساسا بعصري عبد الناصر وانور السادات، والى حد كبير تحقق ذلك وخصوصاً بعد الخلاف بين القطبين إمام ونجم.
تندهش أيضاً لأن التحليل العقلي الإنتقادي الذي يتسلل عبر شحنة عاطفية تعبر عن إعجاب كبير بالشيخ إمام، انتهى الى ما يشبه النبوءة التي تحققت بالفعل بعد صدور الكتاب، يقول العمري بالنص :' يجب أن نأمل في أن أغاني الشيخ إمام ستعود بقوة لكي تحرك الجموع مستقبلاً، ولكن في إطار حركة وطنية ديمقراطية حقيقة تفرز قياداتها، وتطرح برنامجاً شاملاً للتغيير في مصر'، وهذا ما حدث فعلاً في ميدان التحرير، وكل ميادين الثورة في مصر في بداية عام 2011، إذ تصدرت الساحة أغنيات مثل 'يا مصر قومي وشدي الجيل'، و'صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر'، و'رجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تاني'، وكلها من روائع الشيخ إمام الغنائية.
ولكن الكتاب يضيف الى الشحنة العاطفية والتحليل النقدي حديثاُ تفصيلياً عن مجموعة من أهم أغنيات الشيخ إمام مع نجم أو مع غيره من الشعراء الكبار مثل نجيب سرور وزين العابدين فؤاد وفؤاد قاعود، بل ويحكي أمير العمري عن ليلة مولد لحن أغنية 'البحر بيضحك ليه' التي كان شاهداً عليها في منزل الكاتب عبده جبير في حي السيدة زينب، وبحضور 'سرور' وشخصيات أخرى معروفة مثل الصحفي أسامة الغزولي و الناقد الراحل عبد الرحمن أبو عوف، وكان نجيب سرور يطلب من الشيخ إمام أن يقوم بـ 'تدليع' الأغنية أكثر واكثر، خاصة في المقطع الذي يقول: بيني وبينك سور ورا سور/ وانا لامارد ولا عصفور / في إيدي عود قوّال وجسور / وصبحت أنا في العشق مثل.
يكشف الكتاب عن نسخة أخرى لا نعرفها بلحن آخر لأغنية 'فاليري جيسكار ديستان' قدمها إمام في حضور طلبة الجامعة، وكانت تبدأ بأبيات تقول :'شوف عندك يا تعبان/ واتفرج ع الجورنان/ فارد شنبات على تحت / ومداري مكان الكحت / ع القورة ولو فتّحت / حتشوفهم بالألوان '. ويناقش المؤلف فكرة محاولة احتواء نظام عبد الناصر لظاهرة إمام ونجم، كما يفرّق بين تلقائية الشيخ إمام الشعبية، وبين ما يبدو من تلقائية نجم التي تقف خلفها ثقافة وقراءة واسعة بالذات في الأدب والشعر، وفي الكتاب أيضاً ما يعطي حق أغنيات قدمها الشيخ إمام ولكنها أقل شهرة، مع أنها ليست اقل جمالاً مثل أغنية 'العزيق' و'الكمسري'، وهما من إبداع الشاعر الكبير فؤاد قاعود الذي رحل عن عالمنا عام 2006، أعجبني أيضاً بشكل خاص ذلك التحليل الذي يتتبع مسار تجربة إمام داخل وخارج مصر، وينتهي إلى محاولات المتأسلمين سرقة التجربة وتطويعها لشعاراتهم كما سرقوا شعارت اليساريين، واستخدموها تحت لافتات جديدة.
ربما يرجع تأثير الكتاب كذلك في نجاحه أن ينقل صورة لعصر وظاهرة نشأت في زمن مليء بالصراعات والتناقضات، عصر المخبرين حتى من بين طلاب الجامعة، زمن تليفزيون الأبيض والأسود وأجهزة التسجيل الضخمة العتيقة، أيام ثورة الطلبة والقصائد الجريئة ذات الألفاظ المكشوفة بما فيها قصيدة نجيب سرور ذائعة الصيت التي ألقاها بنفسه على الطلبة في قلب الجامعة، ثم إنك تتحدث عن موهبيتين بحجم إمام ونجم يمتلكان قدرة رائعة على السخرية والهجاء، يخرجان من السجن ليدخلاه من جديد، يظهران في التليفزيون ثم يختفيان الى الأبد، يصنعان أغنيات عن العمال والفلاحين ولا يسمعهما إلا المثقفون والطلاب، لم يتح لهما النظام أبداً أن يصلا الى الريف فظلا محبوسين داخل شرائط كاسيت وأوراق مكتوبة يتم نسخها وتهريبها، دراما كاملة عن عصر الثورة والغضب.
هذا كتاب تحضر فيه ذات مؤلّفه بكل ذكرياتها وأحلامها لتستحضر عصراً وظاهرة فنية استثنائية، تنمحى الفواصل بين الخاص والعام، الأحلام الكبيرة والتفصيلات الصغيرة، شهادة هامة على مرحلة لم تعشها أجيال كثيرة اقتنصها أمير العمري مثلما اقتنص ذكرياته عن عصر السينما ونواديها في السبعينات، فترة كانت يمكن أن تقودك الى سماع موسيقى كلاسيكية في قصر ثقافة دمياط، مثلما قد تقودك الى السجن مشفوعاً بوشاية زميلك الجامعي الذي كنت تظنه ثورياً ومناضلاً.
مازلت أرى أن في جعبة أمير العمري ما يستحق التسجيل عن تلك السنوات، حقبة السبعينات المليئة بالكثير من الأسئلة المعلّقة، أيام القلق والخوف والحرب والحب والحلم، الشيخ إمام وعبد الحليم حافظ وهيكل ونجم، الميني جيب والذقون والجنازير والسلاسل، حرب اكتوبر وزيارة القدس، عودة الوعي ونجيب سرور، التكفير والهجرة والتفكير في الهجرة.
أحسب أن في عنق هذا الجيل الذي عاش تلك الأيام الصاخبة بوعي وبحماس ديناً كبيراً يشبه ذلك الدين الذي أشعر به تجاه كل كتاب جميل وعميق ومؤثر.
لا نطلب منهم سوى أن يحكوا عن أنفسهم مثلما يحكون عن عصرهم كما فعل أمير العمري في كتابه/ الشهادة عن العبقري الراحل الشيخ إمام.

الخميس، 20 ديسمبر 2012

السينما المهددة بالإلغاء!






ونحن على أعتاب العام الجديد 2013، نودع عاما مليئا بالتقلبات والصراعات ونستقبل عاما جديدا نتمنى أن يكون عاما للاستقرار وبداية البناء.
مهرجانات السينما العربية منها ما يواجه الفناء بسبب سياسات جديدة تغبر حياتنا وتهجم عليها تسعى إلى تدمير ثقافة راسخة ممتدة لأكثر من 200 عام، لكي تحل محلها بثقافة صحراوية وافدة من بلدان البداوة والفكر العتيق بلسسم الدين والدين منها براء.
المهرجانات ليست فقط هي المهددة بالموت (مثل مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان الاسماعيلية ومهرجان الاسكندرية وغيرها من مهرجانات ربما يعلن الوزير الجاثم حاليا على صدر الثقافة المصرية الغاءها) بل إن ثقافة الحرية والنور والتنوير والتواصل المنفتح مع العالم، مهددة ايضا بالحظر والمنع والهرب من تلك المنطقة من العالم إلى حيث الأجواء أكثر رحابة وترحيبا واستعدادا لتقبل الفكر الحر الذي لا يعرف المنع والمراقبة والحظر والتشهير.
إن السينما رافد واحد من روافد ثقافية عديدة، ولكنه رافد أساسي ومهم شهد خلال السنوات الأخيرة طفرة كبيرة في حجم الانتاج الحر المستقل الذي يصنعه الشباب في العالم العبي شرقا وغربا، لكن هذه الطفرة تواجه اليوم هجمة شرسة باسم الدين تروج لأفكار فاشية مثل "الفن في خدمة الأخلاق" والسينما في خدمة العقيدة، وما إلى ذلك.
لهذا كله سيصبح موقف النقد السينمائي أكثر صعوبة فالمطلوب منه اليوم لم يعد فقط التنويه بالأعمال المتميزة فنيا وفكريا، بل والتوقف أمام تلك الظواهر السياسية والاجتماعية الخطيرة التي تحاول أن تصيب فكرة التعبير الفني نفسها في مقتل، وادخول معها في جدل جاد وحقيقي حتى يهرف الجميع الحقيقة بعد ان تراجع المثقف الديمقراطي الوطني لعقود عن مواجهة أنصار ذلك التيار الظلامي بدعوى الابتعاد عن استفزاز الجماهير، والخوف من الاتهام بالكفر والمروق!
هناك أسئلة كثيرة بواجهها العاملون في حقل الفكر والثقافة والسينما منها: هل نحن في حاجة اليوم إلى وزارة ثقافة في ظل هذه الهجمة الشرسة على الثقافة واهامها بالترويج للعلمانية والليبرالية واليسارية أي تصويرها على أنها أي الثقافة الحديثة عموما، معادية لما يطلقون عليه "المشروع الإسلامي" دون أن نعرف له أي ملامح.. بل وحتى ما يدعونه الشريعة الإسلامية لا يتفق إثنان على معناها وتفاصيلها وطريقة تنفيذها.. بل ولا ندري ما الذي يمنعهم من تطبيقها أصلا؟
وهنا أيضا سؤال الكتابة.. فنحن مرة أخرى، نجد أنفسنا مدفوعين لأن نسأل أنفسنا: لمن نكتب ولماذا وكيف؟ هل نكتب للقاريء المفترض الذي يعرفنا من البداية، أم لقاريء جديد؟ هل القاريء الجديد هذا على استعداد لتواصل مع الكاتب، وهل الكاتب يكتب من أجل قضية الفن الجميل والفن الراقي والفن التقدمي، على هذا النحو من التعبيرات العامة التي قد يختلف حولها الجميع، أم أنه يكتب مواكبا الظرف السياسي والاجتماعي السائد لأنه ليس من الممكن أن ينفصل عنه؟
كيف سيواجه الكانب والناقد ذلك النوع من "الرقابة الجديدة" التي ظهرت بالفعل مع انتشار تيارات الفكر الظلامي التي أصبح أصحابها اليوم يحملون السلاح ويجوبون شوارع المدن مهددين ملوحين بقتل كل من يختلف معهم وتلقين كل من لا ينشد نفس النشيد (الفاشي الواحد) درسا لا ينساه.. وهو درس نعرفه ويعرفه كل المفكرين والمبدعين في العالم.. درس من التاريخ.. تاريخ الهجوم على الفكر بدعوى المصلحة العامة، وتكفير الآخر استنادا إلى نصوص مشكوك في صحتها وفتاوى تصدر، وكانت دائما تصدر لأغراض سياسية.
علينا أن نواجه بشجاعة في نهاية الأمر، كل هذه الأسئلة وكل ما يستجد منها يوميا على الساحة. وإن لم نفعل فسيحاسبنا التاريخ.

الأحد، 16 ديسمبر 2012

مهرجانات السينما العربية ومنع الأفلام لاسباب سياسية!


  
لم أعرف أن مهرجانا سينمائيا عالميا أي غير عربي أي لا يدار بواسطة العرب، كان يدعو أفلاما من دول يرى انها لا تحترم مثلا، حقوق الإنسان أو تضطهد شعوبها، ثم يقوم بمنع عرض هذه الأفلام بعد أن ينتبه أو يقوم البعض بتنبيهه إلى أن البلد الذي ينتمي إليه الفيلم أو مجموعة الأفلام المقصودة المستهدفة، هو بلد "مارق" أو لا يحترم حقوق الإنشان، أو تقتل السلطة فيه الشعب!
كانت مهرجانات السينما في العالم منذ الثمانينيات أي بعد انتصار واستقرار ما يسمى بـ"الثورة الإسلامية" في إيران وإقامة نظام الملالي العنصري الذي لايزال يحكم قبضته على السلطة في بلاد فارس العريقة، كانت تعرض أفلاما من إيران، أي قادمة من الداخل، ومن دون أن ينبري أحد بالقول إن هذا الفيلم أو ذاك يمكن أن يكون تجميلا لنظام عنصري يضطهد شعبه ويقمع الحريات.
لم نر سينمائيا من إيران يقيم في الغرب ويدافع عن حقوق الشعب اإيراني ويعارض نظام الملالي الغاشم، يطالب مهرجانات السينما العالمية مثل كان وروتردام وبرلين، بمنع عرض الأفلام الإيرانية القادمة الإيران بدعوى أنها من الممكن أن تكون "ممثلة للنظام".
أسوق هذا المثال فقط بعد أن تحول منع عرض أفلام من سورية في مهرجانات تقام في العالم العربي مثل القاهرة ودبي وغيرهما، ظاهرة من الظواهر السيياسية التي برزت مؤخرا.
والمصيبة أن مثل هذه المهرجانات لا تمتنع من البداية عن عرض أفلام قادمة من سورية، بل إنها تقبل هذه الأفلام وترحب بها وتدعوها ومخرجيها إلى المشاركة،  وعلى رأس هذه الأفلام كما يعلم الجميع، الفيلم الجديد للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد الذي يحسبه كثيرون على النظام السوري ربما لرفضه توجيه إدانة سياسية مباشرة لنظام بشار الأسد. ولكنها تعود بناء على إعتراض بعض صناع الأفلام من المعارضين السوريين للنظام، بمنع عرض هذه الأفلام وهو ما حدث مع فيلم عبد اللطيف عبد الحميد وغيره، ويصل الأمر أيضا إلى حد تهديد السينمائيين المعارضين بسب أفلامهم من المهرجان إذا تم قول وعرض الفيلم المغضوب عليه أو بالأحرى، على صاحبه!
إن الفيلم هو الفيلم، وهو يتحدث عن نفسه، ولا يجب محاكمة الأفلام أبدا طبقا لمواقف أصحابها السياسية، بل يتعين أن يكون الحكم عليها خاضع فقط لمستواها الفكري والفني، وهو تقييم تتوصل إليه عادة لجان الاختيار من وقت مبكر قبل إقامة المهرجان.
أما أن يكتشف المهرجان بعد الإعلان عن برنامجه أن فيلما ما قد قبل على سبيل الخطأ، أو يستجيب لبعض الاعتراضات من جانب البعض فهي ظاهرة تكرس في الحقيقة لنوع من العقاب السياسي المرفوض لفنان لا يبقى له في نهاية الأمر سوى وسيلته في التعبير الفني أي الفيلم، وهو الشيء الوحيد الذي يجب محاسبة السينمائي عنه في هذه الحالة تحديدا.
وأعود لكي أؤكد عل أن الفنان موقف، وأن الموقف السياسي للفنان لا ينفصل عن مجمل تجربته الإبداعية ولكن ها الموقف وتلك الرؤية الإبداعية يجب أن تكون واضحة من البداية أمام الخبراء الذين يختارون الأفلام، وعندما يتم الاختيار لا يعود من الممكن التراجع بدعوى أن هناك من يهدد بسحب فيلمه إذا حضر فيلم يعارض صاحبه فهذا نوع من الابتزاز السياسي المرفوض.
وكان يتعين على المهرجان أن يرفض الخضوع لمثل هذا الابتزاز. ولكنها إحدى ظواهر التخلف العربي السائدة هذه الأيام. فلم أعرف أن سينمائيا إيرانيا ثائرا اعترض أو رفض حضور مهرجان يعرض فيلما لسينمائي إيراني آخر من الموالين للنظام. وإذا كان هذا قد حدث إلا أننا لم نسمع أن مهرجانا كبيرا استجاب له وتوافق معه فالمواقف لا تخضع للابتزاز ولا ينبغي لها أن تخضع.
لم أشاهد فيلم "العاشق" لعبد اللطيف عبد الحميد ولا أعرف ما إذا كان جيدا أم رديئا، بل ولا أعرف بالضبط موقف صاحب الفيلم من الثورات العربية أو من الضطرابات السياسية التي تحدث في المنطقة وتلك الخرب اأهلية الدائرة في سورية بين طرفين (هي لم تعد ثورة شعبية بل حرب مسلحة من أجل السلطة تتدخل فيها قوى عديدة إقليمية ودولية). لكن ما يهمني هنا ألا نذبح سينمائيا بسبب خلافات القوى السياسية حول طبيعة ما يحدث في سورية، وكان من الضروري ألا يتم استدراج مهرجانات عربية كبيرة للوقوع في هذا المأزق. وهذا موقفنا بكل وضوح حتى لو أغضب البعض!

الأحد، 18 نوفمبر 2012

الطريق لوسط البلد" نموذج للفيلم التسجيلي العشوائي!



أمير العمري


من أهم خصائص الفيلم التسجيلي الجيد تركيزه على الموضوع الذي يريد مخرجه وصانعه أن يتناوله. من الممكن أن يلجأ مخرج الفيلم إلى استخدام الكثير من العناصر المرئية والصوتية، سواء الموجودة في الواقع أو تلك التي يمكن أن يخلقها خلقا لتأكيد رؤيته، شريطة أن يكون ملما بكل دقائق هذه العناصر التي يستخدمها، وأن يكون أيضا مسيطرا على دقائقها وتفاصيلها بحيث لا يطغي عنصر على عنصر آخر.
من الممكن له أن يستخدم الكثير من الشخصيات التي يتابعها في مسارها اليومي- الحياتي، أو يستمع إلى تجاربها الخاصة، أو يطلب منها إعادة تمثيل مواقف ما تدفع سياق الفيلم وتضيف إلى موضوعه وتؤكد على ما يريد المخرج توصيله للمشاهد أو ما يرغب في تحقيقه من "تأثير" حتى لو كان تأثيرا مجردا، جماليا.
لم يعد ممكنا أن نكتفي بالقول إن الفيلم التسجيلي الجيد هو الذي يكون مخلصا في تسجيله للواقع. فمهما بذل المخرج من جهد فهو لن يستطيع في النهاية، تقديم الواقع كما هو، بل ستظل هناك زاوية ما للرؤية، أو صورة محددة للواقع يريد المخرج نقلها إلينا كمشاهدين، وتفاصيل معينة في الصورة هي التي تحظى باهتمامه.
من حق السينمائي أن يختار البناء الذي يراه مناسبا، لكن يتعين عليه السيطرة على كل عناصر الفيلم لكي يدفعها في اتجاه الموضوع الذي يرويه الفيلم أو يناقشه. والفرق كبير بين الفوضى المنظمة والفوضى العشوائية.
هذا المدخل أراه ضروريا قبيل تناول الفيلم المصري التسجيلي "في الطريق لوسط البلد" للمخرج شريف البنداري. (الصحيح لغويا "في الطريق إلى وسط البلد"). أما إذا توقفنا أمام العنوان في علاقته بمادة الفيلم نفسه فسنرى أن موضوع الفيلم لا يتعلق فقط بالطريق الذي يسلكه الناس في طريقهم إلى وسط مدينة القاهرة، أو  إلى ذلك "المربع السحري" الذي يصفه بالتفصيل، الكاتب الأمريكي ماكس رودنبك في كتابه الممتع Cairo, The City Victorious بل أساسا، بوسط البلد نفسه، أجواؤه وأناسه وأرصفته ومبانيه.

الدوران حول الفكرة
لكن من حيث أراد المخرج تصوير منطقة وسط القاهرة بخصوصيتها المعروفة التي قام بتفصيلها علاء الأسواني في "عمارة يعقوبيان" مثلا، فإنه يجد نفسه مهتما أكثر بالكثير من الشخصيات والأشياء التي تعتبر خارج نطاق "وسط البلد"، وبالتالي فهو يفقد التركيز على الموضوع، ويقع في عشوائية السرد بعد أن لجأ إلى طريقة في المونتاج لا تبني مشهدا بعد آخر لكي يضيف شيئا إلى الفيلم من خلال كل مشهد، بل يعيد ويكرر، ويعود إلى ما سبق أن صوره، لا لكي يطوره أو يجعلنا ننتقل إلى الأمام، نحو اكتشاف مناطق جديدة في الموضوع، بل للدوران حول الفكرة دون الدخول في عمق الموضوع، وأصبح الفيلم بالتالي فاقدا للتوزان الفني المطلوب في أي عمل.
كيف حدث هذا؟ وما هو الدليل عليه؟
من المعروف في الفن السينمائي، أن الفيلم، سواء الروائي أو التسجيلي، الذي يحتوي على لقطات منفصلة جميلة في حد ذاتها، لا يكون بالضرورة فيلما جيدا، بل قد تصبح مثل هذه اللقطات "الجميلة" عبئا عليه، كما أن ليس كل ما يلتقطه المخرج- أو صانع الفيلم، من لقطات أثناء تصوير الفيلم، تصلح لأن يضمها إلى جسد الفيلم. فالفيلم له منطقه الداخلي الخاص. وكل مشاهده وشخصياته يجب أن تخضع لهذا المنطق، مهما بدا هناك من فوضى "ظاهرية". 
يبدأ فيلم شريف البنداري من "وسط البلد" بالفعل، وليس من الطريق إلى وسط البلد"، فمن اللقطات الأولى في الفيلم نرى ميادين وسط القاهرة الشهيرة، لافتات المحلات التجارية في شارع قصر النيل، زحام سيارات الأجرة، الباعة الذين افترشوا أرضية الأرصفة يعلنون عن بضاعتهم، والمشاجرات بينهم على احتلال الأرصفة.. إلخ
هناك فتاة تقود سيارة تحاول الوصول إلى صديقة لها تقطن في شارع عدلي لكنها تعجز عن تحقيق هدفها، نراها من حين إلى آخر، وهي في الطريق، لا تستطيع أن تترك سيارتها في مكان أمين، تمر – كما تقول لصديقتها عبر الهاتف- مرات عديدة من أمام العمارة السكنية المقصودة لكنها لا تجد مكانا تقف فيه بالسيارة. وجود المنزل الذي تقصده بالقرب من المعبد اليهودي بما يقتضيه من تأمين، يزيد من تعقيد المشكلة. هذه الفتاة سيتكرر ظهورها عبر الفيلم، ونعرف أنها كانت مقيمة في الخارج وعادت للقاهرة وشاركت في ثورة 25 يناير وأنها تسترجع مع المخرج ذكرياتها وتتحدث عن ميدان التحرير وما أصبح يمثله لها.
وهناك إمرأة أخرى، نصف أجنبية، تقيم في شقة في وسط القاهرة، تزور في البداية مكانا لبيع المشغولات اليدوية، يديره فرنسي يحدثها عن اضطراره لغلق المكان أثناء الثورة بسبب خشيته على العاملين من قنابل المولوتوف. وسنعرف فيما بعد أن المرأة ربما تكون صاحبة ومؤسسة معطم شهير في وسط المدينة هو مطعم أستوريل، وأن لديها ذكريات خاصة في المنطقة، تستعيد بعضها من خلال مجموعة من الصور القديمة. وهي تتكلم في البداية بالإنحليزية رغم أنها تعود فتتكلم بالعربية بسلاسة!
وهناك شخص آخر نراه داخل مكتبه يحدثنا عن ذلك المنهج الدراسي الذي يقوم بتدريسه عما يطلق عليه "الفراغات البينية" في منطقة وسط القاهرة، دون أن يفهم المشاهد ما هي الفراغات البينية وما هي أهميتها وأهمية دراستها فالفيلم لا يوضح هذا الجانب ولا يسلط عليه الضوء بل يمر عليه مرور الكرام، لكن المخرج يعود إلى الباحث الأكاديمي نفسه، عبر الفيلم، مرات ومرات، فقط لكي نراه وهو يقوم بتجميع أجزاء ذلك النموذج الخشبي الدقيق (الماكيت) الذي صنعه الطلاب الدارسون للمنطقة، ولا نفهم أيضا أهميته وما يرمي إليه المخرج من وراء هذه الشخصية وهذا النموذج.



وهناك الكاتب الروائي المكاوي سعيد (الذي لا يعرف المشاهد المحايد من هو لأن المخرج لا يقدم الشخصيات بوضوح دائما بل يترك الأمر لفراسة للمشاهد ومعرفته الشخصية). وهو ككاتب من الكتاب الذين كتبوا عن وسط القاهرة في رواياته (هذا أيضا متروك لاستنتاج المشاهد) يزور محلا لبيع الأثريات والأشياء القديمة: الصور واللوحات والأسطوانات والمقاعد.. إلخ
صاحب المحل (أمجد) يبدو رجلا مثقفا يعرف تاريخ وأصل كل ما يعرضه للبيع من مقتنيات، أما سعيد فهو يسأله عن شخصيات مثل مونولوجست قديم من الثلاثينيات، كان يدعى سيد قشطة، وقد أطلق الناس إسمه- كما يقول سعيد- على حيوان فرس النهر عندما جاء إلى حديقة الحيوانات بالجيزة، أو يستمع الإثنان معا إلى أسطوانة قديمة بواسطة جهاز جرامافون قديم إلى أغنية من أغاني الماضي. هنا نحن نخرج من خصوصية "وسط البلد" إلى موضوع يتعلق ببعض المعروضات القديمة التي ترتبط- ليس بوسط البلد تحديدا- لكي ندخل في قصص عن شخصيات أخرى وحكايات أخرى تستغرق صانع الفيلم لطرافتها لكنها تنزلق بالفيلم بعيدا عن مادته الأساسية.
وهناك القاص والرسام عبده البرماوي الذي يتردد كثيرا على منطقة وسط البلد ويشرح للمخرج كيف أن المثقفين لا يخرجون عن نطاق مثلث معين في المنطقة يرتبط بعدد من المقاهي المعروفة، كما يتطرق أيضا إلى مشاركته في الثورة الأخيرة.
وهناك البائع المتجول أو بائع الرصيف (وهو وصف أكثر دقة في رأيي) ويدعى حسين الذي يتحدث كثيرا عما كانوا يتعرضون له هو وزملاؤه على يد الشرطة قبل الثورة.
هناك الكثير من التشتت في الأفكار، وكثير من التنافر في الشخصيات، فمعظمها أساسا، شخصيات جاءت من خارج المنطقة، وهي تقدم لنا من على مسافة معينة، تحافظ على القشرة الخارجية لها دون النفاذ إلى أعماق أي شخصية منها. ولا نعرف هل اهتمام الفيلم بالمنطقة كمكان هو اهتمام بتاريخها الثقافي، أو بطرازها المعماري، أم بكونها كانت بؤرة لثورة يناير 2011 بسبب ملاصقتها لعاصمة الثورة أي ميدان التحرير!
من الممكن أن يقول قائل بالطبع: إنها كل هذه الأسباب مجتمعة، لكن العبرة بالقدرة الفنية على تحقيق التوازن فيما بينها، بل وعلى تقديمها بشكل عميق وليس العبور السطحي عليها من الخارج، وهو ما نفتقده كثيرا في الفيلم، فأنت لن يمكنك أن تحشد كل شيء يصادفك لمجرد ما تعتقد أنه "طرافته" و"تعبيره عن شيء ما". وما ينتج عن هذه "المزاجية" أن الفيلم يمكن ان يستمر في الخروج من قصة للدخول في قصة أخرى، والتوقف أمام المزيد من الشخصيات التي تصادف وجودها في "وسط البلد"، وبذلك يمكن أن يستمر السرد لساعات، كما يمكن أن ينتهي في أي لحظة، وهذا ما نطلق عليه خللا خطيرا في البناء.


تراكم اللقطات
يعتمد المخرج في تقديم كل شخصيات الفيلم التي تظهر مرات عدة جميعها، تتحدث سواء مع بعضها البعض أو مع المخرج من وراء الكاميرا، على إعادة التجسيد، أي على نوع من التمثيل.. تمثيل "وجود"  هذه الشخصيات في "وسط البلد"، مما أدى إلى الكثير من الافتعال.. افتعال التلقائية في التصرفات والحوارات والأداء أمام الكاميرا.
ومع تكرار ظهور تلك الشخصيات تتراكم اللقطات دون أي إضافة حقيقية تثري الفيلم الذي أخذ مخرجه يواصل الدوران حول الفكرة دون الاقتراب منها، فقد خرجنا ونحن أبعد ما نكون معرفة بوسط القاهرة، فكل ما شاهدناه مجموعة من الأنماط التي يمكن أن تجدها في أي حي في العاصمة، وما تقوله تلك الشخصيات لا أهمية له في سياق التعريف بخصوصية المنطقة.
 نحن مثلا نرى الفتاة التي تحاول الوصول إلى صديقتها تشكو من عدم وجود أماكن يمكن استئجارها للتدرب على الرقص، وهو موضوع لا علاقة له بموضوع الفيلم، بل ولا تقول لنا قصتها هي داخل الفيلم سوى أن "وسط البلد" مكان مزدحم يصعب أن تترك فيه سيارتك، وأن الأرصفة لم تعد تصلح للاستخدام، وتشكو من أن الناس لم تعد تسير على الأرصفة، وهذا كله ليس اكتشافا، بل وجانب لا قيمة له أصلا في السياق، وصاحب الماكيت الضخم لا يضيف إلى معارفنا بالمنطقة والحي وطبيعته وأناسه شيئا بل يبدو وكأن الفيلم مشغول بأمر واحد فقط هو تجميع أجزاء الماكيت معا لكي يعرض لنا صورة عامة له دون أن يضيف ذلك شيئا إلى الفيلم. والسيدة التي تروي لنا كيف أن البعض يقوم بسرقة أغطية البالوعات وأسلاك التليفونات وترينا صورا التقطتها للشوارع وقد بدت فيها البالوعات مفتوحة، لا تقول لنا شيئا يضيف أو يكشف لنا عن جانب من جوانب الخصوصية في "وسط البلد" فهذا ما يحدث أيضا في أماكن عديدة أخرى في القاهرة.
إن "الطريق لوسط البلد" فيلم يعيبه أساسا ذلك القدر من العشوائية في البناء، والسطحية في التناول، والفشل في التعامل مع الموضوع من زواياه المختلفة بسبب الخروج باستمرار عن بؤرة الموضوع.
ومرة أخرى، نحن لا نعرف هل هو فيلم عن الزحام، أم عن الثورة؟ عن تاريخ المكان وأهميته (وهو غائب عن الفيلم بشكل عام) أم عن الباعة الجائلين ومشاكلهم؟ عن العلاقة بين الشرطة والناس، أم عن الشعور بالإحباط من الزحام؟ عن محلات العاديات (التي توجد أيضا بعيدا عن وسط المدينة في حي المعادي مثلا) أم عن رسوم الثورة الجرافيكية؟
ولهذا فالفيلم يفتقد إلى الوحدة الفنية بشكل ظاهر. ويبقى الجانب الأساسي الغائب عن الفيلم، هو ذلك التعبير عن سحر ذلك "المربع السحري".. رغم أغطية البالوعات المفتوحة وأسلاك التليفونات المنهوبة. لكن هذه هي حدود فيلم أراد أن يقول كل شي فلم ينجح في إشباع أي من جوانبه.


(( نشر هذا المقال في موقع "الجزيرة الوثائقية بتاريخ 15 نوفمبر 2012))

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger