أمير العمري
من أهم خصائص الفيلم التسجيلي الجيد تركيزه على الموضوع الذي يريد مخرجه وصانعه أن يتناوله. من الممكن أن يلجأ مخرج الفيلم إلى استخدام الكثير من العناصر المرئية والصوتية، سواء الموجودة في الواقع أو تلك التي يمكن أن يخلقها خلقا لتأكيد رؤيته، شريطة أن يكون ملما بكل دقائق هذه العناصر التي يستخدمها، وأن يكون أيضا مسيطرا على دقائقها وتفاصيلها بحيث لا يطغي عنصر على عنصر آخر.
من الممكن له أن يستخدم الكثير من الشخصيات التي يتابعها في مسارها اليومي- الحياتي، أو يستمع إلى تجاربها الخاصة، أو يطلب منها إعادة تمثيل مواقف ما تدفع سياق الفيلم وتضيف إلى موضوعه وتؤكد على ما يريد المخرج توصيله للمشاهد أو ما يرغب في تحقيقه من "تأثير" حتى لو كان تأثيرا مجردا، جماليا.
لم يعد ممكنا أن نكتفي بالقول إن الفيلم التسجيلي الجيد هو الذي يكون مخلصا في تسجيله للواقع. فمهما بذل المخرج من جهد فهو لن يستطيع في النهاية، تقديم الواقع كما هو، بل ستظل هناك زاوية ما للرؤية، أو صورة محددة للواقع يريد المخرج نقلها إلينا كمشاهدين، وتفاصيل معينة في الصورة هي التي تحظى باهتمامه.
من حق السينمائي أن يختار البناء الذي يراه مناسبا، لكن يتعين عليه السيطرة على كل عناصر الفيلم لكي يدفعها في اتجاه الموضوع الذي يرويه الفيلم أو يناقشه. والفرق كبير بين الفوضى المنظمة والفوضى العشوائية.
هذا المدخل أراه ضروريا قبيل تناول الفيلم المصري التسجيلي "في الطريق لوسط البلد" للمخرج شريف البنداري. (الصحيح لغويا "في الطريق إلى وسط البلد"). أما إذا توقفنا أمام العنوان في علاقته بمادة الفيلم نفسه فسنرى أن موضوع الفيلم لا يتعلق فقط بالطريق الذي يسلكه الناس في طريقهم إلى وسط مدينة القاهرة، أو إلى ذلك "المربع السحري" الذي يصفه بالتفصيل، الكاتب الأمريكي ماكس رودنبك في كتابه الممتع Cairo, The City Victorious بل أساسا، بوسط البلد نفسه، أجواؤه وأناسه وأرصفته ومبانيه.
الدوران حول الفكرة
لكن من حيث أراد المخرج تصوير منطقة وسط القاهرة بخصوصيتها المعروفة التي قام بتفصيلها علاء الأسواني في "عمارة يعقوبيان" مثلا، فإنه يجد نفسه مهتما أكثر بالكثير من الشخصيات والأشياء التي تعتبر خارج نطاق "وسط البلد"، وبالتالي فهو يفقد التركيز على الموضوع، ويقع في عشوائية السرد بعد أن لجأ إلى طريقة في المونتاج لا تبني مشهدا بعد آخر لكي يضيف شيئا إلى الفيلم من خلال كل مشهد، بل يعيد ويكرر، ويعود إلى ما سبق أن صوره، لا لكي يطوره أو يجعلنا ننتقل إلى الأمام، نحو اكتشاف مناطق جديدة في الموضوع، بل للدوران حول الفكرة دون الدخول في عمق الموضوع، وأصبح الفيلم بالتالي فاقدا للتوزان الفني المطلوب في أي عمل.
كيف حدث هذا؟ وما هو الدليل عليه؟
من المعروف في الفن السينمائي، أن الفيلم، سواء الروائي أو التسجيلي، الذي يحتوي على لقطات منفصلة جميلة في حد ذاتها، لا يكون بالضرورة فيلما جيدا، بل قد تصبح مثل هذه اللقطات "الجميلة" عبئا عليه، كما أن ليس كل ما يلتقطه المخرج- أو صانع الفيلم، من لقطات أثناء تصوير الفيلم، تصلح لأن يضمها إلى جسد الفيلم. فالفيلم له منطقه الداخلي الخاص. وكل مشاهده وشخصياته يجب أن تخضع لهذا المنطق، مهما بدا هناك من فوضى "ظاهرية".
يبدأ فيلم شريف البنداري من "وسط البلد" بالفعل، وليس من الطريق إلى وسط البلد"، فمن اللقطات الأولى في الفيلم نرى ميادين وسط القاهرة الشهيرة، لافتات المحلات التجارية في شارع قصر النيل، زحام سيارات الأجرة، الباعة الذين افترشوا أرضية الأرصفة يعلنون عن بضاعتهم، والمشاجرات بينهم على احتلال الأرصفة.. إلخ
هناك فتاة تقود سيارة تحاول الوصول إلى صديقة لها تقطن في شارع عدلي لكنها تعجز عن تحقيق هدفها، نراها من حين إلى آخر، وهي في الطريق، لا تستطيع أن تترك سيارتها في مكان أمين، تمر – كما تقول لصديقتها عبر الهاتف- مرات عديدة من أمام العمارة السكنية المقصودة لكنها لا تجد مكانا تقف فيه بالسيارة. وجود المنزل الذي تقصده بالقرب من المعبد اليهودي بما يقتضيه من تأمين، يزيد من تعقيد المشكلة. هذه الفتاة سيتكرر ظهورها عبر الفيلم، ونعرف أنها كانت مقيمة في الخارج وعادت للقاهرة وشاركت في ثورة 25 يناير وأنها تسترجع مع المخرج ذكرياتها وتتحدث عن ميدان التحرير وما أصبح يمثله لها.
وهناك إمرأة أخرى، نصف أجنبية، تقيم في شقة في وسط القاهرة، تزور في البداية مكانا لبيع المشغولات اليدوية، يديره فرنسي يحدثها عن اضطراره لغلق المكان أثناء الثورة بسبب خشيته على العاملين من قنابل المولوتوف. وسنعرف فيما بعد أن المرأة ربما تكون صاحبة ومؤسسة معطم شهير في وسط المدينة هو مطعم أستوريل، وأن لديها ذكريات خاصة في المنطقة، تستعيد بعضها من خلال مجموعة من الصور القديمة. وهي تتكلم في البداية بالإنحليزية رغم أنها تعود فتتكلم بالعربية بسلاسة!
وهناك شخص آخر نراه داخل مكتبه يحدثنا عن ذلك المنهج الدراسي الذي يقوم بتدريسه عما يطلق عليه "الفراغات البينية" في منطقة وسط القاهرة، دون أن يفهم المشاهد ما هي الفراغات البينية وما هي أهميتها وأهمية دراستها فالفيلم لا يوضح هذا الجانب ولا يسلط عليه الضوء بل يمر عليه مرور الكرام، لكن المخرج يعود إلى الباحث الأكاديمي نفسه، عبر الفيلم، مرات ومرات، فقط لكي نراه وهو يقوم بتجميع أجزاء ذلك النموذج الخشبي الدقيق (الماكيت) الذي صنعه الطلاب الدارسون للمنطقة، ولا نفهم أيضا أهميته وما يرمي إليه المخرج من وراء هذه الشخصية وهذا النموذج.
كيف حدث هذا؟ وما هو الدليل عليه؟
من المعروف في الفن السينمائي، أن الفيلم، سواء الروائي أو التسجيلي، الذي يحتوي على لقطات منفصلة جميلة في حد ذاتها، لا يكون بالضرورة فيلما جيدا، بل قد تصبح مثل هذه اللقطات "الجميلة" عبئا عليه، كما أن ليس كل ما يلتقطه المخرج- أو صانع الفيلم، من لقطات أثناء تصوير الفيلم، تصلح لأن يضمها إلى جسد الفيلم. فالفيلم له منطقه الداخلي الخاص. وكل مشاهده وشخصياته يجب أن تخضع لهذا المنطق، مهما بدا هناك من فوضى "ظاهرية".
يبدأ فيلم شريف البنداري من "وسط البلد" بالفعل، وليس من الطريق إلى وسط البلد"، فمن اللقطات الأولى في الفيلم نرى ميادين وسط القاهرة الشهيرة، لافتات المحلات التجارية في شارع قصر النيل، زحام سيارات الأجرة، الباعة الذين افترشوا أرضية الأرصفة يعلنون عن بضاعتهم، والمشاجرات بينهم على احتلال الأرصفة.. إلخ
هناك فتاة تقود سيارة تحاول الوصول إلى صديقة لها تقطن في شارع عدلي لكنها تعجز عن تحقيق هدفها، نراها من حين إلى آخر، وهي في الطريق، لا تستطيع أن تترك سيارتها في مكان أمين، تمر – كما تقول لصديقتها عبر الهاتف- مرات عديدة من أمام العمارة السكنية المقصودة لكنها لا تجد مكانا تقف فيه بالسيارة. وجود المنزل الذي تقصده بالقرب من المعبد اليهودي بما يقتضيه من تأمين، يزيد من تعقيد المشكلة. هذه الفتاة سيتكرر ظهورها عبر الفيلم، ونعرف أنها كانت مقيمة في الخارج وعادت للقاهرة وشاركت في ثورة 25 يناير وأنها تسترجع مع المخرج ذكرياتها وتتحدث عن ميدان التحرير وما أصبح يمثله لها.
وهناك إمرأة أخرى، نصف أجنبية، تقيم في شقة في وسط القاهرة، تزور في البداية مكانا لبيع المشغولات اليدوية، يديره فرنسي يحدثها عن اضطراره لغلق المكان أثناء الثورة بسبب خشيته على العاملين من قنابل المولوتوف. وسنعرف فيما بعد أن المرأة ربما تكون صاحبة ومؤسسة معطم شهير في وسط المدينة هو مطعم أستوريل، وأن لديها ذكريات خاصة في المنطقة، تستعيد بعضها من خلال مجموعة من الصور القديمة. وهي تتكلم في البداية بالإنحليزية رغم أنها تعود فتتكلم بالعربية بسلاسة!
وهناك شخص آخر نراه داخل مكتبه يحدثنا عن ذلك المنهج الدراسي الذي يقوم بتدريسه عما يطلق عليه "الفراغات البينية" في منطقة وسط القاهرة، دون أن يفهم المشاهد ما هي الفراغات البينية وما هي أهميتها وأهمية دراستها فالفيلم لا يوضح هذا الجانب ولا يسلط عليه الضوء بل يمر عليه مرور الكرام، لكن المخرج يعود إلى الباحث الأكاديمي نفسه، عبر الفيلم، مرات ومرات، فقط لكي نراه وهو يقوم بتجميع أجزاء ذلك النموذج الخشبي الدقيق (الماكيت) الذي صنعه الطلاب الدارسون للمنطقة، ولا نفهم أيضا أهميته وما يرمي إليه المخرج من وراء هذه الشخصية وهذا النموذج.
وهناك الكاتب الروائي المكاوي سعيد (الذي لا يعرف المشاهد المحايد من هو لأن المخرج لا يقدم الشخصيات بوضوح دائما بل يترك الأمر لفراسة للمشاهد ومعرفته الشخصية). وهو ككاتب من الكتاب الذين كتبوا عن وسط القاهرة في رواياته (هذا أيضا متروك لاستنتاج المشاهد) يزور محلا لبيع الأثريات والأشياء القديمة: الصور واللوحات والأسطوانات والمقاعد.. إلخ
صاحب المحل (أمجد) يبدو رجلا مثقفا يعرف تاريخ وأصل كل ما يعرضه للبيع من مقتنيات، أما سعيد فهو يسأله عن شخصيات مثل مونولوجست قديم من الثلاثينيات، كان يدعى سيد قشطة، وقد أطلق الناس إسمه- كما يقول سعيد- على حيوان فرس النهر عندما جاء إلى حديقة الحيوانات بالجيزة، أو يستمع الإثنان معا إلى أسطوانة قديمة بواسطة جهاز جرامافون قديم إلى أغنية من أغاني الماضي. هنا نحن نخرج من خصوصية "وسط البلد" إلى موضوع يتعلق ببعض المعروضات القديمة التي ترتبط- ليس بوسط البلد تحديدا- لكي ندخل في قصص عن شخصيات أخرى وحكايات أخرى تستغرق صانع الفيلم لطرافتها لكنها تنزلق بالفيلم بعيدا عن مادته الأساسية.
وهناك القاص والرسام عبده البرماوي الذي يتردد كثيرا على منطقة وسط البلد ويشرح للمخرج كيف أن المثقفين لا يخرجون عن نطاق مثلث معين في المنطقة يرتبط بعدد من المقاهي المعروفة، كما يتطرق أيضا إلى مشاركته في الثورة الأخيرة.
وهناك البائع المتجول أو بائع الرصيف (وهو وصف أكثر دقة في رأيي) ويدعى حسين الذي يتحدث كثيرا عما كانوا يتعرضون له هو وزملاؤه على يد الشرطة قبل الثورة.
هناك الكثير من التشتت في الأفكار، وكثير من التنافر في الشخصيات، فمعظمها أساسا، شخصيات جاءت من خارج المنطقة، وهي تقدم لنا من على مسافة معينة، تحافظ على القشرة الخارجية لها دون النفاذ إلى أعماق أي شخصية منها. ولا نعرف هل اهتمام الفيلم بالمنطقة كمكان هو اهتمام بتاريخها الثقافي، أو بطرازها المعماري، أم بكونها كانت بؤرة لثورة يناير 2011 بسبب ملاصقتها لعاصمة الثورة أي ميدان التحرير!
من الممكن أن يقول قائل بالطبع: إنها كل هذه الأسباب مجتمعة، لكن العبرة بالقدرة الفنية على تحقيق التوازن فيما بينها، بل وعلى تقديمها بشكل عميق وليس العبور السطحي عليها من الخارج، وهو ما نفتقده كثيرا في الفيلم، فأنت لن يمكنك أن تحشد كل شيء يصادفك لمجرد ما تعتقد أنه "طرافته" و"تعبيره عن شيء ما". وما ينتج عن هذه "المزاجية" أن الفيلم يمكن ان يستمر في الخروج من قصة للدخول في قصة أخرى، والتوقف أمام المزيد من الشخصيات التي تصادف وجودها في "وسط البلد"، وبذلك يمكن أن يستمر السرد لساعات، كما يمكن أن ينتهي في أي لحظة، وهذا ما نطلق عليه خللا خطيرا في البناء.
صاحب المحل (أمجد) يبدو رجلا مثقفا يعرف تاريخ وأصل كل ما يعرضه للبيع من مقتنيات، أما سعيد فهو يسأله عن شخصيات مثل مونولوجست قديم من الثلاثينيات، كان يدعى سيد قشطة، وقد أطلق الناس إسمه- كما يقول سعيد- على حيوان فرس النهر عندما جاء إلى حديقة الحيوانات بالجيزة، أو يستمع الإثنان معا إلى أسطوانة قديمة بواسطة جهاز جرامافون قديم إلى أغنية من أغاني الماضي. هنا نحن نخرج من خصوصية "وسط البلد" إلى موضوع يتعلق ببعض المعروضات القديمة التي ترتبط- ليس بوسط البلد تحديدا- لكي ندخل في قصص عن شخصيات أخرى وحكايات أخرى تستغرق صانع الفيلم لطرافتها لكنها تنزلق بالفيلم بعيدا عن مادته الأساسية.
وهناك القاص والرسام عبده البرماوي الذي يتردد كثيرا على منطقة وسط البلد ويشرح للمخرج كيف أن المثقفين لا يخرجون عن نطاق مثلث معين في المنطقة يرتبط بعدد من المقاهي المعروفة، كما يتطرق أيضا إلى مشاركته في الثورة الأخيرة.
وهناك البائع المتجول أو بائع الرصيف (وهو وصف أكثر دقة في رأيي) ويدعى حسين الذي يتحدث كثيرا عما كانوا يتعرضون له هو وزملاؤه على يد الشرطة قبل الثورة.
هناك الكثير من التشتت في الأفكار، وكثير من التنافر في الشخصيات، فمعظمها أساسا، شخصيات جاءت من خارج المنطقة، وهي تقدم لنا من على مسافة معينة، تحافظ على القشرة الخارجية لها دون النفاذ إلى أعماق أي شخصية منها. ولا نعرف هل اهتمام الفيلم بالمنطقة كمكان هو اهتمام بتاريخها الثقافي، أو بطرازها المعماري، أم بكونها كانت بؤرة لثورة يناير 2011 بسبب ملاصقتها لعاصمة الثورة أي ميدان التحرير!
من الممكن أن يقول قائل بالطبع: إنها كل هذه الأسباب مجتمعة، لكن العبرة بالقدرة الفنية على تحقيق التوازن فيما بينها، بل وعلى تقديمها بشكل عميق وليس العبور السطحي عليها من الخارج، وهو ما نفتقده كثيرا في الفيلم، فأنت لن يمكنك أن تحشد كل شيء يصادفك لمجرد ما تعتقد أنه "طرافته" و"تعبيره عن شيء ما". وما ينتج عن هذه "المزاجية" أن الفيلم يمكن ان يستمر في الخروج من قصة للدخول في قصة أخرى، والتوقف أمام المزيد من الشخصيات التي تصادف وجودها في "وسط البلد"، وبذلك يمكن أن يستمر السرد لساعات، كما يمكن أن ينتهي في أي لحظة، وهذا ما نطلق عليه خللا خطيرا في البناء.
تراكم اللقطات
يعتمد المخرج في تقديم كل شخصيات الفيلم التي تظهر مرات عدة جميعها، تتحدث سواء مع بعضها البعض أو مع المخرج من وراء الكاميرا، على إعادة التجسيد، أي على نوع من التمثيل.. تمثيل "وجود" هذه الشخصيات في "وسط البلد"، مما أدى إلى الكثير من الافتعال.. افتعال التلقائية في التصرفات والحوارات والأداء أمام الكاميرا.
ومع تكرار ظهور تلك الشخصيات تتراكم اللقطات دون أي إضافة حقيقية تثري الفيلم الذي أخذ مخرجه يواصل الدوران حول الفكرة دون الاقتراب منها، فقد خرجنا ونحن أبعد ما نكون معرفة بوسط القاهرة، فكل ما شاهدناه مجموعة من الأنماط التي يمكن أن تجدها في أي حي في العاصمة، وما تقوله تلك الشخصيات لا أهمية له في سياق التعريف بخصوصية المنطقة.
نحن مثلا نرى الفتاة التي تحاول الوصول إلى صديقتها تشكو من عدم وجود أماكن يمكن استئجارها للتدرب على الرقص، وهو موضوع لا علاقة له بموضوع الفيلم، بل ولا تقول لنا قصتها هي داخل الفيلم سوى أن "وسط البلد" مكان مزدحم يصعب أن تترك فيه سيارتك، وأن الأرصفة لم تعد تصلح للاستخدام، وتشكو من أن الناس لم تعد تسير على الأرصفة، وهذا كله ليس اكتشافا، بل وجانب لا قيمة له أصلا في السياق، وصاحب الماكيت الضخم لا يضيف إلى معارفنا بالمنطقة والحي وطبيعته وأناسه شيئا بل يبدو وكأن الفيلم مشغول بأمر واحد فقط هو تجميع أجزاء الماكيت معا لكي يعرض لنا صورة عامة له دون أن يضيف ذلك شيئا إلى الفيلم. والسيدة التي تروي لنا كيف أن البعض يقوم بسرقة أغطية البالوعات وأسلاك التليفونات وترينا صورا التقطتها للشوارع وقد بدت فيها البالوعات مفتوحة، لا تقول لنا شيئا يضيف أو يكشف لنا عن جانب من جوانب الخصوصية في "وسط البلد" فهذا ما يحدث أيضا في أماكن عديدة أخرى في القاهرة.
إن "الطريق لوسط البلد" فيلم يعيبه أساسا ذلك القدر من العشوائية في البناء، والسطحية في التناول، والفشل في التعامل مع الموضوع من زواياه المختلفة بسبب الخروج باستمرار عن بؤرة الموضوع.
ومرة أخرى، نحن لا نعرف هل هو فيلم عن الزحام، أم عن الثورة؟ عن تاريخ المكان وأهميته (وهو غائب عن الفيلم بشكل عام) أم عن الباعة الجائلين ومشاكلهم؟ عن العلاقة بين الشرطة والناس، أم عن الشعور بالإحباط من الزحام؟ عن محلات العاديات (التي توجد أيضا بعيدا عن وسط المدينة في حي المعادي مثلا) أم عن رسوم الثورة الجرافيكية؟
ولهذا فالفيلم يفتقد إلى الوحدة الفنية بشكل ظاهر. ويبقى الجانب الأساسي الغائب عن الفيلم، هو ذلك التعبير عن سحر ذلك "المربع السحري".. رغم أغطية البالوعات المفتوحة وأسلاك التليفونات المنهوبة. لكن هذه هي حدود فيلم أراد أن يقول كل شي فلم ينجح في إشباع أي من جوانبه.
(( نشر هذا المقال في موقع "الجزيرة الوثائقية بتاريخ 15 نوفمبر 2012))
يعتمد المخرج في تقديم كل شخصيات الفيلم التي تظهر مرات عدة جميعها، تتحدث سواء مع بعضها البعض أو مع المخرج من وراء الكاميرا، على إعادة التجسيد، أي على نوع من التمثيل.. تمثيل "وجود" هذه الشخصيات في "وسط البلد"، مما أدى إلى الكثير من الافتعال.. افتعال التلقائية في التصرفات والحوارات والأداء أمام الكاميرا.
ومع تكرار ظهور تلك الشخصيات تتراكم اللقطات دون أي إضافة حقيقية تثري الفيلم الذي أخذ مخرجه يواصل الدوران حول الفكرة دون الاقتراب منها، فقد خرجنا ونحن أبعد ما نكون معرفة بوسط القاهرة، فكل ما شاهدناه مجموعة من الأنماط التي يمكن أن تجدها في أي حي في العاصمة، وما تقوله تلك الشخصيات لا أهمية له في سياق التعريف بخصوصية المنطقة.
نحن مثلا نرى الفتاة التي تحاول الوصول إلى صديقتها تشكو من عدم وجود أماكن يمكن استئجارها للتدرب على الرقص، وهو موضوع لا علاقة له بموضوع الفيلم، بل ولا تقول لنا قصتها هي داخل الفيلم سوى أن "وسط البلد" مكان مزدحم يصعب أن تترك فيه سيارتك، وأن الأرصفة لم تعد تصلح للاستخدام، وتشكو من أن الناس لم تعد تسير على الأرصفة، وهذا كله ليس اكتشافا، بل وجانب لا قيمة له أصلا في السياق، وصاحب الماكيت الضخم لا يضيف إلى معارفنا بالمنطقة والحي وطبيعته وأناسه شيئا بل يبدو وكأن الفيلم مشغول بأمر واحد فقط هو تجميع أجزاء الماكيت معا لكي يعرض لنا صورة عامة له دون أن يضيف ذلك شيئا إلى الفيلم. والسيدة التي تروي لنا كيف أن البعض يقوم بسرقة أغطية البالوعات وأسلاك التليفونات وترينا صورا التقطتها للشوارع وقد بدت فيها البالوعات مفتوحة، لا تقول لنا شيئا يضيف أو يكشف لنا عن جانب من جوانب الخصوصية في "وسط البلد" فهذا ما يحدث أيضا في أماكن عديدة أخرى في القاهرة.
إن "الطريق لوسط البلد" فيلم يعيبه أساسا ذلك القدر من العشوائية في البناء، والسطحية في التناول، والفشل في التعامل مع الموضوع من زواياه المختلفة بسبب الخروج باستمرار عن بؤرة الموضوع.
ومرة أخرى، نحن لا نعرف هل هو فيلم عن الزحام، أم عن الثورة؟ عن تاريخ المكان وأهميته (وهو غائب عن الفيلم بشكل عام) أم عن الباعة الجائلين ومشاكلهم؟ عن العلاقة بين الشرطة والناس، أم عن الشعور بالإحباط من الزحام؟ عن محلات العاديات (التي توجد أيضا بعيدا عن وسط المدينة في حي المعادي مثلا) أم عن رسوم الثورة الجرافيكية؟
ولهذا فالفيلم يفتقد إلى الوحدة الفنية بشكل ظاهر. ويبقى الجانب الأساسي الغائب عن الفيلم، هو ذلك التعبير عن سحر ذلك "المربع السحري".. رغم أغطية البالوعات المفتوحة وأسلاك التليفونات المنهوبة. لكن هذه هي حدود فيلم أراد أن يقول كل شي فلم ينجح في إشباع أي من جوانبه.
(( نشر هذا المقال في موقع "الجزيرة الوثائقية بتاريخ 15 نوفمبر 2012))
0 comments:
إرسال تعليق