الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

مهرجان طهران السينمائي للأفلام القصيرة





أمير العمري- طهران



هذه هي المرة الثانية التي أشارك فيها في عضوية لجنة التحكيم بمهرجان طهران السينمائي للأفلام القصيرة الذي يقام سنويا ويعرض أكثر من 400 فيلم من الأفلام القصيرة والتسجيلية وأفلام الرسوم (التحريك) وما يسمى بـ"الأفلام التجريبية".
افتتح المهرجان يوم الإثنين الأول من أكتوبر ويستمر حتى 8 أكتوبر ويعرض أيضا من خلال المسابقات الوطنية للأفلام الإيرانية عددا كبيرا من الأفلام تصل إلى حوالي مائتي فيلم إيراني من إنتاج مختلف الجمعيات والشركات التي تكونت خصيصا لتشجيع الشباب على تصوير الأفلام والتعبير من خلال السينما.
يدير المهرجان السيد هاشم مزرخاني، وتنظم المهرجان جمعية سينما الشباب في إيران ولها نحو 16 فرعا في مدن إيرانية مختلفة، وهي تنتج سنويا أكثر نحو 1200 فيلم قصير وتجريبي وتسجيلي، وهو عدد كبير حتى بمقاييس الدول الكبرى في السينما.
إضافة إلى المسابقات العالمية ومسابقات الفيلم الإيراني، هناك قسم خاص لعرض عدد من أحدث الأفلام القصيرة من البرازيل، ومسابقة خاصة لأفلام دول آسيا الإسلامية تضم 26 فيلما وتشكلت لها لجنة تحكيم دولية (يشارك فيها كاتب هذه السطور أيضا) لمنح جائزة أفضل فيلم يعكس القيم الإسلامية.
لجنة التحكيم الدولية تكونت هذا العام من أحمد نجفي (مخرج وممثل من إيران)، ومحمد رضا إسلام (مخرج إيراني) وجوليان بليسييه (أكاديمي فرنسي)، وفرنشيسكو لوبو دي أفيلا مدير مهرجان بورتو 7 للأفلام القصيرة في البرتغال، وسوراف سارانجي وهو مخرج تسجيلي من الهند، واميليو ديلا شيسا وهو مخرج تسجيلي ومدير مهرجان نهر بورتيللو في ايطاليا، وكاتب هذه السطور.
أما لجنة تحكيم أفضل فيلم من دولة إسلامية في آسيا فتتكون من محمد رضا إسلام وأمير العمري وسفيتلانا يونوسوفا من تاترستان، وهي مديرة مهرجان سينمائي في تلك الجمهورية الصغيرة التي استقلت عن موسكو.


أفلام كثيرة
تكتظ المسابقات الدولية الأربع بعدد كبير من الأفلام، فمسابقة الأفلام التسجيلية تضم 40 فيلما من الصين واسبانيا وألمانيا وغانا والفليبين وبريطانيا والبرازيل وبولندا وكيرغستان وجمهورية التشيك والمجر وإيطاليا وأمريكا وإيران وسويسرا وفرنسا وتايوان والنرويج وفلسطين وهولندا والعراق .
الملاحظة الأساسية على هذه المسابقة بل وباقي المسابقات أنها تضم أفلاما من إنتاج السنوات الثلاث الماضية، أي أن هناك أفلاما تعود إلى عام 2009، وهو ما يعني أن المهرجان لا يبحث بالضرورة عن أحدث الأفلام بل يسعى لضم أكبر عدد ممكن من هذه الأفلام، وهي نقطة لا أظن أنها تعمل لصالحه.
هذه الملحوظة تتضح أكثر إذا ما علمنا أن مسابقة الأفلام الروائية القصيرة تضم وحدها 122 فيلما بالتمام والكمال وهو ما يلقي عبئا مضاعفا على لجنة التحكيم. وتضم مسابقة أفلام التحريك 61 فيلما ومسابقة الافلام التجريبية 33 فيلما، أي أن مجموع الأفلام المتسابقة في المسابقات الأربع يبلغ  256 فيلما.
أما مسابقة الأفلام الآسيوية فتضم 45 فيلما من إيران ومصر وماليزيا والأردن وتركيا وفلسطين وكيرغستان والمغرب وسورية والعراق.
وبطبيعة الحال يأتي أكبر عدد على الإطلاق من الأفلام في كل المسابقات من الدولة المضيفة إيران. وفي مسابقة الأفلام الروائية القصيرة وحدها هناك 25 فيلما.
خلال حفل الافتتاح تم تكريم عدد ممن قدموا الكثير للسينما الايرانية من شخصيات ايرانية واجنبية، واكتفى المنظمون بالقاء الكلمات وتقديم عرض موسيقي غنائي ولكن دون عرض أي أفلام وهو أمر مستغرب في مهرجان سينمائي.

جدران سراييفو
من أفضل أفلام مسابقة الفيلم الروائي القصير فيلم "4 جدران سراييفو" للمخرج نديم جوش من تركيا. وهو يقع في 24 دقيقة، ويدور في أجواء سراييفو الواقعية تماما من حيث الصورة.. الشوارع.. أطلال البنايات.. ولكنه عبارة عن حكاية خيالية مؤثرة عن التأثير المدمر للحرب على الوعي الفردي وعلى العقل البشري. والقصة تدور حول علاقة إبن بأبيه المقعد الذي فقد زوجته وابنته في حادث انفجار قنبلة في ساحة سوق سراييفو اثناء الحرب التي دارت هناك في منتصف التسعينيات، ونتجت عاهته بعد إصابته إصابة مباشرة جراء انفجار قنبلة السوق التي قضت على عدد كبير من الأبرياء.
الأب (سميل) يرقد الآن عاجزا، يعتمد في تدبير أمور حياته على ابنه الذي نجا من الموت "ميرزا"، وهو يقوم على خدمته، ويحمله لقضاء حاجته ثم يخرج للحصول على بعض الطعام لهما لنراه وهو يسير بين الأطلال والخرائب في حذر، يرتعد من فكرة التعرض لرصاصة من رصاصات القناصة. وعندما يعود بمشقة إلى الغرفة الأرضية الرطبة التي يقيم فيها مع والده يخشى أن يفتح الباب لرجل يأتي فجأة يطرق على الباب، ويؤكد على والده مرارا ألا يفتح الباب لأي إنسان فربما يكون القادم الغريب من الأعداء. لكن ميرزا يغادر ذات يوم متحسسا طريقه في رعب كعادته، ويأتي الرجل يطرق على الباب باصرار فيلقي له العجوز بالمفتاح من أسفل الباب لكي يدخل ونعرف أنه صديق قديم لسميل يدعى "معمر". يتعانق الرجلان، ويقول له الرجل إنه جاء من قبل حاملا معه بعض الطعام لكنه لم ينجح في الوصول إليه، وعندما يتطرق سميل إلى القول بأنه وابنه انتقلا للإقامة في هذه الغرفة بعد أن تهدم منزلهما في القتال، وإنها أفضل مكان للاحتماء من سقوط القنابل يقول معمر في دهشة: عن أي قنابل تتحدث وقد انتهت الحرب منذ سنتين!
لا يصدقه سميل ويعتقد أنه يمزح. لكن معمر يسأله كم مضى عليه دون أن يغادر هذه الغرفة إلى الخارج؟ فيقول له إنه لم يخرج منذ عامين ونصف العام.
يحمله صديقه ويخرج به إلى سراييفو حيث تسير الحياة الطبيعية، في حين نرى ابنه وهو يعود متلمسا طريقه في حرص بالغ كعادته، محتميا بالأشجار بين كل خطوة وأخرى.
لقد فقد الإبن عقله تماما، وأصبح أسيرا لفكرة الخوف من القناصة، ومن الموت العبثي على قارعة الطريق.
فيلم مصنوع ببراعة وفي بساطة آثرة، ودون استطرادات كثيرة.
أداء تمثلي واثق ومعبر من الممثلين الثلاثة الرئيسيين. موسيقى كلها ترقب وحذر وقلق وخوف. تصوير حساس يعرف كيف يتعامل مع الأحجام المختلفة للقطات، ومونتاج ينتقل بين اللقطات في اللحظة المناسبة. ومخرج يسيطر على مادته بحيث يوصل للمتفرج الحالة النفسية التي يريد أن يعكسها من خلال تلك الحكاية الرمزية عن أثر الحرب على العقل البشري، دون ثرثرة أو استغرق طويل في الوصف والشروح. وهذه هي طبيعة بل وجوهر الفيلم الروائي القصير، تماما مثل القصة القصيرة الناجحة الناجعة. 

الحب من أول نظرة
يعرض المهرجان أيضا فيلما روائيا قصيرا آخر يدور في أجواء سراييفو ولكن في الوقت الراهن بعد أن انتهت الحرب: هنا نرى من خلال هذا الفيلم "الحب من أول نظرة" (14 دقيقة) للمخرج البريطاني مارك بلاين، شوارع سراييفو الضيقة المرصوفة بالأحجار. المنازل المتلاصقة، نساء عجائز يذرعن الطرقات الصغيرة. شاب أسمر غريب يهبط إلى المدينة، يتجه إلى مسكن استأجره، يلمح جارته الحسناء في شرفة المنزل المقابل، يقع في غرامها على الفور.
يحاول الشاب أن يلفت نظر الفتاة الجميلة، لكنها لا تنتبه إلى وجوده. يبتكر حيلة بعد أخرى لكي يلفت نظرها لكنها ليست هنا، إلى أن يرى ذات يوم رجلا يدخل إلى الشرفة حيث تقف الفتاة ويجذبها للداخل في حب.
صدمة الشاب تدفعه للهرب إلى الخيال.. إلى أحلام اليقظة. في المقهى بينما يتناول قهوته. يغمض عينيه ويتخيل الفتاة تدخل للمقهى وتسير ببطء في اتجاهه وتجلس إلى جواره. تمد يدها في بطء شديد وتلمس يده. لكن الواقع أقوى من الخيال، تنتقل الكاميرا إلى مسكن الشاب حيث الورقة التي رسم فيها صورة تعبر عن اعجابه بالفتاة وأراد إرسالها إليها في الماضي القريب غير أنه لم يفعل. الورقة تطيروتسقط من النافذة، تلتقطها امرأة عجوز تقوم بتنظيف الشارع في أسفل. تتطلع المرأة إلى الصورة المعبرة، تبتسم وتتطلع إلى شرفة في الأعلى، تلمح رجلال يراها ويرى الصورة ويبتسم. تعتقد أنه هو مرسلها. هو أيضا لا يمانع من أن تفهم هي إعجابه بها. يبتسم الإثنان لبعضهما البعض. ربما يكون هذا هو الحب من أول نظرة، وينتهي فيلم آثر في خياله وفي قدرة مخرجه على التعبير من دون كلمة حوار واحدة.
هذا فيلم يعتمد أساسا، على التعبير بالصورة، من خلال حجم اللقطات، الانتقال السلس من لقطة إلى أخرى، الموسيقى الناعمة التي تصاحب الصورة، وتعكس القلق والرغبة في التواصل مع التردد، والحب الفياض العاجز عن التحقق، التكوينات التشكيلية المعبرة والاهتمام الكبير بالخلفية وبعمق المجال، والانتقال بين الحركة العادية والحركة الناعمة البطيئة، ومن اللقطات القريبة (كلوز أب) التي تعكس فوران المشاعر، إلى اللقطات البعيدة أو المتوسطة العامة التي توضح التناقض بين موقفي كل من الشاب والفتاة، وحركة الكاميرا التي تهبط تدريجيا وببطء لكي تتوقف على وجه المرأة وهي تلتقط الرسالة السحرية.
الفيلم أيضا من تلك التي سبق لها الحصول على عدد من الجوائز وربما يحصل أيضا على جائزة في مهرجان طهران السينمائي للأفلام القصيرة.

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

مليونية البطيخ!









أمير العمري



يتصور البعض أنه يمكن ضمان حرية الرأي والإبداع عن طريق تنظيم مليونية.. يطلقون عليها "مليونية حرية الرأي"!
وقد أصبح سهلا عند كل من يحلم أو يطالب بتحـقيق أي هدف اليوم، أن يدعو إلى مليونية، لدرجة أنني كنت أحلم بتوفير البطيخ بأسعار مناسبة لكافة طبقات الشعب، لماذا؟ لأني ببساطة أحب البطيخ وأؤمن بفوائده الجمة، فأطلقت دعوة إلى مليونية البطيخ. لماذا؟ لأن من أهم فوائد البطيخ أنه يرطب الأجواء الداخلية، ويملأ المعدة الخالية ويمنح الاحساس بالشبع، كما أنه يحتوي عى بعض الفيتامينات المفيدة، وبالتالي يصلح كطعام بديل جيد يكفل انقاص وزن المصريين جميعا: رجالا ونساء، الذين يعاني معظمهم من السمنة والبدانة والتضحم والتمدد وبروز الكروش واتساع الهوة بين الداخل والخارج!
اعتقد أصدقائي أنني أمزح أو أسخر من المليونيات، لكني أكدت لهم أنني جاد كل الجدية في دعوتي.. ثم أليس من حقي أن أدعو للمليونية التي أحب واشتهي؟ ألسنا في ثورة تحقق الحرية والديمقراطية، ولكل منا مليونيته، وأنا أريد أن تكون لي مليونيتي الخاصة  وأريدها أن تكون "بطيخية".. ثم ان من الممكن جدا – إذا توفرت النوايا- أن نجمع في الميدان، مليون بطيخة مثلجة يستوردها لنا الدكتور ممدوح حمزة من كفر البطيخ بكرمه الدمياطي الشهير، ويمكننا استخدامها عند اللزوم لرشق عساكر الأمن المركزي المساكين فنشغلهم في التهام البطيخ في حين نواصل نحن الهتاف عاليا "الجيش والشعب وممدوح حمزة بطيخة واحدة"!
وأقسم بالله العظيم أنني من المعجبين جدا بالدكتور ممدوح حمزة، فأنا أرى أنه نموذج للوطنية المصرية التلقائية الجميلة كما أنه نموذج للشجاعة الحقة، علما بأنه ليس من المؤدلجين، أي أنه لا يعتنق أيديولوجية محددة، من الذين كان صلاح عيسى يطلق عليهم "الأسياخ" أي الذين يحدثك الواحد منهم وكأنه ابتلع سيخا،، فممدوح حمزة- صاحب أكبر مغامرة في سجون صاحبة الجلالة (ملكة بريطانيا) - يدافع فقط عن الدولة المدنية الحديثة في مصر ويريد أن ينقذها من الوقوع في براثن المغول والتتار حتى لو أدى ذلك إلى خوض معارك سياسية وغير سياسية، في الميدان وحوله، وحتى آخر بطيخة في حقول كفر البطيخ!
وقد كنت في البداية أرفع شعار: بالحب والسينما سنهزم التتار، وأعجب الشعار الكثير من أصدقائي الذين صوتوا له على الفيسبوك ومنحوه الكثير من اللايكات من like– باستخدام لغة العلم الحديث- إلا أنهم تساءلوا: ولكن أي حب تقصد؟ وأي تتار؟
فقلت إن الحب هو حب مصر، والتتار هم أعداء مصر. لكن التتار سرعان ما تمكنوا من تحريم الحب، ومحاصرة السينما بل ظهر منهم من يطالب باغلاق السينما باعتبارها فنا وافدا كافرا والعياذ بالله!
ولذلك فقد توصلت أخيرا إلى أن من الأفضل أن أرفع شعار: "بالحب والبطيخ سنواجه التتار"، لكني أخشى أن يأكل التتار البطيخ، ونأكل نحن بعضنا بعضا! 

السبت، 8 سبتمبر 2012



 
أمير العمري- مهرجان فينيسيا


في مفاجأة من المفاجآت المعتادة في مهرجان فينيسيا السينمائي فاز فيلم "بيتا" Pieta  من كوريا الجنوبية للمخرج كيم كي- دوك بجائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم من أفلام المسابقة التي شملت 18 فيلما ولم يبرز فيها فيلم يتفق عليه الجميع كـ"تحفة" المهرجان.

فقد انقسم النقاد حول فيلم "إلى الأعجوبة" الأمريكي لتيرنس ماليك، بل قابله بعض الصحفيين بصفير الاستهجان عند عرضه الصحفي في المهرجان قبل يوم من العرض العام.

وعموما صفير الاستهجان أصبح ظاهرة هذا العام في حالة عدم الإعجاب بفيلم من الأفلام فقد قوبل أيضا الفيلم الكوري الجنوبي بصفير استهجان صدر عن قطاع من النقاد والصحفيين أعقب عرضه تماما كما قوبل الفيلم الإسرائيلي "إملأ الفراغ"، وغيره.

الممثل فيليب سيمور هوفمان يحمل تمثال جائزة أحسن ممثل


وقد حصل الفيلم الأمريكي "المعلم" The Master  للمخرج بول توماس أندرسون على جائزة الأسد الفضي كأحسن إخراج، وتقاسم بطلاه الممثلان جوكن فيليبس وفيليب سيمور هوفمان جائزة أحسن ممثل.

أما جائزة أحسن ممثلة فقد ذهبت كما توقعنا في مقل سابق، إلى الممثلة الإسرائيلية خداش يارون عن دورها في فيلم "إملأ الفراغ".

وحصل النمساوي أولريش سيدل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمه "الفردوس: الإيمان".Paradise: Faith

جائزة أفضل سيناريو حصل عليها الفرنسي أوليفييه اسايس عن فيلم "بعد مايو" (شيء ما في الهواء).

وذهبت جائزة أفضل تصوير للفيلم الإيطالي "لقد كان هو الإبن" للمخرج دانييل شيبري.

وحصل المخرج التركي علي عيدين على جائزة أفضل عمل أول عن فيلم "الطحلب".

وبهذا يسدل الستار على الدورة التاسعة والستين من هذا المهرجان العريق. 

الجمعة، 7 سبتمبر 2012

الأفلام الإسرائيلية في مهرجان فينيسيا (2 من 2)





نهاية الحلم الصهيوني
 
 
أمير العمري- مهرجان فينيسيا
 
 
 
بات من الواضح أن السينما الإسرائيلية لم تعد تهتم كثيرا كما اعتادت أن تفعل، بقضايا الصراع العربي- الإسرائيلي أو بإشكالية العلاقة مع الآخر، الفلسطيني، وتعقيداتها، وهو ما نلمسه من خلال الأفلام الستة التي عرضت في المهرجان ولم يتضمن أي فيلم منها إشارة إلى الموضوع.
 
والواضح أن السينما الإسرائيلية أصبحت تهتم في الوقت الحالي على الأقل، بموضوع العلاقة بين المواطن والدولة، وإحباطات الفرد بسبب حالة التردي الاقتصادي والمعاناة الشديدة التي يعيشها المواطن الإسرائيلي اليوم محروما من "الغطاء الاقتصادي" الذي بشرته به الصهيونية طويلا، لحساب التركيز الدائم على قضية "الغطاء الأمني".
 
هزيمة مشروع الصعود في مجتمع "الحلم" الصهيوني هو مثلا ما يتناوله فيلم "خيوتا وبيرل: مدخل" Hayuta and Berl  للمخرج عمير مانور، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول بعد فيلميه القصيرين "حمر" (40 دقيقة) الذي أخرجه عام 2007، وفيلم "حطام" (47 دقيقة) عام 2008.
 
وهو يختار شخصيتين من كبار السن، رجل وزوجته في الثمانينيات من عمرهما، عاشا سنوات صعود الحلم الصهيوني ضمن حركة العمل الإسرائيلية، أو حركة اليسار الصهيوني التي كانت في الحقيقة هي الأساس الاقتصادي الذي ارتكزت عليه الدولة فيما بعد، أي عند تأسيسها، من خلال ما عرف بالهستدروت، أو اتحاد نقابات العمال الذي تأسس عام 1920.
 
ليس هناك الكثير في هذا الفيلم عن الخلفية السياسية للموضوع أو بالأحرى عن الشخصيتين الرئيسيتين، وهما رجل وامرأن، زوج وزوجة، بيرل وخايوتا، أنجبا ابنا واحدا يقيم حاليا في الخارج، بعد أن اضطر للهجرة من إسرائيل للعيش في بلد السمن والعسل الحقيقية (أمريكا) بسبب تدهور مستوى الحياة في إسرائيل وعدم قدرته علىتحمل قسوة العيش، وما يفرضه الأب أيضا من قواعد صارمة في إدارة شؤون الحياة اليومية. ونفهم من خلال الحوارات التي تلمس هذه العلاقة بين الأب والإبن، بين بيرل وخايوتا، أن العلاقة بين الأب والإبن لم تكن على ما يرام، وتنحي خايوتا في ذلك باللائمة على زوجها.
 
يبدأ الفيلم بمشهد طويل عندما تصل أخصائية اجتماعية إلى منزل الزوجين بشكل في زيارة مفاجئة لكي تجري لكل منهما اختبارات معقدة لمستوى الفهم والقدرة على الحركة وعلى القيام بالأعمال الحياتية الأولية داخل المنزل، حتى تعرف ما إذا كانا يتمتعان بحالة تسمح لهما بالبقاء في المسكن دون الانتقال إلى ملجأ للمسنين، وتقول لهما إن الاختبار مهم لكي يضمنا أيضا استمرار حصولهما على الإعانة التي تقدمها لهما الدولة.
 
الرجل (بيرل) الذي عاش فترة العمل في الكيبوتزات ومر بتجربة تجسيد الفكرة (الاشتراكية) الصهيونية، يريد أن يستعيد ذلك الحلم القديم الزائل، بعد أن تقدم به العمل ووجد نفسه على هامش المجتمع، وربما رغبة في التشبث بذلك الحلم القديم تعويضا على احباطات الواقع، فهو يبدأ في الاتصال بمجموعة من العجائز من أبناء جيله، يريد اعادة تجميعهم في كيان تطوعي يطلق عليه "مجتمع الدائرة" circle communityبينما تحاول الزوجة (خايوتا) أن توقظه من أحلامه وتلفت نظره إلى ما في الفكرة من خيال، وأنه لم يعد هناك أحد سيمكن أن يتحمس لهذا النوع من الأفكار المثالية.
 
وعندما يشارك بيرل بمداخلة تليفونية في برنامج اذاعي على الهواء، طارحا فكرته، يحاوره المذيع ساخرا من الفكرة، ثم يقطع عليه بسبب "ضيق الوقت".
 
 
لقطة من فيلم "خايوتا وبيرل"
 
يعيش الثنائي حياة الفقر والفاقة، الطعام الباقي في البيت قليل لا يكفي طفلا، الكهرباء تنقطع بسبب محاولات بيرل اصلاح جهاز التليفزيون المعطل دون جدوى، ويستمر النصف الثاني من الفيلم في الظلام داخل المسكن البارد.
 
تكون خايوتا قد خرجت لشراء الدواء الذي تحتاجه، لكنها تقرر فجأة أيضا أن تذهب إلى السينما حيث تشاهد فيلم "انديانا جونز".. ينتهي الفيلم ويغادر الجمهور دار العرض لكنها لا تريد المغادرة، فقد أصبحت فكرة العودة إلى المنزل مرهقة تثير الكآبة والرفض. لكنها تغادر مضطرة في النهاية تحت ضغط عامل السينما، تتحدث تليفونيا مع ابنها في أمريكا، تخبره وهي تضحك أنها كانت تشاهد انديانا جونز. تبكي وتضحك في وقت واحد بعد أن تنتهي المكالمة بما يشي بتدهور حالتها العقلية أيضا. تحاصرها متسولة عجوز وهي داخل كابينة التليفون، تصر على أن تعطيها شيئا.. بعض النقود التي لا تملكها فقد رأينا كيف أنها عجزت عن شراء أنواع الدواء الثلاثة التي تتناولها مكتفية في النهاية بنوع واحد فقط بسبب عدم توفر ما يكفي معها من المال.
 
تقابل في طريقها رجلا يبحث عن ابنته التي فقدها. يبدو الرجل شاردا وقد فقد عقله تقريبا. يتشبث بها كما لو كان يتشبث بأمه. مشهد سيريالي غريب، في أحياء هامشية متدهورة، تنتشر فيها القمامة، وينتهي المشهد الغربي الذي يدور في الليل بأن يندفع الرجل لكي يرقد على صدر خايوتا ويبكي.. إنه بالقطع تحت تأثير المخدر.. تربت هي على ظهره..وتنجح في التخلص منه بصعوبة.
 
يأتي صوت مذيع من الراديو يقول إن 100 ألف شخص انضموا الى طوابير الفقراء في البلاد. مشهد تسجيلي بالأبيض والأسود لمزارع العمل الجماعية في الثلاثينيات والأربعينيات، ولقطة سريعة لتمثال لينين.
 
تعود لتجد بيرل يرقد في الظلام. لكنه يقول لها إنه استأجر فستانا بديعا كلاسيكيا يليق بحفل عيد ميلادها وآتى لها ببعض الزهور. يطلب منها أن ترتدي الفستان.. ويرتدي هو البذلة التي استأجرها من محل في وسط المدينة لهذه المناسبة.
 
يخرج الاثنان، يتجولان.. يدعوها الى تناول قطعة من البيتزا من كشك صغير رخيص. يقول لهما البائع الشاب إنه سيغلق وينصرف لأن الوقت متأخر.. لكنه يستدرك فيعطيهما قطعة من البيتزا مما يقى لديه.. مجانا.. يتناولها الاثنان في سعادة ثم يبتعدان.
 
كيف سيكمل الثنائي خيوتا وبيرل حياتهما أو ما تبقى لهما من العمر؟
 
فيلم جيد جدا بل هو أفضل ما شاهدت من الأفلام الاسرائيلية الخمسة، لأنه يعبر ببساطة وشاعرية ودون إحالات مباشرة، عن خشونة الواقع، ونهاية الحلم الصهيوني الكاذب، ببراعة وبلاغة سواء في استخدام الصورة والضوء (نصف الفيلم يدور تقريبا في الظلام أي تحت إضاءة شاحبة ضعيفة للغاية بعد انقطاع التيار داخل شقة الثنائي وفشل بيرل في استعادتها حتى النهاية)، إلى جانب البراعن الشديدة في التصوير داخل ذلك الديكور الضيق الطبيعي، والتعامل مع الممثلين الرئيسيين بكل هذه التلقائية والقدرة على الأداء الواثق أمام الكاميرا. وخصوصا الممثل يوسف كارمون الذي قام بدور بيرل.
 
في أحد المشاهد يذهب بيرل لبيع ذخيرته من كتب تاريخية نادرة، لكن البائع يعرض عليه مبلغا قليلا من المال لا يتناسب مع قيمة الكتب. يعود بيرل ليقوم بحرق مجموعة الكتب. وعندما تتساءل خيوتا عن سبب ما يفعله يقول لها: لقد بنينا مجتمعا جديدا ولكنهم باعوه لنا.. ان مشكلتنا أننا ظللنا مخلصين لأنفسنا". تواسيه هي فتقول له: إن كل شيء يمكن إصلاحه. لا يبدو أنه يصدقها.
 
العلاقة بين الثنائي مرسومة بدقة شديدة من جميع تفاصيلها: الحركة، اللغة، الضوء، حجم اللقطات القريبة في الغالب، تجسي التناقض بين الجيل الجديد (الذي تمثله الأخصائية الاجتماعية) وبين جيل بيرل وخيوتا. ويستدعي أسلوب المخرج في التعامل معهما إلى الأذهان الفيلم البديع الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان "الحب"، الذي تألق فيه الممثلان: جان لوي ترنتينيان وإيمانويل ريفا. ولاشك أن هناك تأثرا ما بهذا الفيلم ينعكس على طريقة تصميم الفيلم بل وفكرته أيضا، فهو كذلك فيلم عن تلك العلاقة التي تربط بين زوجين لأكثر من ستين عاما، مليئة بالب والإخلاص والتساند حتى النهاية.
 
الممثل إيفجي في لقطة من فيلم "الرجل الذي يقطع الماء"
 
 
الرجل والماء
وبينما عرض "خيوتا وبيرل: مدخل" في قسم "أيام فينيسيا، عرض فيلم"الرجل الذي يقطع الماء" The Cutoff Manللمخرج إيدان هوبل في قسم "آفاق". يقوم ببطولة هذا الفيلم الممثل الإسرائيلي الشهير موشي إيفجي Moshe Ivgyالذي سبق أن قام ببطولة الفيلم الشهير "نهائي كأس العالم" عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي للمخرج عيران ريكليس (1991).
 
هذا أيضا فيلم عما وصلت إليه الحالة الاقتصادية لسكان إسرائيل في الوقت الحالي.
 
رجل في منتصف العمر (جابي)، عاطل عن العمل، يضطر لقبول عمل صعب بالقطعة، يرفضه الكثيرون نظرا لدلالته البشعة، يتلخص في قطع الماء عن أصحاب المنازل الذين تعجزهم الظروف الاقتصادية عن دفع فواتير المياه.
 
ويتعين على هذا الرجل أن يتوجه بنفسه إلى كل منزل من منازل المتأخرين عن السداد، يطالبهم أولا بضرورة دفع الفاتورة، وعند عدم الاستجابة، كما يحدث في كل الحالات التي نراها في الفيلم، يقوم صاحبنا بفصل أنابيب توصيل المياه للمنزل، مما يعرضه للاشتباك مع السكان، والتعرض للاعتداءات النفسية والجسدية.
 
إنه يحصل على 11 شيكلا عن كل منزل يقطع عنه المياه. وهو يشعر بالعار مما يقوم به. لكن ماذا سيفعل وهو في حاجة إلى المال.
 
معروف أن الماء له أهمية شديدة الخصوصية (مع الأرض) في الثقافة الإسرائيلية عموما، ربما أكثر منها في أي بلد آخر، بسبب ندرة مصادر المياه، والحاجة الشديدة إليها. إنها رمز الحلم الصهيوني، فقد كانت النواة الأولى في إقامة الكيبوتزات التي توسعت وأصبحت فيما بعد مدنا وقرى، بفضل الزراعة.
 
بعد سلسلة من الصدامات والمتاعب الناتجة عن القيام بهذا العمل المرفوض شعبيا، يجد الرجل نفسه فجأة دون عمل، فالانتخابات على الأبواب، وليس من الممكن أن تقتطع البلدية الماء عن المنازل في ظروف الانتخابات. السياسة إذن تتدخل في حياته ومصيره الشخصي، والنفاق السياسي يلعب دورا في التحكم في حياة الآخرين.
 
الإبن مجند في الجيش لكنه غير قانع بما يقوم به.. يفر من الجيش لكنه يضطر للعودة في اليوم التالي مباشرة لكنه غير سعيد بعودته مضطرا. يطلب بعض المال من الأب. يبيع الرجل مواسير المياه التي يفصلها لكي يعطي ابنه المبلغ الذي يحتاج إليه. تنتهي الانتخابات فيعود الرجل الى استئناف مهمته القذرة. لكن هل سيستمر فيها؟ ينتهي الفيلم والتساؤل معلق!
 
فيلم غريب جديد في موضوعه على السينما الإسرائيلية، وكأنه يجعل من مشكلة التيه اليهودي "التوراتي" مشكلة أرضية تماما، تتعلق بالوضع الاجتماعي والحالة المعيشية الصعبة التي يتعرض لها الفرد في المجتمع الإسرائيلي اليوم.
 
فيلم هاديء الإيقاع، يعتمد أساسا على الممثل الواحد، وعلى نسج بعض اتفاصيل الصغيرة وإدخالها إلى النسيج العام للفيلم، لكنه لا يضل أبدا عن موضوعه، ولا يفقد التحكم في الأسلوب: الطابع اكئيب الذي يطغى على الصورة.. اللقطات الثابتة المتوسطة والبعيدة.. العزلة التامة المحيطة بالبطل- اللابطل.
 
إن تلك السمة من الاكتئاب التي نلمحها طيلة الوقت على وجه "جابي".. الشخصية الرئيسية في الفيلم، لهي أمر غير مألوف في السينما الإسرائيلية التي كانت في الماضي تحتفي بالقوة، والصمود، والنصر، وتتباهى بذلك المجتمع المتحرر الذي يكفل الفرد ويضمن له مستقبلا مزدهرا في نطاق الحلم الصهيوني.. دخلت الآن مرحلة ما بعد زوال الحلم، مرحلة الظلال، وانعدام الوضوح، والرؤى المختلطة المرتبكة التي يعبر عنها هذا الفيلم أفضل تعبير.
 
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger