الجمعة، 2 مارس 2012

حول قرار منع عرض فيلم "الخروج" في الأقصر




أمير العمري



بغض النظر عن أي ملاحظات على "ظاهرة" مهرجان سياحي باسم السينما أقيم بشكل مغامر في مدينة الأقصر بصعيد مصر، وبغض النظر عما يكتبه ناقد يعمل مستشارا لمهرجان مقابل أجر معلوم، من دعاية فجة للمهرجان (الذي يعترف بأنه لم يحضره!!)، واصفا القائمين عليه بأنهم من رواد الحركة الفنية المستقلة في مصر (وهي أوصاف عمومية فارغة من المعنى يمكن ن تقال عن أي شخص يراد امتداحه) نقول يغض النظر عن كل هذه الترهات التي تنتشر انتشار الوباء في الصحافة المصرية هذه الأيام بما فيها تلك التي تسمى نفسها مستقلة (والأجدر أن نطلق عليها "مستغلة"!) يجب أن نؤكد أن قيام الرقابة على المصنفات الفنية (وهو جهاز إداري سيء السمعة والصيت يخضع للدولة البوليسية التي تحكم مصر من عام 1954) بمنع فيلم "الخروج من القاهرة" للمخرج هشام العيسوي (وهو مصري يقيم في الولايات المتحدة ويعتبر في عرف المباديء الدستورية التي أصدرها العسكر بالاشتراك مع العصبة الفاشية التي تسمى نفسها الاخوان المسلمين، من المشكوك في ولائهم الوطني بحكم أنه يحمل الجنسيتين، ألأمريكية والمصرية)..
هذا المنع من العرض في مهرجان الأقصر يعد أكبر اعتداء على الحريات الفنية والفكرية في مصر منذ ثورة 25 يناير التي أطتحت برأس النظام دون الاطاحة حتى الآن بالنظام نفسه بدليل بقاء مثل هذا الجهاز البوليسي يتحكم فيما نراه وما لا نراه، وكأن الأخ سيد خطاب مدير الرقابة يفهم أكثر منا أو أنه أكثر حرصا منا على سلامة الأمن القومي المصري الذي تهدده في الواقع تصرفات عصابات المتأسلمين والسلفجيين الملتحين الذين خالفوا الدستور أو المباديء الدستورية التي أصدروها مع العسكر عندما أقسموا اليمين تحت قبة البرلمان للولاء لمبادئهم وليس للمباديء الدستورية التي اعتبروها قمة الانتصار لأنها أبقت على المادة الثانية في الدستور القديم الساقط، التي تنص على ن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، في حين أن الدولة كيان اعتباري يضم الجميع مسلمين ومسيحيين ويهود بل وملحدين، ومن حق الجميع في ظل الدولة الحديثة، أن يعتنقوا من العقائد والتفاسير ما يشاءون شريطة ألا يسعى أحد لفرضها على الآخرين.

لقد سبق أن كتبنا عن فيلم "الخروج" في هذه المدونة عندما عرض في ديسمبر 2010 في مهرجان دبي السينمائي، واعتبرناه عملا واقعيا صادقا وأصيلا في تعبيره عما يجري في الواقع بل ويمكن القول الآن، إنه كان من تلك الأفلام التي تعد إرهاصات للثورة نفسها. فكيف يأتي الرقيب اليوم ويمنع عرضه في الأقصر بدعوى أنه لم يحصل على تصريح بالتصوير من البداية!

والغريب أيضا ان قرار المنع امتد ليشمل العرض الخاص المحدود على لجنة التحكيم الدولية في المهرجان المشار إليه!

ان منع "الخروج" هو أكبر اعتداء على الثورة المصرية الشعبية التي أطاحت بالديكتاتور التافه حسني مبارك ولاتزال تعمل على استئصال أتباع مبارك وزبانيته.

وهو ما يقتضي الاحتجاج من طرف كل السينمائيين والمدافعين عن حرية الرأي والفكر في مصر والعالم.


الأربعاء، 29 فبراير 2012

عن أكذوبة المهرجانات واستقلالها عن الدولة




يروج البعض هذه الأيام لمقولة أن المهرجانات الكبرى في العالم لا تقيمها الدولة بل الجمعيات السينمائية، وأن تدخل الدولة بالضرورة يعد أمرا سلبيا.

هذه المقولة ليست صحيحة بل فيها الكثير من لوي عنق الأشياء بغرض تكريس شيء محدد لخدمة مصالح شلل معينة خصوصا عندما يتعلق الأمر بمهرجانات يقيمها حفنة من المغامرين الذين هم أبعد ما يكونوا عن التعامل مع الثقافة السينمائية، ولم يسبق لهم القيام بأي نشاط في هذا المجال من قبل، ومنهم من هبط بالباراشوت فجأة، منتهزا فرصة تلاشي الدولة في مصر، والفوضى العامة القائمة في خضم وصول المتأسملين الى السلطة!

إن القول بأن المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم كله لا تقيمها الدول بل جمعيات الأفراد مقوزلة كاذبة تماما، فمهرجان فينيسيا أقدم هذه المهرجانات يقيمه بينالي فينيسيا للفنون، وهي مؤسسة تمولها الحكومة الايطالية وتحصل على الكثير من الدعم من مؤسسات أخرى تهتم بالشأن الثقافي، وهو ما يحدث عموما في البلدان الرأسمالية المتقدمة.

ومهرجان كان تتعاون في اقامته بلدية مدينة كان ووارة الثقافة الفرنسية ووزارة السياحة وجهات ومؤسسات أخرى. وقد تشرف على إدارته مؤسسة أهلية تسمى نفسها جمعية، لكن وجود الدولة بشكل رسمي سواء من خلال المال أو المشاركة المباشرة أمر لا يمكن اغفاله.

ومهرجان برلين هو مهرجان رسمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أي أنه مؤسسة تابعة للحكومة الألمانية تشرف عليه وزارة الثقافة.

والمهرجانات الكبرى في العالم خارج هذه المهرجانات الثلاثة الشهيرة كلها تقام من طرف الدولة، مثل مهرجان موسكو وكارلو فيفاري وفيينا وروتردام وحتى مهرجان لندن يقيمه مركز السينما البريطاني الذي تموله الدولة وتشرف عليه.
والحقيقة أن المؤسسات الخاصة في مصر والعالم العربي لم ترق بعد الى مستوى تنظيم واقامة المهرجانات السينائية بشكل مشرف. ولدينا في هذا عبرة من مهرجان الاسكندرية سيء الصيت، الذي تقيمه جمعية سينمائية أهلية منذ نشأته وحتى الآن دون أي نجاح يذكر، بل إنه يسير من فشل الى فشل!
والناقد الذي يروج لفكرة استقلالية المهرجانات عن الدولة كان أول من هاجم جميعة نقاد وكتاب السينما التي بدأت في اقامة مهرجان القاهرة السينمائي في 1976، ولعدة سنوات كان يطالب بضرورة أن تقيمه وزارة  الثقافة، لكنه اليوم غير من توجهه الفكري والسياسي.
صحيح أن الدولة التي لا تؤمن بالثقافة لا تستطيع اقامة مهرجانات جيدة، لكن أن تحصل المهرجانات (الأهلية الخاصة) على كل الأموال التي تنفقها من الدولة ثم تتحدث عن الاستقلال عن الدولة هو أمر مضحك بل ومثير للسخرية، فلماذا لا تستقل هذه المهرجانات الى أن تمتلك القدرة على الانفاق على نشاطها بنفسها إذن؟ وكيف يمكنها أن تحقق دخلا ماديا دون أن تلجأ إلى أفلام العري والاثارة الرخيصة والاستعانة بمجموعة من المهرجين ومروجي الدعايات الفارغة المصنوعة سواء في الصحف أو على شاشات التليفزيون!
ان الحديث عن الاستقلالية هو حديث حق يراد به باطل، وملفات مهرجانات القطاع الخاص ومبالغاتها في انفاق الأموال التي حصلت عليها من مؤسسات ووزارات حكومية في مصر، في حاجة إلى أن نفتحها ونكشفها بالأرقام لكي تصبح الحقائق واضحة أمام من يخدعهم البعض بالأحاديث الزائفة عن خدمة الثقافة وخدمة الوعي السينمائي في حين أن مصالح وجيوب البعض هي المحرك الأساسي لكل هذا الحراك أو الهراء الذي يحيط بنا!

فيلم "ثمن الملوك.. ياسر عرفات": وثائق جديدة ولكن ما الثمن؟





أمير العمري



عرض الفيلم الوثائقي الجديد "ثمن الملوك.. ياسر عرفات" في قسم "ليالي عربية" في الدورة الثامنة من مهرجان دبي السينمائي (7- 14 ديسمبر) ولقي اهتماما اعلاميا كبيرا بسبب ما سبقه من دعاية تقول إنه يضم الكثير من الوثائق المصورة النادرة، وأن إرملة الزعيم الفلسطيني الراحل الكبير، سها عرفات، تتحدث فيه للمرة الأولى.

ولعل من المعتقدات الراسخة لدى معظم الفلسطينيين، خاصة أعضاء ما يسمى بـ"النخبة" السياسية منهم، أن عرفات (أبو عمار، لختيار) هو المعادل "البشري" للقضية الفلسطينية، أو أن القضية الفلسطينية تتجسد في شخص ياسر عرفات، وهي إشكالية سياسية تنتج عنها إشكاليات فنية عند التعرض لشخصية "القائد والزعيم" في السينما.

وفيلم "ثمن الملوك" من الانتاج البريطاني ومن اخراج المخرج الانجليزي ريتشارد سيمونز، وهو نفسه الذي قام بعمل المونتاج للفيلم.

يستعرض الفيلم على مدى 73 دقيقة، تاريخ القضية الفلسطينية من خلال شخصية عرفات، ويقدم الكثير من الشخصيات الفلسطينية التي لعبت دورا مباشر أو موازيا لدوره وبالتعاون معه في معظم الأحوال، مثل بسام أبو شريف المسؤول عن عملية اختطاف طائرتين في سبتمبر 1970 وتحويلهما الى الأردن حيث تم تفجيرهما بعد اخلائهما من الركاب، ونبيل شعث مستشاره السياسي، وناصر القدوة أحد أقربائه وكان مندوب فلسطين في الأمم المتحدة، ومن الجانب الإسرائيلي رئيس الوزراء الأسبق شيمون بيريز، والصحفي أوري أفنيري وكان من دعاة السلام وصديقا شخصيا لعرفات. وغابت بالتالي الرؤية "النقدية" في الفيلم لشخصية عرفات باستثناء تعليق عابر لحنان عشرواي التي قالت إنه رغم أن عرفات شخصيا لم يكن فاسدا، إلا أنه كان يحيط نفسه بمجموعة من الفاسدين يستخدمهم لتحقيق مآربه، وكان بالتالي مسؤولا عن فسادهم.

بورتريه ناقص
فيما عدا هذا التعليق الفيلم بأكمله عبارة عن "بوتريه" يهدف إلى تمجيد شخصية ياسر عرفات من خلال تاريخ القضية، حيث يحيطه الفيلم بلمسات "أسطورية"، كما يضفي على شخصيته سمات البطولة والشجاعة والحكمة، ويتعامل مع شخصيته باعتبارها شخصية تراجيدية كان لابد أن تلقى مصرعها في النهاية كما حدث، أي بالقتل من جانب الطرف الإسرائيلي، رغم أن الفيلم في سياق ازدحامه بعشرات الوثائق والصور الفوتوغرافية والمقابلات المصورة، لم يهتم كثيرا بالتوقف أمام ذلك "الموت المعلن" والبحث في تفاصيله وكيف أنه مر مرور الكرام في العالم العربي تحديدا!
ويخصص الفيلم المساحة الأهم للمقابلة التي أجراها المخرج مع سها عرفات، أرملة الزعيم الفلسطيني الراحل.

يبدأ الفيلم بتقديم الشخصيات التي ستظهر في الفيلم عبر مقتطفات سريعة أو تصريحات مقتضبة مما ورد في أحاديثهم عن عرفات، ثم يعود الى لقطات من الأرشيف، من عام 1968 بالأبيض والأسود لتدريبات قوات منظمة فتح على السلاح، ثم لقطات مصورة لاحتجاز عدة طائرات ثم تفجيرها في الأردن عام 1970، وحديث لبسام أبو شريف يدافع فيه عن اختطاف الطائرات في تلك العملية الشهيرة، ويرى أنها فتحت عيون العالم على القضية الفلسطينية بعد أن كان هناك من يتساءلون، وعلى رأسهم جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت "من هم الفلسطينيون"؟

يعود الفيلم في الزمن الى الوراء، إلى تاريخ المذابح التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية في فلسطين عام 1948، في اللد والرملة ودير ياسين، من خلال مشهد "فوتومونتاج" يجمع لقطات لعرب فلسطين وهم يفرون أمام اقتحام القوات الاسرائيلية للبلدات والقرى الفلسطينية بغرض ترويع سكانها.



ويتحدث أوري أفينيري عن تاريخ الارهاب الصهيوني، ويروي كيف أنه في 1974 طرح رابين مبادرة للسلام مع الفلسطينيين الا انهم رفضوها قفد كانت تمنح الفلسطينيين 22 في المائة من أرض فلسطين، وتقول سها عرفات ان عرفات تعرض في حياته لاثنتين وعشرين محاولة اغتيال نجا منها جميعها قبل أن تنجح المحاولة الأخيرة، ويظهر رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق اسحق شامير لكي يحذ من التعامل مع عرفات.


يتوقف الفيلم طويلا أمام اتفاقية أوسلو، وشجاعة عرفات في قبولها رغم ما جلبته عليه من هجوم من داخل المعسكر الفلسطيني.

ونصل الى التوقيع الشهير بين رابين وعرفات بحضور الرئيس الامريكي الأسبق بيل كلينتون في البيت الأبيض عام 1993 وتعليق نبيل شعث على ما حدث في المصافحة الشهيرة بين الرجلين، ثم عملية الخليل التي قتل خلالها باروخ جولدشتاين عددا كبيرا من المصلين الفلسطينيين، ثم اغتيال رابين على يدي متطرف يهودي.

لا احد في الفيلم يتحدث عن الجوانب الشخصية لياسر عرفات باستثناء جزء من حديث سها التي تتوقف أمام لقائهما الأول بعرفات، ثم عن زواجهما، وعن ابنتهما "زهوة".

ويمكن اعتبار الجزء الأول من الفيلم عن عرفات من خلال قضيته السياسية في مرحلة الصعود وصولا الى خطابه الشهير في الأمم المتحدة عام 1974 الذي وردت فيه عبارته الشهيرة "لقد جئتكم أحمل البندقية في يد، وغصن الزيتون في يدي الأخرى.. فلا تجعلوا غصن الزيتون الأخضر يسقط".

أما الجزء الثاني فهو عن عرفات من خلال المحيطين به، وكيف كانت الخيوط تضيق حوله بعد أن خذله الحلفاء والأصدقاء وأعلنت اسرائيل إهدار دمه على لسان شارون الؤي طالب بضرورة "اختفائه" من الساحة.

في الفيلم مناقشات طويلة من جانب المؤرخ أحمد الطيبي لأسباب فشل اجتماعات كامب ديفيد مع باراك ولماذا تراجع عرفات في اللحظة الاخيرة عن توقيع الاتفاق رغم الضغوط الأمريكية الهائلة، ومنذ تلك اللحظة تم التخلي عنه واطلقت يد الاسرائيليين لكي يتخون قرارا بشأنه.

حنان عشراوي تقول أيضا إن رفض عرفات التخلص من المسؤولين الفاسدين الموجودين حوله أدى إلى انضمام الكثير من الفلسطينيين الى حركة المقاومة الإسلاامية حماس.

وثائق جديدة
ويعتمد الفيلم على تقديم عدد من الوثائق المصورة الجديدة لعرفات في شبابه خلال الثورة، لكن الفيلم يهمل الفترة التي قضاها عرفات في القاهرة وفي الكويت، والأخيرة مر عليها مرورا عابرا. ويستخدم الفيلم أيضا صورا فوتوغرافية، وتسجيلات صوتية ومصورة، وتعليقا صوتيا مباشرا يروي ويشرح ويحلل ويقدم الكثير من المعلومات، في سياق وثائقي تقليدي.

لكن أخطر ما يعيب هذا الفيلم رغم احتوائه على مادة بصرية جيدة، افتقاده أولا للتوازن الحقيقي في تقديم شخصية بحجم شخصية عرفات، وثانيا: غياب سياق سينمائي مبتكر يمكن أن يربط مسار الأحداث ويبرز الشخصية في قلبها بصورة درامية تتجه الى الأمام، إلى الذروة، بل إن وفاة عرفات نفسها في النهاية لا يتم التوقف أمامها بما يكفي لتحليل انعكاساتها مثلا، وكأن سجل عرفات أغلق بمجرد وفاته، وهو غير صحيح تاريخيا بل ولا يجوز فنيا.


ويعيب الفيلم أيضا ابتعاده عن تناول الضغوط العربية التي كانت تمارس على عرفات، وتجاهل أسرة عرفات وأصوله ومسار حياته بحيث أصبح الفيلم لا يصلح مرجعا سينمائيا لشخصية عرفات، ولا صورة متكاملة لشخصية "الزعيم" في إطار تاريخي معين، بل مجرد سرد تقليدي لا يضيف جديدا إلى تاريخ القضية الفلسطينية ولا إلى ما سبق تقديمه من "ريبورتاجات" تليفزيونية عن عرفات، وعلى أي حال فالفيلم هو الجزء الأول من سلسلة أعمال سينتجها ريتشارد سيمونز عن عدد من الزعماء، أي أنه لا يخرج في الحقيقة عن اطار "الريبورتاج" أو التحقيق التليفزيوني.

ورغم وجود الكثير من الصور واللقطات القديمة النادرة إلا أن استخدامها خارج سياق "درامي" متماسك، أدى إلى ضياع قيمتها ومرورها مرور الكرام.

وقد يتساءل البعض هنا عن المقصود بـ"درامية" السياق.. ولهؤلاء نقول إن كل عمل سينمائي يجب أن يكون له سياق درامي حتى لو كان فيلما عن المجردات مثل أفلام البيئة، فليس من الممكن الاكتفاء بحشد المعلومات المتعاقبة على الشاشة، بل يجب خلق سياق للسرد يحتوي على ذروة درامية تشد المتفرج خاصة في هذا النوع من الأفلام التي تتناول الشخصيات التاريخية في اطار العصر.    

الأربعاء، 11 يناير 2012

هل الناقد السينمائي مروج للأفلام وجزء من الصناعة؟



يٌطرح في الكثير من الأحيان، ومنذ سنوات بعيدة، سؤال حول دور الناقد السينمائي، أي الشخص الذي يتصدى بقلمه لتحليل الأفلام والتوقف أمام نقاط القوة والضعف فيها والتوصل إلى استنتاج جمالي وفكري عليها.

هذا السؤال يتلخص في التالي: هل للناقد دور أساسي في صناعة السينما، أي كضلع أخير من اضلاعها، يتمثل في لفت الأنظار إلى الفيلم السينمائي، يروج له بطريقة او باخرى، خصوصا وأنه يجب أن يدافع عن حق صناع الأفلام (من مخرجين ومنتجين وموزعين وفنانين وتقنيين) في التعبير وفي مواصلة العمل مهما كان رأي السيد الناقد في أفلامهم، وبالتالي يقع على عاتقه القيام بدور مباشر في حماية "الصناعة السينمائية الوطنية"، بغض النظر كما قلت، عن مستوى الأفلام؟

هذا السؤال يحمل في طياته الكثير من الأسئلة الأخرى بالطبع مثل: ما هو دور الناقد السينمائي ، وهل له دور أصلا؟ وهل دوره ينحصر في الكتابة والحديث عن الأفلام فقط؟ أم عن القضايا الأكبر التي تتعلق بالسينما عموما كصناعة وتجارة وفن وحرفة..إلخ، وهل النقد جزء مكمل من العمل السينمائي ككل، أم أن عمل "طفيلي" أي يمكن ببساطة الاستغناء عنه، بدعوى أن السينمائي لا يصنع فيلمه للنقاد، بل للجمهور، وان نجاح أي فيلم جماهيريا هو أبلغ رد على النقاد، خصوصا إذا كان الفيلم من النوع الذي يتهمه النقاد بالسوقية والابتذال وضعف المستوى!

وهناك أسئلة أخرى أيضا مثل: كيف نتحدث عن النقد في غياب ثقافة فنية، بل وفي غياب منظومة تعليمية في العالم العربي تعطي للفنون أهميتها، بل ومع شيوع الأمية بمعناها المباشر أو المجازي أي الأمية "الثقافية" التي نلمسها جميعا يوميا خاصة مع الانتشار المخيف للقنوات الفضائية، وظهور عشرات المبدعين والمذيعات اللاتي لا يفقهن شيئا في أوليات الفن السينمائي لكن "المهنة" تفرض عليهم الحديث عن الافلام واجراء المقابلات مع صناعها، ولكن بطريقة الترويج المباشر، والدعاية التي تصل إلى أدنى مستوياتها أحيانا لدرجة تدفع الى التشكك والشك!

بداية لاشك أن للناقد دورا في الدفاع عن وجود السينما كفن وثقافة وفكر، وأرى أيضا أن له دورا في الدفاع عن وجود السينما كفن بغض النظر عن مستوى ما تنتجه من أفلام، لأن المستوى يتأرجح صعودا وهبوطا حسب موجات المد والجزر الاجتماعية، فالسينما حالها من حال المنتج الفني والثقافي في بلادنا، فإذا كانت دار الأوبرا التي هي كعبة الفن الرفيع، فن الموسيقى الذي يعد أكثر الفنون تجريدية، وسموا بالإنسان، قد هبطت الى أن وصل بها الحال اليوم لأن تغني فيها مغنيات الزمن الرديء، بأصوات لا قيمة لها، ومن خلال أغنيات شائعة مبتذلة تتردد كلماتها الفارغة على ايقاعات راقصة بدائية، وتخلو تماما مما يعرف في الموسيقى العربية بفن "الطرب" أو التطريب، وهو جوهر فن الغناء العربي، إذا كان هذا هو الحال اليوم، فكيف يمكن أن تكون السينما؟
لكن هناك في الوقت نفسه مهمة أساسية للناقد تتعلق بالدفاع عن الفن الرفيع، والانحياز فكريا للفن الانتقادي أو الذي يشتبك في جدل مع القيم السائدة المتخلفة في المجتمع، ويسعى للارتقاء بالذوق العام وبالسلوك الإنساني، وفتح أعين المشاهدين على وجود قيم بصرية أخرى، تستند إلى الموروث في الفن التشكيلي وفن التصوير. أي أننا عندما ندافع عن وجود السينما كفن وثقافة، لا ننسى أبدا التفرقة بين الفن الرفيع والفن الهابط المبتذل الذي يميل الى دغدغة الحواس واثارة الغرائز وابتزاز المتفرج باللعب على عواطفه ومشاعره البدائية المباشرة، بدلا من اشراكه في عملية التأمل التي يتيحها الفن الرفيع بالضرورة.
على الناقد القيام بمهمته دون أدنى مراعاة للظروف التي ينتج فيها فيلم ما يتعامل معه برؤية نقدية، فالسينما لم تولد أمس، بل منذ أكثر من مائة عام، وعندما يظهر فيلم جديد (أي مولود جديد) فهو يأتي حاملا تراث أكثر من قرن وخبرة طويلة متراكمة يبني السينمائي فوقها ليكمل على من سبقوه، ولا يصنع شيئا جديدا تماما من العدم.

بالتالي تنتفي هنا مهمة "الترويج" بدعوى "التشجيع" أي الأخذ بأيدي السينما المبتدئة، فلا توجد سينما مبتدئة تماما، خاصة عندما تتاح لها كل الإمكانيات التقنية والانتاجية، وطالما أن حجم المطلوب مناسب لمستوى الطموح الفني الذي يمكن الحكم عليه من مرحلة النص السينمائي أي السيناريو. فإذا قلنا مثلا إن مخرجا سينمائيا معينا أتيحت له كل الإمكانيات لانتاج فيلمه ثم فشل في تحقيق الطموح الفني الذي كان يصبو إليه، فكيف يمكن أن نقول إنه يستحق التشجيع!

من ناحية أخرى حتى لو لم تتوفر كل الامكانيات المطلوبة لعمل فيلم يحتوي على الحد الأدنى من الصور التي تقنع المتفرج بأنه أمام عمل فني حقيقي، تكون النتيجة النهائية مسؤولية المخرج، وليست مهمة الناقد هنا أن يلتمس له الأعذار ويبحث له عن المبررات بدعوى تشجيعه والأخذ بيده.

صحيح أن الناقد يكتب أساسا للمتفرج- القاريء، أي المتفرج الذي يفترض أنه يقرأ النقد أو يبحث عنه ويتاثر بما يقرأه إذا قامت بينه وبين الناقد علاقة ثقة وهي علاقة تولد من مصداقية الناقد وقدرته على الإفادة والإقناع، ومن جدية المتفرج- الباحث عن المعرفة والتذوق، في فهم ما بين الصور وما يكمن تحت جلدها والتعرف في النقد على مفاتيح لفهم الفيلم، دون أن يقدم له الناقد بالضرورة "وصفة" سحرية كاملة شاملة تفسر ما خفي وما غمض، وتضع امامه كل ما يحتويه الفيلم من إشارات ومعان ومضامين وأفكار، فالنقد في نهاية المطاف ما هو سوى "رؤية" شخصية تتعلق بثقافة كل ناقد ومستوى علاقته بالسينما وفهمه لتاريخها واطلاعه على نظرياتها، ومشاهداته الواسعة لاهم ما ينتج من أفلام في العالم بما في ذلك كلاسيكيات السينما القديمة والأعمال الراسخة التي تعلمت منها اجيال السينمائيين واالهواة.

لكن من الصحيح أيضا ان الناقد يكتب لكي يستفيد السينمائي سواء صانع الفيلم او غيره، من افكار الناقد ورؤيته ومنهجه التحليلي (إذا كان لديه منهج بالطبع) أو حتى من انطباعاته التي قد تفيد في معرفة انطباعات شريحة معينة من الجمهور عن الفيلم محل النقاش والنقد.

لكن هل يجب أن يتداخل الناقد مع الجانب الاقتصادي في السينما؟ أي يلعب دورا مباشرا في الترويج؟

لاشك أن هناك فرقا كبيرا بين "النقد" وبين "الترويج"، ومهمة الناقد تختلف كلية عن مهمة المروج أو مندوب الدعاية او المسؤول الاعلامي لفيلم ما، مهمته الترويج له في المهرجانات الدولية، والخلط بين المهمتين لا يؤدي سوى الى تمييع النقد، وربما لا يفيد الترويج التجاري كما ثبت في عشرات الحالات التي تولى فيها من يكتبون النقد مسوؤلية الترويج.

نعم معرفة اقتصاديات السوق السينمائية ومتغيراتها وما قد تصادفه من أزمات، والأرقام الخاصة بالانتاج ودور العرض والتوزيع والايرادات، كلها من المهم أن يتابعها الناقد وان يستوعبها ويكون قادرا على استخلاص الدروس والفوائد منها، بما يصب في وظيفته ويرفع من قدرته على التحليل والتعمق، لكن دون أن تطغى هذه الجوانب على دوره في تحليل الفيلم وتقريبه من المشاهدين، وربما أيضا التأثير على مستوى الإنتاج وتطوير الصناعة بشكل غير مباشر وفي الحدود المعروفة لدور النقد حتى في أرقى المجتمعات اهتماما به.

لاشك أن هناك من يخلطون بين النقد والترويج، وبين التداخل في الصناعة وعملية الإنتاج من خلال العمل كمستشارين انتاجيين أو حتى فنيين لبعض الأفلام، وبين مهمتهم كنقاد يتعاملون مع الزاوية الثقافية التي ترتبط بالفكر وليس بالتجارة. وأمامنا الكثير من النماذج، سواء في العالم العربي أو في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا. لكن هذا الخلط لا يحدث عادة لصالح الفن السينمائي والارتقاء به وترشيده، بل لصالح الناقد نفسه، كشخص، ينتفع من مهنة أخرى يعثر عليها، وليس تدعيما لدوره الثقافي والفكري، فالناقد مثقف، والمثقف له موقف فكري وجمالي من السينما، ومن العالم، فإذا سمح بأن تتضاءل المسافة وتتلاشى بين مهمته في توصيل الفيلم الى المتفرج وتقريبه منه وتحفيزه على مشاهدته والاستفادة مما يطرحه أو الاستمتاع البصري الجميل به في حد ذاته (وهو هدف مشروع في الفن ايضا طالما أن هناك قيمة إنسانية كبرى تكمن بين طيات العمل السينمائي)، وبين دوره كمروج ومدير دعاية للفيلم، هنا فإن الناقد يخون نفسه، ويتنكر لدوره الحقيقي بل ويصبح على نحو ما، ضالعا في الفيلم نفسه كمنتج تجاري وليس كناتج ثقافي، يحصل على نصيبه من المال مقابل الترويج للسلعة. ومن يروج لسلعة ما لا يمكنه أن يرى فيها عيوبا.

الناقد جزء من صناعة السينما ليس بالغاء المسافات بينه وبين الموزع والمنتج ومدير الدعاية، بل عن طريق القيام بدوره الثقافي والجمالي، بالبحث عن مناطق الجمال في الفيلم، وبمعرفة لماذا لم يحقق فيلم ما هدفه، ولماذا فشل في الوصول برؤيته إلى مستوى أن يكون "عملا فنيا" والفارق كبير بين عمل فني ينتمي لتاريخ الفنون في بلده والعالم، وبين نتاج اجتماعي أو "إفراز" طبيعي لحقبة من التردي الاقتصادي والاجتماعي، أي أنه في هذه الحالة ليس من الممكن فهمه إلا في ضوء تحليله ضمن الظاهرة الاجتماعية (في ترديها وانحدارها). هنا لا يصبح الفيلم عملا قائما في حد ذاته، بل نتاجا مباشرا لحالة اجتماعية متغيرة.

والموضوع بالطبع، ممتد ومتشعب، وله مزالقه ايضا ومنحنياته.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger