الاثنين، 17 يناير 2011

قولوا لي ماذا تشاهدون من أفلام أقول لكم من أنتم!

القاهرة ـ ' القدس العربي': يصدر خلال أيام عن مكتبة مدبولي في القاهرة، كتاب ' شخصيات وافلام من عصر السينما' للناقد السينمائي أمير العمري، هو الكتاب الثاني عشر للمؤلف. ننشر هنا مقدمة الكتاب الذي يعتبره مؤلفه ' أقرب كتبه إلى نفسه وأكثرها تعبيرا عن رؤيته وتجربته:
نعم كان هناك ' عصر السينما'. كان هذا ' عصرنا' نشأنا فيه وعشناه، وشهدنا كيف كان، وأين ذهب. وآمل أن تتكفل صفحات هذا الكتاب بالإجابة على التساؤلات الخاصة بعصر السينما: معناه ومغزاه وملامحه، كيف كان، وأين انتهى، ولماذا.
كان العصر الذي أقصده، في الماضي، في الخمسينيات والستينيات وقسط كبير من سبعينيات القرن الماضي، لكنه شحب وتضاءل في الثمانينيات، وانتهى عمليا في التسعينيات، بعد أن أصبحت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما.
كان عصر السينما عندما كانت الأسر من الطبقة الوسطى، تصطحب أبناءها وتذهب إلى دار السينما عصر يوم الخميس أو الجمعة، دون أي حرج، بل كانت رحلة الذهاب إلى السينما طقسا من الطقوس البديعة التي تستعد لها الأسرة في مصر، بإعداد الملابس التي سترتديها ربة الأسرة وبناتُها وأبناؤُها، وربما تُعد الأم أيضا بعض المأكولات الخفيفة التي يمكن تناولها خلال فترة الاستراحة بين الفيلمين، فقد كانت دور العرض، خصوصا في الأحياء وعواصم المحافظات، تعرض فيلمين، على طريقة ' العرض المستمر'، ينتهي الفيلم الثاني فيبدأ مرة أخرى، عرض الفيلم الأول، وهكذا.
كانت مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي هي المتعة الأولى لدى أسر الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، إلى جانب الاستماع للحفل الشهري الذي كان يبث إذاعيا، للسيدة أم كلثوم. وكان هذا الحفل يحظى في الكثير من الأحيان، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر ومجموعة من صحبه.
كنا نعيش ' عصر السينما' عندما كانت السينما إحدى الركائز الثقافية في المجتمع، بل والأسس الاقتصادية للدولة أيضا. وكان الفيلم وسيلة وغاية في الوقت نفسه، كان وسيلة لتوصيل فكرة ما، أو موعظة، أو حكمة أخلاقية من وراء القصة التي يرويها. وكان هدفا في كونه وسيلة للتعبير الفني، لبيان قدرة الممثلين على التشخيص ومنافسة ممثلي المسرح، بل وكان الكثير من الممثلين ينتقلون ما بين المسرح والسينما، ويرتفعون بالتالي بفن الأداء التمثيلي كثيرا.
كان عصر السينما عندما كانت هناك قامات في التمثيل تتألق على الشاشة الفضية مثل حسين رياض، وعبد الوارث عسر، وسراج منير، وزكي رستم، وسليمان نجيب، ومحمود المليجي، ونجيب الريحاني، وزكي طليمات، ومحمود مرسي، وأمينة رزق، وفاتن حمامة، وشكري سرحان، ومريم فخر الدين، وفريد شوقي، ومحسن سرحان، ويحيى شاهين، ومحمد توفيق، وسعيد ابو بكر، وعدلي كاسب، وتحية كاريوكا، وشادية، وعمر الشريف، وغيرهم كثيرون.. كثيرون.
كان تعامل المخرج وباقي العناصر الفنية مع الفيلم، أثناء عملية التصوير نفسها، تعامل الهواة المحبين، الذين يسعون إلى التجويد والإجادة، ينشدون استخدام كل مفردات السينما كفن وصناعة، لتجسيد العالم كما يرونه: رومانسيا بسيطا، أو واقعيا معقدا. وفي الحالتين كان الجمهور يقبل على الفيلم، يدعمه بالقروش التي كان يشتري بها تذاكر دخول السينما، وكان هناك اهتمام بعدم التنازل على مستوى الصنعة، بل بالتطلع إلى مجاراة المستوى الاحترافي للفيلم الأمريكي عندما كانت هوليوود تعيش عصرها الذهبي. وكانت محاكاة الفيلم الأمريكي في ' عصر السينما' أمرا أساسيا، ولكن هذه المحاكاة لم تكن تتمثل في نقل القصة أو اقتباس السيناريو وتمصيره بالضرورة، بل في مجاراة أسلوب الإضاءة، واستخدام الظلال والديكورات، والتلاعب بالأبيض والأسود، وكان السينمائيون يكتشفون ' نجوما' يمكنهم تقديمهم كنماذج درامية عربية توازي نجوما آخرين اشتهروا في السينما الأمريكية.
كانت هند رستم مثلا نموذجا عربيا لمارلين مونرو. وقد ظهرت معها في نفس الفترة. وكان فريد شوقي معادلا عربيا لأنطوني كوين، في حين كانت مريم فخر الدين المقابل العربي لكاترين هيبورن، وكان محسن سرحان مقابلا لهمفري بوغارت.. وهكذا.
في عصر السينما كانت دار العرض السينمائي هي أساس السينما كلها وجوهر سحرها. فلم تكن شاشة التليفزيون قد أصبحت طاغية مسيطرة كما هي الآن. ولم يكن الفيديو قد ظهر أو انتشر كما حدث فيما بعد، ولم نكن قد عرفنا بعد الاسطوانات المدمجة ( دي في دي) ومشاهدة الأفلام عن طريق الصناديق الصغيرة الموضوعة فوق المكاتب والطاولات، أي عبر أجهزة الكومبيوتر وفضاء الانترنت.
كان الفيلم في نظر الجميع، هو المصور على شرائط من مقاس 35 مم، وليس المصور بكاميرا الديجيتال أو عن طريق تقنية الفيديو الرقمية المتقدمة كما حدث حاليا. ويعتبر شريط الفيلم ' السيلولويد' الركن الأساسي في تاريخ السينما وفي عصر السينما، وكنا نتهافت للحصول على بضعة ' كادرات' من هذا الشريط ونحن أطفال، لكي نستخدمها في محاكاة آلة العرض، باستخدام ضوء ' بطارية' صغيرة خلف ثقب في علبة من علب الأحذية، نمرر من خلاله شريط الفيلم لنرى الصور على حائط أبيض في شرفة نتحلق فيها ليلا، أو تحت سرير في الظلام.
كان الديكور السينمائي ركنا أساسيا من أركان صنع الفيلم، وهو عنصر يُحسب حسابه، له خبراؤه والمختصون في تصميمه وبنائه وتنسيق المناظر في داخله أيضا، قبل أن تصبح البيوت والشوارع والمحلات التجارية أماكن أرخص، مع تقدم الابتكارات في تقنيات الفيلم الخام وتقدم درجة حساسيته للضوء، والتقدم في استخدام تقنية التسجيل المباشر للصوت.
كانت السينما في العالم قد أصبحت فنا وصناعة وتجارة، وكان هناك حديث طويل ممتد، حول أن من يسيطر على الأذرع الثلاث للسينما، أي الإنتاج والتوزيع والعرض، يسيطر تماما على تلك الصناعة ويستطيع توجيهها. ولذلك اتجهت حكومات الدول الاشتراكية إلى احتكار العمليات الثلاث، لكنها فشلت في احتكار الأفكار، أو توجيهها، فقد كانت طاقة التمرد لدى الفنان أقوى من أي قيود. ولعل أبرز دليل على ذلك، ما أبدعه المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي، الذي منع فيلمه البديع ' أندريه روبلييف' في الاتحاد السوفييتي عام 1966، وعندما اشتدت عليه وطأة النظام، هجر بلاده وعمل في إيطاليا والسويد إلى حين وفاته حيث أخرج فيلمين من التحف الكبرى في تاريخ السينما هما ' حنين' Nostalgia و' القربان' The Sacrifice .
وفي مصر خلال الستينيات، شهدت السينما تطورات درامية، بعد أن اتجهت أنظار الدولة أيضا إلى ضرورة دعم الصناعة، وتشجيع إنتاج الأفلام التي لا يستطيع المال الخاص تمويلها، وهي فترة ظهر فيها الكثير من الأفلام الجيدة دون شك، لكن هذه السياسة أصبحت مثار جدل ربما حتى وقتنا هذا، ولم تمر دون مجازفات ومخاطر بل ومنزلقات. فلم يكن ممكنا أن تتيح الدولة حرية النقد في مراحل وصفت بأنها ' مصيرية'، وعرفت مواجهات عسكرية مسلحة مع إسرائيل، وهو ما استدعى أن يكون هامش حرية التعبير محدودا للغاية، غير أن السينمائيين كانوا يستخدمون الهامش إلى أقصى مداه، ويلجأون إلى الرمز والاستعارة والتشبيه.
غير أن الجدل والصراع كانا يدفعان العجلة إلى الأمام. وكانت التجارب السينمائية الجديدة تسعى إلى أن تصبح جزءا من التيار السينمائي الإنساني عموما، أي أن تكون مصر في مجال السينما، جزءا من العالم، لا تنكفىء على نفسها مستندة إلى فكرة الريادة التاريخية وحدها، بل تلتحق بالعالم، سواء على مستوى السينما أو الثقافة عموما. فمصر شاركت في مهرجان كان مثلا، من البداية، أي في عام 1946 وامتدت مشاركتها طويلا قبل أن تتوقف.
كانت مصر، في الخمسينيات والستينيات، تسعى إلى استكمال مشروعها ' الحداثي'، وأن تنتقل لتصبح مجتمعا صناعيا إلى جانب المجتمع الزراعي الذي كان قد انتقل من نظام ري الحياض إلى الري الدائم، وفي هذا الإطار ' الحداثي' الذي يلتحق بالعصر، ويستخدم مفردات العصر، كانت السينما كفن وصناعة، تمر بفترة ازدهار كبير قبل أن تصاب بنكسة بسبب ممارسات البعض من الذين كانوا يعملون في الحقيقة، لحساب الموزع الخارجي، ويسعون لتلبية متطلباته، حتى لو كان معنى هذا تخريب السينما المصرية من الداخل. وسنجد بين طيات هذا الكتاب مثالا واضحا على ذلك النوع من التخريب.
وعندما اشتدت وطأة الأزمة السياسية في أعقاب هزيمة 1967 اصطبغ عصر السينما ببعض المتغيرات التي حملت الكثير من الآمال والطموحات، لكنها سرعان ما أجهضت.
في قلب عصر السينما، جاءت أيضا تجربة نوادي السينما، التي تعلمنا فيها كيف نتذوق الأفلام ونحللها ونناقشها ونستمتع بها. ودارت محاولات وقتذاك لجعل النقد السينمائي جزءا أصيلا من ثقافتنا، مثله مثل النقد الأدبي والمسرحي والتشكيلي، أي أنه نوع أدبي في الكتابة، يمكننا أن نأخذه على محمل الجد، وليس مجرد مادة مكتوبة لإلهاء وتسلية القراء في الصفحات الأخيرة من الصحف. اعتبر هذا الأمر، أي رسوخ النقد السينمائي كشكل أدبي جديد، أمرا مفروغا منه حتى نهاية السبعينيات. فماذا حدث الآن بعد أن غادرنا ' عصر السينما'، وأين نحن من العالم سينمائيا، وما الذي آل إليه مصير الفيلم الفني الطموح أمام الآلة الضخمة التي تضخ الأفلام الاستهلاكية السريعة؟
' قولوا لي ماذا تشاهدون من أفلام، أقل لكم من أنتم'. يصلح هذا التساؤل بالتأكيد، للتفرقة بين عصر السينما، وعصر ما بعد عصر السينما.
ولعل من الصحيح القول إن صفحات هذا الكتاب تعتبر، على نحو ما، رحلة إلى الماضي، إلى عصر لم يعد قائما، لكنها رحلة تقصد فهم الحاضر في ضوء الماضي، ومعرفة أين نضع أقدامنا حاليا، وهل من الممكن أن نستعيد النهضة، ونعود لكي نعيش الحلم من جديد، حلم السينما داخل دار السينما، وهل سيأتي وقت تعود فيه الأسرة المصرية والعربية، إلى دار السينما للاستمتاع، ثم يغادر أفرادها دار العرض وهم يتناقشون في الفيلم الذي شاهدوه لتوهم، مدلولاته الاجتماعية، ومستواه الفني، دون تشنج أو مناداة بالمنع، والتحريم، والعقاب، كما أصبح الوضع الآن، دون حتى الذهاب لمشاهدة الأفلام؟
هذا الأمل يظل قائما، شريطة أن تعتدل بوصلة المجتمع كله وتبدأ في الاتجاه نحو خلق وترسيخ ثقافة أخرى جديدة، ثقافة بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة، تواجه الثقافة الغيبية السائدة المتخلفة التي انتشرت كالوباء في المجتمع طيلة السنوات الثلاثين الماضية، كما تواجه الثقافة الرسمية التي تميل إلى المهادنة مع التخلف، إن لم يكن التنافس معه أيضا.
من دون هذا سيظل ' عصر السينما' عالما سحريا من الماضي. أحاول أن أروي منه بعض ما أعرفه في هذا الكتاب الذي أرجو أن تصل رسالته دون حاجة مني إلى شرحها أو تبسيطها، فهي كامنة بين ثنايا السطور.
ولكن ينبغي أن أشير إلى أن الكتاب يتضمن الكثير من رؤيتي الشخصية لبعض الأحداث والشخصيات التي اقتربت منها والتي لعبت دورا مهما من وجهة نظري، في تشكيل عصر السينما كما عشته أنا على الأقل، كما أنها أحداث وشخصيات لا غنى عن التوقف أمامها في سياق وصف أجواء العصر الذي أتناوله، مع محاولة تقديم صورة لذلك الارتباط الحتمي في رأيي، بين السياسي والثقافي والسينمائي، والربط بين ما كان يقع من أحداث سياسية بارزة، وانعكاساتها على السينما وعلى العلاقة بين الدولة والسينما، وبين المتفرج الصغير، الذي كنته في تلك الفترة من عصر السينما، وبين أفكار كبيرة كانت تأتينا عبر الكثير من الافلام التي عشنا معها، وأصبح بوسعنا أخيرا، أن نستعيدها ونعيد اكتشافها ومشاهدتها بعد أن أصبحت متوفرة لحسن الحظ في الأسواق العالمية.
أخيرا، أرجو أن يكون التعريف بهذه الأفلام هنا، دافعا للشباب من محبي الفن السينمائي، للعودة إليها، والحصول عليها في نسخ من الأسطونات المدمجة ( دي في دي) ومشاهدتها والاستمتاع بها أيضا في ضوء ما ورد في هذا الكتاب من معلومات عن ظروف ظهورها على خريطة السينما المصرية أو العالمية.

الجمعة، 14 يناير 2011

الفيلم الوثائقي السيريالي

بقلم: بروس هودسدون

ترجمة: أمير العمري


"سوف أتأمل في الوجه الآخر من العالم"
بنيامين بيريه في "اختراع العالم"

 
يوصف الفيلم الوثائقي باعتباره "خيالي لا يشبه أي شكل خيالي آخر". وبدلا عن المفهوم القائل إن الخيالي يقدم مدخلا إلى "عالم"، يزعم الوثائقي أنه يقدم مدخلا إلى "العالم"، وهو زعم بأنه يمتلك وضعا خاصا، فيه نوع من التفوق الأخلاقي، يتمثل في الرابطة المباشرة التي تتكون بين الواقع وتجسيد الواقع في السينما.
الفيلم الوثائقي السيريالي يتحدى هذا الزعم ويطوع هذا الزعم لتحقيق وضعا خاصا.

لقد قام روبرت فلاهرتي بإعادة تجسيد بعض المشاهد من أجل المحافظة على أنماط حياة الإسكيمو المهددة بالتلاشي، على شريط الفيلم السينمائي، والجمع في سلاسة، بين اللقطات المصنوعة واللقطات الوثائقية المباشرة في فيلمه "نانوك من الشمال" (1922). وفي الوقت نفسه، كان بنيامين كريستنسن يقفز من مستوى للواقع الى مستوى آخر في فيلمه "هاكسن: السحر عبر العصور" Häxan: Whitchcraft through the Ages ".

الأشكال السردية التي وفق بينها كريستنسن، جامعا بين الواقع والخيال في "هاكسن" Häxan كانت نوعا من الإرهاصات الأولية لظهور الفيلم الوثائقي السيريالي. تطمس السريالية، خلال سعيها لفتح الخيال على الواقع، الفرق بين الحقيقة والخيال. في الأفلام الوثائقية السيريالية والأفلام السيريالية بشكل عام، يتم استخدام التأثير الواقعي لتقريب المتفرج من العالم الذي يجسده الفيلم، من أجل مصادرة الافتراضات المسبقة في ذهن المتفرج حول هذا العالم. وقد تجسد استخدام المزج بين الحقيقة والخيال في استخدام لقطات من فيلم وثائقي عن العقارب في المشهد الأول من فيلم "العصر الذهبي" للويس بونويل (1930)، وفي استخدام جان فيجو للمزج بين الذاتية، والتصويرالذي تتخذ فيه الكاميرا مكان العين، والهجائية الساخرة، والمسح الاجتماعي في تصويره لمدينة نيس في فيلمه " حول نيس" propos de Nice A(1930).

عرض فيلم "العصرالذهبي" عرضا عاما قبل 75 عاما في ستوديو 28 في باريس في 28 نوفمبر 1930. وقد أتاح هذا العرض وضع الفيلم الوثائقي على حافة المثلث السيريالي الذي بلغ ذروته عندما فتح الطريق أمام السيريالية الاثنوجرافية في فيلم "أرض بلا خبز" Las Hurdes (1933)، الذي كان ثوريا ورجعيا على حد سواء، غامضا ومتصل، منفصلا بقسوة في تعليقه الصوتي، ومتكلفا بعبثية في اختيار خلفيته الموسيقية.

كانت اللقطات الأولى في فيلم "العصر الذهبي" تعكس إشكالية الرغبة في اقتحام حقل اجتماعي أكبر من ذلك بكثير" من خلال فيلم لا يمكن تصنيفه بسهولة، سيريالي بشكل أساسي، مزيج من الأنواع السينمائية genres ومن الخيالي والوثائقي،و شبه التاريخي، والميلودرامي، وهو ما كان أكثر قدرة على مقاومة استفزازات فيلم "الكلب الأندلسي" لبونويل (1929) بلقطاته التي تشبه الأحلام، في سياق "خطاب التحليل النفسي للرغبة الكامنة على مستوى اللاوعي". لقد أصبح "العصر الذهبي" عرضة لهجوم متواصل من اليمين، ومنع من العرض العام في غضون أسبوع من عرضه الأول (استمر حظر عرضه عمليا لمدة 50 عاما) ، بينما تمتع فيلم "الكلب الأندلسي" بالعرض بشكل متواصل في باريس لمدة ثمانية أشهر، وهو نجاح استقبل استقبالا متناقضا في أوساط السيرياليين.

وإذا كان "الكلب الاندلسي" يعتبر مغامرة عظمى سيريالية داخل عالم اللاوعي، فربما يكون "العصر الذهبي" هو الأكثر في تعبيره الصلب والعنيد عن العزيمة الثورية.


من فيلم "العصر الذهبي" لبونويل
 وقد أعيد إحياء طريقة استخدام أسلوب التعارض بين اللقطات الخيالية والوثائقية في فيلم "فيلهلم رايش: ألغاز الكائن الحي" الذي أخرجه اليوغسلافي دوسان مكافييف عام 1971. وقد وصفه الناقد ديفيد تومبسون في دراسة له، بأنه "أسلوب صاعد ومترابط ينتقل من الخصوصية البشرية، إلى السلوك السياسي، وينظر أيضا إلى السلوك السياسي باعتباره رد فعل للإحباط النفسي والجنسي، وهو ما يمكن تطبيقه على قدم المساواة، على فيلم "العصر الذهبي".

بالمقارنة، يستخدم كريس ماركر أسلوبا يجمع بين اللقطات 'الحقيقية'، والتعليق الصوتي الخيالي، والبناء القائم على شكل الرحلة، وذلك في فيلمه "عديم الشمس" Sans Soleil (1983). إنه يتجاوز الأسلوب التقليدي الشائع لأفلام الرحلة، عن طريق الجمع بين المشردين الحقيقين والمتخيلين في سياق سيريالي يمكن مقارنته بما حققه السيريالي باتريك كيللر في فيلميه (من أفلام الرحلة): لندن (1994) و"روبنسون في الفضاء" (1997).

لقد أعرب سيرجي أيزنشتاين عن رفضه للسيريالية عندما تعرف عليها في باريس عام 1930. وقد وصفها بقوله: "إنها بعيدة كل البعد، سواء في الفكر أو في الشكل، عن كل ما قمنا به ونقوم به"، وهو رأي لا يشاركه فيه السيرياليون. بونويل، على سبيل المثال، اعترف في سيرته الذاتية بأنه كان على قناعة، لسنوات عديدة، بأن فيلم "المدمرة بوتيمكين" (1925) هو الفيلم "الأكثر جمالا في تاريخ السينما". ووصف أيزنشتاين فيلمه " الخط العام" (1929)، الذي يعتبر ظاهريا 'دراما وثائقية رسمية حول المزارع الجماعية" ، بأنه "محاولة لتصوير تجربة العمل اليومي عند الفلاحين بطريقة مثيرة للاهتمام ". وهو يحتوي على أحد أكثر المشاهد في ذاكرة السينما تعبيرا عن الشهوة الجنسية (بمعنى التحول المكثف)، الحصول على آلة لفصل الزبدة عن الحليب، حيث تتحول الإثارة الجنسية هنا"من الجسد البشري إلى الآلة" إن لقطات أيزنشتاين الأساسية المثيرة للنشوة في هذا الفيلم هي لقطات كان قد صورها أصلا لفيلمه المكسيكي " تحيا المكسيك" (1932).


لوي بونويل
 ويربط المونتاج بين التعارضات المقلقة، الكامنة في ثنايا الصور، وبين الصوت والصورة (التعليق، المؤثرات الصوتية الحية، والموسيقى) وذلك في الأفلام الوثائقية التي صنعها سينمائيون سيرياليون من أمثال جان بينليفيه Painlevé، هنري ستورك، جورج فرانجو Franju، آلان رينيه، وهمفري جينينجز، ويان سفانكماير Švankmajer، وفي هذه الأفلام يستخدم هؤلاء المخرجين ازدواجية المغزى الشعري في مادة الفيلم: العلوم الطبيعية، جزيرة عيد الفصح ، مسلخ، الضريح، المكتبة، ثقافة الطبقة العاملة، والعرض المروع للعظام البشرية في صندوق عظام الموتي داخل الدير. إن ما يجمع بينهم هو الإحساس الناتج عن خلق عوالم موازية، سطح كوكب حضارة ميتة (في فيلم L’Ile de Pâques، لهنري ستورك، 1935)، والضريح الذي هو أرشيف كبير (في "كل ذاكرة العالم" لآلان رينيه، 1956) أو الرعب المكتوم من المسالخ في الضواحي (في فيلم "البهائم"، لفرانجو، 1949)- العلاقة الكابوسية الخيالية في علاقتها مع العالم الواقعي. وحتى في تصوير كيف تقضي الطبقة العاملة أوقات الفراغ (كما في "وقت الفراغ"، 1939)، تمكن المخرج همفري جينينجز من العثور على "نوع من الخيال القاتم. وبعض الكرامة... ".

في السينما ، يتم التعبير عن خطابات متناقضة في سياق سائد يعمل بمثابة اللغة التي تستخدم في تعريف لغة أخرى metalanguage. وفي حالة السينما الوثائقية، عادة ما يحدث هذا من خلال التعليق الصوتي المصاحب الذي يربط معا، الرؤى المختلفة للواقع، التي تكشف عنها الصور والأصوات الأخرى في الفيلم. وفي الفيلم الوثائقي السيريالي، إما يتم الاستغناء عن التعليق الصوتي، أو يكون التعليق متناثرا وقليلا، أو يتم تهميشه ليصبح مجرد صوت نشاز أو مرتبطا بسياق محدد.

لقد تحدى لويس بونويل في فيلم "أرض بلا خبز" Las Hurdes، وجان روش في أفلامه الإثنولوجية، القواعد التقليدية للفيلم الوثائقي. ويمكن قراءة فيلم بونويل باعتباره محاكاة ساخرة سيريالية للفيلم الخيالي "يوسع مساحة اضطراب المفاهيم السينمائية التي سبق أن رسخها في "الكلب الأندلسي" و"العصر الذهبي"، بشكل يتلخص أساسا في طريقة استخدامه للتعليق الصوتي. ويسهم راؤول رويز في فيلمه "الأحداث الكبرى والناس العاديون، 1979) في استراتيجية التفكيك الذاتي للعديد من القناعات الموضوعية في الفيلم الوثائقي.

على مر السنين، كثيرا ما أسيء تفسير التناقض الواضح بين التعليق الصوتي و"الاستخدام غير المناسب" للسيمفونية الخامسة لبرامز في فيلم "أرض بلا خبز" على انه نتيجة تدخل فظ من جانب موزع الفيلم. إلا أن رويز، مع ذلك، لا يترك سببا لمثل هذا الغموض في سخريته اللاذعة من القناعات الواقعية كما تنعكس في التقارير التليفزيونية. إن غموض "الأحداث الكبرى" يكمن حيث يمكن أن يقودنا رويز. إن التأملات الأقرب إلى اليوميات لرجل تشيلي يعيش في المنفى، في فرنسا، في الانتخابات المحلية الفرنسية (رؤية رويز نفسه)، تفسح المجال لاستخدام مواد خارجية تأتي من مصادر أخرى، مما يجعل اليوميات التي كانت متدفقة، تتوقف. ومن أجل تقديم تعريف لما هو حقيقي وما هو دخيل في الفيلم الوثائقي يقوم رويز باستدعاء حالته الشخصية باعتباره رجلا من تشيلي يعيش في المنفي، في فرنسا. وهو يجعل النقد يتجه إلى ذلك الشعور بالقبول لدى المتفرجين عن طريق تثبيت ثلاث حقائق سيريالية تتعلق بالفيلم "الوثائقي المستقبلي" يمكن التعبير عنها من خلال هذه العبارة:


طالما ظل الفقر موجودا، سنكون أغنياء

وطالما ظل الحزن موجودا، سنكون سعداء

وما دامت السجون موجودة، سنكون أحرارا

(من بيل نيكولز: "تجسيد الواقع: قضايا ومفاهيم في الفيلم الوثائقي).
* جزء من دراسة بعنوان "السينما الوثائقية السيريالية: مراجعة الحقيقي"- 2005.

هستيريا التطبيع بين النقابة والرقابة والغرفة!

قدم برنامج "ستديو مصر" الذي تبثه قناة سينما النيل (نايل سينما) حلقة خاصة جيدة جدا وشديدة الجدية والعمق، عن قضية دائرة هذه الأيام في مصر، وهي قضية لم يخترعها البرنامج بالطبع ولا القائمون عليه، بل خلقها القائمون على بعض المؤسسات سواء بنزق وجهل، أم بسوء نية وقصد، مثل الرقابة والنقابة والغرفة، أي ذلك الثلاثي المرح الذي انبرى أخيرا، يعلمنا دروس العداء للصهيونية، ويمنح صكوك الوطنية باسم رفض التطبيع.
وبعدما جرى من هياج عصبي حاد من جانب نقابة المهن الفنية المصرية بعد عرض فيلم اتضح ان منتجته تحمل الجنسيةالاسرائيلية بالاضافة الى جنسيتها البريطانية، في مهرجان ابو ظبي، يثار حاليا موضوع عرض فيلم "لعبة عادلة" Fair Game وهو من بطولة شون بن، وشارك فيه الممثل المصري خالد النبوي الى جانب ممثلة اتضح انها اسرائيلية و تقوم بدور عراقية في الفيلم!
والطريف في الأمر أن المعارضة لعرض الفيلم بل وارغام الرقابة على المصنفات الفنية (وهو جهاز سيء السمعة تاريخيا!) على تأخير عرضه رغم اجازتها له، لم تأت من جانب دعاة التشنج التاريخيين ممن يمكن أن نطلق عليهم "عبيد الايديولوجيا" وأمثالهم، بل من جانب جهات لم يعرف لها أي موقف يتعلق بالقضايا "الفكرية" أو السياسية التي تشغل المجتمع، مثل غرفة صناعة السينما التي يفترض انها اساسا، تجمع للمنتجين والموزعين السيمائيين في مصر، والتي تنازلت تاريخيا، عن دورها الأساسي في دعم الصناعة والضغط على المجلس التشريعي من اجل اصدار قوانين وتعديلات تحمي هذه الصناعة من الانهيار وتشجع رأس المال المحلي لاقتحام عملية الانتاج، وضرورة محاسبة الفيلم كمنتج ثقافي وليس كسلعة.
بدلا من ذلك جاءت الغرفة لكي تبدي استغرابها الشديد ومعارضتها لعرض فيلم يدافع عن القضية العربية، ويدين السياسة الامريكية في العراق بشكل واضح، خاصة وان بطله شون بن، معروف بمواقفه المناهضة لسياسة التدخل في العراق وغيره. ووجود ممثلة اسرائيلية في الفيلم لم يغير شيئا في مضمونه، ولم يجعله باي درجة، أقرب الى الموقف الإسرائيلي مثلا، بل ضده في الواقع!
هنا يبدو أن منطق المزايدة فيما يتعلق بموضوع الوطنية، والتطبيع، وإسرائيل، أصبح هو الغالب بشكل هستيري على بعض المؤسسات التي لم يعرف لها أي اهتمام باي قضية، بل ولا حتى بقضية وجود السينما.
ماذا فعلت "الغرفة" مثلا لحماية التراث السينمائي المصري ومنع بيعه للخارج؟ ماذا كان رد فعل اساطين الغرفة وكهنتها عندما اكتشفنا وكشفنا عن ضياع "نيجاتيف" معظم الافلام المصرية المنتجة قبل عام 1950، والتهديد باختفاء ما بقى منها؟
لقد كان للمنتج- الموزع صفوت غطاس قول شهير عندما رد على موضوع تهالك النيجاتيف وفساد طرق الحفظ وغياب السينماتيك، بقوله إن يستطيع اشعال النار في كل شرائط النيجاتيف القديمة بعود كبريت وينتهي الامر، لأن "لدينا "الديجيتال" فما حاجتنا لنسخ النيجاتيف التقليدية، وهو قول لا يعكس فقط جهلا فاضحا بل تحريضا على ارتكاب فعل إجرامي كان ينبغي أن يحاسب عليه. وكلامه هذا مسجل بالصوت والصورة في فيلم "كلاسيكيات السينما المصرية" الذي عرضناه قبل 8 سنوات في المجلس الاعلى للثقافة.
هل كان خالد النبوي يعمل جاسوسا لإسرائيل عندما قبل القيام بدور في فيلم يخدم القضية العربية ويدين السياسة الأمريكية- الإسرائيلية في الشرق الاوسط؟
هل كان ممدوح الليثي نقيب اتحاد الفنانين، اكثر وطنية من عمرو واكد عندما قام الأخير بدور في مسلسل "بيت صدام" الذي يقوم ببطولته ممثل اسرائيلي.
ولماذا لا يستنكف الإسرائيلي، العنصري، المتعالي، صاحب عقدة التفوق، التمثيل جنبا الى جنب مع ممثل عربي، تعتبره بعض الأوساط في إسرائيل أدنى، بل ويستحق السحق مثل ذبابة!
كيف لا تستنكر المؤسسة الإسرائيلية قيام ممثليها بالتمثيل في الأفلام الامريكية التي يشارك فيها ممثل مصري مثل سيد بدرية في هوليوود، وهل يلعب الاسرائيليون دائما أدوار البطولة فيما يلعب العرب دائما أدوار النذالة؟
إن الأمر بات في حاجة إلى "قرصة" وليس وقفة، مع أمثال تلك المؤسسات الوهمية التي تستخدم فزاعة التطبيع لاشغالنا عن القضية الأساسية وهي مقاومة إسرائيل على الارض، وليس في السينما، ووقف زحفها العسكري والاستخباراتي، والحيلولة بينها وبين التغلغل الاقتصادي بالتعاون مع أنظمة قائمة بالفعل. وهذا هو جوهر الموضوع لمن يريد أن يناضل ضد الصهيونية بالفعل بعيدا عن مكاتب (وسط البلد)!

الجمعة، 7 يناير 2011

فيلم "127 ساعة": الإنسان والقدر الإنساني

لاشك أن فيلم "127 ساعة" للمخرج البريطاني داني بويل (رصد القطارات، المليونير المتشرد) أحد أفضل الأفلام التي عرضت عام 2010. والسبب ليس فقط أنه يصل إلى درجة مدهشة من الإتقان في الصنعة، وهو أمر لم يعد ولا يجب أن يدهشنا، خاصة عندما تكون قد توفرت للفيلم الإمكانيات الفنية والإنتاجية الضرورية بسخاء، وبعد أن أصبح "إتقان الصنعة" أي التقنيات السينمائية في هوليوود، أمرا مفروغا منه دون أن يعد في حد ذاته "ميزة خارقة" كما يعتقد البعض، فالتقنية غير الأسلوب، والأدوات، غير الرؤية. والفيلم بدون أسلوب أو رؤية هو عمل آلي يمكن لاي "صنايعي" أن يصنعه.
أما السبب الأكثر أهمية فيعود في رأيي، إلى قدرة داني بويل على التعامل مع موضوع إنساني غير عادي بكل هذه الدرجة من الشفافية التي تقترب من الحس الصوفي المعذب أحيانا، خلال تأمله في طبيعة المأزق الإنساني، مأزق الوجود ومعنى الخلاص، وهل هو خلاص روحي أم جسدي، أم كلاهما.
هذه المعاني والأفكار لا تطرح هنا على صعيد مباشر بل يمكن أن نستشفها فقط إذا تمكنا من الوصول إلى هذا المستوى الثاني الأكثر عمقا عند مشاهدة الفيلم ولم نتوقف فقط عند المستوى الأول، الذي يبدو على السطح الخارجي للصورة.
إنسان أمريكي شاب، من هواة المغامرة، أكثر قليلا من مجرد تسلق الجبال، بل الغوص في المنحنيات والدروب القائمة بين المرتفعات الجبلية في الغرب الأمريكي، التي تعرف بالـ canyons
هذا الشاب، الذي انقطعت صلته تماما بأسرته، لأنه ببساطة، لم يخبرها بما يعتزم القيام به، وبعالمه الآخر في المدينة، يجد نفسه فجأة حبيسا بفعل قوة خارقة لا يمكنه أن يقاومها، هي قوة الطبيعة القاهرة، فقد سقط في هوة عميقة وأصبح معلقا في فراغ قائم بين جبلين، بعد أن تحركت صخرة كبيرة وأطبقت على ذراعه الأيمن، وأصبح بالتالي عاجزا تماما عن الحركة. كل ما معه كاميرا فيديو صغيرة ومطواة وقنينة ماء وأشياء أخرى عادية تماما يخرجها كلها من حقيبته ويضعها أمامه، الكاميرا تسجل ما يحدث له، بينما يحاول هو بالمطواة الصغيرة أن يحفر في الصخر حول ذراعه لكي يخلصها ويحرر نفسه، ولكن دون القدرة على تحقيق أي تقدم يوحي بأي أمل.

ويظل بطلنا هذا.. آرون رالستون (وهي شخصية حقيقية كما أن الحادثة حقيقية) معلقا في هذا المأزق المكاني والزماني، لمدة خمسة أيام أو 127 ساعة تحديدا.
ولا يجد في النهاية حلا بعد أن ينفذ الماء الذي كان معه ويضطر لشرب بوله، وتتلوى أمعاؤه من الألم جوعا، سوى أن يستخدم المطواة في قطع ذراعه لكي يفصله بالكامل عن جسده، وهو ما يقوم به في أحد أكثر المشاهد رعبا في تاريخ السينما.
هذا الانتحار
هذا الموضوع كان يعد من وجهة النظر الدرامية البحتة "انتحارا". لماذا؟ لأنه يخلو أصلا من معظم العناصر المعتادة التي تتشكل منها الدر اما: الحركة، الشخصيات، الصراع، العقدة.. إلخ
غير أن مخرجا بوزن داني بويل يتمكن بعبقريته من تحويل هذه الحالة "الاستاتيكيية" او الساكنة، إلى فيلم مثير، من خلال تصويره المكثف لتلك الحالة من زواياها المختلفة: ماضي الشخصية وتاريخها الشخصي الذي يعود إليه في لقطات سريعة قصيرة، هواجسه وأحلامه في تلك اللحظة الممتدة: هل يحلم بشرب مياه مثلجة مثلا أم مشروب رائع وهو يجلس على شاطيء البحر مثلا، وبكل بأجواء العيش اللذيذ التي تليق بشاب في مقتبل العمر مثله، إلى طفولته، وإلى نفسه التي نراها وهي تشاهده في تلك الحالة وتتأمل ذراعه ومأزقه. إنها تلك الحالة السيريالية المخيفة التي تدور في تلك المساحة الغامضة بين الحلم والواقع، أو بين الكابوس والحقيقة، تغلفها موسيقى شديدة القوة والتعبير لا تتوقف دقيقة واحدة عن الضغط بشدة على أعصابنا نحن المشاهدين.
واقعية مشهد البتر الذي يصل إلى مستوى من الإقناع غير مسبوق على الشاشة، أدى إلى تسجيل عدد من حالات الإغماء بين المتفرجين داخل دور العرض. وقد شهد العرض الخاص الذي حضرته في لندن للفيلم قبيل عرضه في مهرجان لندن السينمائي (قبل أن يذهب إلى مهرجان دبي أيضا) الكثير من حالات "المغادرة" أي أولئك الذين غادروا قاعة السينما في ذعر، وتردد أن إحدى الصحفيات أغمى عليها أيضا.
ولعل الفيلم من خلال كل هذه القوة التي تتغلغل في الأحشاء، أي تنفذ داخل أكثر المناطق وعورة في النفس البشرية (عبر فكرة الحرية بأي ثمن ورفض القهر) وتجسيدها بهذا الشكل المباشر بلا رحمة، عامل أساسي في فكرة "العلاج بالصدمة" وفي مسرح السيكودراما مثلا بوجه خاص.
كان اليخاندرو خودوروفسكي العظيم مثلا يذبح الدجاج ويلقي به من فوق خشبة المسرح أثناء الرقص عاريا مع زملائه في العرض، في أواخر الستينيات في باريس، في ذروة ما عرف باسم مسرح البانيك panic theatre .. غير أننا لسنا هنا أمام سيريالية بونويل أو جموح خودوروفسكي المتجاوز لكل الحدود، بل أمام تجسيد "واقعي" تماما للحقيقة، لما حدث، لتلك الرغبة العنيفة لدى الإنسان في تجاوز مأزقه، والعبور عليه بأي ثمن وبأي طريقة، حتى لو كانت قطع ذراعه والتخلي عنها ثم التطلع إليها في فزع، ومحاولة تضميد الجرح الهائل أو وقف النزيف الحاد الذي ينتج بعد ذلك، ثم السقوط من هذا الوضع المعلق، من على ارتفاع أكثر من عشرين مترا، وقطع مسافة 12 كيلومترا قبل يصل إلى بر النجاة
إيقاع الفيلم سريع، رغم تلك الحالة الساكنة كما أشرت، ولقطاته متعددة داخل ذلك الإطار الزمني المحدد (السحري) أي الـ90 دقيقة.

والأداء التمثيلي يرقى هنا إلى أفضل مستويات التمثيل السينمائي، أساسا بفضل مخرج يعرف كيف يختار الممثل، وكيف يدربه ويؤهله نفسيا للقيام بهذا الدور الشاق، ثم ذلك الممثل (جيمس فرانكو) الذي يمتلك القدرة والشجاعة والاقدام على أداء دور صعب مع توحد تام مع الشخصية.
فيلم أساسي
إن فيلم "127 ساعة" ليس واحدا من تلك الأفلام التي تراها ثم تنساها بسرعة بعد أن تغادر دار العرض، فهو ليس فيلما من أفلام الميلوداما المشغوفة عادة بالعقدة، أي بمجرد فكرة وجود رجل وحيد في مأزق، بل يتجاوز هذا كثيرا ليصبح فيلما قاعديا، أساسيا، يعود بنا إلى جوهر سنيما الفن الأول وأصولها، تلك السينما "الأساسية" التي عاد إليها أيضا في 2010، وياللدهشة، مخرج كبير مثل البولندي يرزي سكوليموفسكي في فيلمه البديع "القتل الضروري" The Necessary killing الذي يتناول موضوعا قد يكون مشابها، عن إنسان يحاول النجاة من مصيره، وكأننا أيضا نعود إلى بدء الخليقة، إلى جوهر فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة، ورغبته الدائمة في الإفلات من مصيره حتى لو ارتكب فعل القتل، أول ما ارتكبه الإنسان على سطح كوكبنا، وهنا في فيلمنا هذا، حتى لو قطع ذراعه بيده.
وهذه الرؤية الخاصة عن الإنسان في عزلته، وفي علاقته بالقدر ومحاولته الإفلات منه، وارتداده إلى السحيق، إلى الطبيعة البكر الأولى، وإلى نفسه أيضا، هي أساسا، ما يميز فيلم "127 ساعة" ويجعل منه بالتالي أحد أعمال الفن الرفيع في زماننا.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger