الجمعة، 7 يناير 2011

فيلم "127 ساعة": الإنسان والقدر الإنساني

لاشك أن فيلم "127 ساعة" للمخرج البريطاني داني بويل (رصد القطارات، المليونير المتشرد) أحد أفضل الأفلام التي عرضت عام 2010. والسبب ليس فقط أنه يصل إلى درجة مدهشة من الإتقان في الصنعة، وهو أمر لم يعد ولا يجب أن يدهشنا، خاصة عندما تكون قد توفرت للفيلم الإمكانيات الفنية والإنتاجية الضرورية بسخاء، وبعد أن أصبح "إتقان الصنعة" أي التقنيات السينمائية في هوليوود، أمرا مفروغا منه دون أن يعد في حد ذاته "ميزة خارقة" كما يعتقد البعض، فالتقنية غير الأسلوب، والأدوات، غير الرؤية. والفيلم بدون أسلوب أو رؤية هو عمل آلي يمكن لاي "صنايعي" أن يصنعه.
أما السبب الأكثر أهمية فيعود في رأيي، إلى قدرة داني بويل على التعامل مع موضوع إنساني غير عادي بكل هذه الدرجة من الشفافية التي تقترب من الحس الصوفي المعذب أحيانا، خلال تأمله في طبيعة المأزق الإنساني، مأزق الوجود ومعنى الخلاص، وهل هو خلاص روحي أم جسدي، أم كلاهما.
هذه المعاني والأفكار لا تطرح هنا على صعيد مباشر بل يمكن أن نستشفها فقط إذا تمكنا من الوصول إلى هذا المستوى الثاني الأكثر عمقا عند مشاهدة الفيلم ولم نتوقف فقط عند المستوى الأول، الذي يبدو على السطح الخارجي للصورة.
إنسان أمريكي شاب، من هواة المغامرة، أكثر قليلا من مجرد تسلق الجبال، بل الغوص في المنحنيات والدروب القائمة بين المرتفعات الجبلية في الغرب الأمريكي، التي تعرف بالـ canyons
هذا الشاب، الذي انقطعت صلته تماما بأسرته، لأنه ببساطة، لم يخبرها بما يعتزم القيام به، وبعالمه الآخر في المدينة، يجد نفسه فجأة حبيسا بفعل قوة خارقة لا يمكنه أن يقاومها، هي قوة الطبيعة القاهرة، فقد سقط في هوة عميقة وأصبح معلقا في فراغ قائم بين جبلين، بعد أن تحركت صخرة كبيرة وأطبقت على ذراعه الأيمن، وأصبح بالتالي عاجزا تماما عن الحركة. كل ما معه كاميرا فيديو صغيرة ومطواة وقنينة ماء وأشياء أخرى عادية تماما يخرجها كلها من حقيبته ويضعها أمامه، الكاميرا تسجل ما يحدث له، بينما يحاول هو بالمطواة الصغيرة أن يحفر في الصخر حول ذراعه لكي يخلصها ويحرر نفسه، ولكن دون القدرة على تحقيق أي تقدم يوحي بأي أمل.

ويظل بطلنا هذا.. آرون رالستون (وهي شخصية حقيقية كما أن الحادثة حقيقية) معلقا في هذا المأزق المكاني والزماني، لمدة خمسة أيام أو 127 ساعة تحديدا.
ولا يجد في النهاية حلا بعد أن ينفذ الماء الذي كان معه ويضطر لشرب بوله، وتتلوى أمعاؤه من الألم جوعا، سوى أن يستخدم المطواة في قطع ذراعه لكي يفصله بالكامل عن جسده، وهو ما يقوم به في أحد أكثر المشاهد رعبا في تاريخ السينما.
هذا الانتحار
هذا الموضوع كان يعد من وجهة النظر الدرامية البحتة "انتحارا". لماذا؟ لأنه يخلو أصلا من معظم العناصر المعتادة التي تتشكل منها الدر اما: الحركة، الشخصيات، الصراع، العقدة.. إلخ
غير أن مخرجا بوزن داني بويل يتمكن بعبقريته من تحويل هذه الحالة "الاستاتيكيية" او الساكنة، إلى فيلم مثير، من خلال تصويره المكثف لتلك الحالة من زواياها المختلفة: ماضي الشخصية وتاريخها الشخصي الذي يعود إليه في لقطات سريعة قصيرة، هواجسه وأحلامه في تلك اللحظة الممتدة: هل يحلم بشرب مياه مثلجة مثلا أم مشروب رائع وهو يجلس على شاطيء البحر مثلا، وبكل بأجواء العيش اللذيذ التي تليق بشاب في مقتبل العمر مثله، إلى طفولته، وإلى نفسه التي نراها وهي تشاهده في تلك الحالة وتتأمل ذراعه ومأزقه. إنها تلك الحالة السيريالية المخيفة التي تدور في تلك المساحة الغامضة بين الحلم والواقع، أو بين الكابوس والحقيقة، تغلفها موسيقى شديدة القوة والتعبير لا تتوقف دقيقة واحدة عن الضغط بشدة على أعصابنا نحن المشاهدين.
واقعية مشهد البتر الذي يصل إلى مستوى من الإقناع غير مسبوق على الشاشة، أدى إلى تسجيل عدد من حالات الإغماء بين المتفرجين داخل دور العرض. وقد شهد العرض الخاص الذي حضرته في لندن للفيلم قبيل عرضه في مهرجان لندن السينمائي (قبل أن يذهب إلى مهرجان دبي أيضا) الكثير من حالات "المغادرة" أي أولئك الذين غادروا قاعة السينما في ذعر، وتردد أن إحدى الصحفيات أغمى عليها أيضا.
ولعل الفيلم من خلال كل هذه القوة التي تتغلغل في الأحشاء، أي تنفذ داخل أكثر المناطق وعورة في النفس البشرية (عبر فكرة الحرية بأي ثمن ورفض القهر) وتجسيدها بهذا الشكل المباشر بلا رحمة، عامل أساسي في فكرة "العلاج بالصدمة" وفي مسرح السيكودراما مثلا بوجه خاص.
كان اليخاندرو خودوروفسكي العظيم مثلا يذبح الدجاج ويلقي به من فوق خشبة المسرح أثناء الرقص عاريا مع زملائه في العرض، في أواخر الستينيات في باريس، في ذروة ما عرف باسم مسرح البانيك panic theatre .. غير أننا لسنا هنا أمام سيريالية بونويل أو جموح خودوروفسكي المتجاوز لكل الحدود، بل أمام تجسيد "واقعي" تماما للحقيقة، لما حدث، لتلك الرغبة العنيفة لدى الإنسان في تجاوز مأزقه، والعبور عليه بأي ثمن وبأي طريقة، حتى لو كانت قطع ذراعه والتخلي عنها ثم التطلع إليها في فزع، ومحاولة تضميد الجرح الهائل أو وقف النزيف الحاد الذي ينتج بعد ذلك، ثم السقوط من هذا الوضع المعلق، من على ارتفاع أكثر من عشرين مترا، وقطع مسافة 12 كيلومترا قبل يصل إلى بر النجاة
إيقاع الفيلم سريع، رغم تلك الحالة الساكنة كما أشرت، ولقطاته متعددة داخل ذلك الإطار الزمني المحدد (السحري) أي الـ90 دقيقة.

والأداء التمثيلي يرقى هنا إلى أفضل مستويات التمثيل السينمائي، أساسا بفضل مخرج يعرف كيف يختار الممثل، وكيف يدربه ويؤهله نفسيا للقيام بهذا الدور الشاق، ثم ذلك الممثل (جيمس فرانكو) الذي يمتلك القدرة والشجاعة والاقدام على أداء دور صعب مع توحد تام مع الشخصية.
فيلم أساسي
إن فيلم "127 ساعة" ليس واحدا من تلك الأفلام التي تراها ثم تنساها بسرعة بعد أن تغادر دار العرض، فهو ليس فيلما من أفلام الميلوداما المشغوفة عادة بالعقدة، أي بمجرد فكرة وجود رجل وحيد في مأزق، بل يتجاوز هذا كثيرا ليصبح فيلما قاعديا، أساسيا، يعود بنا إلى جوهر سنيما الفن الأول وأصولها، تلك السينما "الأساسية" التي عاد إليها أيضا في 2010، وياللدهشة، مخرج كبير مثل البولندي يرزي سكوليموفسكي في فيلمه البديع "القتل الضروري" The Necessary killing الذي يتناول موضوعا قد يكون مشابها، عن إنسان يحاول النجاة من مصيره، وكأننا أيضا نعود إلى بدء الخليقة، إلى جوهر فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة، ورغبته الدائمة في الإفلات من مصيره حتى لو ارتكب فعل القتل، أول ما ارتكبه الإنسان على سطح كوكبنا، وهنا في فيلمنا هذا، حتى لو قطع ذراعه بيده.
وهذه الرؤية الخاصة عن الإنسان في عزلته، وفي علاقته بالقدر ومحاولته الإفلات منه، وارتداده إلى السحيق، إلى الطبيعة البكر الأولى، وإلى نفسه أيضا، هي أساسا، ما يميز فيلم "127 ساعة" ويجعل منه بالتالي أحد أعمال الفن الرفيع في زماننا.

الأحد، 2 يناير 2011

تأملات وحوارات

سنظل تحسب وندقق وننظر للأفلام، مكوناتها وأنواعها ومساراتها، وسنظل نتأمل في السينما كفن: كيف تكون، وماذا يجذبنا فيها، وما الذي ينبغي فعله لكي تصبح السينما أداة ثقافية وفكرية وفنية تقوم بدور في تشكيل وجدان الإنسان العربي. لكننا لن نستطيع أبدا أن نحيط تماما بمكنون السينما، جوهر سحرها وسرها رغم إدراكنا لما يميز فيلما عن غيره، وما يميز مخرجا عن سائر المخرجين.
السينما ماتت! كانت تلك صيحة أطلقها البعض، بعد انتشار وطغيان التليفزيون، ثم بعد انتشار الفيديو وأخيرا في عصر الانتشار الهائل للانترنت، أو ما أطلق عليه "عصر كل إنسان لنفسه".. غير أن السينما أثبتت أنها لاتزال فنا يمكنه أن يجمع البشر معا مجددا في قاعة العرض السينمائي، أو أن هذا ما أثبتته الدورة السابعة لمهرجان دبي السينمائي التي انتهت أخيرا.
* حوارات كثيرة دارت بيني وبين عدد كبير من السينمائيين أخيرا وتركزت حول هذا العصر الذي نعيشه مقارنة بالماضي، كيف أصبح، وما الذي تغير. وكان رأيي اننا بكل أسف، اصبحنا نعيش عصر الفرقة بعد أن كنا نحيا عصر التجمعات، وأن كلا منا يجلس أمام جهاز الكومبيوتر موهما نفسه أنه بمفرده يستطيع تحريك العالم، والحصول على ما يريد. غير أن الحقيقة أننا لا نتحقق سوى بالآخر ومع الآخر، هذه حقيقة ثابتة منذ فجر الإنسانية. هل سيطول زمن الفرقة كثيرا؟ لا أدري!
* ما الذي يفتقده الجيل الجديد الحالي من السينمائيين عن جيلنا؟ سؤال طرحه علي أحد السينمائيين الأصدقاء في جلسة جمعت عددا من أهم السينمائيين في العالم العربي في رأيي. كان رأيي الذي قلته امام الجميع أنه على حين اننا كنا نتاجا لعصر نوادي السينما، فإن الجيل الحالي نتاج لعصر البحث الفردي الشاق عن المعرفة السينمائية، ولكن بشكل فردي وبعيد عن المناقشات والجدل الذي يخلق حوارا ممتدا يصبح رافدا مهما من روافد الوعي السينمائي.
* في الندوة الدولية حول النقد السينمائي التي شاركت فيها ضمن النشاط الثقافي المرموق في مهرجان دبي السينمائي قالت الناقدة الأمريكية ثيلما آدمز إن الناقد السينمائي الحقيقي في الولايات المتحدة أصبح عملة نادرة، وإن عدد نقاد السينما في نيويورك لا يزيد عن 35 ناقدا، وفي الولايات المتحدة كلها لا يتجاوز 200 ناقد، هذا في الدولة الهائلة التي تعرف أكبر انتشار للسينما في العالم. وهذه حقيقة قد تثير الكثير من الدهشة لدينا لأنني استطعت أن أحصي عددا يفوق المائتين من الذين وقعوا على بيان (للنقاد) بشأن السرقات التي يتعرض لها بعض نقاد السينما، صدر قبل عدة أشهر. وبكل أسف تبين لي فيما بعد أن الكثيرين ممن وقعوا على هذا البيان ليسوا من النقاد ولا من أصدقاء النقاد، بل من "لصوص النقاد".. وربما أضافوا توقيعاتهم على البيان إمعانا في النكاية بنا!

السبت، 1 يناير 2011

مهرجان دبي السينمائي 6

لقطة أثناء التصوير

"هذه صورتي وأنا ميت": فلسطين من النضال إلى الاقتتال



"هذه صورتي وأنا ميت" عنوان صادم للفيلم التسجيلي، أو غير الخيالي، الذي أخرجه المخرج الفلسطيني الأردني محمود المساد، وشارك به في مسابقة المهر العربي للأفلام التسجيلية وفاز بالجائزة الأولى لأحسن فيلم في هذه المسابقة.
في هذا الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه 81 دقيقة، يلتقط المساد خيطا دقيقا لشخصية من الشخصيات المنسية، من فترة النضال الفلسطيني في السبعينيات، هي شخصية مأمون مربش، الذي كان أحد المناضلين في صفوف المقاومة المسلحة في حركة فتح في بيروت.
هذا الرجل الذي ساهم في الكثير من عمليات المقاومة بل، وأشرف أيضا على الإعداد لعمليات بطولية منها عملية المناضلة الشهيدة دلال المغربي كما يظهر في الفيلم، أي مأمون مربش، ترصد له عملاء الموساد، إلى أن تمكنوا من اغتياله في أثينا التي كان قد لجأ إليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وأطلقوا عليه الرصاص من مسافة قريبة وهو داخل سيارته عام 1983، وكان يجلس إلى جواره ابنه الطفل الذي لم يكن قد تجاوز سنواته الأربع في ذلك الوقت.
ما حدث أن الرصاص الكثيف الذي انطلق من السلاح القاتل الذي تمكن من اللحاق بالسيارة بدراجة نارية، أصاب أيضا الطفل "بشير"، ونقلت الأنباء وقتذاك أنه قتل مع والده في العملية.
لكن بشير نقل الى المستشفى حيث تلقى العلاج، ونجا من الموت، وهو يعيش بيننا اليوم بعد أن بلغ التاسعة والعشرين من عمره وأصبح هو بطل هذا الفيلم.
بشير مربش: بطل الفيلم ومدخلنا لموضوعه
المخرج محمود المساد، يقتنص أولا بذكاء وفطنة كبيرتين، هذه الفكرة التي ترتبط بالذاكرة، بالماضي، لكي يصنع منها نسيجا بصريا متشابكا مؤثرا، حول زمن البطولة والتضحية والثمن الذي كان يتعين أن يدفعه الذين وهبوا أنفسهم لقضيتهم الوطنية، وأيضا لكي يجسد أيضا الفرق بين ما كان في الماضي، وما أصبحنا عليه اليوم، بين زمن النضال، وما انتهت اليه القضية اليوم من اقتتال الشركاء، اي الفصائل الفلسطينية، وأساسا، فتح وحماس.
يتوقف المساد بكاميرته أمام الكثير من العلامات، ومن جوف الصورة تبرز التساؤلات المعذبة القلقة حول كيف كان هذا ممكنا، وما الذي حدث، وما مغزاه، وهل كان هناك خطأ ما، هل كان طريق النضال المسلح، طريقا خطا، وهل كان هناك طريق آخر، وكيف يمكن أن يصل الوضع اليوم الى ما وصل إليه، وغير ذلك الكثير.
المدخل الدرامي إلى الفيلم هو حادث الاغتيال، ووجود الإبن الصغير "بشير" في مقدمة الصورة. والصورة، أو تلك اللقطة تحديدا، وهي مصورة بالأبيض والأسود، تتكرر كثيرا بالحركة البطيئة عبر الفيلم، باعتبارها اللقطة المركزية التي تتدفق منها الذاكرة: ذاكرة بطلنا بشير الذي عاد اليوم لكي يبحث عن تاريخ والده، من خلال التفتيش في ذاكرة أصدقائه: الحلاق والطبيب والرسام وغيرهم.
في الفيلم صور وشهادات، مزيج من الخاص والعام، ومن الذاتي والموضوعي، من الصورة الداخلية والحكايات الشخصية عن "مأمون البريش" الذي طويت صفحته تقريبا منذ وفاته رغم كل ما قدمه للقضية من تضحيات هائلة، والبحث الشاق عن المعرفة والتذكر من جانب الإبن "بشير" الذي يروي له الطبيب كيف أن والده أنقذ حياة زعيم الكتائب اللبنانية خلال الحرب الأهلية عندما اعتقلته قوات حركة فتح، لكنه أمر باطلاق سراحه، فنجا الجميل بذلك من الموت. وهي معلومة مهمة لا يعلمها المشاهدون. وقد جاء موقف المأمون ردا على اطلاق بشير الجميل سراحه في الماضي بعد أن وقع أسيرا في أيدي قوات الكتائب وكاد أن يلقى مصرعه. هذه القصة نفسها تعكس مغزى انسانيا كبيرا عن فرقاء الحرب الذين يكنون الاحترام لبعضهم البعض. وقد جاء الاسم الذي أطلقه الرجل على ابنه فيما بعد، أي "بشير"، تيمنا باسم بشير الجميل الذي سيعود ويلقى حتفه في عملية فدائية هائلة قيل إنها كانت من تنفيذ وتخطيط عناصر فلسطينية مسلحة.
أما اقتتال اليوم في غزة والفضة الغربية، فيبقى في الفيلم صورة مشبعة بنوع من السيريالية أو التجريدية العبثية التي تدعوك إلى التشكك فيما آلت إليه مسيرة النضال من أجل إقامة الدولة، حينما انتهت الى دويلتين محاصرتين متصارعتين، وهي نهاية ما كان يحلم بها أكثر المناضلين تشاؤما في عصره!
ايقاع الفيلم متدفق يتسم بالقوة والتماسك، لكنه يسمح بنوع من التأمل مع مساحة جيدة من الصورة التي تظهر في معظم الأحيان، في لقطات متوسطة الحجم، صور مدهشة، وعلاقة خاصة بين الشخصية الرئيسة التي تستخدم لصنع القالب "الدرامي" او المدخل "الروائي" إلى الفيلم إذا جاز التعبير، وقدرة هائلة من جانب المخرج وفريق مساعديه على اقتناص الشهادت وتصويرها بكل تلك التلقائية والتدفق مع التحكم في زوايا الصورة، واعادة بناء حادث الاغتيال باستخدام الأسلوب التجريدي نفسه، بحيث تتكرر لقطة إطلاق الرصاص على الرجل في السيارة، وتعود الينا بين حين وآخر، في سياق الشهادات ورحلة البحث عن الحقيقة، ودون أن يتسبب الإخراج في إرباك الشهود الذين يقصون ذكرياتهم على الإبن، ودون أن يبدو أننا نتفرج على مشاهد مصممة ومتفق عليها سلفا، حيث يعتمد الفيلم على فكرة "اعادة التجسيد" مع الابقاء على المباشرة الحميمية التي تميز أسلوب "سينما الحقيقة".
إن هذا الفيلم دليل آخر على قدرة السينما التسجيلية أو الوثائقية على تطوير نفسها، والاستفادة من الأساليب الروائية، والاعلاء من شأن العنصر الدرامي في الصورة، من أجل بلوغ أعلى تأثير ممكن على المشاهد، الأمر الذي يردنا إلى التأمل في أصل السينما: ما هي، وكيف نشأت، وما الهدف منها، وكيف يعبر السينمائي عن العالم من خلال الكاميرا، وما هي حدود قدرته على خدمة موضوعه. وهي تساؤلات ممتدة بامتداد تاريخ الإبداع السينمائي نفسه!

الخميس، 30 ديسمبر 2010

مهرجان دبي السينمائي 5


"الخروج" ميلاد حقيقي واعد لمخرج جديد


أود أولا أن أؤكد أنني فوجئت بـ"الطموح" السينمائي الكبير في فيلم "الخروج" للمخرج الشاب الجديد القادم من الولايات المتحدة، هشام عيسوي.

هذا فيلم ليس كسائر الأفلام التي تمر مرور الكرام. إنه قطعة ملتهبة متوحشة من قلب الواقع القاهري البائس الذي يعيشه سكان المناطق العشوائية اليوم: بطالة وتشرد وفقر وضياع اجتماعي، وتحايل من أجل العيش بشتى الطرق.

فتاة مسيحية شابة في الثامنة عشرة هي "أمل"، ترتبط بعلاقة حب مع شاب مسلم هو "طارق"، عاجز عن العثور على أي نوع من التحقق، يفقد وظيفته في أحد المطاعم، وتفقد "أمل" على إثر ذلك أيضا وظيفتها الهامشية في المطعم نفسه، بعد أن تسرق منها مجموعة من الصعاليك الدراجة النارية التي كانت تستخدمها في توصيل الطلبات إلى زبائن المطعم انقاذا للموقف بناء على رغبة صاحب المطعم الشرس.
تعيش أمل مع أسرة مكونة من الأم، وهي مغلوبة على أمرها، خاضعة لجبروت وتعنت زوج مستبد، مقامر، يستولي على كل ما تملكه، وشقيقة تقاسي الأمرين، من سلبية الأم، ومن إجرام زوج الأم الذي يستولي أيضا على كل ما تكسبه من جنيهات قليلة للإنفاق على ابنها، فتضطر لاحتراف الدعارة، كما ستكتشف أمل التي ترضخ لقهر الزمن وتقبل بالعمل في محل كوافير، تملكه امرأة فاسدة تدير منزلا للدعارة، وتحاول توريط أمل أيضا حيث تلتقي هناك بشقيقتها وتكتشف الحقيقة المرعبة.
اما طارق فهو يرغب في مغادرة مصر مع أولئك الذين يهربون بحرا بالقوارب الى ايطاليا، ولكن شقيقه، المندمج في أجواء تلك "اللوثة الدينية" التي تسيطر علىواقع الطبقة الوسطة الصغيرة في مصر دون أن تعني أي درجة حقيقية من درجات التدين، يحاول إقناعه بالبقاء بعد أن يسند اليه عملا في الطلاء، يستغله فيه مقابل حفنة من الجنيهات القليلة.
طارق يحب أمل رغم اختلاف الديانتين، وشقيقه يعترض بحكم تعصبه الديني، والآخرون ينظرون إليه باعتباره من الخارجين عن الأعراف والتقاليد، وتقول له أمل إنها حامل لكي تقنعه بالبقاء في مصر، لكن رفضه للواقع يبدو في لحظة ما، أكبر من حبه لها فتتركه يذهب بعد أن تقنعه بأنها كانت تدعي الحمل.
اما صديقتها التي فقدت عذريتها فهي تقبل بالزواج من رجل يكبرها كثيرا يعمل بالسعودية، تجري عملية لترقيع غشاء البكارة، وتحصل على تكاليف العملية من الرجل نفسه، دون أن تكشف له السر بالطبع، وبطريقة عملية تقول لأمل إنها ستتزوجه لكنها لن تحبه.

إنها باختيار سلسلة من الاحباطات، ومحاولات الالتفاف حول الواقع المزري الكئيب، من أجل البحث عن مخرج.. ولعل المعنى الحقيقي لعنوان الفيلم هو "المخرج" وليس "الخروج". لكن كل الطرق للخروج من القاهرة تبدو مسدودة، أو أن هذا ما نصل اليه في النهاية.
ولعل من الضروري هنا القول إن ما يميز هذا الفيلم، ليس فقط موضوعه المستمد مباشرة من تعقيدات الواقع المأساوي، بل من تلك القدرة الهائلة على تجسيد الموضوع على الشاشة باستخدام كاميرا الديجيتال (الرقمية) التي لولاها لما أمكن أصلا إنتاج مثل هذا العمل.
نحن هنا أمام قدرة كبيرة لاشك فيها على اختيار الأماكن المناسبة تماما للموضوع، والتعامل مع كل إمكانيات المكان لإثراء الصورة، واختيار زوايا تصوير صعبة تغرسنا كمتفرجين داخل تضاريس المكان: داخل الحواري الضيقة، فوق أسطح المنازل، داخل الحجرات الخانقة. إنها صورة تغوص في احشاء القاهرة العشوائية، لكنها رغم قسوتها الشديدة، لا تخلو من جمالها الخاص، فالرغبة المشتركة بين الحبيبين: أمل وطارق، في التغلب على قسوة الواقع والارتفاع فوقه، تجعلهما، مثلا، يرقصان فوق السطح، في مشهد يلعب على الإيروتيكي دون أن يقصد بالضرورة الإثارة الجنسية. ولعل من جوانب النقص في الفيلم، ومن داخل منطقه الدرامي نفسه، أن هشام عيسوي، نتيجة لشعوره الخاص بالوجل والتردد وهو يصور فيلمه في مصر للمرة الأولى (بعد تجربتين في الاخراج في أمريكا) مدركا للمشاكل التي يمكن أن يواجهها فيلمه، يتقاعس عن مد الكثير من المشاهد على استقامتها الطبيعية كما كان ينبغي، لكي يتجنب تصوير ممارسة الحب بين بطليه مثلا، مكتفيا بالإيحاء الذي يتسبب في رأيي، في بتر أكثر من مشهد، والإضرار بايقاعه. وربما يكون عيسوي أراد أن يجعل بطليه يكتفيان بالتلامس دون القدرة على التحقق الجسدي الكامل، للإشارة إلى فكرة "مجتمع قمع الرغبات" إلا أن هذه الفكرة تبدو غير مخدومة جيدا، وخارجة عن السياق إذا وجدت.

هنا، في هذا الفيلم، نفس من الضياع الوجودي المرتبط بواقع يرفض الفرد، ويقوم بتهميشه باستمرار، يحظر عليه اقامة علاقة عاطفية بسبب اختلاف الأديان، يرفض منحه فرصة حقيقية للعمل والترقي، يجعله عاجزا عن المغادرة بسبب قلة الحيلة تارة، أو انتشار المحتالين تارة أخرى، والنتيجة أننا ندور في دائرة مغلقة لا تؤدي الى شيء. ولعل هذه الفكرة، أي فكرة الدائرة المغلقة، تتجسد في نهاية الفيلم عندما نرى أمل وهي تنزل الى البحر، تسبح، كأنها تتطهر من آثام الواقع وأضرانه، لكنها تعود بعد ذلك إلى الشاطيء.. إلى اليابسة، بعد أن أدركت انه لا مخرج هناك أمامها سوى العودة للدوران داخل دائرة الاستسلام وانعدام الأمل.

وعلى الرغم من الخلل القائم في الايقاع داخل بعض المشاهد، والمبالغة في مشاهد أخرى مثل مشهد اكتشاف كيف احترفت شقيقة أمل الدعارة، والمغالاة في تصوير "نذالة" زوج الأم، ورغم بعض أخطاء الاخراج، والاطالة غير المبررة في بعض المشاهد، إلا أن ما أعجبني بوجه خاص في هذا الفيلم هو تلك القدرة الكبيرة من جانب هشام عيسوي على تطويع المكان والتعامل مع بطليه الشابين: مريهان ومحمد رمضان، في إطاره، بكل هذا التحكم في الأداء، وجعلهما يصلان إلى هذا المستوى الرفيع من التناغم والانسجام، والتعبير السلس، البسيط، والمؤثر.

إن مريهان في دور "أمل" ممثلة بكل كيانها، وهي تعبر عن الحب والرغبة والمرح والحزن والشفقة والجنون والتمرد بكل ما يمكن أن تملك أي ممثلة كبيرة محترفة رغم خبرتها البسيطة المحدودة. وهي فضلا عن ملائمتها الكبيرة للدور وكانها خلقت له، يمكنها الأداء بثقة كبيرة في اللقطات الكبيرة، يساعدها وجه يمتليء بالتعبير الحي، أمام ممثل شاب ولد عملاقا، هو محمد رمضان الذي يضيف الى دوره أبعادا عميقة من خلال معايشته الخاصة للشخصية، ويبدو متكيفا تماما مع أماكن التصوير الطبيعية التي تعيد الكاميرا اكتشافها على نحو شديد الإقناع بواقعيتها.
ولابد أيضا من التنويه والاشادرة بالدور الذي قامت به الممثلة المغربية المتميزة، صاحبة الموهبة المتفجرة، سناء موزيان، التي تلعب دور الفتاة التي تتخذ قرارا ببيع نفسها لرجل لا تربطها به أي عاطفة، فيكبرها ي العمر فقط من أجل النجاة من الحياة البائسة التي تعيشها، وبعد ان انتهت علاقتها بحبيبها نهاية غير موفقة، وبعد ان فقدت عذريتها. ان سناء في هذا الدور، تكشف عن ملامح قوية لممثلة شديدة الثقة بنفسها وبقدرتها على الاداء البسيط السلس، مع ملامح من خفة ظل واضحة أضفت مزيدا من الجمال والجاذبية على الدور رغم صغره في محيط الفيلم ورغم قيام صاحبته من قبل ببطولة عدد من الافلام ربما يكون اهمها فيلم "سميرة في الضيعة" الذي رسخها كواحدة من أفضل الممثلات في السينما العربية.

المخرج هشام عيسوي
 هنا كاميرا محمولة مهتزة في الكثير من المشاهد، موسيقى تشي بالتوتر والقلق والصراع المكتوم. مونتاج يسعى إلى تجاوز الوظيفة التقليدية في الربط بين المشاهد وضمان سلاسة الانتقال فيما بينها إلى توليف مشاهد شاعرية قد تبدو "دخيلة" على مادة الفيلم حينا، أو خارجة عن السياق حينا آخر، غير أنها تبدو في النهاية جزءا من معالم ذلك الأسلوب المتأثر، دون شك، بتجارب سينما العالم الثالث، وربما أيضا "السينما الثالثة".

ربما لا تكون القضية الدينية أو الطائفية بارزة في هذا الفيلم كما كان ينبغي، وربما تكون بعض الحوارات تجنح قليلا إلى السذاجة، لكننا أمام مخرج جديد واعد بشدة، يملك أساس السينما، أي قدرتها على التاثير.

هذا فيلم من قلب السينما الواقعية.. لكنها ليست تلك الواقعية الجديدة التي ميزت جيل الثمانينيات: محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وعلى بدرحان، بل واقعية جيل الديجيتال الذي يطلق على نفسه جيل السينما المستقلة. وتعد تجربة تصوير فيلم جديد عند هذا الجيل، مغامرة بحجم مغامرة اكتشاف السينما نفسها.
إن واقعية هذا النوع من السينما، التي تتجرأ على مس المسكوت عنه (التفرقة الدينية، وتصوير أسرة مسيحية فقيرة في صورة سلبيية مثلا، وتفاصيل كثيرة أخرى يعتبرها أنصار التستر على ما يجري في الواقع "تشويها لصورة مصر!) هي واقعية مقلقة، موجعة، لا تكتفي فقط برفع شعار "هكذا تسير الأمور" الذي افتتح به روسيلليني منهج مدرسة الواقعية الجديدة الايطالية بعد الحرب العالمية الثانية، بل "هكذا لا يجب أن تسير الأمور"، أي أن هناك بعدا تحريضيا في هذه السينما أيضا، ولعل هذا هو ما يخيف البعض!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger