الاثنين، 6 سبتمبر 2010

يوميات فينيسيا 6: مسابقة المواهب لا الأسماء الكبيرة

كما توقعنا قبل بدء المهرجان تعتبر مسابقة فينيسيا هذا العام أقوى مسابقة عرفها المهرجان العريق منذ سنوات. ولا يرجع السبب إلى وجود أسماء كبيرة للمخرجين مثلما اعتدنا من قبل، بل لتوفر المواهب الجامحة (الجديدة نسبيا) وحدها.
صحيح أن هناك أفلاما لكل من صوفيا كوبولا وسكوليموفسكي وماتزاكوراتي وفرنسوا أوزون، إذا جاز اعتبار هؤلاء من أصحاب الأسماء الكبيرة في عالم السينما، مع غياب أسماء بارزة معروفة في السينما الإيطالية تحديدا مثل ايرمانو أولمي وبوبي أفاتي وجياني اميليو على سبيل المثال، وغياب الأسماء البارزة في السينما الأمريكية عموما، وغياب تام للسينمائيين البريطانيين الكبار (بيتر جريناواي ومايك لي وستيفن فريرز وداني بويل وكن لوتش، ومعظمهم فضلوا عرض أفلامهم في كان).
لكن هناك أفلاما تركت بصمة قوية على المهرجان وقفزت لتحتل الصفوف الأولى مثل الفيلم الشيلي "تشريح الجثث"، والفيلم الروسي "أرواح ساكنة"، والفيلم الفرنسي (الياباني) "الحديقة النرويجية".
وهذه هي ميزة مهرجان فينيسيا تحديدا، أي القدرة على اكتشاف الجديد، وتسليط الأضواء عليه، ومن هنا كان خروج كيروساوا إلى العالم مثلا، وكان بروز جانج ييمو وإبرازه لأفلام الموجة الجديدة في السينما الصينية في تسعينيات القرن الماضي.
أدهشني شخصيا الفيلم الصيني (من هونج كونج) "المفتش دي ولغز لهيب الشبح" وهو من نوع مغامرات الكونج فو التي تمتليء بالمبارزات السيريالية، والقفز فوق الأشجار، والكائنات الخرافية التي تبرز فجأة، والمناظر المليئة بالديكورات والاكسسوارات المذهلة بصريا. قدرات خاصة خارقة كانت تعد من المستحيلات فنيا من قبل، أتاحها دون شك، استخدام تكنيك الصور المولدة عن طريق الكومبيوتر CGI لكن لاشك على الإطلاق في عبقرية الخيال الذي تمكن من تصميم وتنفيذ هذا الفيلم البديع الجامح.
وأعجبني أيضا الفيلم الاسباني الجامح في عنفوانه، الميلودرامي حتى النخاع في موضوعه وهو فيلم "أنشودة البوق الحزين" للمخرج ألكس دولا اجلزياس. والموضوع: قصة حب، وصراع وانتقام، تمتد من الحرب الأهلية الاسبانية عام 1937 وانتصار الفاشية على الجمهوريين، إلى عام 1973 في أواخر عهد الديكتاتور فرانكو، وفي أجواء السيرك، ولاعبي السيرك.
ولاتزال هناك أفلام مهمة لم تعرض بعد منها الفيلم الأمريكي "وعود مكتوبة على الماء"، والفيلم الفرنسي "فينوس السوداء" للتونسي عبد اللطيف قشيش. لننتظر ونرى.

يوميات فينيسيا 5: الفيلم المفاجأة من الصين!


لم يتمكن أحد من التكهن مسبقا بهوية الفيلم المفاجأة الذي ادخره ماركو موللر مدير المهرجان لجمهوره، وحتى اللحظة الأخيرة، مع تأخر العرض أكثر من خمس دقائق، ظلت المفاجأة قائمة في عرض الصباح الباكر في الثامنة والنصف، في قاعة "دارسنا" التي امتلأت بضيوف المهرجان ولفيف من الصحفيين في حين فضل البعض الآخر الانتظار إلى أن تتضح المفاجأة لمشاهدة الفيلم (أو عدم مشاهدته!) في عرضه المسائي.
الفيلم المفاجأة كان من الصين، وهو فيلم "الحفرة" للمخرج وونج بنج، لكنه من الإنتاج الفرنسي- البلجيكي المشترك. أي أنه فيلم صيني بحكم طبيعة موضوعه وأماكن تصويره وجنسية مخرجه، لكن التمويل كله من الغرب.
الموضوع يدور في أواخر الخمسنيات من القرن الماضي، في الفترة التي عرفت الحملة القاسية التي شنها الحزب الشيوعي الصيني لإعادة تعليم كل من اعتبرهم في ذلك الوقت، من اليمينيين أو الرجعيين بحكم أصولهم الطبقية أو خلفياتهم الاجتماعية، ويقال إن هذه الحملة شملت مليون شخص.
أما "إعادة التعليم" فتعني اعتقال هؤلاء ونقلهم إلى معسكرات ضخمة في مناطق نائية، حيث يرغمون على ممارسة الأشغال الشاقة تحت ظروف أكبر كثيرا من قدرة البشر على التحمل: نقص فادح في الغذاء وغياب تام للرعاية الصحية، وأعمال سخر، لدرجة أن الكثيرين منهم كانوا يموتون في فراشهم.
ويصور الفيلم في أسلوب تسجيلي واقعي، خلال النصف الأول منه، أوضاع السجناء الذين يعيشون في منطقة صحراوية نائية، وينامون تحت الأرض داخل سراديب يطلق عليها "الحفرة" The Ditch وهذا هو عنوان الفيلم.
ونرى في مشاهد تفصيلية تسبب الصدمة للمتفرج، كيف يبحث السجناء، ومنهم أساتذة في الجامعة ومثقفون، عن الطعام بأي طريقة، يسرق بعضهم الملابس من أقرانهم لمبادلتها بالطعام، فهم لا يحصلون سوى على صحن من الحساء الخالي من البروتين يوميا، لدرجة أن الكثيرين يبدأون في اصطياد الفئران وأكلها، بل ويصل الأمر إلى درجة قطع أجزاء من جثث أقرانهم الذين ماتوا ودفنوا في مقابر جماعية في الصحراء، وأكلها، أي أنهم يتحولون أيضا إلى أكلة للحوم البشر، وهو ما يستوجب العقاب الشديد من جانب المشرفين على السجناء.
وفي أحد المشاهد الشديدة الوقع على المتفرج، نرى كيف يضطر أحدهم يتقيأ بعد أن تناول نباتات ضارة، في حين يقوم زميله بالتقاط بقايا قطع الطعام التي توجد في القييء وهي غالبا لقطع من لحم فأر!
هذا التصوير الحرفي يستند
كما يقول المخرج على دراسة موثقة قام بها، وأجرى خلالها مقابلات مع عدد من الذين مروا بتلك التجربة الرهيبة، وتمكنوا من النجاة. وقد أجريت المقابلات المصورة معهم عام 2007.
وفي الجزء الثاني من الفيلم تصل زوجة أحد السجناء وقد حملت له معها بعض الكعك والحلوى، لكنها تصدم عندما تعلم بوفاته، وتحاول عبثا البحث عن جثته، ويتستر زملاؤه على الأمر ويرفضون ارشادها إلى مكان دفنه بعد أن سُرقت ملابسه والبطانية التي كانت جثته ملفوفة بها، كما انتزعت أجزاء من جثته أكلها زملاؤه الجوعى، وهذا ما نعرفه من خلال رواية صديق له. ولكن المرأة تصر على العثور على قبر زوجها، وتعلن رفضها لسياسة الحزب وممارساته أمام قائد المعسكر مما يجعله يهدد بالإرشاد عنها للسلطات، وتنجح في النهاية من الوصول إلى جثة زوجها.
لاشك أن المخرج ينجح في توصيل الفكرة كأقوى ما يمكنه، من خلال الصور واللقطات والحوارات التي تكشف دون أن تكون مباشرة، ولكنه يفرط كثيرا في استخدام اللقطات الطويلة، أي تلك التي تستغرق زمنا طويلا على الشاشة وهو ما يؤدي إلى البطء الشديد في الإيقاع، كما يعاني الفيلم خاصة في النصف اثاني، من الثرثرة، ومن التكرار، وهي بلاشك مسؤولية المونتيرة الذي عمل في الفيلم وهي الفرنسية ماري ايلين دوزو، التي تتحمل مسؤولية ذلك الهبوط الشديد في الإيقاع، وعدم الانتقال من خلال "القطع" من لقطة إلى أخرى، أو إنهاء المشاهد في اللحظة الضرورية التي لا تخل بإيقاع الفيلم.

الأحد، 5 سبتمبر 2010

يوميات فينيسيا 4: بين السياسي والنفسي والفلسفي

من فيلم "سيرك كولومبيا"

شاهدنا حتى كتابة هذه السطور 11 فيلما من أفلام المسابقة الـ24، ولاشك أن معظم هذه الأفلام مثيرة للكثير من الاهتمام، كما أنها تتنوع في اهتماماتها ما بين البحث في أغوار النفس البشرية، ومحاولة البحث عن جسر للتواصل بين البشر، وفهم الإنسان لنفسه، لماضيه وللبشر من حوله، وأيضا البحث في القضايا السياسية مثل القضية الفلسطينية كما في فيلم "ميرال"، وموضوع الديكتاتورية العسكرية في علاقتها بالفرد، بالإنسان، كما في فيلم "تشريح الجثث" Postmortum من شيلي الذي أعتبره إحدى التحف السينمائية التي كشف عنها مهرجان فينيسيا هذا العام مع التحفة الأخرى من روسيا "أرواح ساكنة"، و"الغابة النرويجية" من الإنتاج الفرنسي للمخرج الفيتنامي تران أن هونج الذي صوره في اليابان.
ولاشك أن هذه الأفلام البارزة تستحق نقدا تفصيليا للكشف عن كنوزها وأسباب سحرها وتفردها الفني.
أما خارج المسابقة فقد لفت الانتباه بقوة الفيلم البوسني (من الاإنتاج المشترك مع بلجيكا وفرنسا وبريطانيا) أي فيلم "سيرك كولومبيا" Cirkus Columbia للمخرج دانيس تانوفيتش صاحب الفيلم الشهير "أرض محايدة" No Man’s Land الحاصل على الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي من عام 2001.
والفيلم الجديد تعليق درامي- كوميدي ساخر أيضا عن التمزق السياسي الذي يؤدي إلى النزاع المسلح في يوغسلافيا والبوسنه، وهو ينتقل من العلاقات العائلية إلى العلاقات بين أبناء الوطن الذي كان واحدا ثم بدأ يتمزق في أوائل التسعينيات، وهي الفترة التي يغطيها الفيلم البديع.
استمتعت أيضا كثيرا بفيلم "أرواح ساكنة" الذي أخرجه الروسي ألكسي فيدورشينكو، بحساسية خاصة، ومن خلال شكل في السرد يقتحم منطقة جديدة في لغة السينما، ويجرب، ويفتح المجال للمزج بين التسجيلي والخيالي، وبين العالم الداخلي، عالم الروحانيات، والتقاليد الشعبية الخاصة التي تعود لمئات السنين من التراكمات، وبين الوفاء للزوجة بعد الوفاة، وكيف يدفع هذا الوفاء المرء لبذل كل ما يمكنه من أجل أن يحقق للروح التي صعدت لتوها، الراحة والسكون من خلال تلك التقاليد المتعارف عليها. ولاشك أن الفيلم يستحق وقفة خاصة قريبا على هذه الصفحة لما فيه من لحظات خاصة بالتأمل في علاقة الموت بالحياة.

طاقم فيلم "امرأة" الإيطالي

خارج المسابقة أيضا وفي إطار برنامج "السينما الإيطالية المعاصرة" شاهدت فيلم "امرأة" A Woman لمخرجة إيطالية شابة (30 عاما) هي جيادا كولاجراندي، وبطولة وليم دافو وجيس ويكسلر. وهو فيلم ناطق بالانجليزية وتدور أحداثه بين أمريكا وايطاليا، وموضوعه من نوع الدراما النفسية المعقدة، ويبحث في خصوصية أو بالأحرى، ازدواجية عالم المرأة، رغبتها في الحب، اندفاعها من أجل ارضاء الحبيب، وفي الوقت نفسه، الخوف من المستقبل، والقلق من الحاضر، ومحاولة التأمل في الموت، ومغزى الروح، وعلاقة الروح بالماء، تماما كما يتردد في فيلم "أرواح ساكنة".
وجدير بالذكر أن برنامج "السينما الإيطالية المعاصرة" يشمل عرض 30 فيلما من الأفلام الإيطالية الروائية الطويلة.
ولعل ما يميز هذه الأفلام التي ذكرتها جميعا، الرقة البالغة التي يتعامل بها مخرجوها مع الموضوع، والبحث عن أشكال جديدة في السرد، والجرأة الشديدة في التعبير، بالجسد، عن عذابات الروح أحيانا، وبالبحث في أعماق الصورة ومحاولة النفاذ من خلال الصور إلى عالم النفس البشرية من الداخل، وعدم الاكتفاء بالوقوف على السطح.

السبت، 4 سبتمبر 2010

يوميات فينيسيا 3: في مكان ما.. معروف لكن غير محدد


مازال الوقت مبكرا كثيرا للحكم على أفلام مسابقة المهرجان. وتقييم المسابقة جزء أساسي من عمل أي ناقد، ومطلوب، وليس فقط الكتابة المتفرقة عن الأفلام خارج السياق الذي تعرض فيه، وحكمنا على قيمة أي مسابقة لا ينبع من الجري وراء الصرعات الصحفية، أو التنبؤات الإعلامية السطحية، أو حتى مجرد التعامل الخارجي المظهري مع الحدث، ولكن الرغبة في التعلم والاستفادة من التجربة، واطلاع القاريء المهتم، على الأسس التي نحكم من خلالها على نجاح المسابقات بين الأفلام في هذا المهرجان أو ذاك. وإلا فما فائدة مشاهدة الأفلام في سياق مسابقات محددة، تحكمها اختيارات محددة، وتحصل في النهاية الأفلام الفائزة طبقا للجنة تحكيم محددة ومعروفة سلفا، على جوائز محددة!
هناك حتى الآن، تنوع واضح في الأفلام والاتجاهات الفكرية، رغم غلبة تيمة البحث عن معنى في عالم فقد فيه الكثير من الأشياء المعنى والهدف.
هذا المفهوم العام المشترك، تشترك فيه أفلام من روسيا، ومن فرنسا، ومن أمريكا، ومن اليابان.
هذا "الضياع" أو ضياع المعنى، إذا جاز التعبير، أو الإحساس بالاغتراب عن الواقع يتجسد تماما في فيلم المخرجة صوفيا كوبولا الجديد "في مكان ما"، وهو عنوان مجرد لموضوع فيه أيضا الكثير من عناصر التجريد رغم أنه يعرض لجوانب انسانية في سياق أقرب إلى السيرة الذاتية.
علاقة فتاة صغيرة في العاشرة من عمرها، بوالدها النجم السينمائي الشهير، الذي يتحول إلى كيان فاقد للإحساس بما يجري حوله فقد أصبح عبدا في آلة جهنمية تجعله يجاهد لكي ينتزع فرصة للاختلاء بابنته وقضاء بعض الوقت في نزهة بريئة معها، ويلجأ من أجل ذلك إلى الفرار من ملاحقيه: من الإعلام إلى الفتيات طالبي الشهرة، إلى الإغواء المتمثل في الجنس، إلى حياة القلق والتوتر التي تجعله يستأجر فتاتين متشابهتين في كل شيء لتأدية عرض جنسي مثير كل ليلة، فقط من أجل أن يستطيع الاسترخاء ثم النوم.
الأرق هي السمة المميزة لهذه الشخصية التي تتأملها الابنة في نضج وفهم كبيرين، ودون أن تفقد أبدا حبها له. وفي لحظة تألق ما تلمع في ذهنه، يقرر الأب أن يعيش مع هذه الابنة الرائعة أجما أوقات حياته قبل أن يودعها.

فيلم شخصي حميمي يطرق بابا جديدا في العلاقة بين الأب والابنة، وبين الفنان الذي يحتاج إلى الهدوء والاسترخاء لكنه يجد نفسه أيضا مستلبا بالإغواء الجنسي تارة، وأضواء الإعلام ونمط حياة المشاهير تارة أخرى.
وهناك سخرية من الإعلام السائد في إيطاليا التي يتنقل لها البطل حيث يحتفى به، ومن الطابع الذي خلقته ورسخته تحديدا الشبكات الاعلامية التي يمتلكها سلفيو بيرلسكوني، رغم حصول الفيلم على تمويل من شركته "ميديا ست".
معالجة صوفيا كوبولا للموضوع تأتي في إطار خفيف، يغلب عليه الطابع الكوميدي والمبالغات، سواء في رسم المواقف، أو في أداء الشخصية الرئيسية ومن حولها، لكن تحت جلد الكوميديا في الفيلم، تنبع الكثير من المواقف الانسانية العذبة. وهذا هو ما يبقى من الفيلم في النهاية.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger