الأحد، 29 أغسطس 2010

مهرجان فينيسيا السينمائي في خضم المنافسة الشرسة


الدورة التي ستفتتح يوم الأربعاء الأول من سبتمبر (أيلول) من مهرجان فينيسيا السينمائي هي الدورة السابعة والستون من عمر هذا المهرجان الذي تأسس عمليا عام 1932، أي أن عمره الحقيقي اليوم يبلغ 78 عاما. فقد توقف لعدة دورات، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. وهو يعد بالتالي أقدم مهرجانات السينما في العالم. ولكنه واجه أيضا الكثير من الأزمات التي كادت أن تعصف به خصوصا في أواخر السبعينيات وقت اشتداد الصراع السياسي في إيطاليا بين اليمين واليسار، وفي ظل الإضرابات المستمرة التي عانت منها إيطاليا وقتذاك. وقد توقف المهرجان أيضا لعدة سنوات عن منح جوائزه، ولم ينعقد المهرجان عام 1978، وفي تلك الفترة ظهر عدد من المهرجانات السينمائية الأخرى الصغيرة التي حاولت أن تنافس مهرجان فينيسيا وتستقطب الأضواء بعيدا عنه، أو تقضي عليه.
وقد تعرض المهرجان لفترة من الخمول وكان أن يغرق ويطويه النسيان في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، إلى أن جاء ماركو موللر (وهو منتج سينمائي ومدير سابق لمهرجان لوكارنو) وفتح المهرجان أكثر على السينما الأمريكية، وبدأ يعمل بما يملكه من أدوات، دون أن يضع في اعتباره الدخول في منافسة مباشرة يعرف نتيجتها، مع مهرجان كان. وكان مولد مهرجان روما السينمائي أيضا عاملا أساسي في زيادة الحمية عند القائمين على مهرجان فينيسيا في مواجة ذلك المنافس الجديد الذي تدعمه صناعة السينما الإيطالية بوقة. ومع ذلك تلاشى بسرعة، الضجيج الذي اثاره مهرجان روما، وظل قابعا في محيط محدود، وهو ما يؤكد فرتنا عن أن مهرجانات المدن الكبرى والعواصم ليست أمامها عادة فرصة كبيرة للمنافسة بسبب ضياع المهرجان في أجواء ومتاعب المدن الكبرى كما هو حال مهرجان القاهرة السينمائي مثلا، ومهرجان طوكيو، ولندن، وموسكو، وهي مهرجانات لا تتطور كثيرا، وإن حاولت عاما بعد عام، وربما يكون الاستثناء الوحيد هو مهرجان برلين العريق.
التحدي الحقيق القائم حاليا هو مع مهرجان اقل أهمية كثيرا من فينيسيا وهو مهرجان تورنتو في كندا، الذي لا ينظم مسابقة ولا يمنح جوائز، والسبب لأنه شديد التنظيم وأكثر قربا من قلعة صناعة السينما في العالم أي هوليوود، والمدنية تتيح امكانيات أكبر في الاقامة وغيرها، وباسعار مناسبة لشركات الانتاج والتوزيع التي تأتي معها عادة بجيوش من الموظفين.
غير أن مهرجان فينيسيا مازال على حيويته رغم التحديات، وهو تميز بتغليبه الجانب الفني في السينما على الجانب التجاري، فهو مثلا لا ينظم سوقا للأفلام كما يفعل مهرجان كان، ولا يعرف بالتالي وجود كل تلك الأعداد من الموزعين والمنتجين، لكنه بدأ منذ نحو عشرين عاما أو أكثر، في اجتذاب الكثير من نجوم السينما في العالم، ومن الولايات المتحدة تحديدا، سواء نجوم الإخراج أو التمثيل.
هذا العام ربما لا يوجد الكثير من النجوم. صحيح ان المسابقة تتضمن 6 أفلام أمريكية لكنها من الأفلام المستقلة التي لا تعتمد عادة على كبار النجوم. ستحضر بالطبع هيلين ميرين، وناتالي بورتمان، لكن سيغيب مثلا جورج كلوني.
ويرتبط المهرجان في أذهان الكثير من السينمائيين المشاهير بحصول أفلامهم على التقدير والجوائز في هذا المهرجان قبل أن تنطلق إلى العالم وتمتد شهرة مخرجيها. ولعل من أشهر هؤلاء المخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا الذي اكتشفه المهرجان عام 1950 مع عرض فيلمه "راشومون" الذي حصل على الأسد الذهبي هناك، وانطلقت منه السمعة الكبيرة التي حققها مخرجه فيما بعد.
ويعد الحصول على جائزة "الأسد الذهبي" التي توازي "السعفة الذهبية"، مفتاحا لتوزيع الفيلم في شتى أرجاء العالم (مطروحا منه العالم العربي بالطبع!). كما تميز المهرجان خلال السنوات القليلة الأخيرة بمنحه الجوائز لعدد من الأفلام التي نجحت بعد ذلك في الحصول على جوائز الأوسكار الرئيسية مثل فيلم "جبل بروكباك"، و"المصارع"، و"خزانة الألم".
الدورة الجديدة تحمل الكثير من الآمال، وربما تكون بمثابة انطلاقة للمهرجان نحو آفاق جديدة، خصوصا وأن المهرجان يستعد لافتتاح الإنشاءات الجديدة في العام القادم التي يمكن أن تحقق له اجتذاب المزيد من الجمهور والأفلام، وترسيخه كمؤسسة تعمل على مدار العام، وتستضيف الكثير من المؤتمرات مما يساهم في إحياء جزيرة ليدو الصغيرة التي يقام بها المهرجان منذ سنوات بعيدة، والتي تعاني عادة من الإهمال التام وعدم التقدم في أعمال البنية الأساسية اللازمة لازدهار أي مهرجان، أي على نطاق الفنادق والمطاعم، بسبب ما تتعرض له من كساد في معظم أوقات العام بعد أن ينتهي موسم الصيف.
السينما العربية التي كانت قد تواجدت بشكل لا بأس به العام الماضي من خلال ثلاثة أفلام مصرية داخل وخارج المسابقة، وفيلم تونسي، وآخر محسوب على الجزائر، تراجع وجودها هذا العام وانحسر في فيلمين من الأفلام التسجيلية من مصر ولبنان، هما "ظلال" لماريان خوري ومصطفى الحسناوي، و"شيوعيين كنا" لماهر أبي سمرا من لبنان. ولكن هناك طبعا فيلم "فينوس السوداء"، الذي سيعرض داخل المسابقة، للمخرج التونسي الأصل الذي يعمل في نطاق السينما الفرنسية، عبد اللطيف قشيش. وهذا في رأيي، هو الحجم الحقيقي لمنطقة غير مؤثرة في خريطة السينما العالمية، وكفت عن القيام بدورها من التأثير الثقافي والفني في محيطها العربي بما في ذلك المجال الداخلي، باستثناء السينما المصرية بالطبع، فالأفلام أصبحت تصنع لحفة من المهتمين، ونادرا ما تنجح في الوصول للجمهور عن طريق العرض العام في دور العرض، بل وأصبح السؤال المطروح ايضا هو" وأين هي دور العرض أصلا!

الجمعة، 27 أغسطس 2010

"جنوب الحدود": مغامرة جديدة لأوليفر ستون في أمريكا اللاتينية


استمتعت شخصيا بدرجة كبيرة بالفيلم التسجيلي "جنوب الحدود" South of the Border للمخرج الأمريكي الشهير أوليفر ستون (الذي عرض خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا).
ستون يخوض هنا مغامرة جديدة في السباحة ضد التيار السائد، ضد الإعلام الأمريكي وما يروجه من معلومات خاطئة وما يعكسه من مواقف موالية بالكامل لنظرة الإدارة الأمريكية التقليدية بل وضد موقف ورؤية وكالات الاستخبارات الأمريكية من بلدان أمريكا اللاتينية، التي تتناقض في مواقفها السياسية مع رغبة واشنطن في فرض الهيمنة عليها.
على رأس تلك البلدان فنزويلا في عهد رئيسها الممتليء بالحيوية والنشاط والذي يتحلى أيضا بشجاعة كبيرة: هوجو تشافيز.
ستون يتجول بالكاميرا، في عدد من بلدان القارة الجنوبية، فيذهب إلى فنزويلا حيث يلتقي بتشافيز، ثم إلى الأرجنتين فيقابل الرئيس السابق نيستور كيرشنر والرئيسة الحالية (زوجته) كريستينا كيرشنر، وإلى بوليفيا حيث يلتقي بأول رئيس في أمريكا اللاتينية من السكان الأصليين (يطلقون عليهم خطأ الهنود الحمر) هو الرئيس إيفو موراليس، ثم إلى البرازيل والرئيس لولا دا سيلفا، وباراجواي والرئيس فرناندو لوجو، وأخيرا إلى كوبا ورئيسها راؤول كاسترو.
يستخدم ستون المادة المصورة التي يظهر فيها بنفسه يدير الحوارات أمام الكاميرا، ويطرح الكثير من التساؤلات من وجهة نظر الأمريكي "العادي" لكنه لا يحاول بالطبع ادخال الرأي الآخر، المناقض لآراء زعماء بلدان أمريكا اللاتينية بل ويستثني رئيس كولومبيا المؤيد تماما للسياسة الأمريكية والذي تخوض بلاده حربا ضد جماعات الثوار منذ سنوات، والسبب بسيط، لأن هذا الرأي أو تلك الوجهة الأخرى، معروفة ومألوفة وشائعة، ويعرفها جميع الأمريكيين، بل والرأي العام في العالم من خلال أجهزة الإعلام السائدة مثل سي إن إن وغيرها، وهي تتلخص في إدانة هذه البلدان والحكم عليها بانتهاك حقوق الإنسان (التي يقول لنا الفيلم إنها أصبحت التهمة الجديدة بعد تهمة الديكتاتورية).
ويسخر الفيلم من اتهام تشافيز مثلا بالديكتاتورية، وتقول رئيسة الأرجنتين إنها لا تعرف بلدا في العالم أجريت فيه الانتخابات الديمقراطية 17 مرة في سنوات معدودة كما حدث في فنزويلا. ويؤكد الفيلم على أن جميع الرؤساء الذين يحاورهم ستون جاءوا إلى الحكم عن طريق الانتخابات بل إنهم فضوا دائما التصدي للعنف بالعنف، ويصور احترامهم لحق الإضراب والتظاهر في كل الظروف، باستثناء كوبا التي تنهج نهجا مختلفا، وإن كان يصور كيف يحظى النظام بالشعبية الكبيرة من جانب الطبقات الكادحة، أي الأغلبية.
المدهش أن الفيلم يكشف لنا كيف أن هذه البلدان كلها في عصر العولمة، وبعد اختفاء المنظومة السوفيتية من الوجود، انتفضت كلها متجهة في اتجاه اليسار، لكي تتمرد على قوانين واشنطن، وشروط البنك الدولي الذي توجهه الإدارة الأمريكية لمصالحها وكيف أنها تمكنت من التصدي لأكبر قوة في العالم، كما رفضت الانصياع لشروطها وشروط البنك المتخصص في اقراض دول العالم الثالث بشروط قاسية تؤدي أحيانا إلى كوارث اجتماعية وسياسية، دون أن تنهار كما يذاع علينا يوميا، ودون أن تشتعل فيها الانقلابات والثورات، بل على العكس تماما، للمرة الأولى في تاريخ تلك القارة التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها "البيت الخلفي" لها، تقارب الحكام مع المحكومين، وأصبحت برامج الإصلاح الحقيقية توجه لمصلحة الناس وليس لمصلحة البنك الدولي والاحتكارات الأمريكية.
ويركز الفيلم بدرجة كبيرة، على تجربة تشافيز في فنزويلا، وهي من أغنى الدول بالنفط، وكيف تآمرت عليه الولايات المتحدة وأرادت الاطاحة به في انقلاب سرعان من انعكس لصالحه، وكيف تمكن من الصمود وتحويل بلاده من دولة تستورد كل قمحها من الخارج إلى دولة مصدرة، وكيف وفرت الدول التعليم والصحة لفئات كانت محرومة تماما منها.
ولعل من الجوانب المهمة التي يكشف عنها الفيلم من خلال الحوارات المكثفة مع زعماء البلدان التي اشرنا إليها، هو كيف تتضامن هذه الدول معا، في مواجهة القوة الأكبر في العالم، متحدة بموقف موحد ورأي واحد، لا تسعى للصدام بل لاحترام استقلاليتها وتوجهها المختلف.
صحيح أن هذا الفيلم من الأفلام التليفزيونية المصورة بكاميرا الديجيتال الصغيرة، وصحيح أنه يعتمد على الحوارات، لكنه يتمتع بقدر كبير من الحيوية، والجمال الداخلي، الذي يشع من مشاهد كثيرة مثل المشهد الذي يلعب فيه ستون مع رئيس بوليفيا الكرة، أو عندما يشرح رئيس باراجواي الشاب في حماسة وسخرية، كيف أنه رد على رفض الأمريكيين سحب قاعدتهم العسكرية من بلاده بأنه سيوافق على وجودها في حالة موافقتهم على وجود قاعدة لبلاده على الأراضي الأمريكية.
ويكشف الفيلم من خلال ما يدور من حوارات عما يتمتع به هؤلاء الرؤساء من ثقافة سياسية وقدرة تحليلية عالية، يجمعهم الوقوف سياسيا على اليسار أو يسار الوسط، ويدافعون جميعا عن دور الدولة في توجيه الاقتصاد، ويرفضون فكرة الاستسلام لاقتصاد السوق طبقا لشروط البنك الدولي.
وفي الفيلم جانب تعليمي مهم يساهم في إثارة الوعي لدى مشاهديه. وليت حكامنا يشاهدونه لكي يدركوا أن الأمر ممكن.. وليته يعرض على الجمهور في بلادنا لكي يعرفوا كيف يخدعهم حكامهم ليلا ونهارا بالقول إنه "ليس ممكنا"!
ملحوظة: فاجأ الرئيس الفنزويلي تشافيز جمهور المهرجان وظهر إلى جانب أوليفر ستون في المؤتمر الصحفي ليس باعتباره رئيسا، بل باعتباره الشخصية الأولى في للفيلم مما أضفى جوا من الحيوية الشديدة على المؤتمر. وقد قضى تشافيز 17 ساعة في فينيسيا قبل أن يغادرها.

الخميس، 26 أغسطس 2010

السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الأخير)

لقطة من فيلم "على آخر نفس" أول افلام جودار


كتابة: بيتر والين
ترجمة: أمين صالح

(6)
النص شيء مادي، دلالته لا تقررها شفرة من خارجها، على نحو آلي، ولا عضوياً كوحدة كاملة رمزية، لكن من خلال استنطاقه لشفرته الخاصة. فقط من خلال هكذا استنطاق، هكذا حوار داخلي بين الإشارة والشفرة، ينتج النص فضاءات داخل المعنى. ينتج معنى من نوع جديد يتولد ضمن النص نفسه.
المؤثرات الأيديولوجية لهكذا إعادة صياغة للأسس السيميولوجية للفن ستكون ذات أهمية قصوى. إنها بعد الآن سوف لن تعيّن موقعاً لوعي القارئ أو المتفرج خارج العمل كمتلق/ مستقبل، ومستهلك، وقاض، بل ترغمه على تعريض وعيه للمجازفة داخل النص ذاته، بحيث يكون مجبراً على استجواب شفراته الخاصة، منهجه الخاص في التأويل، أثناء القراءة، وذلك من أجل إنتاج ثغرات وفجوات في فضاء وعيه.. (هي ثغرات وفجوات موجودة في الواقع لكنها مكبوحة من قِبل الأيديولوجيا التي تصر على "كلية" واستقامة كل وعي فردي). الجماليات السابقة أقرّت شمولية أو عمومية الفن المؤسس إما في عمومية "الحقيقة" أو عمومية "الواقع". الحركة الحديثة، للمرة الأولى، هشمت هذه العمومية أو الشمولية إلى قطع وأصرّت على خصوصية وتفرّد كل فعل من أفعال قراءة النص، والعملية المتعددة لحل الشفرات، التي فيها انتقال الشفرة يعني العودة إلى إشارات كانت في السابق محلولة شفرتها، والعكس بالعكس، بحيث أن كل قراءة كانت عملية مكشوفة، قائمة في فضاء مفتوح.
علم الجمال الكلاسيكي كان دوماً يثبّت وحدةً وتماسكاً أساسياً إلى كل عمل. الحداثة تأتي لتمزق هذه الوحدة والانسجام. إنها تفتح العمل داخلياً وخارجياً معاً، ونحو الخارج. هكذا لا تعود هناك أعمال مستقلة ومنعزلة، أشبه بوحدات، وكل عمل مسيّج في فردانيته الخاصة، عالمه المطلق، وحْدته الكلية. الحداثة تنتج أعمالاً لا تعود مندفعة نحو المركز، متماسكة بفعل محاورها الخاصة، بل هي مندفعة بعيداً عن المركز، رامية القارئ خارج العمل ونحو أعمال أخرى.
في الماضي، صعوبة القراءة كانت ببساطة تكمن في العثور على نظام شفري صحيح، في تفسير غموض ما، أو التباسات، أو مساحات من الجهل. ما إن تصير الشفرة معروفة حتى تصبح القراءة آلية. لكن الحداثة تجعل القراءة صعبة من وجهة أخرى، ليس في العثور على الشفرة أو إدراك الأفكار والمضامين، بل في جعل عملية حل الشفرة نفسها مسألة صعبة، فأن تقرأ يعني أن تعمل. القراءة تصبح إشكالية، والمضمون لا يصير مرتبطاً بالإشارة بواسطة أي رابط. إنه، على نحو غير مقصود، منفصل، مكبوح، معطل، بحيث يتعيّن على القارئ أن يلعب دوره الخاص في إنتاجه. في الوقت نفسه، النص، من خلال فرض ممارسة القراءة هذه، يعطل خرافة الوعي المتفتح للقارئ. العقل يصبح منتجاً، إنه يعمل. تماماً كما المؤلف الذي لا يعود "يجد" كلماته، لكن يجب أن "ينتج" نصاً، كذلك القارئ يجب أن يعمل ضمن النص. الصورة القديمة للقارئ بوصفه مستهلكاً قد تهشمت وتبدّدت.
النص إذن لا يعود وسطاً شفافاً. إنه شيء مادي والذي يوفّر الشروط لإنتاج المعنى، ضمن كوابح تعيّن نفسها. النص مفتوح أكثر مما هو منغلق. متعدد أكثر مما هو أحادي. مثمر أكثر مما هو مستنفد. ومع أنه من إنتاج فرد، هو المؤلف، إلا أنه لا يمثّل، أو يعبّر ببساطة عن، أفكار المؤلف، إنما يوجد ويحيا بذاته، بحكم حقه الشخصي.
الكاتب والقارئ هما، على نحو حيادي، نقّاد للنص. من خلال تعاونهما تكون المعاني منتَجة على نحو جماعي. في الوقت نفسه، هذه "المعاني" لها تأثيرات؛ تماماً كما النص، بتقديم إجراءاته في حل الشفرة الخاصة، يستنطق نفسه، بحيث أن القارئ أيضاً يجب أن يستنطق نفسه، أن يخرق فقاعة وعيه ويولج فيه الصدوع والتناقضات والأسئلة التي هي إشكالية.


(7)
هذا هو السياق الذي فيه ينبغي رؤية أفلام جودار.. هذه الأفلام التي تمثّل استجواباً، وإعادة استجواب مستمر، لبنى صنع الفيلم المسلّم بها من قِبل صانع الفيلم والمتفرج. إنها ليست ببساطة مسألة تجاور لأساليب مختلفة أو لوجهات نظر مختلفة، بل مسألة التحدي النظامي للافتراضات التي تشكّل الأساس لتبني أسلوب ما أو وجهة نظر ما.

في أفلام جودار الأولى، البنية السردية والدرامية مسلّم بها جدلاً، لكن الشخصيات في الأفلام تستجوب بعضها البعض بشأن الشفرات التي تستخدمها في ما يتصل بمصادر سوء الفهم وعدم الإدراك. بعد ذلك، وفيما مسيرته تستمر، هو يبدأ، أكثر فأكثر، في استجواب، ليس الاتصال الخاص بالعلاقات بين الشخصيات، بل الاتصال الذي يمثله الفيلم نفسه. وأخيراً، هو بدأ يرى إلى صنع الفيلم ليس كتوصيل على الإطلاق بل كإنتاج نص فيه معضلات صنع الفيلم نفسها تكون مطروحة. هذا مظهر سياسي لسينما جودار، تماماً كما الجدل والتضمين السياسي على نحو صريح.
بجعل الأشياء "صعبة" على المتفرج بهذه الطريقة، وبوضع حد لتدفق أفلامه، جودار يجبر المتفرج على استجواب نفسه بشأن كيفية النظر إلى الأفلام، سواء كمستهلك سلبي يحكم على خارج العمل، مسلّماً بالشفرة التي يختارها المخرج، أم داخل العمل كمشارك في الحوار.
أعمال جودار هامة، خصوصاً للسينما، لأن في هذا المجال، أكثر من أي شكل فني آخر، الغموض السيميولوجي يكون ممكناً.. هذا بسبب الصفة الدلالية – الأيقونية الغالبة على معظم الأفلام و"الإيهام بالواقع" الذي توفره السينما.
يبدو أن السينما تحقق الحلم القديم بتقديم وسيلة اتصال فيها الإشارات الموظفة هي نفسها متماثلة مع العالم الذي هو موضع التفكير. المنظرون الواقعيون يرون في السينما الشكل الثري القادر على تقديم المظهر والجوهر معاً، المظهر الفعلي للعالم الواقعي وحقيقته معاً. العالم الواقعي يعود إلى المتفرج وهو مصفّى بالتخلّل عبر عقل الفنان، الرائي، الذي يرى ويعرض معاً.
بالسعي لجعل السينما وسطاً تقليدياً فإنهم يسلبون منه إمكانيته كعالم بديل، أفضل، أنقى، وأصدق. تلك التنظيرات ترتكز على تضليل رهيب: فكرة أن الحقيقة تكمن في العالم الواقعي ويمكن التقاطها بالكاميرا. إذا كان الوضع كذلك، فإن كل شخص سوف يمتلك حرية الوصول إلى الحقيقة، بما أن كل شخص يعيش حياته كلها في العالم الواقعي. بينما ليس للحقيقة أي معنى ما لم يكن لديها قوة تعليلية، ما لم تكن معرفة، نتاج تفكير. أفراد مختلفون قد يختبرون حقيقة الفقر لكن ذلك قد يُنسب إلى أسباب مختلفة: مشيئة الله، سوء الحظ، ندرة طبيعية، الرأسمالية. جميعهم عاشوا تجربة فقر حقيقية، لكن كل واحد منهم يعرف عن هذا الفقر بشكل مختلف عن غيره. الشيء نفسه ينطبق على أشعة الشمس: كل شخص يختبرها لكن قلة من الناس يعرفون شيئاً عن الشمس من الناحية العلمية. الواقعية هي في الحقيقة، كما كانت تاريخياً، ثمرة الرومانتيكية. الرومانتيكي، على نحو نموذجي، يرتاب في المعرفة العلمية أو لا يهتم بها.


(8)
"نظرية الفيلم" (المخرج بوصفه مؤلفاً لفيلمه)، كما أفهمها، تصر على ضرورة أن يشتغل المتفرج على قراءة النص. مع بعض الأفلام، هذا الفعل يكون غير مجد وغير مثمر، لكن مع أفلام أخرى، الأمر لا يكون كذلك. في هذه الحالات، بمعنى معين، الفيلم يتغيّر، يصبح فيلماً آخر. لا يعود ممكناً النظر إليه بالعيون ذاتها. ليس هناك من تجربة متكاملة، حقيقية، يتمتع بها الناقد وإليها يحاول أن يرشد الآخرين. قبل كل شيء، تجربة الناقد ليست متجذرة أساساً في جوهر الفيلم نفسه.
الناقد ليس في قلب المسألة. إنه شخص يثابر على تعلّم مشاهدة الفيلم على نحو مختلف، وهو قادر أن يحدّد الآليات التي تجعل هذا ممكناً. هذه ليست مسألة "قراءة في" أو إسقاط اهتمامات الناقد الخاصة في الفيلم. أي قراءة للفيلم ينبغي أن تكون مبرّرة بتفسير لكيفية اشتغال الفيلم نفسه على جعل هذه القراءة ممكنة. القراءة الفردية لا تعطينا المعنى الحقيقي للفيلم. إنها ببساطة قراءة تنتج معنى إضافياً.
مرّة أخرى، من الضروري الإلحاح على أنه في غياب أي معنى حقيقي، جوهري، لا يمكن أن يكون هناك أي نقد كامل، والذي يقرر ويوطّد تأويل فيلم ما نهائياً وعلى نحو حاسم. علاوة على ذلك، بما أن المعنى ليس متضمناً على نحو متمم في أي فيلم، فإن أي حل للشفرة قد لا ينطبق على النطاق كله. النقد التقليدي يبحث دوماً عن الشفرة التي يمكن فهمها، والتي سوف تمنح التأويل التام، مغطيةً كل تفصيلة. الجماليات الكلاسيكية والرومانتيكية معاً تؤمن أن كل تفصيلة ينبغي أن تمتلك معنى: الكلاسيكية لأنها تؤمن بالشفرة الشائعة، العامة. والرومانتيكية لأنها تؤمن بالوحدة العضوية التي فيها كل تفصيلة تعكس ماهية أو جوهر الكل.
نظرية المؤلف تظهر أن أي حل للشفرة عليه أن يتنافس، في السينما، مع جلبة من الإشارات المشفرة على نحو مختلف. وراء ذلك، هناك وهْم التفكير في أي عمل بوصفه كاملاً بذاته، بوصفه وحدة معزولة والتي علاقتها مع أفلام أخرى، مع نصوص أخرى، تكون منضبطة ومتحكم فيها بحرص لتفادي التلوّث.
النص، بتعبير أوكتافيو باث، شيء يشبه الآلة التي تنتج المعنى. فضلاً عن ذلك، معناه ليس محايداً، ليس شيئاً ينبغي ببساطة امتصاصه من قِبل المستهلك.
معنى النصوص يمكن أن يكون مدمراً للشفرات المستعملة في نصوص أخرى، والتي قد تكون شفرات مستعملة من قِبل المتفرج أو القارئ الذي يجد شفراته المألوفة عرضة للتهديد.
كلنا نعلم أن "دون كيخوته" كان مدمراً لقصص القرون الوسطى التي قوامها المغامرات الفروسية. ونعلم أيضاً أن "يوليسيس" كانت مدمرة لرواية القرن التاسع عشر. لكن يبدو أن من الصعب الإقرار بهذه التدميرية.
* عن كتاب Signs and Meaning in the cinema, 1969

الاثنين، 23 أغسطس 2010

مهزلة سرقة زهرة الخشخاش في مصر

* قام كل الموظفين في متحف محمود خليل في القاهرة لأداء الصلاة فانتهز اللص الفرصة وسرق لوحة "زهرة الخشخاش" لفان جوخ التي يبلغ ثمنها 55 مليون دولار!
* الوزير (من الوِزر) فاروق حسني قام "بتلبيس" القضية لوكيل أول وزارة الثقافة محسن شعلان (فنان تشكيلي) والمسؤول عن كل متاحف مصر، فقبضوا على المسكين ووضعوا القيود الحديدية في يديه، ووجه الوزير تعليماته إلى مدير مكتبه وخادمه الأمين، الجنرال فاروق عبد السلام (لواء سابق بالجيش) لكي يشهد ضد شعلان ويكيل له الاتهامات بالتقصير أمام النائب العام. أولا من قال إن الفنان التشكيلي أي الرسام، يصلح لأن يكون مسؤولا عن إدارة متاحف الدولة في أي دولة، وليت أحدا يذكر لي مثالا واحدا مشابها في أي دولة متحضرة أو شبه متحضرة في العالم.
ثانيا: من قال إن الجنرالات يصلحون لتولي مناصب في وزارات الثقافة وما مدى معرفة فاروق عبد السلام الذي دُرب أصلا على استخدام المدفعية، بفان جوخ أو غيره؟ وإذا كان الجنرالات سيعملون بالثقافة فمن الذي سيخوض حروب "الأمة" ضد العدو المفترض.. أقصد حزب الله طبعا!
ثالثا: إذا كان ما يقوم به الموظفون في المصالح الحكومية المصرية في أوقات العمل عندما يهبون جميعا إلى الصلاة ويتركون أعمالهم يجب أن يكون نموذجا للجميع في عصر "اللوثة الدينية" التي لا علاقة لها بالتدين، فلماذا لا يقوم جنود وضباط الجيش المصري بالتجمع لأداء الصلاة في أقرب مسجد (من خط النار) لكي يورطوا "حزب الله" ويجعلوه "يفوت" الفريضة، وينتهز الفرصة ويتسلل وراء الخطوط لضرب إسرائيل! ولكن السؤال هنا: ومن الذي سيحمي أبو الهول في هذه الحالة؟
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger