الخميس، 26 أغسطس 2010

السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الأخير)

لقطة من فيلم "على آخر نفس" أول افلام جودار


كتابة: بيتر والين
ترجمة: أمين صالح

(6)
النص شيء مادي، دلالته لا تقررها شفرة من خارجها، على نحو آلي، ولا عضوياً كوحدة كاملة رمزية، لكن من خلال استنطاقه لشفرته الخاصة. فقط من خلال هكذا استنطاق، هكذا حوار داخلي بين الإشارة والشفرة، ينتج النص فضاءات داخل المعنى. ينتج معنى من نوع جديد يتولد ضمن النص نفسه.
المؤثرات الأيديولوجية لهكذا إعادة صياغة للأسس السيميولوجية للفن ستكون ذات أهمية قصوى. إنها بعد الآن سوف لن تعيّن موقعاً لوعي القارئ أو المتفرج خارج العمل كمتلق/ مستقبل، ومستهلك، وقاض، بل ترغمه على تعريض وعيه للمجازفة داخل النص ذاته، بحيث يكون مجبراً على استجواب شفراته الخاصة، منهجه الخاص في التأويل، أثناء القراءة، وذلك من أجل إنتاج ثغرات وفجوات في فضاء وعيه.. (هي ثغرات وفجوات موجودة في الواقع لكنها مكبوحة من قِبل الأيديولوجيا التي تصر على "كلية" واستقامة كل وعي فردي). الجماليات السابقة أقرّت شمولية أو عمومية الفن المؤسس إما في عمومية "الحقيقة" أو عمومية "الواقع". الحركة الحديثة، للمرة الأولى، هشمت هذه العمومية أو الشمولية إلى قطع وأصرّت على خصوصية وتفرّد كل فعل من أفعال قراءة النص، والعملية المتعددة لحل الشفرات، التي فيها انتقال الشفرة يعني العودة إلى إشارات كانت في السابق محلولة شفرتها، والعكس بالعكس، بحيث أن كل قراءة كانت عملية مكشوفة، قائمة في فضاء مفتوح.
علم الجمال الكلاسيكي كان دوماً يثبّت وحدةً وتماسكاً أساسياً إلى كل عمل. الحداثة تأتي لتمزق هذه الوحدة والانسجام. إنها تفتح العمل داخلياً وخارجياً معاً، ونحو الخارج. هكذا لا تعود هناك أعمال مستقلة ومنعزلة، أشبه بوحدات، وكل عمل مسيّج في فردانيته الخاصة، عالمه المطلق، وحْدته الكلية. الحداثة تنتج أعمالاً لا تعود مندفعة نحو المركز، متماسكة بفعل محاورها الخاصة، بل هي مندفعة بعيداً عن المركز، رامية القارئ خارج العمل ونحو أعمال أخرى.
في الماضي، صعوبة القراءة كانت ببساطة تكمن في العثور على نظام شفري صحيح، في تفسير غموض ما، أو التباسات، أو مساحات من الجهل. ما إن تصير الشفرة معروفة حتى تصبح القراءة آلية. لكن الحداثة تجعل القراءة صعبة من وجهة أخرى، ليس في العثور على الشفرة أو إدراك الأفكار والمضامين، بل في جعل عملية حل الشفرة نفسها مسألة صعبة، فأن تقرأ يعني أن تعمل. القراءة تصبح إشكالية، والمضمون لا يصير مرتبطاً بالإشارة بواسطة أي رابط. إنه، على نحو غير مقصود، منفصل، مكبوح، معطل، بحيث يتعيّن على القارئ أن يلعب دوره الخاص في إنتاجه. في الوقت نفسه، النص، من خلال فرض ممارسة القراءة هذه، يعطل خرافة الوعي المتفتح للقارئ. العقل يصبح منتجاً، إنه يعمل. تماماً كما المؤلف الذي لا يعود "يجد" كلماته، لكن يجب أن "ينتج" نصاً، كذلك القارئ يجب أن يعمل ضمن النص. الصورة القديمة للقارئ بوصفه مستهلكاً قد تهشمت وتبدّدت.
النص إذن لا يعود وسطاً شفافاً. إنه شيء مادي والذي يوفّر الشروط لإنتاج المعنى، ضمن كوابح تعيّن نفسها. النص مفتوح أكثر مما هو منغلق. متعدد أكثر مما هو أحادي. مثمر أكثر مما هو مستنفد. ومع أنه من إنتاج فرد، هو المؤلف، إلا أنه لا يمثّل، أو يعبّر ببساطة عن، أفكار المؤلف، إنما يوجد ويحيا بذاته، بحكم حقه الشخصي.
الكاتب والقارئ هما، على نحو حيادي، نقّاد للنص. من خلال تعاونهما تكون المعاني منتَجة على نحو جماعي. في الوقت نفسه، هذه "المعاني" لها تأثيرات؛ تماماً كما النص، بتقديم إجراءاته في حل الشفرة الخاصة، يستنطق نفسه، بحيث أن القارئ أيضاً يجب أن يستنطق نفسه، أن يخرق فقاعة وعيه ويولج فيه الصدوع والتناقضات والأسئلة التي هي إشكالية.


(7)
هذا هو السياق الذي فيه ينبغي رؤية أفلام جودار.. هذه الأفلام التي تمثّل استجواباً، وإعادة استجواب مستمر، لبنى صنع الفيلم المسلّم بها من قِبل صانع الفيلم والمتفرج. إنها ليست ببساطة مسألة تجاور لأساليب مختلفة أو لوجهات نظر مختلفة، بل مسألة التحدي النظامي للافتراضات التي تشكّل الأساس لتبني أسلوب ما أو وجهة نظر ما.

في أفلام جودار الأولى، البنية السردية والدرامية مسلّم بها جدلاً، لكن الشخصيات في الأفلام تستجوب بعضها البعض بشأن الشفرات التي تستخدمها في ما يتصل بمصادر سوء الفهم وعدم الإدراك. بعد ذلك، وفيما مسيرته تستمر، هو يبدأ، أكثر فأكثر، في استجواب، ليس الاتصال الخاص بالعلاقات بين الشخصيات، بل الاتصال الذي يمثله الفيلم نفسه. وأخيراً، هو بدأ يرى إلى صنع الفيلم ليس كتوصيل على الإطلاق بل كإنتاج نص فيه معضلات صنع الفيلم نفسها تكون مطروحة. هذا مظهر سياسي لسينما جودار، تماماً كما الجدل والتضمين السياسي على نحو صريح.
بجعل الأشياء "صعبة" على المتفرج بهذه الطريقة، وبوضع حد لتدفق أفلامه، جودار يجبر المتفرج على استجواب نفسه بشأن كيفية النظر إلى الأفلام، سواء كمستهلك سلبي يحكم على خارج العمل، مسلّماً بالشفرة التي يختارها المخرج، أم داخل العمل كمشارك في الحوار.
أعمال جودار هامة، خصوصاً للسينما، لأن في هذا المجال، أكثر من أي شكل فني آخر، الغموض السيميولوجي يكون ممكناً.. هذا بسبب الصفة الدلالية – الأيقونية الغالبة على معظم الأفلام و"الإيهام بالواقع" الذي توفره السينما.
يبدو أن السينما تحقق الحلم القديم بتقديم وسيلة اتصال فيها الإشارات الموظفة هي نفسها متماثلة مع العالم الذي هو موضع التفكير. المنظرون الواقعيون يرون في السينما الشكل الثري القادر على تقديم المظهر والجوهر معاً، المظهر الفعلي للعالم الواقعي وحقيقته معاً. العالم الواقعي يعود إلى المتفرج وهو مصفّى بالتخلّل عبر عقل الفنان، الرائي، الذي يرى ويعرض معاً.
بالسعي لجعل السينما وسطاً تقليدياً فإنهم يسلبون منه إمكانيته كعالم بديل، أفضل، أنقى، وأصدق. تلك التنظيرات ترتكز على تضليل رهيب: فكرة أن الحقيقة تكمن في العالم الواقعي ويمكن التقاطها بالكاميرا. إذا كان الوضع كذلك، فإن كل شخص سوف يمتلك حرية الوصول إلى الحقيقة، بما أن كل شخص يعيش حياته كلها في العالم الواقعي. بينما ليس للحقيقة أي معنى ما لم يكن لديها قوة تعليلية، ما لم تكن معرفة، نتاج تفكير. أفراد مختلفون قد يختبرون حقيقة الفقر لكن ذلك قد يُنسب إلى أسباب مختلفة: مشيئة الله، سوء الحظ، ندرة طبيعية، الرأسمالية. جميعهم عاشوا تجربة فقر حقيقية، لكن كل واحد منهم يعرف عن هذا الفقر بشكل مختلف عن غيره. الشيء نفسه ينطبق على أشعة الشمس: كل شخص يختبرها لكن قلة من الناس يعرفون شيئاً عن الشمس من الناحية العلمية. الواقعية هي في الحقيقة، كما كانت تاريخياً، ثمرة الرومانتيكية. الرومانتيكي، على نحو نموذجي، يرتاب في المعرفة العلمية أو لا يهتم بها.


(8)
"نظرية الفيلم" (المخرج بوصفه مؤلفاً لفيلمه)، كما أفهمها، تصر على ضرورة أن يشتغل المتفرج على قراءة النص. مع بعض الأفلام، هذا الفعل يكون غير مجد وغير مثمر، لكن مع أفلام أخرى، الأمر لا يكون كذلك. في هذه الحالات، بمعنى معين، الفيلم يتغيّر، يصبح فيلماً آخر. لا يعود ممكناً النظر إليه بالعيون ذاتها. ليس هناك من تجربة متكاملة، حقيقية، يتمتع بها الناقد وإليها يحاول أن يرشد الآخرين. قبل كل شيء، تجربة الناقد ليست متجذرة أساساً في جوهر الفيلم نفسه.
الناقد ليس في قلب المسألة. إنه شخص يثابر على تعلّم مشاهدة الفيلم على نحو مختلف، وهو قادر أن يحدّد الآليات التي تجعل هذا ممكناً. هذه ليست مسألة "قراءة في" أو إسقاط اهتمامات الناقد الخاصة في الفيلم. أي قراءة للفيلم ينبغي أن تكون مبرّرة بتفسير لكيفية اشتغال الفيلم نفسه على جعل هذه القراءة ممكنة. القراءة الفردية لا تعطينا المعنى الحقيقي للفيلم. إنها ببساطة قراءة تنتج معنى إضافياً.
مرّة أخرى، من الضروري الإلحاح على أنه في غياب أي معنى حقيقي، جوهري، لا يمكن أن يكون هناك أي نقد كامل، والذي يقرر ويوطّد تأويل فيلم ما نهائياً وعلى نحو حاسم. علاوة على ذلك، بما أن المعنى ليس متضمناً على نحو متمم في أي فيلم، فإن أي حل للشفرة قد لا ينطبق على النطاق كله. النقد التقليدي يبحث دوماً عن الشفرة التي يمكن فهمها، والتي سوف تمنح التأويل التام، مغطيةً كل تفصيلة. الجماليات الكلاسيكية والرومانتيكية معاً تؤمن أن كل تفصيلة ينبغي أن تمتلك معنى: الكلاسيكية لأنها تؤمن بالشفرة الشائعة، العامة. والرومانتيكية لأنها تؤمن بالوحدة العضوية التي فيها كل تفصيلة تعكس ماهية أو جوهر الكل.
نظرية المؤلف تظهر أن أي حل للشفرة عليه أن يتنافس، في السينما، مع جلبة من الإشارات المشفرة على نحو مختلف. وراء ذلك، هناك وهْم التفكير في أي عمل بوصفه كاملاً بذاته، بوصفه وحدة معزولة والتي علاقتها مع أفلام أخرى، مع نصوص أخرى، تكون منضبطة ومتحكم فيها بحرص لتفادي التلوّث.
النص، بتعبير أوكتافيو باث، شيء يشبه الآلة التي تنتج المعنى. فضلاً عن ذلك، معناه ليس محايداً، ليس شيئاً ينبغي ببساطة امتصاصه من قِبل المستهلك.
معنى النصوص يمكن أن يكون مدمراً للشفرات المستعملة في نصوص أخرى، والتي قد تكون شفرات مستعملة من قِبل المتفرج أو القارئ الذي يجد شفراته المألوفة عرضة للتهديد.
كلنا نعلم أن "دون كيخوته" كان مدمراً لقصص القرون الوسطى التي قوامها المغامرات الفروسية. ونعلم أيضاً أن "يوليسيس" كانت مدمرة لرواية القرن التاسع عشر. لكن يبدو أن من الصعب الإقرار بهذه التدميرية.
* عن كتاب Signs and Meaning in the cinema, 1969

الاثنين، 23 أغسطس 2010

مهزلة سرقة زهرة الخشخاش في مصر

* قام كل الموظفين في متحف محمود خليل في القاهرة لأداء الصلاة فانتهز اللص الفرصة وسرق لوحة "زهرة الخشخاش" لفان جوخ التي يبلغ ثمنها 55 مليون دولار!
* الوزير (من الوِزر) فاروق حسني قام "بتلبيس" القضية لوكيل أول وزارة الثقافة محسن شعلان (فنان تشكيلي) والمسؤول عن كل متاحف مصر، فقبضوا على المسكين ووضعوا القيود الحديدية في يديه، ووجه الوزير تعليماته إلى مدير مكتبه وخادمه الأمين، الجنرال فاروق عبد السلام (لواء سابق بالجيش) لكي يشهد ضد شعلان ويكيل له الاتهامات بالتقصير أمام النائب العام. أولا من قال إن الفنان التشكيلي أي الرسام، يصلح لأن يكون مسؤولا عن إدارة متاحف الدولة في أي دولة، وليت أحدا يذكر لي مثالا واحدا مشابها في أي دولة متحضرة أو شبه متحضرة في العالم.
ثانيا: من قال إن الجنرالات يصلحون لتولي مناصب في وزارات الثقافة وما مدى معرفة فاروق عبد السلام الذي دُرب أصلا على استخدام المدفعية، بفان جوخ أو غيره؟ وإذا كان الجنرالات سيعملون بالثقافة فمن الذي سيخوض حروب "الأمة" ضد العدو المفترض.. أقصد حزب الله طبعا!
ثالثا: إذا كان ما يقوم به الموظفون في المصالح الحكومية المصرية في أوقات العمل عندما يهبون جميعا إلى الصلاة ويتركون أعمالهم يجب أن يكون نموذجا للجميع في عصر "اللوثة الدينية" التي لا علاقة لها بالتدين، فلماذا لا يقوم جنود وضباط الجيش المصري بالتجمع لأداء الصلاة في أقرب مسجد (من خط النار) لكي يورطوا "حزب الله" ويجعلوه "يفوت" الفريضة، وينتهز الفرصة ويتسلل وراء الخطوط لضرب إسرائيل! ولكن السؤال هنا: ومن الذي سيحمي أبو الهول في هذه الحالة؟

السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الثالث)

صورة نادرة تجمع بين جودار والفيسلوف جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار
كتابة: بيتر والين
ترجمة: أمين صالح
(4)
في السينما، يبدو جلياً تماماً أن المظاهر الدلالية والأيقونية هي الأكثر فعالية. المظهر الرمزي محدود وثانوي. لكن من الأيام الأولى للسينما كان هناك ميل مثابر، مع أنه مفهوم، لتضخيم أهمية التشابهات مع اللغة الشفهية. السبب الرئيسي لهذا كان الرغبة في تثبيت وضع السينما بوصفها فناً.
على نحو بيّن، الكثير من التأثير الذي مارسه أندريه بازان كان ناشئاً عن قدرته على رؤية المظهر الدلالي للسينما باعتباره جوهرها – والمنتقص من شأنها بالطريقة نفسها – مع ذلك، وفي الوقت نفسه، يحتفي بمكانتها الفنية. بازان أبداً لم يجادل بشأن الفارق بين الفن واللا فن داخل السينما. كان يميل إلى قبول أي شيء بوصفه فناً.
الغنى الجمالي للسينما ينشأ من حقيقة أنها تتضمن كل الأبعاد الثلاثة للعلامة: الدلالي، الأيقوني، والرمزي. المأخذ الأكبر على كل الذين كتبوا عن السينما هو أنهم تناولوا بعدا واحدا من هذه الأبعاد، جاعلين منه أساس الجمالية والبعد الجوهري للعلامة السينمائية، وأهملوا الأخرى. هذا يفضي إلى إفقار أو إضعاف السينما.
فضلاً عن ذلك، لا يمكن إهمال أي من هذه الأبعاد، أو التقليل من أهميته. إنها حاضرة معاً. الحسنة العظيمة لتحليل بيرس للعلامات أنه لم يرَ المظاهر المختلفة بوصفها وحيدة، غير مختلطة، على نحو متبادل. وهو، بخلاف سوسير، لم يُظهر أي تحيّز خاص لصالح مظهر أو آخر. في الواقع، هو أراد علم منطق وعلم بلاغة مبني على كل المظاهر الثلاثة.
فقط بتأمل التفاعل بين الأبعاد المختلفة الثلاثة للسينما يكون بإمكاننا أن نفهم تأثيرها الجمالي.
لقد رأينا كيف أن استخدام سوسير للرمز لا ينسجم مع استخدام بيرس. بالنسبة لبيرس، العلامة اللغوية هي رمز، بالمعنى الضيّق والعلمي. بالنسبة لسوسير، العلامة اللغوية هي اعتباطية في حين أن..
"إحدى ميزات الرمز هو أنه لا يكون أبداً اعتباطياً على نحو كلي. هو ليس خاوياً، ذلك لأن هناك بقايا رباط طبيعي بين الدال والمدلول. إن رمز العدالة، كفتيّ الميزان، لا يمكن استبداله بأي رمز آخر".
ما الذي ينبغي أن نقوله عن المطرقة والمنجل، الصليب المسيحي، ميزان العدالة؟ لابد أن نميّز بوضوح بين الوصف أو الصورة والشعار. الصورة، على نحو غالب، هي أيقونية، بينما الشعار علامة مختلطة.. أيقونية جزئياً، رمزية جزئياً. فضلاً عن ذلك، هذه الصفة المزدوجة للعلامة الرمزية أو المجازية يمكن أن تكون مستثمرة على نحو صريح وعلني. الشعارات هي متقلبة، غير مستقرة، قابلة للتغيّر: قد تتطور إلى علامات رمزية أو تتراجع لتصبح أيقونية.
ليسنج Lessing رأى المعضلة بوضوح أشد. الرمزي أو المجازي، كما يعتقد، هما ضروريان للفنانين التشكيليين، لكن ليس للشعراء.. إنهما هنا فائضان، زائدان عن الحاجة، ذلك لأن اللغة اللفظية، التي لها الأسبقية، هي رمزية بذاتها.
يقول ليسنج: "الميزان في يد العدالة هو بالتأكيد أقل مجازية محضة، لأن الاستخدام الصحيح للميزان هو حقاً جزء من العدل. لكن القيثارة أو الفلوت في يد إلهة الغناء، أو الحربة في يد إله الحرب، أو المطرقة والملقط في يد إله النار، هذه الأشياء كلها ليست رموزاً بل مجرد أدوات".
يتعيّن على الرسامين أن يخفضوا الرمزي إلى الحد الأدنى. كان ليسنج يتطلع إلى فن والذي سيكون أيقونياً محضاً. الذي حدث أن، فيما كان الرمزي يُقصى، الدلالي بدأ في جعل نفسه محسوساً. وبدأ الرسامون في الاهتمام بعلم البصريات وسيكولوجيا الإدراك الحسّي.
قال كوربيه: "أنا أؤكد أن الرسم أساساً فن مادي، ملموس، ولا يمكن إلا أن يتألف من تمثيل للأشياء الحقيقية والكائنة. إنها لغة فيزيائية تماماً، مفرداتها تتألف من كل الأشياء المنظورة. الشيء الذي هو تجريدي، غير مرئي، غير كائن، هو ليس ضمن عالم الرسم (..) الجمال يوجد في الطبيعة، ويمكن الالتقاء به مصادفةً وسط الواقع، تحت أكثر المظاهر تنوعاً وتعدداً. حالما يتم العثور عليه هناك فإنه ينتسب إلى الفن، أو بالأحرى إلى الفنان الذي يعرف كيف يراه هناك. حالما يكون الجمال حقيقياً ومرئياً فإنه يحصل على تعبيره الفني من هذه الخاصيات ذاتها. ليس للوسيلة الفنية الحق في تضخيم هذا التعبير. بالتدخل في ذلك، يجازف المرء بتحريفه، وبالتالي إضعافه. الجمال الذي تقدمه الطبيعة أسمى من كل تقاليد الفنان".
في السينما، سيكون أمراً مضللاً تماماً تأييد بعْدٍ واحد، على نحو أحادي الجانب، وجعله شرعياً على حساب كل الأبعاد الأخرى. ليس هناك سينما نقية، خالصة، معتمدة على ماهية واحدة، ومختومة بإحكام منعاً لأي تلويث.
من فيلم "ألغاز الكائن البشري" لمكافييف
هذا يعلّل قيمة مخرج مثل جان- لوك جودار، الذي لا يخشى من دمج هوليوود مع كانت وهيجل، مونتاج إيزنشتاين مع واقعية روسيلليني، الكلمات مع الصور، الممثلين المحترفين مع شخصيات تاريخية، لوميير مع ميليه، الوثائقي مع الأيقوني.
أكثر من أي مخرج آخر، جودار أدرك الإمكانيات الرائعة للسينما بوصفها وسطاً للاتصال والتعبير. على يديه، كما في علامة بيرس المثالية، أصبحت السينما مزيجاً متساوياً تقريباً للرمزي والأيقوني والدلالي. أفلامه تمتلك المعنى المفاهيمي، الجمال التصويري، والحقيقة الوثائقية. بالتالي لم يكن مفاجئاً انتشار تأثيره بين المخرجين عبر العالم.
إن صانع الفيلم محظوظ لأنه يعمل في أكثر الوسائط تركيبيةً سيميولوجياً، وأكثرها ثراءً جمالياً. بإمكاننا أن نردد اليوم ما قاله أبل جانس قبل أربعة عقود: "لقد حان زمن الصورة".
(5)
الاختراقات العظيمة في الأدب والرسم والموسيقى، الضربات التي هشّمت (أو كان ينبغي أن تهشم) الجماليات التقليدية، حدثت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، حين كانت السينما تعيش طفولتها، في المرحلة الأولى من نشوئها، في زمن بروز عالم الفودفيل (مسرح المنوعات)، وصناديق الفرجة والمسارح الرخيصة. تلك كانت مرحلة الرسومات التجريدية الأولى، القصائد الصوتية الأولى، الفرق الموسيقية الضاجة الأولى. كانت كذلك فترة انطلاق فكرة السيميولوجيا على يد سوسير في محاضراته بجنيف، وعندما كان فرويد يقدم أكثر اكتشافاته أهميةً.
تحديداً، لأن السينما كانت فناً جديداً، فقد احتاجت تلك الاختراقات وقتاً لكي تمارس تأثيرها. التأثير الأول للحركة الحديثة على السينما حدث في العشرينيات. المثال الأكثر وضوحاً لهذا هو، بالطبع، إيزنشتاين. في الوقت نفسه ظهرت أعمال الحركة الطليعية الباريسية - ليجيه، مان راي، بونويل – ومخرجي الأفلام التجريدية مثل إيجلنج، هانز ريختر. في ألمانيا كانت الحركة التعبيرية تتغذّى في السينما في هيئة أفلام مثل: مقصورة الدكتور كاليجاري.
لكن عندما نلتفت إلى الوراء، نستطيع أن نرى كم كان ظاهرياً هذا الاتصال الأول، وكيف كان مطموساً تماماً خلال الثلاثينيات. في روسيا، انطلقت الواقعية الاشتراكية وتعرضت السينما الطليعية، التي برزت في العشرينيات، للمحاربة. في ألمانيا، وصول الحزب النازي إلى السلطة أجهض كل إنجازات التعبيرية والطليعية. تلاشت التجارب المبكرة للمخرجين ليجيه وريختر. بونويل سلك سبيله الخاص. فيشنجر اكتفى بالعمل لصالح شركة ديزني في الثلاثينيات. وإذا كان هناك أي وجود للطليعية في تلك الفترة فيمكن العثور عليها في الحركة الوثائقية.. التي هي بالتأكيد من أكثر المحاولات الطليعية محافظة واعتدالاً.
بروز الفيلم الناطق، والتوسع السريع للاقتصاد الأمريكي والنفوذ السياسي بعد الحرب، أدى ذلك إلى هيمنة هوليوود في أغلب أقطار العالم. في هذا المحيط كان بوسع مخرج مثل أورسون ويلز أن يظهر كمجدّد وتجريبي خطير، وأن يظهر روسيلليني كثوري، وهمفري جيننغز كشاعر. اليوم تبدو هذه التقديرات والتقييمات عبثية. لقد حدث تغيّر كامل، إعادة تقييم، تحوّل للبؤرة التي جعلت تاريخ السينما شيئاً مختلفاً. إيزنشتاين أو فيرتوف يبدوان معاصرين وليسا ممن تجاوزهم الزمن. ويلز وجيننغز يبدوان محافظين وقديمين. مع ذلك، هذا التغيّر الذي نلمسه مؤخراً، والنتائج الكاملة له، ليست محسوسة بوضوح. كل المعالم، ونقاط التحول، القديمة تتلاشى في سديم الزمن.
ما الذي حدث؟ في الواقع، حدث أمران: الأول، صعود حركة الأندرجراوند، خصوصاً في أمريكا. وهذا كان نتاج ثلاثة عوامل: شعراء ورسامون يحترفون صنع الأفلام، استقرار فناني الحركة الطليعية الأوربية في أمريكا (ريختر وآخرون)، الانحراف عن السرب السائد في هوليوود. هناك أيضاً الشرط الاقتصادي المسبق: تيسّر الأجهزة والمعدات، والمال اللازم لشرائها. في سياق الأندرجراوند، كان صنع الفيلم يُرى كامتداد للفنون الأخرى. لم يكن هناك أي محاولة للتنافس مع هوليوود بتحقيق أفلام درامية طويلة (باستثناء قلة من المخرجين) وقد احتاجت الأندرجراوند إلى فترة طويلة من الزمن لكي تعرض أفلامها في صالات السينما.
التطور الرئيسي الثاني نجده في الطريقة التي بها نشأت الموجة الجديدة الفرنسية، دافعة إلى الوراء التخوم التقليدية لسينما "الفن". وكان لمخرج مثل جودار تأثير هائل.
فيلم مثل WR- Mysteries of the Organism (ألغاز الجسد) للمخرج اليوغوسلافي دوشان ماكافييف، يستثمر حتى الحد الأقصى الاحتمالات السيميولوجية للفيلم في مزجه للوثائقي، الحقيقي، القصاصات الأرشيفية، هوليوود، مونتاج.. الخ.
من الضروري عند هذه النقطة القيام باستطراد، برسم الخلفية التي عليها يعمل جودار، والتي عليها انبثقت "الحركة الحديثة" في الفنون الأخرى.
القرن العشرون شهد هجوماً على الفن التقليدي وعلى علم الجمال الذي مهّد الأسس لفن ثوري لم يتعزّز ويتماسك بعد. محتمل أن هذا التماسك لا يمكن له أن يحدث على نحو مستقل، وبمعزل عن حركة المجتمع وحركة السياسة. الحالة البطولية الأولى للحركة الطليعية في الفنون تزامنت، برغم كل شيء، مع الحالة السياسية التي قادت من 1905 إلى ثورة أكتوبر 1917. أفلام جودار مرتبطة بالاحتدام السياسي الذي بلغ ذروته في أوروبا في مايو 1968.
لكن من الممكن، مع ذلك، على المستوى النظري، محاولة شرح ما سوف يستلزمه هذا الانقطاع المحتمل مع الماضي لو تحقق. هذا يثير مشكلات بشأن طبيعة الفن، مكانه في الإنتاج الفكري، الأيديولوجيا والفلسفة اللتين تدعمان أساسه.

الأحد، 22 أغسطس 2010

بلاد مسلسلات


أرجو ألا يغضب أصدقائي الذين يكتبون ويخرجون المسلسلات التليفزيونية من هذه الكلمة، وكذلك أصدقائي من هواة الفرجة عليها، فقد توقفت منذ أكثر من عشرين سنة، عن مشاهدة مسلسلات التليفزيون التي يطلق عليها البعض (أو تقريبا معظم الناس حاليا) تسمية خاطئة هي "الدراما"، وكأن الدراما لا تكون إلا في المسلسلات فقط.
والحقيقة أن التعبيرات الخاطئة أصبحت تطغى بشكل محير على حياتنا، لأن أحدا، حتى من الذين يمسكون بالقلم من الصحفيين، لا يمتنعون عن تصحيحها فقط، بل إنهم مسؤولون عن هيمنتها بحكم استخدامهم الدائم لها في تعليقاتهم الصحفية. فهناك مثلا تعبير "فيديو كليب" video clip الذي يقصد به عادة، الأغنية التليفزيونية أو المصورة بكاميرا الفيديو، بينما تعبير "فيديو كليب" بالإنجليزية له معنى مختلف تماما في لغة التليفزيون في بلاد الإنجليز والأمريكان التي ينقل البعض عنها بدون فهم أو أساس معرفي.
أعلم أن هناك بعض المسلسلات التي يبذل فيها كتابها ومخرجوها جهدا كبيرا، ويحاولون تطويرها، سواء منناحية نوعية المواضيع التي يطرحونها، أو شكل المعالجة، أو أسلوب التصوير والإخراج. وهذا "العلم" يأتيني من خلال أصدقاء أثق في أحكامهم ونظرتهم للأمور الفنية والجمالية، لأنني لست من سعداء الحظ الذين يشاهدون ما يشاهده الملايين من مسلسلات. والسبب؟ أسباب كثيرة منها أولا، وأساسا، أنني لا أحب فكرة أن يعتقلني أحد، أيا كان، وتحت أي مبرر أو مسمى، ويحبسني طوال ثلاثين يوما متتالية في بيتي كل مساء، للفرجة على ما أبدعته قريحته. فهذا أصلا، أمر يتنافى مع حقوق الإنسان، أي حقه في اختيار الموعد المناسب للمشاهدة. فأنت عندما تقرر الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم معين مثلا، فأنت الذي تختار الموعد المناسب لك، وأنت تعرف مسبقا أن زمن عرض الفيلم لا يتجاوز ساعتين أو ساعتين ونصف في معظم الأحوال، ثم ينقضي الأمر. ولا يصبح مطلوبا منك العودة إلى دار السيمنا لمشاهدة بقية الفيلم. أما أن تتابع يوميا في ساعة معينة، مسلسلا قد يتجاوز أحيانا الثلاثين حلقة، فهو أمر لا يمكن احتماله أصلا، لا نفسيا ولا عمليا، فإذا كان أمامك شيء مهم لابد من إنجازه مثلا، أو موعد مهم، أو عمل يشغلك في إحدى الأمسيات المسلسلية، فسوف تفوتك مشاهدة بعض الحلقات، وتفقد بالتالي القدرة على المتابعة.
الأمر الثاني الذي أراه مهما، أن "المسلسل" شكل فني مستحدث ومفتعل لأغراض تجارية بحتة، فالهدف الأساسي للمسلسل هو الحصول على أكبر قدر من الفقرات الإعلانية التي غالبا ما تقطع حتى بدايته في أكثر الأشكال التجارية استفزازا، وهو ما يؤكد أن الهدف الأساسي هو شد المتفرجين إلى الشاشة لكي يبتلعوا تلك الإعلانات التجارية عن الصابون والبامية وزيت الطعام وأدوات التجميل وغيرها. أي أن المسلسل يرتبط بالضرورة، بعملية استلاب وتفريغ للعقل والاستسلام للهاث "السلعي" الرأسمالي، الاستهلاكي، التافه!
الأمر الثالث أنني لا أعتبر المسلسل "فنا" من الفنون المعروفة.. فالفنون السبعة لا تعرف أبدا شكل التسلسل أو الحلقات، فلا توجد مثلا لوحة تشكيلية مسلسلة يمكنك أن تشاهدها بالقطعة، كل يوم قطعة، ولا قصيدة مسلسلة، ولا مسرحية تعرض على حلقات، ولا تمثال يمكن تقسيمه إلى أجزاء تعرض بالواحدة. والفنان بالتالي، أي فنان، مثل الشاعر والروائي والمسرحي والرسام والنحات والسينمائي، لا يفكر بعقلية من يصنع "مسلسلا" بل هو يبدع عملا مكتملا متكاملا غير متجزيء. وهو ما يؤكد فكرتي عن أن مفهوم "المسلسل، أساسه تجاري واستهلاكي وإعلاني ولا ينتج أصلا بدافع فني. ومن زاوية أخرى أجد أن في المسلسلات دائما تكرارا هائلا، وتراكما تصاعديا مرعبا، في الشخصيات، والأجيال، والأحداث، والانماط، كما أجدها كلها مليئة بالثرثرة المستمرة، والخطب الرنانة، والمواعظ الأخلاقية التي تتردد في الحلقة الواحدة عشرات المرات، وهو أمر مثير، ليس فقط للملل، بل للشفقة أحيانا، على صناع المسلسل مهما كانوا حرفيين مهرة، أو خبراء في هذا النوع، فلابد في النهاية من انفلات الإيقاع.
ومازلت أتذكر ما قاله لي كاتب سيناريو من الجيل المخضرم (رحمه الله)، وكان كاتبا متميزا كتب الكثير من الأفلام السينمائية الجيدة. فقد قال لي عندما سألته لماذا لا يكتب للتليفزيون، إنه لا يستطيع تحويل مشهد يقتضي اثنتي عشرة لقطة أو أكثر إلى ثلاث أو أربع لقطات، لأن لا أحد سيمنحك تلك الحرية.
وربما يكون بعض المخرجين السوريين قد تمكنوا من تعويض عدم توفر فرصهم في إخراج الافلام، في المسلسلات التي يخرجونها، أقصد من ناحية استخدام تقنيات السينما وأساليبها الفنية. ولكن مرة أخرى، فالمسلسل هنا ليس حالة "أصيلة"، أو اختيار إبداعي، فأنا على ثقة أنه لو توفرت الفرصة أمام نجدت أنزور مثلا لإخراج أفلام سينمائية، فسوف يهجر المسلسلات رغم أنها تدر عليه وعلى زملائه بالتأكيد، ذهبا (اللهم لا حسد!!).
تصادف مساء أمس أن كنت أتناول الطعام أمام التليفزيون فشاهدت (دون أن أقصد) نحو عشرين دقيقة من أحد المسلسلات، فهالني ما شاهدت: عشرات الشخصيات التي تتحرك هنا وهناك، في ديكورات مكشوفة ومعروف أين أقيمت، من الصعيد إلى القاهرة، ومن جيل الشباب، إلى العواجيز، ومن الريف إلى المدينة، ومن الرقص إلى التجهم، والغيرة، والحب، والدلع والدلال، والفساد الاجتماعي والسياسي، و"رجال الأعمال" الذين أصبحوا هم أصل "البلاوي" وخراب الديار!
وتساءلت: ما الجديد في كل هذا؟ ما الذي يرمي إليه كاتب المسلسل حقا؟ هل هو ضد فساد الطبقة الجديدة أو طبقة "الاثرياء الجدد" التي يطلقون عليها طبقة رجال الأعمال الآن؟ وما الجديد في هذا إذا كنا قد قتلنا هذا الظاهرة بحثا وتنقيبا وتسلسلا في صحفنا وكتبنا وإذاعاتنا وقنواتنا وبرامجنا المفتوحة والمشفرة؟ وهل الذين يكتبون مسلسلات ضد الفساد، وضد التوريث، وضد... ليسوا ضالعين هم أنفسهم في الفساد على طريقتهم الخاصة؟ ألم يدخلوا أولادهم معهد السينما بالوساطة والمحسوبية؟ ألا يحاولون أن يورثوا أبناءهم مهنتهم، فالمخرج يريد أن يجعل ابنه مخرجا، والممثل يجعل ابنه ممثلا.. ولو رغم أنوفنا.. كما هو واضح وبين أمامنا في الكثير من المسلسلات المعروضة حاليا!
إن المسلسل الأكثر إثارة للاهتمام في رأيي، هو ما يجري يوميا على أرض الواقع، لكن هناك من يريدون للجماهير العريضة أن تجلس في منازلها، تتابع ما يجري على الشاشة الصغيرة، عبر المسلسلات، حتى تجعل من طقس الفرجة، طقسا تعويضيا بديلا عن "الفعل".. وهذا هو المطلوب.. أليس كذلك!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger