الاثنين، 16 أغسطس 2010

السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم

((استجابة لدعوتنا إلى فتح باب المناقشة حول مصطلح "اللغة السينمائية"، أرسل الناقد والباحث والمترجم البحريني الأستاذ أمين صالح دراسة مترجمة لبيتر والن، ننشرها على عدة حلقات، وهي بلاشك، يمكن ان تساهم في تعميق فهمنا للموضوع بل وتعميق الدراسات السينمائية النظرية عموما. والدراسة تعيدنا مجددا إلى ساحة المقارنة العميقة بين النص الأدبي والفيلم السينمائي. ولا يسعني هنا سوى أن أتوجه بالشكر إلى الأستاذ أمين صالح على جهده الكبير الذي أرجو أن يواصله في هذا المجال الذي تحتاجه المكتبة العربية)).


كتابة: بيتر والين
ترجمة: أمين صالح

(1)

أحاول هنا أن أعرض بعض الخطوط الهادية لسيميولوجيا السينما، أي دراسة السينما كنظام من العلامات. الهدف الأساسي لهذا هو فرض إعادة الاستقصاء أو البحث في ما نعنيه عندما نتحدث عن لغة الفيلم.. بأي معنى الفيلم يكون لغةً.
هناك سببان لجعل السيميولوجيا مجالاً حيوياً للدراسة بالنسبة للباحثين في جماليات الفيلم.
الأول، أي نقد يعتمد بالضرورة على معرفة ما يعنيه النص، والقدرة على قراءته. ما لم نفهم شِفرة أو طريقة التعبير التي تتيح للمعنى أن يوجد في السينما، فإننا نكون في موقف المحكوم علينا بالغموض والضبابية وعدم الدقة في النقد السينمائي، وبالتعويل الذي لا أساس له على الحدس والانطباعات الخاطفة.
الثاني، يصبح جليّاً على نحو متزايد أن أي تعريف للفن لابد وأن يكون مفهوماً كجزء من نظرية السيميولوجيا في الثلاثينيات من القرن العشرين.
النقاد الشكلانيون الروس أصروا أن مهمة نقاد الأدب ليس دراسة النتاج الأدبي بل "الحالة الأدبية".. هذا لا يزال ساري المفعول. إن الانسياق الكلي للتفكير الحديث بشأن الفنون كان لغمرها بنظريات عامة عن الاتصال، سواء السيكولوجي أو الاجتماعي (السوسيولوجي)، وللتعامل مع الأعمال الفنية كما الحال مع أي نص آخر أو رسالة أخرى، ولحرمانها من أي خاصيات جمالية معينة بها تستطيع أن تكون مميّزة.
الاختراق العظيم في نظرية الأدب جاء مع إصرار رومان ياكوبسون على أن الشعرية هي مجال اختصاص اللغويين، وأنه كانت هناك وظيفة شعرية إلى جانب الوظائف الأخرى. الرؤية ذاتها لعلم الجمال، كمجال اختصاص للسيميولوجيا، يمكن إيجادها في مدرسة براغ عموماً، وفي أعمال Hjelmslev ومدرسة كوبنهاجن.
هناك اهتمام متزايد بسيميولوجيا السينما، بالسؤال عما إذا كان من الممكن تذويب النقد السينمائي وجماليات السينما في إقليم خاص من علم العلامات. لقد أصبح واضحاً على نحو متزايد أن النظريات التقليدية في لغة الفيلم وقواعد الفيلم، والتي نمت على نحو تلقائي عبر السنوات، تحتاج إلى إعادة استنطاق وأن تكون متصلة بالراسخ من نظام علم اللغة.
إذا كان ينبغي استخدام مفهوم "اللغة"، فلابد أن يكون استخدامه على نحو علمي وليس ببساطة كمجاز فضفاض وغير دقيق، حتى وإن كان إيحائياً. الجدل الذي دار في فرنسا وإيطاليا حول أعمال رولان بارت، كريستيان ميتز، بيير باولو بازوليني، أمبرتو إيكو، يمتد في هذا الاتجاه.
الباعث الرئيسي وراء أعمال هؤلاء النقاد والسيميولوجيين ينشأ من كتاب فرديناند دي سوسير "دروس في علم اللغة". كان سوسير قد توفى سنة 1913، وقام تلامذته في جامعة جنيف بجمع محاضراته ومخطوطاته، إضافة إلى ملاحظاتهم، وتركيب المادة في عرض منهجي، نشر في جنيف سنة 1915.
في هذا الكتاب يتنبأ سوسير بعلم جديد، علم السيميولوجيا: "العلم الذي يدرس حياة العلامات داخل المجتمع هو ممكن تصوره. سيكون جزءاً من السيكولوجيا الاجتماعية، وبناءً على ذلك، جزءاً من السيكولوجيا العامة.. سوف أسميه السيميولوجيا (المشتقة من الكلمة الإغريقية semeion والتي تعني "علامة"). السيميولوجيا سوف تعرض ما يؤلّف العلامات، القوانين التي تحكمها.
بما أن العلم لا يوجد بعد، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم ما الذي سيكون عليه، غير أن له الحق في أن يوجد، في أن يكون مشدوداً سلفاً إلى مكان ما. علم اللغة مجرد جزء من علم السيميولوجيا العام. القوانين التي ستكتشفها السيميولوجيا ستكون ملائمة للغويين، وهؤلاء سوف يعينون حدود منطقة هي محددة جيداً ضمن مجموعة من الحقائق الأنثروبولوجية".
سوسير، الذي كان متأثراً بأعمال إميل دوركهايم (1858- 1917) في السوسيولوجيا، شدّد على أن العلامات يجب دراستها من وجهة نظر اجتماعية، وأن اللغة كانت مؤسسة اجتماعية والتي امتنعت على الإرادة الفردية. النظام اللغوي – ما يمكن تسميته هذه الأيام بـ "الشفرة" – سبق في الوجود الفعلَ الفردي للخطاب، "الرسالة". بالتالي فإن دراسة النظام لها أولوية منطقية.
سوسير شدّد، بوصفه مبدأه الأول، على الطبيعة الاعتباطية للعلاقة. الدال ليس له علاقة طبيعية مع المدلول. العلاقة، وفقاً لتعبير سوسير، هي "ليس لها محرّض". إن سوسير لم يكن واثقاً أي التضمينات الكاملة للطبيعة الاعتباطية في العلامة اللغوية كانت لصالح السيميولوجيا.
"عندما تصبح السيميولوجيا منظّمة كعلم، فإن سؤالاً سوف ينشأ عما إذا هو يحتوي على نحو ملائم طرائق من التعبير مبنية على علامات طبيعية تماماً، مثل البانتومايم. لنفترض أن العلم الجديد يرحّب بها، سيظل اهتمامه الرئيسي المجموعة الكاملة من النظم المعتمدة على اعتباطية العلاقة. في الواقع، كل وسيلة تعبير مستخدمة في المجتمع هي مبنية، من حيث المبدأ، على السلوك الاجتماعي أو على العادة المتبعة. الصيغ المهذبة، على سبيل المثال، مع أنها غالباً ما تكون مشرّبة بتعبيرية طبيعية معينة (كما في حالة الصيني الذي يحيّي الإمبراطور بالانحناء حتى الأرض تسع مرات) هي مع ذلك مثبّتة من قِبل قانون. هذا القانون وليس القيمة الجوهرية للإيماءات هو الذي يرغم المرء على استخدامها. العلامات التي هي اعتباطية تماماً تدرك على نحو أفضل من الأخرى غايات العملية السيميولوجية: لهذا السبب اللغة، الأكثر تعقيداً وشمولية من بين كل نظم التعبير، هي أيضاً الأكثر تميّزاً. بهذا المعنى، بإمكان علم اللغة أن تصبح النمط الرئيس لكل فروع السيميولوجيا مع أن اللغة ليست إلا نظاماً سيميولوجياً واحداً".
لقد كان على علم اللغة أن يكون إقليماً خاصاً للسيميولوجيا، وفي الوقت نفسه، النمط الرئيسي للأقاليم المتعددة الأخرى. مع ذلك، كل الأقاليم – أو على الأقل، المركزية منها – كان عليها أن تملك، كهدف لها، نظماً "معتمدة على اعتباطية العلاقة". لكن يتضح أن من الصعب العثور على هذه النظم.
السيميولوجيون وجدوا أنفسهم مقيدين بلغات مصغّرة، مجهرية، كما في لغة إشارات المرور، لغة المراوح، نظم إشارات السفن، لغة الإيماءة بين رهبان دير "لا تراب" الصائمين عن الكلام، ضروب متنوعة من إشارات ضوئية.. وغير ذلك. هذه اللغات المصغّرة ثبت أنها حالات محدودة جداً، قادرة على ربط نطاق دلالي ضئيل جداً. العديد منها كان متطفلاً على لغة شفوية مناسبة.

السبت، 14 أغسطس 2010

"العد التنازلي حتى الصفر": عودة التحذير من الخطر النووي

من مميزات الفيلم الوثائقي الجيد أن يكون موضوعه قد نال أولا ما يستحقه من بحوث وتحقيقات وإعداد للمادة من جميع زواياها، وثانيا أن يكون مركزا لا يحيد عن موضوعه ولا يخرج عنه أبدا، وأن يستخدم كل ما يمكن من وثائق ومقابلات وصور من من الأرشيف، لدعم أفكاره الأساسية وإبرازها والتركيز عليها، وأخيرا، أن يكون جذابا للمشاهدين، كأنه يروي لهم قصة مثيرة تشد انتباههم، وتجعلهم أيضا يخرجون بعد المشاهدة، بفكرة جديدة لم تخطر على بالهم من قبل.
هذه المزايا أجدها متوفرة تماما في الفيلم الأمريكي الوثائقي الطويل "العد التنازلي حتى الصفر" Count Down to Zero للمخرجة البريطانية لوسي ووكر الذي عرض خارج المسابقة في مهرجان كان السينمائي الـ63.
موضوع الفيلم هو الخطر النووي الذي لايزال قائما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية ما عرف بالحرب الباردة بين الكتلتين، الشرقية والغربية، ورغم ذلك، يؤكد الفيلم أن الخطر المحدق انتقل من الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، إلى ذلك "الانفلات" النووي الذي يمكن أن يؤدي إليه وقوع قنابل نووية في أيدي عصابات دولية، أو منظمات إرهابية، أو أنظمة ترفض الانصياع للرأي العام العالمي، وتتمادى في فكرة الردع المعنوي بل ويمكن ايضا أن تلجأ إلى الردع المادي النووي باستخدام تلك الأسلحة بالفعل، في حالة شعورها بالخطر.مدخل الفيلم إلى الموضوع هو ما ورد في خطاب للرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي، الذي حذر عام 1961 من الخطر النووي الذي يمكن أن يقضي على الإنسان، وذكر كنيدي آنذاك، قولته الشهيرة "إن كل رجل وامرأة وطفل يعيش تحت سيف ديموقليطس النووي، المعلق بخيوط رفيعة جدا يمكن أن تُقطع في أي لحظة نتيجة حادث، أو حسابات خاطئة، أو نوبة جنون".

السبت، 7 أغسطس 2010

عمارة يعقوبيان بين الفيلم والرواية : تراجيديا الصعود الى أسفل!


بقلم: محمود عبد الشكور

وكأنّ "عمارة يعقوبيان" الفيلم والرواية، ليسا إلا خريطة لحالة عبثية ومحمومة للصعود "الى أسفل" فى مصر المحروسة . تخيل حشداً وخليطاً من طوائف شتى تهرب عدواً فى اتجاه سلم متحرك ، تدفعهم حلاوة الروح الى القفز على الدرجات ، ولكن المراقب من بعيد يكتشف عبثية المحاولة إذ أن السلم ذاته ليس إلا سلم النزول ، كما أنه يتحرّك فى عكس اتجاه حركة صعودهم !
هكذا يتصرف كل أبطال يعقوبيان : أحلامهم صغيرة، وحلولهم فردية ، والظروف قاهرة، والأزمة لاحل لها سوى بالتغيير الكامل .
رواية علاء الأسوانى ، والفيلم المأخوذ عنها بسيناريو المتألق وحيد حامد، وببطولة نوابغ المشخصاتية المصريين يحتاجان الى رؤية أكثر عمقاً وتفصيلاًخاصة أن الرواية أغادت قطاعاَ كبيراَالى قراءة هذا الفن ، أما الفيلم فسيدخل تاريخ السينما المصرية من أوسع أبوابه – أولاً وقبل كل شئ – لمستواه الفنى الرفيع .
الرواية
عندما صدرت الطبعة الأولى من عمارة يعقوبيان ( دار ميريت يناير 2002 ) أحدثت ضجة غير مسبوقة ، وتحول كل قارئ لها الى مندوب للدعاية يستوقفك فى الشارع ليسألك : "هل قرأت يعقوبيان ؟" خلال شهرين فقط نفذت أول طبعة ، وفى غضون عامين صدرت خمس طبعات أخرى وكتبت عنها الكثير من الدراسات بالعربية والإنجلزية والفرنسية .
المؤلف علاء الأسوانى كان قد صدرت له قبل( يعقوبيان ) مجموعتان قصصيتان طبعت المجموعة الأولى مرتين وهى بعنوان ( الذى اقترب ورأى ) . يعمل طبيبا للأسنان ، وهو ابن الراحل الكبير عباس الأسوانى، وقد أصبح بعد نجاح روايته الأولى مقترن الذكر والسيرة بها ، انه صاحب يعقوبيان مثلما أصبح يحيى حقى صاحب ( القنديل ).
حصلت( يعقوبيان) على تقريظ نقدى مستحق باعتبارها شهادة اجتماعية دالة على زمنها وإن كان بعض النقاد لم يروا فيها مايستحق كل هذه الضجة ، واعتبرت يعقوبيان أحيانا نموذجا لأدب" التلسين "حيث توجد ملامح تشابه بين شخصياتها وشخوص حية تعيش بيننا . الحقيقة أن "التلسين" أو الإسقاط على شخصيات معروفة – بافتراض صحته – ليس عيبا فى ذاته ولاهو أيضا مصدر قوة إذ يظل معيار التقييم دائما هو مستوى العمل من الناحية الفنية أو الأدبية ، ولوكان" التلسين "عيبا مطلقا يقلل من شأن العمل ويصمه تلقائيا بالضعف والركاكة لكان الفيلم العظيم ( المواطن كين ) أسوأ أفلام القرن العشرين إذ يبدو فيه التلسين واضحا على أسطون الصحافة الشهير " راندولف هيرست ".
مع مرور الزمن على الأعمال الهامة (ويعقوبيان تستحق هذا الوصف) سينسى القارئ الأصل الحقيقى للشخصية ، وستصبح الشخصية الروائية التى أبدعها المؤلف الأكثر خلودا وبقاء كما حدث بالفعل مع شخصية" سعيد مهران" التى تبدو اقوى وأروع كثرا من أصلها المعروف " محمود أمين سليمان ".
قوة "عمارة يعقوبيان" الرواية لاتكمن فقط فى نماذجها الإنسانية التى رسمها الأسوانى بعناية مما استدعى الى الأذهان أشخاصاً حقيقيين ، ولكن النجاح الأهم – فى رأيى – يكمن فى أمرين : تقديم عمل معاصر ، بل معاصر جداً ،دون الوقوع فى تقديم رواية سطحية كتلك التى يكتبها الصحفيون الأدباء (باستثناء الروائى والصحفى الكبير الراحل فتحى غانم) .. والأمر الثانى هو نجاح الأسوانى فى رسم حالة من الفوضى الإجتماعية التى توفر مناخاً مثالياً لظهور عدد لانهائى من الشخصيات المماثلة مستقبلاً .
على سبيل المثال : فإن الظروف التى صنعت المصير المأساوى ل " طه الشن الملابس لتُاذلى " ما زالت قائمة ويمكنها أن تصنع عشرات مثله ، وإذا كانت "بثينة " قد هربت من القهر النفسى والإنتهاك الجسدى بالزواج من زكى الدسوقى فإن زميلة لها تقبع فى ذات اللحظة فى مخزن الملابس لتُشبع غريزة صاحب المحل مقابل عشرة جنيهات . هذا المناخ يمكنه أن يفرز عشرت من أمثال الجندى البائس عبد ربه أو الضابط السادى صلاح رشوان أو حتى الزعيم الدينى الذى يهتف (نريدها إسلامية ..إسلامية) .
عمارة يعقوبيان تعبر عن أشخاص من لحم ودم بقدر ما ترصد أعراضاً لمرض مجتمع يعيش حالة من الفوضى ، ولذلك ستظل هذه الرواية وثيقة لاغنى عنها لكل من يحاول دراسة حالة مصر فى التسعينات من القن العشرين وما بعدهامثلما اعتبرنا رواية مثل "ذات" للروائى الكبير صنع الله ابراهيم وثيقة لاغنى عنها فى وصف حال المحروسة فى ثمانينات القرن العشرين .
يعتمد بناء الرواية على اللوحات المستقلة والقفزات والإنتقالات السردية من شخصية الى أخرى مع اللجوء الى أسلوب بسيط فى الحكى والوصف بل وتقديم بعض المعلومات التقريرية أحياناً مثل المعلومات عن تاريخ العمارة ، ورغم أن أبطال الرواية يجمعهم المكان الواحد ، فإن العلاقات بينهم ضعيفة أو واهية (عكس رواية ميرامار) ، ولذلك تبدو شخوص يعقوبيان كما لوكانت حبات مسبحة انفرطت ، ولكن القراءة الأعمق للرواية تكشف عن خيط قوى غريب يجمع بينها يمكن أن نسميه " حلم الصعود الى أسفل ". هناك حالة غريبة من القلق تحاصر كل الشخوص وكأن الجميع يهربون من طوفان قادم التماسا لخلاصهم الشخصى . زكى الدسوقى يبحث عن خلاصه فى الحانات ومع الساقطات ، ودولت شقيقته تبحث عن خلاصها بالحصول على ثروة أخيها ، وكريستين تبحث عن خلاصها بالهروب الى الماضى المفقود ، وطه الشاذلى يبحث عن خلاصه بالعنف المقدس ، والحاج عزام يبحث عن خلاصه بالجنس الشرعى والبيزنس غير الشرعى، وكمال المنوفى يبحث عن خلاصه بتحويل المنصب الى تجارة ، وحاتم رشيد يبحث عن خلاصه بالشذوذ ، والجندى عبد ربه يبحث عن خلاصه بوجوده فى العاصمة حتى لو كان الثمن جسده.
هناك فى الرواية صدامات حادة بين بعض الشخوص تجعل العلاقات اوثق حتى مما تتصور هى نفسها : الدسوقى مثلا ينحدر تقريبا بنفس السرعة التى يصعد بها الحاج عزام ، وطه الشاذلى يُنتهك جسديا بطريقة لاتقل بشاعة عن الطريقة التى يُنتهك بها جسد خطيبته بثينة ، وسعاد تبيع نفسها بيعا شرعيا بالزوج ولكن الأمر لايختلف كثيرا عن طريقة بيع فتاة الحانة لجسدها مع الدسوقى أو طريقة بيع عسكرى الأمن المركزى لجسده ، وقلة وفاء دولت وخادم المكتب أبسخرون أوفانوس كما سماه الفيلم ، يقابلها وفاء كريستين التى تبدو كإحدى اميرات عصر الرومانسة المفقود ، وطه الشاذلى كان يحلم أن يكون ضابطا ، فهل لوحدث ذلك لأصبح يتصرف مع المتهمين مثلما تصرف معه الضابط صلاح رشوان ؟!
ان التناقض الحاد يبدو أيضا بوضوح بين رسوخ المبنى العمارة القديمة وبين هذه التغيرات والإنقلابات التى تجعلهم وكأنهم يجلسون فوق ارجوحة لاتتوقف .
تبقى مسألة انتهاك الجسد التى منحت يعقوبيان طابعها الجرئ ، انه التعبير المادى المحسوس عن الإستباحة فى ظل الفوضى وغياب المعايير ، وهذا الإستخدام ليس جديدا وانما يمكن ان تجده فى اعمال فنية مثل الفيلم المصرى الأشهر المذنبون حيث تحول منزل الممثلة الفاتنة سناء كامل الى ماخور ، وتحول جسدها الى مزار سياحى ينتهكه الجميع ، ولسان حال ( المذنبون ) ويعقوبيان يقول بوضوح :" اذا ماتت النفوس واصبح الانسان سلعة ، فكيف تسلم الأجساد من الإنتهاك "؟!
الفيلم
منذ فيلم "المذنبون " عام 1976 للمخرج الكبير سعيد مرزوق لم يحدث أن قدمت السينما المصرية فيلما يرصد بجرأة الخريطة الشاملة لأمراض المجتمع مثل فيلم (عمارة يعقوبيان) للسيناريست الكبير وحيد حامد وللمخرج الصغير الكبير مروان حامد. كانت هناك على الطريق أفلام مهمة تنتقى زاوية أو أكثر من مناطق الخلل ثم تطلق جرس إنذارها كما فى سواق الأتوبيس ( حيث يموت الأب قهرا وسط أبنائه ) ومثل أهل القمة ( حيث يصعد اللصوص ويضيع حُماة القوانين )، وفيلم الطوفان (حيث يضحى الأبناء بالأم من أجل المال ) وفيلم العار ( حيث يستقيل وكيل نيابة لأول وآخر مرة فى تاريخ الفيلم المصرى للمساهمة فى استقبال وتخزين شحنة مخدرات )، ولكن الأبعاد الكاملة لخريطة الفساد والمفسدين والصاعدين الى أسفل تجدها فى فيلم "عمارة يعقوبيان".
نقل الروايات الناجحة ا لى السينما ليس أمرا سهلا كما يعتقد البعض ، ولكنه فى نماذجه الناضجة ابداع مواز لإبداع صاحب الرواية نظرا لاختلاف طبيعة الوسيط بين العمل المكتوب و الفيلم المرئى ، وقد نجح وحيد حامد الى درجة كبيرة فى تجسيد الرواية فى عمل قوى ومؤثر وشيق لدرجة أن قارئ الرواية لن يشعر أبدا بالملل من المشاهدة ولن يفتقد الدهشة التى صاحبته عند القراءة . حافظ وحيد حامد على طبيعة الشخصيات ومصائرها فبدا الجميع كأنه خرجوا لتوهم من الكتاب ، وقد أسرف فى الإلتزام بالرواية الى درجة الإلتزام بمحاكاة بنائها الذى يعتمد على الإنتقال بين قصص منفصلة مع أنه كان يستطيع أن يترجم بشكل أفضل الخيوط غير المرئية بين الشخصيات كما شرحنا من قبل . مرتان فقط فعلها فى مشهد لقاء الدسوقى و رشيد امام الأسانسير ، وفى مشهد تعليق الدسوقى على ظهور عزام فى التليفزيون .
وفى حين تبدو دوافع الشخصيات الأساسية واضحة ، فإن دوافع بعض الشخصيات الثانوية تبدو غامضة فى الفيلم مقارنة بالرواية . على سبيل المثال : فإن فانوس خادم المكتب يبدو جشعا وخائنا ولئيما دون مبرر منطقى مع أن أبسخرون فى الرواية شخصية أكثر ثراء تتحايل على المعايش لتربية البنات الثلاثة ولرعاية شقيقه ملاك وأولاده ، ودولت التى تبدو فى الفيلم شديدة العنف مع أخيهاتكشف الرواية تاريخها الشخصى الملئ بالإحباط بعد هجرة ابنها وابنتها إثر زواجهما ، وبعد فشلها فى زيجتين إثر وفاة زوجها الأول ، وفى هذا الفراغ وذلك الإحباط ما يفسر الكثير . وهناك ملاحظة أخرى لاتقلل من الجهد المبذول هى التخفيف من بعض مناطق الجرأة السياسية فى الرواية حتى لايزيد استفزاز الرقابة مثل حذف لقاء الحاج عزام مع الرجل الكبير الذي يقتسم الرشاوي مع كمال المنوفى ، وحذف واقعة كتابة طه الشاذلى لخطاب تظلم لرئيس الجمهورية بعد رفض قبول الشاب فى كلية الشرطة ، وحتى الحوار الأكثر جرأة كان فى الرواية وليس الفيلم .
بثينة مثلا تصف بلدها فى يأس وقرف "بالمخروبة "، وتقول لزكى الدسوقى : " كنتم بتعملوا مظاهرات عشان تطردوا الإنجليز ؟ أهم خرجوا .. يعنى البلد حالها انصلح ؟" ، وتعبر فى ثورة عن غضبها فتقول : " أنا ما شفتش من البلد دى حاجة عشان أحبها ". كلها عبارات قد تكون قاسية ولكنها أكثر تعبيرا عن الثورة التى تشتعل داخل بثينة ، وأكثر تجسيدا لمأساتها من عبارة مخففة جدا مثل : "مصر بقت قاسية قوى على أهلها ".
فيما عدا ذلك فإن وحيد حامد فى ملعبه المفضل : الدراما الإجتماعية ذات الخلفية السياسية التى قدم منها روائع حقيقية مثل "دم الغزال"، رغم أننى لم أبتلع أن تكون نهاية حاتم رشيد على يد شخص آخر غير عبد ربه. وجه الإعتراض هنا ليس عدم الإلتزام بالرواية ولكن لأن هذا الفعل يكتسب مغزى أكبر من مجرد العقاب الأخلاقى لرجل شاذ، إنه فى الرواية يعبر عن فشل عبد ربه فى حل ماساته إلابقتل المسئول عنها . لم يعد جندى الأمن البائس قادرا على العودة الى الصعيد بعد أن ذاق الحياة الأفضل فى العاصمة بمساعدة رشيد ، ولكنه يعد قادرا أيضا على أن تعود العلاقة به كما كانت بعد أن فقد طفله الوحيد . فعل القتل يبدو بالنسبة له مريحا لانه سيخلصه من سبب مأساته ، ولأن عقابه على جريمة القتل سيخفف من شعوره بالذنب لعلاقته الشاذة ، أما قيام شخص آخر بقتل حاتم رشيد من أجل السرقة كماحدث فى الفيلم فهى نهاية أخلاقية لاترضى سوى الجمهور المصرى.
لكن وحيد حامد نجح فى المقابل فى تطوير شخصيات أخرى على نحو مبدع مثل كمال المنوفى الذى بدا فى الفيلم فى مكانة أكبر ومتمتعا بنفوذ أخطر من الرواية ، ومثل الحاج عزام تاجر المخدرات الذى لفقت له قضية مخدرات ، بل ان مشهد النهاية الأخير (العروسان الدسوقى وبثينة يتساندان وسط الضباب فى ميدان طلعت حرب فى اتجاه العمارة) يبدو أكثر توافقا مع مغزى الرواية من أي مشهد آخر بديل ،باشوات الأمس وفقراء اليوم يحاولون النجاة من انسحاقهم بزواج عجيب لا يوجد فى الرواية ولافى الفيلم ما ينبيء بنجاحه ، والملاحظ أن كل علاقات الحب فى الفيلم والرواية إما فاشلة أوغير مكتملة ( طه وبثينة ،طه وزوجته المحجبة رضوى ، الحاج عزام وسعاد ،الدسوقى وكريستين ، الحاج عزام وزوجته الأولى ، عبد ربه وزوجته الصعيدية ... إلخ ) .
على مستوى أداء أساتذة التشخيص الذين جسدوا أدوارهم باقتدار فقد كان كل شيء رائعا بل ومذهلا : عادل امام فى أحد أفضل أدواره . إنه أحد كبار المشخصاتية المعاصرين الذين استهلكتهم الأعمال التجارية الرديئة ، ولكن موهبته بلا ضفاف وحضوره بلا سقف ، لاحظ –على سبيل المثال – تعبير وجهه حال طرده من الحانة عن طريق طلعت زكريا . يسرا الرائعة التى ملأت الفيلم حضورا وحسرا رغم ظهورها القصير ولكنها نقلت إلينا عطر عصر كامل لم يعد موجودا . هند صبرى التى عبرت عن انسحاق الفتاة المصرية الفقيرة . نور الشريف فى دور جيد خاصة فى مشاهد العجوز الباحث عن زوجة جديدة . الواعد محمد عادل إمام الذى أقنعنا فى أول أدواره بشخصية صعبه ضائعة بين الحلم والواقع . الرائعان الجريئان باسم سمرة وخالد الصاوى فى شخصيات شاقة وتراجيدية بامتياز ، والصاوي تحديدا يستحق جائزة خاصة لبراعته فى أداء دور حاتم رشيد ،أما المخرج الواعد مروان حامد فقد أدهشنا فى "لى لى "، ولكنه نجح هنا باقتدار فى السيطرة على كل هؤلاء النجوم واستخراج أفضل مالديهم . لم يستعرض ولم يبهر بقدر ما قام بتوظيف كل ادواته لخدمة السيناريو وساعده على ذلك العناصر الإحترافية التى عملت معه : ديكورات فوزى العوامرى المتميزة خاصة فى مشاهد شقة السوقى وشقة حاتم رشيد . إضاءة سامح سليم المدروسة خاصة فى مشاهد تعذيب طه ومشاهد لقاءات رشيد وعبد ربه فى الشقة . ملابس ناهد نصر الله التى ترتبط بالشخصيات ومستواها الإجتماعى والإقتصادى مثل ملابس بثينة المتواضعة وفساتين يسرا التى جعلتها خارج الزمن الذى نعيشه . موسيقى خالد حماد التى تترجم لحالة هروب فوضوية من سفينة فى طريقها الى الغرق المحتوم ! قبل كل هؤلاء ، لابد من توجيه التحية الى عماد أديب وجودنيوز على توظيف الإمكانيات المادية والشرية لكى تُقدّم الرواية الناجحة بهذه الصورة الممتازة على الشاشة الكبيرة .
"عمارة يعقوبيان" الفيلم القذيفة والرواية الوثيقة يكشفان عن عبثية الحل والخلاص الفردى ، ويشرّحان جُثثا حية ونفوساً ميتة بلا هوادة . صحيح أن الرائحة بشعة ، ولكن على الذين تزعجهم الرائحة المنبعثة من الشاشة أن يسألوا أنفسهم أولاً كيف تحمّلوها من قبل فى الواقع المُعاش ؟!
(هذا المقال لم يسبق نشره من قبل)

الخميس، 5 أغسطس 2010

وثائقيان عربيان بالدورة القادمة من مهرجان فينيسيا


قد تكون الدورة السابعة والستون من مهرجان فينيسيا السينمائي العريق، "دورة خاصة" أي متميزة عن كل السنوات الثماني الماضية، بسبب حرص وسعي المدير الفني للمهرجان ماركو موللر (في عامه السابع في موقعه) للحصول على أفضل الأفلام التي فات على مهرجان كان الحصول عليها، إما بسبب تأخرها خلال المراحل الأخيرة من الإنتاج، أو لأنها فضلت فينيسيا لأسباب مختلفة منها مثلا أن يفضل أصحاب الفيلم الاشتراك به داخل المسابقة الرسمية للتنافس على الجوائز، بكل ما يعنيه هذا من إحاطة الأفلام المتنافسة بالأضواء، مما يوفر دعاية مناسبة للفيلم.
والواضح أن موللر، تمكن من إعداد برنامج لدورة يرغب هو بشدة، في أن يجعلها تغسل سلبيات الدورة الماضية، وتحفل بالمفاجآت السينمائية الكبيرة، لكنه لم يتمكن في الوقت نفسه، من الحصول على كل ما كان يرغب في الحصول عليه من أفلام وأهمها، بلاشك، الفيلم الأمريكي المنتظر "شجرة المعرفة" للمخرج تيرنس ماليك، الذي لم ينته العمل فيه بعد، بل ولم تظهر حتى أي بادرة لمشاركته في مهرجان تورنتو الذي يعقب فينيسيا مباشرة.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger