الأربعاء، 16 يونيو 2010

"الشبح": فيلم من خارج عالم بولانسكي



فيلم "الشبح The Ghostهو اسم الفيلم الأخير للمخرج الشهير رومان بولانسكي في نسخته البريطانية، أو "الكاتب الشبح The Ghost Writer في النسخة الأمريكية، ومعناها الكاتب الذي يتم استئجاره لكي يكتب لغيره دون أي ذكر لإسمه. بهذا الفيلم يعود بولانسكي (76 عاما) إلى أضواء السينما، بعد أن عاد قبل فترة إلى أضواء الحياة في أعقاب إلقاء القبض عليه في سويسرا بموجب أمر قضائي أمريكي في القضية القديمة المعروفة منذ 1978 والتي تصلح ملابساتها وتفاصيلها في حد ذاتها، موضوعا لفيلم سينمائي مثير يكون بطله هو بولانسكي نفسه.

كان السؤال الذي ورد على خاطري بعد أن شاهدت الفيلم هو: ما الذي أعجب بولانسكي ودفعه إلى تحويل رواية الكاتب البريطاني روبرت هاريس إلى السينما؟ وقلت إن الرواية ربما تكون قد أغوت بولانسكي، كونها تدور في أجواء غامضة تنجلي تدريجيا، تتعلق بالفساد السياسي والمؤامرات التي تدبرها قوى كبرى، وتدور أساسا، حول شخصية رئيس وزراء بريطاني (في إشارات واضحة إلى توني بلير تحديدا لدوره في الحرب على العراق). وبولانسكي يجد نفسه عادة وسط أجواء الترقب والقلق، ويتماثل مع شخصية البطل الفرد، الوحيد، الذي يجد نفسه تدريجيا متورطا في بحث يقوده للوقوع في براثن شبكة معقدة من العلاقات والمصالح الكبيرة التي تتحكم في مقدرات البلاد والعباد. إنها تلك الفكرة الكابوسية "الكافكاوية" (نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا)، التي تكشف كيف أن الإنسان الفرد، أصغر من أن يمكنه تحدي "المؤسسة"، وأن المؤسسة، أي الدولة، أو الأجهزة المهيمنة ومؤسسات المجتمع السائدة عموما، ومصالح متعددة الجنسيات..إلخ، يمكنها دائما أن توفر الحماية لأبنائها المخلصين، وتقهر أي محاولة للتمرد على سلطتها.
ورؤية بولانسكي "التاريخية" من خلال أفلامه القديمة منذ "طفل روزماري" و "قتلة مصاصي الدماء" و"الحي الصيني" و"المستاجر"، كأمثلة فقط، هي رؤية شديدة التشاؤم للعالم، لكنه ذلك التشاؤم الفلسفي، الذي كان يمتزج بالتأكيد، بنظرة ذاتية، تنبع من التجربة الشخصية الخاصة للمخرج، عندما فقد زوجته شارون تيت، في حادث هجوم همجي قتلت فيه عصابة سفاح من عصر الهيبيز، تشارلز مانسون، الممثلة الحسناء وهي حامل، مع عدد من اصدقائها، في منزل بولانسكي في ضواحي لوس انجليس، وقامت بالتمثيل بجثتها وجثث ضحايا المذبحة بشكل بشع. ولا شك أن تلك التجربة الأليمة تركت تاثيرها على بولانسكي حتى يومنا هذا، بالإضافة بالطبع إلى تجربة الهرب المستمر من الملاحقة القضائية في الولايات المتحدة بتهمة ممارسة الجنس مع فتاة قاصر، منذ عام 1978، وهي القضية التي دفعته لمغادرة الولايات المتحدة واللجوء إلى بريطانيا التي لم تقبله، ثم إلى فرنسا التي عاش فيها إلى حين مواجهة المحنة الجديدة الحالية مع تحليق شبح التسليم للسطات الأمريكية لقضاء عقوبة تصل إلى أكثر من 70 سنة في السجن!

ولعل بولانسكي أراد أيضا أن يصنع فيلما يلقى إقبالا واهتماما من جانب جمهور السينما في بريطانيا وأوروبا عموما، في وقت كنا على أعتاب موسم الانتخابات العامة في بريطانيا. وهو أمر نستطيع أن نرى آثاره بوضوح في الاقبال الكبير على الفيلم في عروضه اللندنية في تلك الفترة، وتربع الفيلم على قائمة الأفلام العشرة الأكثر جماهيرية، رغم أنه ليس من نوع الأفلام الخرافية الشعبية الشائعة، بل ويمكن القول أيضا إنه ليس من نوع الدراما المشوقة التي تجذب عادة المشاهدين من الشباب، فهو فيلم تتضح أجواؤه السياسية من أول لقطة فيه وحتى آخر لقطة، وحديث السياسة وعالمها وما يدور فيها الحديث عادة، لا يبدو مرغوبا فيه من جانب أغلبية الشباب الذين يفضلون الثقافة الهروبية.


والموضوع يدور حول رئيس سابق للحكومة البريطانية اسمه آدم لانج، المعادل الدرامي لشخصية توني بلير، بعد أن أصبح يعيش حاليا معزولا عن العالم، يدون مذكراته، داخل منزل كبير حديث في جزيرة نائية بالقرب من نيويورك، في ضيافة ناشره الذي ينتظر أن يجني الكثير من وراء نشر المذكرات.لكن لانج لا يمكنه كتابة مذكراته بنفسه، لذا يستعين بكاتب محترف لكي يضفي على المذكرات الاحترافية والمصداقية المطلوبتين. وهكذا تدخل شخصية الكتاب- الشبح إلى الفيلم، لكي يعرف أنه سبقه في القيام بالمهمة، كاتب آخر فقد حياته غرقا في ظروف غامضة. ويبدأ الكاتب- الشبح، الذي لا نعرف اسمه أبدا، في السعي لمعرفة كيف قتل سلفه، ويتوصل إلى الكثير من المعلومات التي تؤدي إلى اكتشاف أن لانج الذي أصبح حاليا ملاحقا قضائيا في بلاده بتهمة ارتكاب جرائم حرب في العراق وترحيل أشخاص للتعذيب في السجون السرية الأمريكية، ليس إلا عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية منذ أيام الدراسة في كمبردج، بل إن زوجته "روث" التي تعادل شخصية شيري (زوجة بلير) هي التي قامت أساسا، بتجنيده.
هذه الحبكة تأتي بكل أسف، مفتقدة إلى العنصر الأساسي في أي حبكة لفيلم من هذا النوع، أي من خلال الكشف التدريجي الدقيق عن خيط يقود إلى خيط آخر، والابتعاد عن عنصر الصدفة، الأمر الذي لا يتوفر لهذا الفيلم، فالنصف الأول منه، يمضي بطيئا رتيبا، يعرض للشخصية الرئيسية، أي شخصية الكاتب، وكيف أنه متردد، وجل، ولكن دون الكشف عن تضاريس بارزة في شخصيته، تجعله على سبيل المثال، يضاهي في بروزه شخصية المفتش جيتس في "الحي الصيني" Chinatown (1974).
وعندما يبدأ الفيلم في الكشف عن خيوط القصة فإنه يكشفها بالجملة، وفي تداخل مربك للشخصيات والوقائع، بل إنه يعتمد أيضا على سلاح "الانترنت" ومحرك البحث "جوجل" للكشف عن أهم الغاز الفيلم، وهو أن صديقا لآدم لانج من أيام أن كان طالبا في الجامعة، هو عميل قديم للمخابرات الأمريكية، وإنه مقيم في نيويورك، وهو ربما المسؤول عن مقتل الكاتب السابق، بل إنه يهدد الكاتب الجديد بطريقة مكشوفة أيضا، ويطلق خلفه رجلان في سيارة للفتك به. وتبدأ المطاردات، وهي عديدة في الفيلم، في المعدية، وعلى الطرق السريعة بالسيارات، وداخل الغابة، وتحت الأمطار، ولكن لا شيء يحمل الطابع المميز لأفلام بولانسكي. فالمتفرج يفتقد هنا لأهم ما يميزها، أي علاقتها ببولانسكي نفسه، وعلاقة الفيلم بعالمنا فيما لو تجاوزنا موضوع مطابقة شخصياته لبعض الشخصيات الحقيقية القريبة من الذاكرة.


ولعل هذه النقطة الأخيرة هي أضعف نقاط الفيلم، فلو أننا تخيلنا عدم تطابق شخصية آدم مع بلير، وشخصية روث مع شيري، وشخصية ريتشارد ريكارت مع روبن كوك، وزير الخارجية البريطانية السابق الذي أصبح قبيل وفاته معارضا متشددا لسياسة بلير، لما بقي الكثير من أهمية هذا الفيلم ومصدر الاهتمام به.

بالإضافة إلى هذا، لا أظن أن اختيار الممثلين كان مقنعا، وخصوصا إيان ماكريجور في دور الكاتب، الذي بدا مضطربا في مشاعره بطريقة تدعو إلى الحيرة، ومع ذلك، يقدم على ممارسة الجنس مع زوجة آدم، روث، بلا مبالاة، ولا أعرف ما الذي يضيفه هذا المشهد أصلا إلى الفيلم، ولا إلى شخصية روث التي تظهر كضحية لتصرفات زوجها وحماقاته السياسية بل وخياناته لها أيضا، ولكنها لا تزال صامدة، تمده بالنصح فيما يتعين عليه القيام به في مواجهة العاصفة التي انفجرت في وجهه في الوطن، وأصوات المحتجين الذين يطالبون بترحيله من جزيرتهم الهادئة.

ولم يكن بيرس بروسنان موفقا في دور آدم لانج رئيس الوزراء السابق، بل بدا مضطربا في دوره، يمثل بلا حماس، بل أحيانا يخلط بين دور "الولد السيء"، ودوره المعروف في أفلام جيمس بوند!

في الوقت نفسه، ينتابك إحساس وأنت تشاهد الفيلم، بأن هناك ما يقرب من 15 دقيقة على الأقل، زائدة عن الحاجة في هذا الفيلم، مما ساهم في بطء الإيقاع وترهله خاصة في النصف الأول منه، بل ولم أجد أن نهاية الفيلم أيضا تتوافق، مع نهايات أفلام بولانسكي المميزة. وياله من اكتشاف كبير أن تصبح "روث"، زوجة لانج، هي التي قامت بتجنيده أصلا، وأن تتطاير صفحات مخطوطة المذكرات بعد أن نشرت في كتاب بالفعل لتملأ سماء الشارع بعد خروج الكاتب مندفعا من حفل تدشين الكتاب الذي يحضره المسؤول عن تجنيد روث في المخابرات الأمريكية. فهل انتصر الكاتب الشبح على المؤسسة، وتمكن من فضحها، أم أنه قام بمهمة "قذرة" تتمثل في تجميل مذكرات مجرم حرب!

الجمعة، 11 يونيو 2010

"خارج عن القانون": فيلم يشوه الثورة الجزائرية!

((ملحوظة: هذا المقال نشر أولا في موقع "الجزيرة الوثائقية"- الرابط هنا))

بداية يجب أن أؤكد على نقطتين:
الأول: أنني من المعجبين كثيرا بالموهبة السينمائية الكبيرة للمخرج الجزائري رشيد بوشارب، الذي يقيم ويعمل في فرنسا، فقد أثبت بوشارب عبر أفلامه الستة الروائية الطويلة، مهارة وحنكة، وبرع في التعامل مع الممثلين بوجه خاص، كما أثبت قدرته على التحكم أيضا في المونتاج بحيث يبقي المشاعر الجياشة التي تفيض بها أفلامه، "تحت السيطرة"، أي يحول بينها وبين الانحراف في اتجاه الميلودراما التي تعتمد على المبالغات العاطفية مما يمكن أن يؤدي إلى خروج الفيلم عن مساره "العقلاني".
وقد بلغ بوشارب قمة سيطرته كمخرج على كل جوانب فيلمه، في فيلم "البلديون" (أو أيام المجد) الذي عرض في مسابقة مهرجان كان عام 2006. وقد كتبت عنه في ذلك الوقت، وقلت بالحرف: "جاء عرض فيلم "البلديون" الجزائري، مفاجأة حقيقية لعشاق السينما في مهرجان كان السينمائي. المفاجأة أننا أمام فيلم كبير وعميق وراسخ، سواء في موضوعه أو في طريقة تناول الموضوع".
وكتبت أيضا: "ولعل من أهم ما يميز الفيلم، تركيزه الكبير على موضوع الهوية، أي هوية أبطاله. إننا نراهم هنا دائمي التأكيد على هويتهم، تارة من خلال الملابس التي يرتدونها حتى تحت القبعات الحربية، أو تبرز من تحت قمصانهم.
أما النقطة الثانية التي أود التأكيد عليها فهي أن قراءة الأفلام وفهمها، لا يعتمد على قراءة النوايا، ولا استنادا إلى ما يظهر من "كتابات" رسمية دعائية مصاحبة للأفلام تصدرها جهات "صاحبة مصلحة"، بل على تحليل الصور ودلالاتها، وتحليل الشخصيات وبنائها وكيفية تجسيدها في الفيلم.
"خارج عن القانون"
تكلف إنتاج الفيلم الجديد "خارج عن القانون" لرشيد بوشارب الذي شارك في مسابقة مهرجان كان (ونحن نعتمد هنا اسم الفيلم كما ظهر على الشريط نفسه باللغة العربية) 20 مليون دولار، جاءت أربعة ملايين دولار منها من الجزائر (ساهمت شركة سوناطراك للمحروقات بجزء منها)، وساهم المنتج التونسي طارق بن عمار بثلاثة ملايين دولار، وساهمت جهات الإنتاج الفرنسية بالباقي، أي بثلاثة عشر مليونا من الدولارات.
يطمح بوشارب هنا أيضا، إلى تحقيق فيلم ملحمي epic كبير، يمضي منتقلا عبر فترات زمنية متعددة، يروي بطريقة مجازية، قصة ولادة الثورة، ولكن بتركيز خاص على دور الجزائريين في فرنسا تحديدا.
ويبدأ الفيلم عام 1925، في إحدى قرى ولاية سطيف، حينما تأتي فرقة من العسكر الفرنسيين يتقدمهم رئيس البلدية (ينادونه سي القايد) لمصادرة أرض يملكها مزارع جزائري، ويخرجونه وأسرته من أرضهم لكي يستولي عليها المستوطنون الفرنسيون. ويراقب الإبن الأكبر عبد القادر، في انفعال وألم ما يحدث لأبيه.
ويمضي الزمن إلى 8 مايو عام 1945، وفي أسلوب وثائقي تقدم الأحداث: مباراة ملاكمة تدور في حلبة جهزت في ساحة شعبية في مدينة سطيف، بين ملاكم جزائري وملاكم فرنسي. فجأة مجموعة من المستوطنين يطلقون النار من الشرفات على جموع الجزائريين المارين في الطريق، وتحضر قوات الشرطة لتطلق الرشاشات على الجزائريين الذين يحاولون الدفاع عن أنفسهم. مباراة الملاكمة تتوقف ويتفرق الحشد. آلاف الجثث ترقد في الشوارع.
وننتقل إلى عام 1953، ونرى مسعود، الإبن المتوسط للأسرة، وقد أصبح جنديا في الجيش الفرنسي ضمن قوات المظلات، المتجهة إلى جزر الهند الصينية. وإلى عام 1954، على أحد مقاهي سطيف فرنسيون يجلسون. شاب جزائري يطلق النار عليهم. وعبد القادر يتجه إلى "سي القايد" يغرز سكينا في قلبه، جزاء خيانته لأبناء جلدته.
الإبن الأصغر (سعيد) يقنع والدته بعد ذلك بضرورة التوجه إلى فرنسا، على أساس أن مسعود سيلحق بهما هناك، وفي انتظار خروج عبد القادر من السجن حيث يقضي عقوبة على جريمة القتل.
في باريس 1955، داخل السجن، نرى عبد القادر وسط السجناء الجزائريين السياسيين الذين يرددون الأناشيد الوطنية (لقد بدأت حرب التحرير). ويشهد عبد القادر بعينيه عملية قطع رقبة أحد الثوار بالمقصلة. ويتأثر كثيرا.

وفي إحدى ضواحي باريس (نانتير)، تنتشر أكواخ بدائية جرداء يقطنها المهاجرون الجزائريون وبينهم سعيد ووالدته. أكواخ لا يمكنها أن تقيهم برد الشتاء القارص، بينما الثلوج تغطي المنطقة. تقوم الأم بزيارة ابنها عبد القادر في السجن، وتشد من أزره وتشجعه على الصمود.
سعيد يتعرف على رجل جزائري يعلمه مهنة القوادة في حي بيجال حيث يستغل فتاة جزائرية ويقوم بتشغيلها في الدعارة. يحضر عبد القادر لكي يأخذ منها ما ربحته من مال ويناولها رغيفا تتناوله بشراهة. وبعد مرور ستة أشهر يكون قد أصبح لديه بعض المال، يحاول أن يعطي شيئا منه لامه لكنها ترفض في استنكار وتعنفه على ما يقوم به من عمل.
في السجن، عبد القادر يُجند لحساب العمل في خدمة الثورة بقيادة جبهة التحرير الوطني. رفيقه الذي يتولى تجنيده يقول له إن الحرب شر لابد منه، لكنها تخدم قضيتنا.
يغادر عبد القادر السجن، ويتمكن من الحصول على عمل بمصانع سيارات رينو التي يعمل فيها الكثير من الجزائريين. لكنه يأخذ في تحريض العمال على الانضمام للعمل السري في فرنسا مع جبهة التحرير "لأن المفاوضات لن تحقق شيئا". مجموعة من الجزائريين من حزب الحركة الوطنية الجزائرية (حزب مصالي الحاج) الذي تنافست معه جبهة التحرير وكان ينادي بالاستقلال عن طريق التفاوض مع فرنسا، يعتدون على عبد القادر بالضرب المبرح، ويهدده زعيمهم، بالقتل إذا لم يتوقف عما يقوم به.
في هجوم مضاد، يعود عبد القادر مع شقيقه مسعود الذي عاد أخيرا من الهند الصينية، إلى ذلك القيادي في حزب الحركة الوطنية ويقوم عبد القادر بخنقه بحبل، بعد أن يقرا عليه حكم الإعدام الذي أصدرته الجبهة باعتباره خائنا.
مسعود يتزوج من "زهرة" الفتاة اليتيمة التي ترعاها والدته. سعيد يعطيه بعض المال كهدية لزواجه. ليلة حفل الزفاف والجميع يحتفلون بالرقص والغناء في الأكواخ البدائية، تحضر الشرطة الفرنسية للقبض على عبد القادر ورفاقه. الشرطة تعتقل أعدادا كبيرة من الجزائريين. يستغل عبد القادر الفرصة ويأخذ في تحريض الجزائريين على الانتفاض ضد الفرنسيين، ويتمكن من تجنيد أعداد كبيرة منهم في الجبهة.
الجبهة تفرض ضرائب إجبارية على كل الجزائريين العاملين في فرنسا لتمويل النشاط المسلح، وتحظر عليهم التدخين وتناول الخمر.

عام 1957 تبدأ حملة تبرعات مالية لصالح الجبهة من بين الجزائريين في فرنسا، بمساعدة أعضاء في الحزب الشيوعي الفرنسي من الفرنسيين المتعاطفين.. مسعود يحاول التقريب بين أمه وسعيد. رجل جزائري يدعى عمر، اختلس اشتراكات الجبهة، يقوم مسعود بقتله خنقا بيديه مع عبد القادر.
عبد القادر يحل محل مسؤول الجبهة الذي ينتقل إلى جنيف حيث قيادة الجبهة في المنفى. يأمره الرجل بترك العمل في المصنع. سعيد أصبح الآن صاحب كباريه يطلق عليه "كباريه القصبة" في حي البيجال. مسعود يزوره هناك، ويطلعه سعيد على ما أسسه في مجال تبني شاب جزائري وتدريبه لكي يصبح أول ملاكم جزائري، يعده لكي يصبح بطلا من أبطال الملاكمة يحصل على بطولة فرنسا، يقهر الفرنسيين، وربما يصل أيضا إلى بطولة العالم. سعيد يدفع قسطا من المال تبرعا لتمويل الجبهة لكنه غير مرتاح لهذا "الفرض". مسعود ينبهه غلى أن التدخين محظور بينما سعيد مستمر في تدخين السيجار الضخم مثل أي رجل أعمال.
الشرطة الفرنسية بقيادة الكولونيل فايفر تغرق بعض النشطاء الجزائريين في النهر. ارتفاع وتيرة العنف الفرنسي في مواجهة عمليات المقاومة. عبد القادر ومسعود يهددان جزائريا يعمل ضابطا في الشرطة الفرنسية متزوج من فرنسية، لكي يسلم لهما خريطة بتفاصيل مقر الشرطة. اختطاف الكولونيل فايفر. وتهديده ثم الافراج عنه. عبد القادر يأمر سعيد بالغاء مبارة الملاكمة المنتظرة التي اعد لها طويلا لأنهم يريدون تجنيد كل الجزائريين وراء الإضراب العام الذي دعت إليه الجبهة في فرنسا. سعيد يرفض، وعبد القادر يهدده ويتوعده بالقتل. مسعود يبدو حائرا. يعترض على هذا الجنوح في العنف.
مدير الشرطة يشكل منظمة اليد الحمراء لاغتيال الثوريين الجزائريين والتنكيل بهم. تصفيات عنيفة بالرصاص. انفجارات مروعة في الأكواخ ومقتل العشرات. الثوار يهاجمون قافلة للشرطة، عبد القادر ومسعود يتمكنان من النجاة لكن مسعود يصاب ويموت.
ديجول يتعهد بإحلال السلام ويدعو إلى وقف العنف خلال رحلته إلى الجزائر. سعيد يرضخ علىمضض لتهديدات عبد القادر بإلغاء مباراة الملاكمة رغم وجود الجمهور بكثافة حول الحلبة وغضب الملاكم الجزائري الشاب. تهاجم الشرطة المكان لاعتقال عبد القادر الذي يهرب ومعه سعيد. في المترو سعيد وعبد القادر وسط مجموعة من الجزائريين الذين يهتفون "تحيا الجزائر". عندما ينزل الإثنان من عربة المترو تطلق الشرطة الرصاص فيقتل عبد القادر وينجو سعيد. الكولونيل فايفر يتوقف أمام جثة عبد القادر ويقول له: لقد انتصرت. لقطات تسجيلية لمظاهرات الفرح بالاستقلال في يوليو 1962.
تحليل الفيلم
أراد رشيد بوشارب أن يروي نحو أربعين عاما من تاريخ النضال الجزائري المسلح من خلال متابعة قصة أسرة جزائرية يستعرض من خلالها المراحل المختلفة من نضال نشطاء جبهة التحرير على الأراضي الفرنسية تحديدا، على أساس أن هذا الموضوع لم يتم التطرق إليه من قبل في السينما. والفكرة في حد ذاتها ممتازة، ويمكن أن تجد اهتماما بها في فرنسا، خاصة وأن التوزيع الأساسي للفيلم سيكون في السوق الفرنسية. ولكن كيف عالج بوشارب الفكرة والموضوع؟
أولا: اختار بوشارب ثلاث شخصيات ينتقل فيما بينها لكي يجسد من خلالها دراما النضال الجزائري في فرنسا: المتطرف، والوسطي، والمعتدل، أو بالأحرى: المناضل الأيديولوجي المتشدد (عبد القادر)، والمقاوم ذو النزعة الإنسانية (مسعود)، والقواد صاحب النزعة التي تميل إلى الاندماج مع الآخر والاستفادة من الوضع الراهن، ويرفض النضال المسلح (سعيد).
في أحد المشاهد يقول سعيد لشقيقه مسعود: دعك من الحرب التي لا فائدة منها.. تعالى انضم لي واعمل معي..
وهو يكرر أكثر من مرة لأمه قوله إنه يرفض حياة الضعة والفقر والهوان، كما يرفض منطق عبد القادر في أن الحرب هي وسيلة الحصول على الحرية، لأنه يجد ببساطة أنه "قد تحرر بالفعل" ألم يعد بمقدوره أن يفعل ما يشاء، وأن يحقق أحلامه في الثراء.
عبد القادر في الفيلم، شخصية جافة، متزمتة، عنيفة، فولاؤه الايدويولوجي يجعله لا يمانع حتى من قتل شقيقه سعيد. ونراه يقتل بيديه في مشهد بشع، عن طريق الخنق، كما يبرر القتل الجماعي، وهو ايضا بيوريتاني متشدد، يرفض الحب، ويعزف عن نداء الجسد، تحاول رفيقة فرنسية من رفيقات القضية أن تقيم معه علاقة عاطفية لكنه ينبذها أكثر من مرة بفظاظة. إنه نموذج "غير إنساني" فهو مثل "الروبوت" المبرمج لأداء وظيفة لا يمكنه أن يحيد عنها. وطبيعي أن شخصية بهذا التكوين، ستحدد نظرة الجمهور الأوروبي في الوقت الحالي، المشبع بكل تراث الأفلام التسجيلية والشرائط الإخبارية والإعلام السائد، وينظر إليه كصورة نمطية لـ"إرهابي" يقر بوضوح إن "المفاوضات غير مجدية" والعنف هو الحل، ويقتنع بأن "الحرب تخدم قضيتنا"، بل ويحكم بالإعدام شنقا، على منافسه السياسي في حزب الحركة الوطنية، في إطار الصراع بين الحزبين على جمع الأموال من الجزائريين العاملين في فرنسا في تلك الفترة.
هذا "الاستقبال" لشخصية عبد القادر ليس إسقاطا من عندي، بل هو ما تشي به قراءة تكوين الشخصية دراميا حسبما يعرضها الفيلم: في سلوكياتها وسيكولوجيتها، بغض النظر عن كونه ينتمي إلى حركة تستخدم "العنف الثوري". فالنظرة السائدة اليوم في فرنسا وأوروبا إلى "كارلوس" مثلا (الذي شاهدنا فيلما عنه في مهرجان كان الأخير أيضا) هي أنه "إرهابي" كان يقتل الشرطة ويقاوم الدولة "القمعية"، في حين أن كارلوس يرى نفسه "مناضلا" كان يخدم القضية الفلسطينية العادلة منطلقا من قناعات أيديولوجية. إذن ليس المهم هو ما تقوله عن نفسك، بل المهم كيف يراك الآخرون من خلال ما يعرض عليهم. وهنا، أي في فيلم "خارج عن القانون" يبدو عبد القادر كأنه "خارج عن القانون" أي قانون المجتمع (لاحظ أنه جاء من الجزائر إلى فرنسا، ولم يمارس العنف في الجزائر حيث الاستعمار المباشر) وهي نقطة أخرى ضد الفيلم. بل إن اختيار عنوان كهذا للفيلم يضر بالفيلم نفسه، ويحوله إلى نوع من الإدانة. وهو يموت في نهاية الفيلم، ولا يعيش لكي يرى بلاده تتحرر كما كان يحلم، في إشارة واضحة على أنه نموذج مدان ومرفوض.
إذن الشخصية "الثورية" التي تتعاطى الإرهاب الثوري، وتخلص لقضية الثورة حتى النهاية، وتثير وجدان الجزائريين بالشعارات والهتافات التي تتردد كثيرا في الفيلم، هي شخصية سلبية مقضي عليها بالموت.
أما مسعود، فهو المحارب السابق، الذي يبدو أنه خبر الحروب، وأدرك معاناتها، لكنه يجد نفسه تحت تأثير الدافع الوطني، يوظف خبرته، في خدمة قضية يراها بالتأكيد عادلة. لكنه لا يبدو منسجما مع كل هذا التشدد: إنه يعترض على رفض أمه لسوكيات سعيد شقيقه، بل ولا يمانع من الحصول (هو وعبد القادر) على أموال الدعارة، لتمويل النشاط الثوري، يتقيأ بعد أن يخنق رجلا اتهم بسرقة أموال الجبهة بيديه، وهو أيضا يرغب في العيش الهانيء المستقر، ويتزوج وينجب، لكنه يموت في النهاية ميتة عبثية دون أن يحقق نصرا.
أما الوحيد من الأشقاء الثلاثة، الذي يبدو الأكثر منطقية وقبولا، بل وأكثر "إنسانية"، ضمن السياق العام للفيلم، فهو "سعيد" القواد، صاحب الكباريه، معتنق المنطق المادي النفعي (البراجماتي) وليس الثوري، الرافض للنضال المسلح ولفكرة الثورة، الداعي إلى التحرر عن طريق العمل الحر وكسب المال، الذي يبني ويؤسس في المهجر، كيانا يمكن أن يستمر، والذي يصنع أيضا (وهذا مهم رمزيا) بطلا من ابطال المستقبل "الجزائري" أي بطل الملاكمة (الذي سيكون أول ملاكم يرفع علم الجزائر- كما يقول حرفيا في الفيلم). وسعيد هو الذي يساعد بالمال: الشقيق، والجبهة، وبطل المستقبل. وهو الذي يريد انتشال الأم من وهدة الفقر والفاقة، وهو الوحيد من بين الثلاثة الذي يجعله صانع الفيلم يعيش ويبقى لأنه الوحيد الذي دعا إلى "الاندماج" مع الواقع، والاستفادة من النظام الرأسمالي.
الناحية السينمائية
كان هذا من ناحية البناء وتكوين الشخصيات كما صنعها رشيد بوشارب وزميله في كتابة السيناريو أوليفييه لوريل. ولكن من الناحية السينمائية، كيف تعامل بوشارب مع تلك الشخصيات وما هي الأجواء التي وضعها فيها وكيف أدارها؟
من عنوان الفيلم وملصقه السينمائي يمكن للمشاهد أن يدرك أنه مقبل على مشاهدة فيلم من أفلام الجريمة.
يرتدي الأبطال الثلاثة بل والكثير من شخصيات الجزائريين في الفيلم، القبعات طوال الوقت، حتى في المشاهد الداخلية التي لا يكون معتادا فيها ارتداء القبعات (إلا في أفلام العصابات).
وتدور المعارك والمطاردات على طريقة أفلام "الأكشن" الأمريكية، وباستخدام الرشاشات الطويلة، ويكفي مثالا أن نتأمل في طريقة وأسلوب إخراج مشهد اقتحام مقر الشرطة: تمهيد من زوايا متنوعة، إيقاع سريع، لقطات قريبة، كاميرا مهتزة، إضاءة معتمة، عنف بالغ، بل إن المشهد منفذ بتأثر واضح من بناء مشاهد اتصفيات العنيفة في فيلم "الأب الروحي" The Godfather
إن الفيلم يختصر نضال الثوريين الجزائريين في فرنسا في أنماط من هذا النوع، ويصورهم في أجواء أفلام العصابات، كما لو كانوا يقومون بانتقام شخصي مباشر (لاحظ مثلا كيف يعود عبد القادر ورفيقه مباشرة إلى القيادي في حزب الحركة الشعبية لكي يشنقه في مشهد بشع مقزز مثير للاستنكار). وعندما يبتعد الفيلم عن مشاهد القتل والعنف والاعتداءات والابتزاز والتهديدات، فإنه يكتفي بأن يصور لنا المناضلين وهم يرددون الهتافات والشعارات. إن المجموع هنا، يختصر في شرذمة من الأتباع الذين لا دور لهم سوى ترديد الشعارات كما في مشهد المترو.
وتأكيدا على طابع أفلام العصابات، نرى كيف يهدد عبد القادر رجلا جزائريا يبدو مسالما تماما (ضابط شرطة واضح أنه يعمل في الجانب المدني) يصوره وهو يقضي عطلة نهاية الأسبوع مع زوجته وطفلته في حديقة عامة، زوجته الفرنسية الجميلة الوديعة الوجه تتطلع إليه في حب وثقة، يتبادل نظرات الود والمحبة مع ابنته الطفلة البريئة في الحديقة. هنا لابد أن يتعاطف المتفرج مع تلك الأسرة المسالمة. وفجأة يظهر عبد القادر ومسعود في معطفيهما وقبعاتيهما: يلوحان له بما يمكن أن يصيب تلك الأسرة من ضرر إذا رفض أن يتعاون معهم، فلا يملك الرجل سوى الرضوخ لتفادي القتل. هل مثل هذا المشهد يخدم صورة الثوار الجزائريين؟
ويصور بوشارب كيف يقوم مسعود بخنق "عمر" الذي يختلس بعض أموال تبرعات الجبهة لكي يشتري ثلاجة لأسرته، وذلك بدون شفقة أو رحمة أو محاكمة أو حتى مجرد الاستماع لتبريره، ألا تجعل هذه الصور كلها، جمهور المشاهدين ينفر من تلك الشخصيات، ويتماثل فقط مع شخصية القواد؟ وألا تعد هذه إساءة- من الناحية الفكرية والفنية- للثورة الجزائرية؟
أسلوب الإخراج الذي يستخدمه بوشارب هو تارة أسلوب أفلام العصابات gangsters الأمريكية تحديدا، مع بعض لمسات ما يعرف بـ"الفيلم نوار"، وتارة أخرى أسلوب أفلام الغرب الأمريكي أو الويسترن، مع مزيج من أسلوب الفيلم الوثائقي السياسي الذي يستخدم الوثيقة أحيانا ولكن بدون تحليل وفي سياق يشوهها تماما أو يكتفي بجعلها مجرد خلفية للحدث، غير أن الطابع الغالب على الفيلم هو طابع أفلام العصابات، وهو أسلوب مقصود تماما، وليس من الممكن أن يتبنى مخرج هذا الأسلوب في التعامل مع شخصيات فيلمه وأحداثه إلا إذا أراد أن يدينها، ويشوهها، ويحرفها عن الصورة المستقرة التقليدية عن "البطولة" و"الثوار"، بل ويجعل من "أبطاله" معادلا بصريا ودراميا لرجال المافيا الأمريكية، يتحركون بطريقتهم، ويتصرفون مثلهم.
"خارج عن القانون" ليس نموذجا للفيلم الثوري، فيلم البطولة الجماعية الذي يجسد حركة الناس، ويحلل، بصريا وذهنيا، كيف ينحاز البسطاء مع قضيتهم، لا بدافع الانتقام الفردي، بل من أجل قضية كبيرة.
كان هذا ما رأيناه في فيلم "معركة الجزائر" لبونتيكورفو، الذي يظل أعظم ما ظهر من أفلام عن الثورة الجزائرية حتى يومنا هذا. وكان الفيلم يعتمد على تحليل الصور من خلال مونتاج يعتمد على المختزن في الذاكرة الجماعية، كما يعتمد على إعادة تركيب وبناء وتجسيد الأحداث الكبيرة في الصراع من خلال الإيجاز والتوظيف المقتصد للسرد، بعيدا عن الرغبة المراهقة في "الإبهار" أو ذلك الميل الواضح هنا إلى الاستطرادات والثرثرة ،بل وربما تكون نمطية الشخصيات هي التي أضعفت من أداء مجموعة الممثلين الذين سبق أن تفوقوا كثيرا في فيلم "البلديون".
إن فيلم "خارج عن القانون" في المحصلة الأخيرة، سواء عن وعي أو عن سذاجة في الطرح والمعالجة، يشوه نضال الشعب الجزائري ويجعله مجرد صراع طويل بين عصابتين، أو مجموعتين من الأشرار.

الاثنين، 7 يونيو 2010

رحلة العمر بين " كواليس" الجمعيات و" كوابيس" المهرجانات




((انشر هنا نص مقال الزميل الناقد السينمائي محمود عبد الشكور الذي نشر في صحيفة "روز اليوسف" اليومية بتاريخ الأحد 6 يونيو حول كتاب "حياة في السينما" في إطار التوثيق في هذه المدونة (التي تحمل العنوان نفسه ومنها ولد هذا الكتاب تحديدا) لكل ما نشر حول الكتاب بقدر المستطاع بالطبع، وفي حدود ما يصلني من هذه الكتابات)).
رابط إلى المقال منشورا في روز اليوسف



بقلم: محمود عبد الشكور



لدىّ مرضان قديمان ممتعان هما: قراءة الأفلام وقراءة الكتب . أحياناً يمتزج المرضان عند قراءة الكتب التى تتحدث عن السينما وصناعها وعشاقها وتاريخها وشهادتها على عصرها وزمنها، من المفيد أيضاً أن اذكر أننى أعتبر الكتب والأفلام كالبشر سواءً بسواء، كل كتاب له من صاحبه نصيب ، وكل فيلم يكشف عن صنّاعه حتى إذا لم يقصدوا ذلك، وكلاً من الكتب والأفلام تأخذ سمات بشرية تماماً كأن تكون ظريفة أو كئيبة ، عميقة أو سطحية ،مهندمة أومعبرة عن الفوضى ، ذكية أو غبية ،مثيرة لليقظة أو دافعة للنعاس والشخير!
وهذا كتاب للناقد أمير العمرى يحمل عنوان "حياة فى السينما" لا تستطيع أبداً أن تتركه إذا بدأت فى القراءة حتى تنتهى منه، ومنذ اللحظة التى اشتريته فيها لم أتركه حتى أثناء ركوب المواصلات العامة والخاصة . بمعيار الكتب التى تحمل صفات البشر أنت أمام رفيق يقظ حاسم قاطع لديه تجربة طويلة يحاول أن يسردها بأسلوب سهل وعذب ولايخلو من السخرية ، والأهم من ذلك أنه يحدثك عن سنوات شديدة الثراء هى فترة السبعينات من القرن العشرين ، كما أنه يحكى عن الكواليس بشكل عام لدرجة أن الكتاب بأكمله يصحّ أن يحمل اسم " كواليس " . يروى العمرى عن "كواليس" الجمعيات السينمائية التى انضم إليها، و"كواليس" الجمعيات التى حاول أن يشارك فى تأسيسها ، و" كواليس" المهرجانات التى قام بتغطية أنشطتها وأفلامها ، و"كواليس" لجان التحكيم التى شارك فيها، والحكايات بأكملها معروضة من وجهة نظر ذاتية تماماً لاتزعم – فيما أظن – امتلاك الحقيقة المطلقة، والسينما حاضرة طوال الوقت والسياسة أيضاً، والإنتقالات فى الزمان والمكان وبين الشخصيات التى غيّبها الموت أوتلك التى مازالت تواصل العطاء، كل ذلك يجعل من الكتاب رحلة ممتعة تستحق الإبحار والإكتشاف ، ربما لم يلتزم العمرى بأن يكون شاهداً كما قال فمارس دور القاضى فى أحيان كثيرة، وكانت أحكامه صريحة أويمكن اكتشافها بين السطور، ولكنه أعلن أيضاً فى المقدمة أنه لايستطيع أن يكون محايداً، ربماتنغص عليك الأخطاء المطبعية صفو القراءة أحياناً، وقد تنزعج لخطأ فى تعليقات الصور كأن يوضع اسم أحمد قاسم تحت صورة للمخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى، ولكن الكتاب يظل مع ذلك مختلفاً وباعثاً على المناقشة والجدل وتنشيط الذاكرة والتفاعل معه أوضده .
عرفت الناقد أمير العمرى من خلال كتاباته وخاصة ً كتاب "سينما الهلاك"، كما كنت أقرأ اسمه فى مجلدات نشرة نادى السينما الشهيرة التى حصلت على بعضها من خلا ل التردد على سور الأزبكية أدامه الله لدراويش القراءة ، ولكنى عرفت العمرى شخصياً خلال الفترة القصيرة التى عاد فيها الى مصر بعد سنوات طويلة قضاها فى بريطانيا، وكان وقتها قد انتخب رئيساً لجمعية نقاد السينما المصريين، وأصدر مجلة صغيرة عن الجمعية تحمل اسم "السينما الجديدة "، وأشرف فى تلك الفترة على تنظيم أسبوع لا ينسى لروائع الأفلام التسجيلية على مرّ العصور حيث عُرضت بالمجلس الأعلى للثقافة أعمالٌ تحمل توقيع الكبار مثل " دزيجا فيرتوف " و" لينى ريفنشتال " و" ميخائيل روم "، وفى الندوة التى أعقبت عرض رائعة " لينى ريفنشتال " ( انتصار الإرادة ) تحدث العمري بحدة وعنف تعليقاً على رأى قلته حول مدى دلالة الفيلم على تعاطف المخرجة مع النازية، ولكن – لدهشتى الشديدة – نشر الرأى كاملاً ضمن مقال لى فى مجلة " السينما الجديدة " على مساحة أربع صفحات ، بل إنه كان وراء طلب أن أكتب للمجلة، وتحمّس كثيراً لمقالاتى لدرجة أنه كان ينشر أكثر من مقال فى عدد واحد ، وللأسف توقفت المجلة بعد عشرة أعداد، وعاد العمرى الى لندن، وكان انطباعى عن تجربته القصيرة أنه يمتلك فكراً ومشروعاً وطاقة للتنفيذ، ولكنه لايمتلك صبراً يليق بوطن اخترع الزراعة والبيروقراطية و" الرحرحة " ومواويل " هاتولى حبيبى "!
كتاب "حياة فى السينما "، وهو نفس عنوان مدوّنة يحررها العمرى، فسّر لى أنه تقريباً استنفد الصبر فى سنوات السبعينيات الثرية والعاصفة معاً، أقول ثرية لأنها شهدت العصر الذهبى لنوادى السينما وللمراكزالثقافية الأجنبية، كما أنها سمحت لطالب الطب أمير العمرى أن يؤسس ويدير نادياً للسينما فى كلية الطب جامعة "عين شمس " عام 1971 ، وأن يفتتح عروضه برائعة فيسكونتى "الموت فى فينسيا"، ولو عُرض هذا الفيلم فى قلب الأوبرا هذه الأيام لما توقف الجدل ، ولاتهم عارضوه بكل الموبقات.
شهدت تلك السنوات تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين فى يونيو 1972 بمبادرة وجهود سمير فريد الناقد الكبير، ولكن بداية هذه السنوات شهدت أيضا الإستقطاب السياسى الحاد، والتحول من اليسار الى اليمين ، وانعكس ذلك بالضرورة على الحياة الثقافية والسينمائية ، ويصف أمير العمرى فى كتابه وزير الثقافة الأسبق يوسف السباعى بأنه ضابط الأمن الثقافى للنظام الجديد، وفى الجزء الأول من الكتاب يحكى مؤلفه عن بداية اهتمامه الجاد بالسينما ومشاهدة الأفلام بعد مشاهدته لفيلم "الترتيب" بطولة كيرك دوجلاس وفاى دونا واى وإخراج ايليا كازان فى سينما راديو، ويتحدث عن الخلافات بين النقاد فى جمعية النقاد وخروج الناقد الكبير سامى السلامونى منها، كما يتحدث عن دعم وزارة الثقافة لجمعية جديدة منافسة تحمل اسم (جمعية كتاب ونقاد السينما) التى نظمت مهرجان القاهرة السينمائى، ويقدم ملحقا فى الكتاب يناقش فيه النقاد سلبيات الدورة الأولى التى أقيمت برعاية فندق شيراتون (!!) ويشير إلى كتاب أسود عن هذه الدورة كان من المقرر صدوره ، ويتحدث عن تجربة إصدار صحيفة سينمائية أسبوعية تحمل اسم(السينما والفنون) قام بدعمها وزير الثقافة عبد المنعم الصاوى، وصدر العدد الأول منها فى يناير 1977، ورأس تحريرها صاحب الفكرة الناقد سمير فريد، واشترك فى تحريرها أعضاء جمعية النقاد ، ولكنها توقفت بعد ثلاثة وثلاثين عدداً .
يحكى العمرى بحنين واضح عن أحلامه التى لم تتحقق فيما يسمى "السينما الثالثة" استلهاما ًلتجربة مماثلة فى أمريكا اللاتينية ، كما يسرد فشل محاولته العمل مع شباب آخرين ضمن جماعة "سينما الغد " التى أسسها الناقد الكبير مصطفى درويش . كل هذه التفصيلات- وإن قدمت وجهة نظر ذاتية تماما – تسهم فى رسم ملامح سنوات السبعينات الثرية والعاصفة معا . ولكن الكتاب حافل أيضا بالحديث عن شخصيات بعينها، عن رضوان الكاشف وشلة المنيل، عن يوسف شاهين والراحل عبد الفتاح الجمل، عن المخرج التونسى نورى بوزيد، عن المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى وعن المخرج السورى محمد ملص الذى أقام لفترة ليست قصيرة بالقاهرة ، وفى الجزء الثالث من الكتاب يحكى العمرى تجاربه فى لجان تحكيم مهرجانات مثل مهرجان أوبر هاوزن عام 1991 ، ومهرجان طهران عام 2002 ، وينقل يوميات نابضة بالحياة لمهرجان تطوان عام 2005 ، ومهرجان فينيسيا عام 2008 ، ومهرجان قرطاج عام 2008، ومن خلال سرد مركز ومشوق تعيش كواليس هذه التظاهرات السينمائية التى لاتخلو من الشد والجذب، ولعل أهم ما تستنتجه من هذا الجزء أن الإشتراك فى لجنة تحكيم تضم أشتاتا غير متوافقين يمكن أن يحول التجربة الى كابوس، ولعل أهم ما يصل إليك من الكتاب كله أن الحياة الثقافية والسينمائية دفعت ثمنا غاليا بسبب الإستقطاب السياسى الحاد فى سنوات السبعينات، كما أن العلاقات بين المثقفين لم تكن دوماً على ما يرام لأسباب أيدلوجية أوسياسية أو بسبب اختلاف الطبائع البشرية، كما يظهر بوضوح رفض صاحب الكتاب لكل المؤسسات البيروقراطية المصرية .
يمكن أن تختلف مع رؤية أمير العمرى الخاصة لتلك الأحداث أو الشخصيات، بل إن أهمية هذا الكتاب تكمن فى ضرورة أن يستفز فكرة الجدل والإختلاف والشهادة المعاكسة. مازالت تلك الفترة – سنوات السبعينات – لم تُكتب بعد على كل الأصعدة رغم أهميتها وتأثيرها فى حياتنا حتى اليوم ، وآمل أن نستكمل الصورة عن تلك السنوات بشهادات لأسماء كبيرة عن المناخ الثقافى والسينمائى، من هذه الأسماء مثلا: سمير فريد ومصطفى درويش ود. كامل القليوبى وهاشم النحاس، ومهما كانت زاوية الرؤية ومنهج التناول فالفائدة مُحققة .
هذا حق الأجيال التالية قبل أن يكون حق كل هؤلاء فى اجترار "نوستالجيا" أو حنين الى الماضى الذى صنع المستقبل!

السبت، 5 يونيو 2010

لعبة الصمت والتواطؤ فى التحفة التركية " القرود الثلاثة "


بقلم: محمود عبد الشكور

الأفلام الكبيرة تضع من يكتبون عنها فى مأزق كبير، فالمطلوب فى هذه الحالة أن تنقل الى القارئ إحساسك النادر بالسعادة والدهشة، والمطلوب أيضاً أن تقوم بدور المرشد السياحى الذى يقوم بإبراز الجمال الكامن فى مشهد عملاق وضخم يراه الناس ، وعليك – فى كل الأحوال – أن تبذل جهداً مضاعفاً مثلما بذل صناع الفيلم الكبير ، وأن تجتهد أكثر مثلما اجتهدوا . والفيلم التركى البديع ( القرود الثلاثة ) أو three monkeys للمخرج المتميز نورى بيلجى سيلان من هذه الأعمال الكبيرة الجديرة بدراسة طويلة وليس مجرد مقال ، فمن النادر فعلاً أن نشاهد فيلماً تنصهر فيه الحرفة والموهبة بهذه الطريقة الخلاّقة ، وقد اشتركت فرنسا وايطاليا أيضا فى انتاج هذا العمل الكبير .
المخرج المولود عام 1959 فى اسطنبول بتركيا، والذى درس الإلكترونيات فى جامعة البوسفور، يقدم فى فيلمه مستوى شديد النضج فى توظيف أدوات السينما لخدمة موضوعه ، أو بمعنى أدق الحالة التى وضع فيها أبطاله ، ولذلك لم يكن غريبا أن يفوز ( نورى بيلجى سيلان ) بجائزة أفضل إخراج فى مهرجان كان 2008 ، وأن ينافس الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى ، وأظن أنه كان يستحق الفوز بجوائز أخرى فى مهرجان ( كان )بسبب مستواه الرفيع فى كل العناصر تقريباً .
(القرود الثلاثة ) ليس الفليم الأول الذى أشاهده لهذا المخرج المختلف الذى قدم من قبل أفلاما قليلة مثل (ضباب مايو) و( مسافة)، فقد شاهدت له فيلما سابقا لا ينسى هو (أجواء) أو climates الذى أنتج فى عام 2006، وقد حصل هذا الفيلم الذى أخرجه وكتبه وقام ببطولته ( نورى بيلجى سيلان )على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان، و( أجواء) فليم يحمل الكثير من أسلوب نورىالذى سنجده أيضا فى ( القرود الثلاثة). ليست هناك حدوتة تقليدية لها بداية ووسط ونهاية ، ولكن مخرجنا مهموم طوال الوقت برسم ونقل حالة نفسية أو اجتماعية لبشر قلقين فى مواقف كتبت بعناية .هذه الحالات لاتنقل عن طريق الحوارات الطويلة ولكن من خلال امكانيات الصورة الثرية وتكويناتها المذهلة ، وعن طريق الإيقاع البطئ واللقطات الطويلة المستمرة التى تشعرك بضغط الزمن وسطوته على الشخصيات ، الممثلون أيضا هم محور كل شئ بقدراتهم على التعبير عن أعقد الإنفعالات والعواطف الداخلية، والبيئة المحيطة هى كذلك بطل آخر حاضر بقوة فى تعبيرها عما لايستطيع البشر التعبير عنه . نحن أمام سينما من نوع خاص من الصعب أن تحكى عنها ولكن عليك أن تشاهدها وتعيش تجربتها . ليست هناك حواديت تقليدية ولكن هناك شخصيات ومشاعر وأحاسيس انسانية مركبة . ( أجواء ) مثلا مجرد مشاهد متصلة طويلة تعبر عن أزمة شخصيات متقلبة محاصرة بأجواء الطبيعة الأكثر تقلباً : (عيسى) مهندس معمارى فى أواسط العمر يذهب مع صديقته ( بحر) الى منطقة أثرية قرب البحر ، إنه يبدو شديد الملل والضجر والإنزعاج ، وهى أيضا شديدة القلق والإضطراب ، حتى وسط الأصدقاء يخرج توتر( بحر) فى شكل ضحكات هيستيرية . يطلب منها (عيسى) الإنفصال ويعود الى اسطنبول فى فصل الصيف ، يودعها ويركب القطار .

فى الشتاء ، وحيث الأمطار تحاصر الشوارع ، نتعرف عى( عيسى) مع طلبته . يلتقى مع صديقه وزوجته (سراب )التى كانت عل علاقة به فى الماضى . يتبعها للمنزل ويقيم معها علاقة جسدية عنيفة أقرب للإغتصاب . يلتقى مع أمه وأبيه. الأم تنصحه بأن ينجب أطفالاً . يعرف من (سراب )ان (بحر )فى منطقة نائية لمتا بعة تصوير أحد البرامج . يتحول المشهد الى اللون الأبيض . الأمطار أصبحت جليدا يحيط بكل شئ . عيسى يطارد بحر محاولا العودة اليها .
يهديها صندوقا للموسيقى. فى سيارة التليفزيون تبكى بعنف . تسأله عما إذاكان التقى سراب فى اسطنبول . عندما ينفى تتركه وحيدا وهو يلتقط بعض الصور التذكارية وسط الثلوج . فى آخر مشاهد الفيلم نرى عيسى نائما وبحر بجواره ، فى اللقطة الأخيرة تذهب بحر الى المقابر وتبكى وحيدة .
هذا هو الإطار العام للمواقف ولا أقول للأحداث ، ولكن ما لايمكن وصفه هوالجو النفسى ومعاناة شخصيات ثلاث حائرة تبحث عن شئ مفقود ، الكل يبحث : عيسى وبحر وسراب . تستطيع القول ان عيسى حائر وممزق بين البحر والسراب . ربما يحلم أيضا أن يكون له طفل يؤنس وحدته وسط هذه الحياة الموحشة . مشكلته الأخطر أنه متقلب مثل الطقس ( وما سمى الإنسان إلا لنسيه .. وما سمى القلب إلا لأنه يتقلب ). هناك تناقض واضح جدا يقدمه الفيلم حول عيسى ، عقليته علمية وكل شئ محسوب بأقل هامش من التسامح وإلا انهارت المبانى التى يصممها ، ولكن حياته الخاصة أمر آخر حيث تحركه الغريزة والعاطفة الجياشة والمزاج العنيف مثلما شاهدنا فى علاقته مع سراب . حالة خاصة ولكنها أيضا عن الإنسان عموما فى تناقضاته الداخلية وفى صراعته التى لن يحسمها – فيما يبدو – إلا الموت. كل هذه المعانى يقدمها نورى بيلجى سيلان بأسلوب بصرى مذهل وبراعة فى توظيف عناصر المكان والطقس لخدمة موضوعه وشخوصه المعزولين تقريبا عن الآخرين ، الحر والبحر العاصف يعبران عن الثورة المكبوتة داخل عيسى وبحر . ثبات الكاميرا فى لقائهما مع الأصدقاء فى المطعم يترجم تجمد علاقة الإثنين الى درجة الركود . الطقس الحليدى يزيد الحالة كآبة وجعلها ثقيلة مثل جبل الجليد . النهاية نفسها مفتوحة لأن بحر التي عادت من جديد الى عيسى قدتختفى الى الأبد ، ربما تعود الى عيسى فيقترح عليها الإنفصال ، كل الأمور ممكنة مادام الإنسان يحاكى الطبيعة فى تقلبها ، ويحاول أن يفهم نفسه فلا يستطيع !


نفوس عارية
فيلم القرود الثلاثة يتناول أيضا بإيقاع بطئ متأمل رحلة فى نفوس ثلاثة أشخاص يكونون أسرة صغيرة متماسكة ظاهريا ولكنها ليست كذلك عندما تدخل الى التجربة . المواقف البسيطة والحدث الأكثر بساطة يتحول هنا الى تراجيديا انسانية عن خطورة الصمت والتنازل . الغريب أنه رغم أن الشخوص الثلاثة اتفقوا على تقليد القرود الثلاثة أصحاب الشعار الشهير لا أسمع .. لا أرى .. لا أتكلم ، ورغم أنهم اتفقوا على التواطؤ ضد الحقيقة ، إلا أنك تشعر بالتعاطف مع ضعفهم الإنسانى ، وقد نجح السيناريو الذى اشترك فى كتابته نورى بيلجى سيلان مع ايبرو سيلان وإركان كيسال فى تحقيق هذه الحالة الفريدة ، وفى صياغة هذه الرحلة الممتعة داخل نفوس بشرية جعلها الفيلم عارية ومكشوفة.
الأسرة التى تسللت الكاميرا الى منزلها مكونة من الأب واسمه أيوب، ويعمل سائقا عند رجل أعمال وسياسي معروف يدعى سىرفيت، وهناك الزوجة هاسر ، وهى امرأة فى منتصف العمر تعمل فى أحد المصانع ، والشخصية الثالثة هى الإبن اسماعيل . إنه شاب عاطل تعثر فى دراسته فرسب مرتين ، أما الحدث الصغير الذى سيعرى النفوس فهو قبول الأب السائق أن يدخل السجن بدلا من رجل الأعمال السياسى الذى ارتكب حادثا بسيارته أدى الى قتل أحد الأشخاص . رجل الأعمال سيقدم اغراءه الى الأب السائق أيوب فى صورة صفقة : التهمة ستكون القتل الخطأ وعقوبتها لن تزيد عن شهور تتراوح بين 9 شهور و12 شهرا .. وعند الخروج من السجن سيحصل السائق على مكافأة ضخمة. الفيلم يبدأ بحادثة سيارة رجل الأعمال المسرعةالتى تدخل الى عمق الكادر المظلم ، ولكن قبول أيوب للصفقة هو الذى سيفجر الصراع. لقد جاء قبوله سهلا ميسورا ، ظل سيرفيت مسيطرا ومتحدثا،وكان أيوب صامتا ومستعدا للتنازل مما سيجعل الآخرين مستعدين للتنازل بسرعة وبسهولة!
الحادث وقبول الصفقة هما المقدمة ، بعدها سينقسم بناء الفيلم الى ثلاثة أجزاء متداخلة تعمل على تأزيم الصراع وتعرية النفوس . الجزء الأول بطله الإبن اسماعيل ، والثانى بطلته الأم هاسر، والثالث بطله الأب أيوب بعد خروجه من السجن . لن يفعل اسماعيل شيئا بعد دخول والده الى السجن . ينام طوال اليوم فى المنزل فتلومه الأم . يقفز السور المقابل ، ويعبر شريط القطار لكى يذهب لزيارة والده فى السجن. فى مشهد آخر يقترح على أمه أن تذهب الى رجل الأعمال سيرفيت لكى تسحب جزءا من اموال المكافأة التى يفترض أن يحصل عليها الأب بعد قضاء فترة العقوبة . الإبن يريد المال لشراء سيارة أعجبته، والأم ترفض فى البداية خوفا من غضب الزوج عندما يعرف، ولكنها سرعان ماتوافق على زيارة سيرفيت.
فى مشهد هام كتب بعناية وذكاء يقابلها رجل الأعمال السياسى الذى رسب لتوه فى الإنتخابات . انه يبدو مشغولا بمكالمات خاصة يلعن بعدها السياسة . فجأة يرن تليفونها المحمول لنكتشف أن رنته أغنية عاطفية تقول كلماتها :" ليتك تحب انسانا ولا يحبك ". ستكشف هذه الكلمات للسياسى عن زوجة تعانى من الوحدة وتبحث عن الحب فى غياب زوجها المسجون . تطلب منه سحب مبلغ من المكافأة فيسألها بمكر عما إذا كان الزوج يعرف هذا الأمر ؟ عندما تخرج الى الشارع تنتظر أمام محطة الباص . يراها فيأخذها ف ىسيارته . يقدم نفسه اليها كإنسان له عواطف مرهفة . ينفتح الباب أمام علاقة ستغير كل شئ .
يعود اسماعيل يوما الى المزل بعد أن أخبر أمه أنه سيزور والده فى السجن ، وأخبرته هى أنها ستخرج فى مشوار ، فجأة يسمع صوتها مع رجل لا نراه ولكننا نشعر أنه سيرفيت. لن يقتحم عليهما المكان . سينتظر ويخرج ليعود . يسأل أمه لماذا لم تخرج ؟ لا يقتنع بإجابتها. يتشاجران فيصفعها فى أقسى مشاهد الفيلم فى حين تجلجل على شريط الصوت عبارات الأذان.
فى زيارات اسماعيل للأب أيوب يسأله الأب لماذا لم تحضر زوجته ؟ يرد الإبن ردا غامضا ولكنه سيؤكد أن كل شئ على ما يرام . فى مشهد آخر هام يحلم اسماعيل بأخيه الصغير المتوفى يدخل عليه ووجهه ملئ بالكدمات . لن نعرف الكثير عن الطفل الميت الذى سيزور الأب مقبرته بعد خروجه من السجن . سيظل الطفل والكدمات التى تغطى وجهه لغزا حتى النهاية : هل ضربه الأب مثلا حتى الموت وتواطأ الجميع على إخفاء الحقيقة ؟ فى كل الأحوال سيظل شبح الإبن يؤرق أيوب واسماعيل ، ويذكرهما بمأساة غامضة ، وربما بتواطؤ لا نعرف عنه شيئا . الطفل فى الحقيقة هو حصاد الصمت المر على المدى الطويل .
مع خروج الأب سيتصدر الأحداث . من الواضح أنه يشك فى هاسر زوجته . يثور عندما يعرف أن ابنه حصل على جزء من المكافأة ليشترى سيارة . سيعانى من القلق عندما يدق تليفون زوجته وهى تستحم . يمسك الجهاز فيسمع صوت رجل يتساءل بحدة : " لماذا كنت أمام منزلى ؟! انه بالتأكيد صوت سيرفيت معتقدا أن هاسر تسمعه . فى لقائهما الأول تحاول الزوجة أن تغرى أيوب ليستمتع بجسدها ، ولكنه يعاملها بقسوة . يحاول أن يحصل على اعترافهابوجود علاقة مع رجل . رغم ذلك لن ينسى أيوب أن يذهب الى سيرفيت للحصول على بقية المكافأة . يقول له السياسي ورجل الأعمال فى كلمات موجعة :" لا تشكرنى لأنى حصلت منك على ما يزيد عن النقود التى دفعتها " .


فى مشهد آخر قوى بأداء المشخصاتية الكبار ، تطارد ( هاسر) (سيرفيت) على شاطئ البحر . تركع تحت قدميه وتقول له :" اننى أحبك " بينما يبدو هو ثائرا وخائفا على سمعته. مع تغير زاوية الكاميرا تشعر أن شخصا ما يراقبهما . على صوت طرقات يستيقظ ايوب . الشرطة تقتحم المكان . يُستدعى هو وزوجته للتحقيق فى جريمة مقتل سيرفيت . يقول رجل الشرطة لأيوب ان زوجته كانت تتصل بالقاتل . فى المنزل يعترف اسماعيل لأمه أنه القاتل . يعود الأب منهارا . ينظر الى هاسرويتخيل أنها تلقى بنفسها من الشرفة . يخرج من المنزل يرافقه على شريط الصوت عبارات الأذان تتردد من مسجد قريب . يعود للمنزل ليجد هاسر تحاول الصعود الى سور الشرفة. يقول لها : " لا داعى للسخافة " . فى المشهد الأخير الطويل للفيلم نرى أيوب على سطح المنزل وحيدا ضئيلا . المنزل يظهر كاملا أسود اللون تحت سماء رمادية ملبّدة بالغيوم . يخترق الصمت صوت الرعد وصوت قطار سريع عابر . تهطل الأمطار لتغسل – ربما – النفوس العارية والخطايا المسكوت عنها .. وينتهى الفيلم البديع .

أن تخسر نفسك
نجح نورى بيلجى سيلان أن يقول كل شئ عن أبطاله الثلاثة : الأم المكبوتة والمحرومة ، والإبن الذي يشعر بالعار لأنه أحد اسبابه ، والأب الذى توهم أنه يستطيع ان يشترى اسرته اذا باع نفسه ثم اكتشف أن تنازله هو الذى جعل تنازل الآخرين أكثر سهولة. الغريب حقا أن فكرة الفيلم والإطار العام للأحداث بقيام السائق بعقد صفقة مع الرجل الثري ودخوله السجن بدلا منه أوبدلا من ابنه ثم انهيار اسرة الرجل نتيجة هذا التنازل ستجدها بشكل آخر فى ميلودراما متواضعة فى الفيلم التركى الذى انتج فى السبعينات من القرن العشرين وعنوانه (بابا) بطولة الممثل والمخرج التركى الكبير يلماظ جوناى، وعن هذا الفيلم اقتبسنا الفيلم المصرى( ومضى قطار العمر) للراحل فريد شوقى ، ولكن (القرود الثلاثة) حوّل البكائيات الساذجة الى فرصة نادرة لدراسة النفس البشرية وتعرية تناقضاتها . أيوب واسماعيل وهاسر يعيشون معا ولكن لكل منهما عاله الخاص وسره الدفين . كلهم التزموا الصمت والتآمر الذ ى قادهم الى المزيد من الصمت والتآمر. صمتوا فى البداية على مأساة الطفل الصغير الذى فقد حياته ربما بسبب عنف الأب، ثم صمتوا على صفقة الأب مع رجل الأعمال ، وصمت الأبن على علاقة امه مع سيرفيت، وصمت الأب على نفس العلاقة رغم شعوره القوى بوجودها، وهاهم يصمتون الآن لحماية اسماعيل رغم اعترافه للأم بارتكاب الجريمة . النهاية المفتوحة ترجح أن الصمت والتواطؤ سيستمر، ويلاحظ أن الصمت يلعب دورا لايقل أهمية عن الحوار القليل لدرجة تجعلك تتحدث عن شريط للصوت وآخر للصمت .
(القرود الثلاثة) هو أيضا فيلم مخرج بامتياز ليس فقط لأنه مشارك فى الكتابة ولكن لأن ملامح عالمه الذى شاهدناه فى (أجواء) تبدو واضحة هنا تماما : الفيلم دراسة نفسية واجتماعية والأحداث القليلة ليست سوى ادوات للكشف والتعرية . اللقطات الطويلة التأملية مع الأستغلال الرائع لمفردات المكان حيث المنزل الأسود المنعزل أمام شريط القطارات المزمجرة . صورة (جوكان تيريكاى) التى نقلت أجوء ضبابية تثير الوحشة . شريط الصوت والصمت الثرى الذى يمتزج فيه صوت القطار مع صوت الأذان ورنة تليفون هاسر بأغنيته الرومانسية . كل صوت تم توظيفة ليعبر عن تناقضات الأسرة والصراع العنيف بداخلها كشخصيات تراجيدية بامتياز . أما أداء ابطال الفيلم الرائعين فيستحق الدراسة الخاصة ويستحق تدريسه لطلاب معاهد التمثيل : يافوز بيجول فى دور الأب أيوب ، وهاتيس أصلان فى دورهاسر، و أحمد رفعت سونجار فى دور اسماعيل ،وإركان كيسال فى دور سيرفيت ، وهو من المشاركين فى كتابة السيناريو . لاأعرف بالضبط كيف لم يفز هؤلاء الكبار بجائزة التمثيل فى مهرجان كان ؟! كل واحد منهم امتزج بالشخصية التى لعبها رغم صعوبتها ، وكل واحد لديه مشاهد لاتنسي لا يقل الأداء فيها عن أكبر أساتذة التشخيص فى العام . لاتوجد مبالغات عاطفية من أى نوع رغم أن الأمر يغرى بذلك . كل شئ تحت سيطرة مخرج كبير حقا يعرف ما يريده بالضبط ، ولايرتضى بديلا عن أن تضع نفسك موضع شخصياته ، وأن تشعر مثلهم وتتعاطف وتحس وتفكر وتتأمل فى نفس الوقت !
ليس أمام أيوب سوى الصبر وإكمال لعبة التنازلات حتى النهاية . ليس عليه سوى أن يلوم نفسه لأنه هو الذى بدأ اللعبة لذلك اعتبر محاولة زوجته الإنتحار نوعا من السخف فى ظل تمسكه هو بالحياة . الفيلم الكبير يختبر الإنسان من جديد ، ويكشف لنا كم نحن ضعفاء . سؤال الفيلم الهام قديم وعابر للزمان والمكان : لماذا نبيع أشياء ثمينة مقابل أشاء رخيصة؟ ولماذا يختار الإنسان أحيانا أن يكسب الآخرين فى مقابل أن يخسر نفسه؟ انه سؤال السيد المسيح الذى لم نجد له إجابة من مئات السنين ، ويبدو أننا لن نجد إجابة السؤال الصعب حتى نهاية الحياة !

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger