الاثنين، 17 مايو 2010

يوميات كان 5: الولع بالدماء على الطريقة اليابانية!


منذ أن بدأ الممثل الياباني تاكيشي كيتانو إخراج الأفلام في أواخر الثمانينيات، وأنا أتابعه بقدر ما أستطيع، وفي معظم الأحيان، بقدر ما أطيق، فأفلامه تمتليء بالكثير من العنف والدماء وتمزيق الأوصال وغير ذلك من المشاهد البشعة التي تقشعر لها الأبدان.
وقد أخرج كيتانو حتى الآن 16 فيلما، منها أفلام تركز على عالم الياكوزا، أي المافيا اليابانية، وصراعاتها مع غيرها من عصابات الجريمة المنظمة. ويقوم كيتانو نفسه عاد، بدور البطولة في مثل هذا الأفلام، ويحاول أن يصنع لنفسه شخصية مميزة، للبطل البارد، قليل الكلام، الذي تبدو في عينيه بعض البراءة الطفولية، إلا أنها نظرات تخفي ميلا ساديا للعنف.
ورغم كل ما يكمن من عبثية في أفلام تاكيشي كيتانو، أقصد عبثية، ليس بالمعنى الفلسفي، بل بمعنى أنها لا تقول شيئا، ولا تخفي أشياء وراء تلك الصورة التي يقدمها لعالم الياكوزا، مما يمكن أن تعكس لنا "فلسفة" خاصة، أو رؤية ما للعالم، كما كانت حالة مخرج مثل سام بكنباه مثلا في السينما الأمريكية، بل إن العنف عند كيتانو، هو عنف مجاني، يجعل منه شيئا شديد الصدمة للعين، حتى المدربة منها، كما يجعله في الوقت نفسه، "كرتونيا" أي مبالغا فيه للغاية، بحيث يصبح عند التلقي "غير واقعي" بل ويثير ضحكات السعادة والمتعة عند معظم مشاهدي أفلامه. ويجب أن نعلم أن له عشاقا كثيرين عبر العالم، بل ومن بين نقاد السينما المتخصصين والصحافة السينمائية، في المهرجانات السينمائية التي ترحب بعرض أفلامه بل وعرضها أيضا داخل مسابقتها الرئيسية التي يتبارى فيها عادة عدد محدود من بين أفلام العالم، للحصول على جائزة أو أخرى، وإن لم يكن، فلعل المشاركة في المسابقة، كما في حالة مهرجان كان مثلا، تعد شرفا في حد ذاتها للفيلم المشارك، الذي يكون قد وقع الاختيار عليه من بين مئات الأفلام التي تقدمت.
وهنا تحديدا تكمن مشكلة مهرجان كان، الذي أتى بالفيلم الأحدث لتاكيشي كيتانو، وهو فيلم "غضب" Outrage لعرضه داخل مسابقة كانت أصلا تعاني من قلة توفر الأفلام التي تصلح للتسابق، ولكي تكون واجهة مميزة لسينما العالم في 2010، خصوصا وأن المهرجان كافح لكي يصل بعدد أفلام المسابقة في النهاية إلى 19 فيلما، وهو عدد قليل مقارنة مع السنوات العشر الأخيرة مثلا.
وقد شاهدنا الفيلم، وجاء كما هو متوقع، كعمل يلهو بالعنف، ويتفنن مخرجه (الذي بدا أصلا كممثل، شارك في 47 فيلما حتى الآن، وكان قد لفت أنظارنا بقوة في "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" للمخرج الكبير ناجيزا أوشيما عام 1982).

أما هنا فكيتانو الذي يقوم ببطولة فيلمه كالعادة، يبتكر فقط في تصوير مشاهد التنكيل بخصومه، من مشاهد قطع الأصابع التي تتناثر في صحن من صحون حساء الخضراوات الذي يقدمه الخادم في المطعم إلى الزبون الذي طلبه، إلى شق فم أحد الخصوم بشفرة حادة مما يؤدي إلى النزيف الشديد، إلى تصويب المسدسات فوق الرأس مباشرة ثم تفجيرها، إلى ربط رجل بحبل بينما هو داخل سيارة ثم تحريك اسيارة بحيث يشنق، إلى القتل الجماعي لعشرات الأشخاص بالرصاص، إلى استخدام منشار كهربائي لنشر جمجمة رجل حي، وغير ذلك الكثير جدا من المشاهد التي لا تكافي أبدا بالإيحاء، بل تصور التفاصيل الدقيقة لعمليات القتل والإعدام الجماعي وما بعدها أيضا، أي ترك على الدماء والإصابات التي ألمت بالأجساد، كما لو كانت تريد أن تجعل من العنف، سيمفونية خاصة للمتعة، أي أن تحوله إلى شيء تألفه العين البشري بل ويمكن أيضا أن يصبح أداة للاستمتاع الخاص.
والغريب الذي أدهشني كثيرا، أن القاعة التي عرض بها الفيلم امتلأت عن آخرها بالصحفيين، الذين اصطفوا في صف طويل ممتد قبل عرض الفيلم بنحو 45 دقيقة، وهو أولا من أطول الصفوف التي وقف فيها في كان حتى الآن على أي فيلم.
ثانيا: أدهشني أن عددا قليلا جدا، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة (هذا إذا لم تكن قد قطعت في خضم تيار العنف الدموي في الفيلم!) قد غادر القاعة أثناء عرض الفيلم، في حين أن عشرات الصحفيين أحيانا ما يغادرون أثناء عرض أفلام أقل من هذا الفيلم كثيرا في مجانيتها واستخفافها بالعقول. أخيرا، مما يثير فضولي بشدة وأنا أشاهد أفلام تاكيشي كيتانو، تلك المتعة الشديدة التي تسيطر على المشاهدين، حتى من النقاد والصحفيين، وهي متعة تجعلهم يضحكون بسعادة بالغة في مشاهد العنف والإغراق في سفك الدماء، ولا أعرف ما إذا كان هؤا الضحك لأنهم يعتبرون ما يشاهدونه نوعا من الكوميديا (وهو ما لا أجده كذلك أبدا!) أم أنهم يحاولون إخفاء مشاعرهم الحقيقي عن طريق الضحك..
أيا كان الأمر، أعتقد أن هذه الجوانب كلها تعكس بلوغ ظاهرة "تاكيشي كيتانو" في الغرب، حدا مرعبا بالفعل!
يحضرني في هذا المجال قول معروف لمنتج انجليزي لأفلام دراكولا.. مصاص الدماء في الماضي. هذا القول يتلخص في أنهم في شركته، كانوا عادة يصنعون ثلاث نسخ من أفلام دراكولا. النسخة الموجهة للجمهور البريطاني كان يكفي فيها أن يضع البطل الخنجر على صدر دراكولا النائم في تابوته، ثم يرفع المطرقة تأهب لأن يطرق فوق الخنجر للقضاء على الوحش الأسطوري قضاء مبرما.
وفي النسخة الثانية الموجهة للجمهور الأمريكي، كان يجب أن نرى البطل وهو يهوي بالمطرقة فوق الخنجر.
أما في النسخة الثالثة الموجهة للجمهور الياباني، فكان يجب أن تتفجر الدماء في بحر هائل بحيث تغرق الشاشة تماما!

الأحد، 16 مايو 2010

يوميات كان 4: وودي ألين ومايك لي.. عوامل مشتركة

أنطوني هوبكنز مع نعومي واطس في كان


المخرج الأمريكي الكبير وودي ألين يحضر الدورة الـ63 من مهرجان كان في إحدى تلك المرات النادرة بعد أن ظل سنوات طويلة يعتذر بل ويمتنع تماما عن حضور المهرجانات الدولية وخصوصا حفل الأوسكار.
هنا، وودي حاضر بفيلمه الجديد "ستقابلين رجلا غريبا طويلا أسمر". في الفيلم عدد من كبار الممثلين والمشاهير مثل نعومي واطس وأنطوني هوبكنز وأنتونيو بانديراس وجوش برولين وجيما جونز وفريدا بنتو (بطلة "مليونير العشوائيات") لكن وودي ألين لا يمثل في فيلمه بل ولا يظهر حى فيه ولو في مشهد واحد كما يفعل كثير من المخرجين الآن، أحدثهم أوليفر ستون.
الفيلم الجديد يتناول من خلال التركيز على مفارقات العلاقة بين الرجال والنساء، وبين الشباب وكبار السن، وهو يعكس بوضوح الأزمة التي تشغل تفكير ألين منذ أن بدأ يصنع الأفلام، أي العلاقة مع المرأة خصوصا، وكيف يمكن أن يصل المرء إلى لحظة التحقق، وهل هناك وقت ينبغي أن يتوقف فيه المرء عن الطموح إلى اللذة، بدعوى أنه صار طاعنا في السن، وهل يمكن أن يبدأ حياة جديدة في سن متأخرة، وأن يحصل على السعادة، أم أن الأمر بأكمله ليس سوى وهم كبير؟
تدور أحداث الفيلم كلها في لندن، والشخصيات في معظمها إنجليزية، ويستغل ألين الكثير من المعالم المميزة لمدينة لندن، كخلفية لأحداث أو مواقف الفيلم.
ويطرح وودي ألين موضوعه، من خلال تداخل الثنائيات التي تقع إما في خيانات متبادلة، أو في مشاكل الانفصال رغبة في البحث عن حياة جديدة ربما تكون موجودة حتى على مستوى ما وراء الطبيعة. ومن خلال هذه الثنائيات المتداخلة والمفارقات العبثية التي تنتج، يجسد الفيلم صعوبة أو ربما، استحالة الوصول إلى لحظة التجلي مع ذلك الشريك "الآخر" المكتمل، بل إن تلك الرغبة العارمة في التحقق يمكن أن تدفع صاحبها أيضا إلى التورط في السرقة والانتحال والكذب، وقد يخسر الشريك القديم والشريك المحتمل، ويخسر نفسه أيضا!
لم أجد جديدا فيما يقدمه وودي ألين في فيلمه الجديد، ولا حتى على صعيد اللغة والشكل السينمائي، بل ووجدته أيضا مغرقا في اعتماده على المشاهد المسرحية التي تدور داخل ديكورات مغلقة معظم الوقت، كما تعتمد على الحوار، الذي لاشك أن ألين يجيد كتابته وصياغته بحيث يوحي بالتلقائية، كما أنه أستاذ كبير في تحريك الممثلين والتحكم في أدائهم، بحيث يجعل الفيلم يبدو كما لو كان حالة ممتدة من "العصاب" الجماعي الذي حل بالشخصيات جميعها، شبابا وكهولا، فالكل يتشارك ويشترك مع وودي ألين في الإحساس بعدم الأمان، بالقلق، بالتوتر الناتج عن العجز عن تحقيق الذات، رغم كل هذا السعي الدائم إلى تحقيقها ولو بالكذب والخيانة.
لكني اسمتعت بلاشك بالأداء التمثيلي الممتاز من فريق الفيلم كله، وإن كان التكرار يصبح السمة الغالبة بعد مرور نحو ساعة من زمن الفيلم، وما بقى لا يضيف سوى المزيد من التأكيد على الفكرة نفسها.

"عام آخر"
حالة العصاب هذه neurosis التي تصيب عادة النساء أكثر من الرجال بعد عبور حاجز منتصف العمر، تتبدى أوضح ما يكون، في فيلم "عام آخر" Another Year للمخرج البريطاني مايك لي، صاحب الحظ السعيد عادة في مهرجان كان والحاصل على السعفة الذهبية من قبل عن "أسرار وأكاذيب"Secrets and Lies (1996).

هنا أيضا، من وسط الطبقة الوسطى الانجليزية، يلتقط مايك لي شخصيات عدة، تجسد هواجس النجاح والفشل، النجاح الذي يخلق علاقة طبيعية صحية بين جيل الآباء وجيل الأبناء، والفشل الذي يجعل هذه العلاقة يشوبها التوتر وانعدام الثقة بل وقدر من العداء أيضا.
من ناحية هناك الطبيبة النفسية "جيري" المتزوجة من المهندس "توم" (الإسمان لا مغزى خاص لهما في السياق!) والإثنان يعيشان معا في منزلهما، يرعيان حديقة المنزل، ويطهيان أصناف الطعام الشهي، ويستضيفان ابنهما الناجح في عمله "جو" الذي يرغب في الارتباط بأخصائية التأهيل الصحي "كاتي"، كما يرحبان دائما باستضافة "ماري" صديقة جيري التي تعمل معها.
ولكن هناك من ناحية أخرى، "كن" صديق توم الذي أوشك على الستين من عمره أو تجاوزها، لكنه يعيش حياة بائسة، يعاني من الوحدة، يدمن على الشراب لعله يجد فيه سلوى لنفسه الممزقة العاجزة. و"كن" هو التوأم الروحي في الفيلم لبطلتنا الأساسية "ماري" التي هي محور هذه الدراما العائلية المشبعة بالكثير من المفارقات الكوميدية أيضا (تماما مثل فيلم وودي ألين، بل هناك الكثير من أوجه التشابه بين الفيلمين). وماري التي تجاوزت الخمسين، مع مسحة جمال زائل، لاتزال تطمع في الحصول على رجل مناسب، ربما يكون شابا يصغرها في العمر، بعد أن فشلت في زواجها مرتين. وهي لا تكف عن الشكوى والتذمز، وتمني النفس بأنها إذا اشترت سيارة فربما تتمكن من تحقيق الذات، لكنها تشتري السيارة لكي تجدها قد أصبحت عبئا عليها، فالمشكلة كما يتضح ليست في السيارة، ولا في اقتناء بيت بدلا من شقة مستأجرة تقيم فيها بمفردها، ولا في العمل فلديها وظيفة في سكرتارية المركز الطبي الذي تعمل به جيري. ولكن أزمتها الحقيقية تنبع من شعورها بالوحدة، ولذا فهي لا تستطيع سوى التردد بصفة دائمة على منزل توم وجيري، تستدفيء بهما، وفي الوقت نفسه، تنظر بنوع من الغيرة والحسد الخفي، إلى حياة الهدوء والصفاء والحب التي يعيشها الزوجان معا. تحاول ماري جاهدة إغواء الإبن الشاب "جو" لكنه يفاجئها عندما يحضر معه خطيبته "كاتي" ويقدمها لها، وهي ترفض "كن" الذي يحاول التودد إليها وتعتبره ربما، أكبر سنا من أن تقبل به، لكنها تنتهي وهي تسعى للتودد لشقيق توم الأرمل المسن الذي فقد زوجته حديثا.
من خلال هذه العلاقات والمواقف التي لا تنتهي أبدا نهاية درامية مغلقة، تماما كما يفعل وودي ألين الذي يبقي نهاية فيلمه أيضا مفتوحة، تنشأ المواقف الإنسانية التي تجعل المتفرج يشعر بالتعاطف مع كل تلك الشخصيات، المتحقق منها، والمعذب، الحائر.

ويقسم مايك لي فيلمه إلى فصول السنة: الربيع والصيف والخريف والشتاء، ولكن دون دلالة خاصة مباشرة تربط بين فصول السنة وبين شخصيات الفيلم، فكما أشرت، نهاية الفيلم تظل مفتوحة، دلالة على استمرار الحياة، والصراع الداخلي مع انفس، وتراكم الهموم، وتوديع أحباء، والاحتفال بأحباء جدد، وهكذا. وربما يكون للعنون مغزى خاص في حياة مايك لي نفسه، ومسيرته الفنية بعد أن بلغ الثامنة والستين من عمره.
إن رؤية مايك لي هنا، هي رؤية أصيلة تميز كل أفلامه التي تقدم لنا بواقعيتها الصارمة، دقائق وتفاصيل الحياة الداخلية في الأسرة الانجليزية، بكل تناقضاتها وعذاباتها ومشاعرها المعلنة والخفية، يريد أن يؤكد هنا، على نغمة أساسية، هي أن التحقق يكمن أساسا في قيمة ما يفعله المرء للآخر، ما يقدمه من مساعدة ومساهمة في المجتمع وما يضيفه من عطاء للعالم. ولذا فإنه يجعل من شخصية الطبيبة النفسية، التي هي الأقدر بحكم خبرتها الخاصة، على فهم لحظات الضعف الإنساني عند "ماري"، هي أيضا الأكثر قدرة أيضا على مد يد العون والمساعدة، دون أن يعني هذا أنها تخلي الفرد من مسؤوليته، بل نراها أيضا تنهر ماري أحيانا، وتطالبها بضرورة مواجهة نفسها والكف عن الهرب عن طريق الخمر، والعيش في أوهامها الشخصية. لكن هذا يتم برقة ولطف ويضفي على الفيلم جمالا خاصا.
لاشيء يحدث في هذا الفيلم عمليا، أي أننا لسنا أمام مواقف وصراعات وتداخل أزمنة أو انتقالات في التاريخ والزمن، بل نحن طيلة الوقت، في الزمن المضارع الحالي، نعيش مع شخصيات من الحياة اليومية، ونراقب كيف تتكلم وتتصرف وتمارس حياتها، تستقبل الضيوف، تشارك في العزاء، تتساند مع بعضها البعض، تتناول الطعام وتثرثر أحيانا أيضا، فيما لا معنى له. وهذا هو النسيج الأساسي الذي يميز عادة أفلام مايك لي. نسيج الواقع المباشر البسيط، وهنا تكمن عظمته.
ومثله مثل وودي ألين، يعتمد أيضا وبدرجة أساسية، على بناء المشهد: الميزانسين، وتحريك الممثلين في الفضاء أو الديكور المحدد، والتعبير بالوجه واليدين ولغة الجسد والعينين، كما يعتمد على الكاميرا الثابتة في معظم الأحوال، والموسيقى الكلاسيكية الحديثة التي لا تطغى في أي وقت على المشهد نفسه وتقحم نفسها عليه، وعلى الحوار الذي يصل إلى أرقى درجات التلقائية، ويعكس الكثير من البراعة والذكاء والخبرة بالبشر.
وأخيرا، على مسؤوليتي الشخصية، أرشح الممثلة العظيمة ليزلي مانفيل لجائزة أحسن ممثلة، سواء هنا في كان، أم في الأوسكار العام القادم. إنها طاقة تمتليء بالحيوية والقدرة على استخدام نغمات صوتها المختلفة، وطريقتها الخاصة في الحديث ونطق الألفاظ، كما تستخدم التعبير بوجهها وتصمد في لقطات الكلوز أب (القريبة)، وتبدو شديدة التلقائية وهي تتحرك في مشاهد طويلة، تتدفق بالحوار الذي يبدو أحيانا كما لو كان أشبه بمونولوج طويل. ولاشك أن خبرتها المسرحية، وخبرتها الخاصة في العمل طويلا من 1980، مع مايك لي، ساعداها على التألق في هذا الفيلم. إنه بلاشك، فيلمها، كما كان "أسرار وأكاذيب" فيلم الممثلة بريندا بليثين. ومن الممكن جدا أيضا أن يحصل الفيلم نفسه على إحدى الجوائز الرئيسية في كان. من يدري!

السبت، 15 مايو 2010

يوميات كان 3: وول ستريت.. المال لا ينام.. وكذلك لا أحد في كان!

سكورسيزي وسط الحسناوتين (ياله من رجل محظوظ!)
من فيلم "وول ستريت: المال لا ينام"

فيلم اليوم الثالث من المهرجان هو بلاشك الفيلم المنتظر، أو الذي كان منتظرا، "وول ستريت: المال لا ينام" لأوليفر ستون المعروف بأفلامه السياسية المثيرة للجدل.
لكن ربما يتعين علي القول إن ما كان منتظرا لم يرتفع أبدا إلى مستوى التوقعات.
نعم هناك محاولة مخلصة بلاشك، لتقديم عمل سينمائي جديد ينطلق من الفيلم القديم للمخرج نفسه "وول ستريت" (1987)، ولكن يقفز إلى 2008، عام الكارثة الاقتصادية التي لا تزال قائمة، ويبحث كيف كان ممكنا أن يحدث ما حدث فعلا.
غير أن المشكلة أن كل ما يقوله ستون في هذا الفيلم، نعرفه جميعا سلفا، بل ونحفظه عن ظهر قلب. إنه مثلا يروي ويشرح ويفسر ويحذر مما حدث على لسان العديد من الشخصيات التي تظهر، ومنها الكثير الذي يشبه أو يحاكي شخصيات حقيقية كلنا نعرفها، مثل رئيس بنك ليمان الذي كان انهياره، ورفض البنوك الأمريكي انقاذه من عثرته غير مدركين أن انهياره يعني انهيارهم، هو أصل وأساس الكارثة الاقتصادية التي حلت. رئيس ليمان في الفيلم يتعرض لمحاولة التهام شركته بأبخس الأسعار للسهم الواحد، ويتم التلاعب به وبتاريخه المهني لدرجة مهينة مما يدفعه إلى الانتحار عن طريق القاء نفسه أمام قطار مسرع من قطارات أنفاق نيويورك.
ولعل اللجوء دراميا إلى حيلة استخدام نفس شخصية مايكل دوجلاس في الفيلم القديم حول نفس الموضوع، وجعله يخرج من السجن بعد قضاء سنوات العقوبة الطويلة، لم تكن حيلة موفقة دراميا بل بدت دخيلة، وبدت المشاهد العديدة التي صيغت عمدا لأجل عيون دوجلاس (الذي بلغ حاليا 65 عاما) خاوية، وتكرارا لنفس شخصيته التي يتضح بالطبع أنها شخصية غير قابلة للتوبة، فالقول الشهير له في الفيلم السابق "الجشع جيد" يصبح هنا الآن "الجشع عاهرة" أي أمر مغو لا يسهل الإقلاع عنه.
مايكل دوجلاس أمام قصر المهرجان

وتبدو الحبكة الأساسية التي حولت الفيلم إلى ميلودراما عائلية أيضا غير محبوكة جيدا أو مفتعلة ومليئة بالمبالغات، وتتمحور كالعادة في مثل هذه الميلودرامات، بين الخير والشر.
فدوجلاس (مستر جوردون جيكو) له ابنة هي "ويني"، التي تمردت على أبيها من زمان، وقطعت علاقتها به لاعتقادها أنه السبب في انتحار شقيقها، وتحطيم قلب أمها بسبب جشعه إلى المال والحصول على المال بأي ثمن.
وترتبط ويني بعلاقة غرامية بشاب من الصاعدين الجدد في بورصة وول ستريت، وهو ربيب رئيس الشركة المنتحر بعد إفلاس شركته، وهو يسعى للانتقام من الرجل الذي كان السبب في انتحار والده الروحي، يحاول أن يلعب أمامه رمز الخير، والباحث عن الصعود ولكن في إطار التمسك بالقيم، بينما يسعى جيكو مجددا للحصول على الثروة ولو عن طريق استرداد المائة مليون دولار التي بلغها رصيد ابنته الذي أودعه منذ فترة طويلة في بنك سويسري، كتأمين لمستقبلها بعد أن تبلغ السن القانوني. لكنه أيضا يبحث عن الحب وعن الغفران، ويوازن بين الجشع والحب، وبين الإخلاص للغريزة، والتمسك بالأبوة. وفي مشهد مبالغ فيه كثيرا يعطيه الشاب الراغب في الزواج من ابنته اسطوانة مدمجة يشاهد عليها جنينا يتحرك في بطن ابنته هو حفيده القادم، طالبا منه التنازل عن المال لابنته، أي عمل صفقة يبيع له من خلالها ما يقول إنه "المستقبل". لكن الرجل العتيد يرفض قبول العرض. ومع ذلك يعود في نهاية الفيلم لكي يغلب مشاعر الأبوة على طمعه في استعادة مكانته وسط غابة الوحوش في وول ستريت. وبهذا يختتم ستون فيلمه الذي تتميز فيه الكثير من المشاهد من حيث الحركة والإخراج ودقة التصميم وإدارة الممثلين ومحاكاة الاجتماعات الفعلية التي دارت بين أهل المال والمسؤولين في الحكومة لمحاولة احتواء الأزمة، وكذلك مشاهد البذخ والحفلات التي تقام واستعراض المباني والمكاتب القائمة في وول ستريت، والديكورات الفاخرة المغوية للشقة التي يقيم فيها جيكو، ومحاولة الخروج من المكاتب في أوقات كثيرة، إلى الطبيعة، واختيار مواقع خلابة تكسر من وطأة الحوار الذي لا يتوقف في الفيلم.

ستون ودوجلاس مع أحد أبطال فيلمه


يقول ستون في المؤتمر الصحفي إنه لم يكن يدرك أن الكثير من الشباب المتطلع للعمل في سوق المال كانوا قد أعجبوا بشخصية جيكو في الفيلم السابق، وهو ما حدث بالفعل، وأخشى أنه سيحدث أيضا هنا، بسبب الهالة التي تحاط بـ شخصية مايكل دوجلاس في الفيلم، وتصوير نمط حياته بحيث لا يمكن أن تؤدي إلا إلى زيادة الإقبال على التورط في "الجشع" بدلا من تنفير المشاهدين منه، وهنا يكون الفيلم قد فشل حتى في توصيل رسالته الأخلاقية البسيطة المباشرة!
أداء دوجلاس واثق، مدرب، متمكن، يلبس الدور جيدا ويتلبسه الدور، لأنه أيضا كتب خصيصا له. أما الممثلة الانجليزية الشابة كاري موليجان التي تألقت في فيلم "التعليم" Education ورشحت للأوسكار عن دورها فيه، فقد فرضوا عليها التحدث باللكنة الأمريكية البشعة، وهو ما جعلها لا تشعر بالراحة بعد أن خرجت أيضا من بيئتها الطبيعية، بل وبدت ملامح وجهها وقد شاخت قبل الأوان!
ويظهر شارلي شين كضيف شرف في مشهد واحد من الفيلم يدور في حفل، كما يظهر المخرج أوليفر ستون حوالي ثلاث مرات كباحث عن الحقيقة عبر الانترنت، ومتلصص على عالم وول ستريت.

الجمعة، 14 مايو 2010

يوميات كان 2: مشاركة قوية من الصين وكوريا الجنوبية



كتابة اليوميات تختلف بطبيعة الحال عن كتابة النقد السينمائي، فنحن هنا نتوقف أمام الأفلام من خلال الانطباعات الأولية بعد المشاهدة وليس بالضرورة من خلال تحليل عناصر الفيلم السينمائي، دون أن يعني هذا أننا لن نعود فيما بعد، للتوقف تفصيلا أمام عدد من الأفلام سواء خلال جولتنا الممتدة إثني عشر يوما هنا حتى نهاية المهرجان، أو بعد انتهاء الحدث نفسه حينما ستكون هناك مساحة جيدة للتفكير والتأمل، والتنفس أيضا.
بدأ يومنا الثاني في كان بالفيلم الصيني المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة وهو بعنوان "شونج كينج بلوز" Chongquing Blues للمخرج وونج تشياوشواي، وهو فيلمه العاشر. وفيه يتناول واقع الصين الحديثة اليوم، بعد الطفرة الصناعية والاقتصادية التي حققتها، مع مزيد من اغتراب الإنسان عن واقعه، وبالأخص أيضا، انفصاله عن ماضيه. ويعبر المخرج عن موضوعه الذي يقوم على أحداث وشخصيات حقيقية، من خلال قصة أب منفصل منذ فترة طويلة عن زوجته التي تزوجت بعد مرتين، يعود إلى البلدة التي هجرها ويه تشونج كينج التي تتميز بأجوائها الضبابية ونهرها العريض الممتد، لكي يبحث كيف قتل ابنه في ظروف غامضة. ويبحث الأب العائد عن الحقيقة طارقا كل الأبواب الممكن، باب الزوجة السابقة، ثم أصدقاء الإبن القتيل وزملائه، وحبيبته الشابة، وضابط الشرطة المسؤول عن قتل الإبن في ظروف قيام الأخير باحتجاز رهينة والتهديد بقتلها داخل سوبرماركت، ولكن هذا الموضوع البسيط الموحي يتحول على يدي هذا المخرج الواثق من أدواته، إلى عمل فيه من الإبداع والابتكار بقدر ما فيه من جمال حزين. فالمخرج يعمد طيلة الفيلم، إلى خلق صلة مباشرة بين البطل الفرد الذي فقد ماضيه أو خرج منه منذ فترة ولجأ للعمل في البحر، أي خارج اليابسة معظم الوقت، والآن أصبح يتعين عليه أن يحاول استعادة الماضي ولملمة أطرافه من خلال تجميع أشلاء قصة الإبن القتيل، الذي تعبر قصته أيضا، عن انفصال الجيل الشاب في اصين الحديثة عما يجري في المجتمع، وانعزاله عن جيل الآباء، ورغبته في الانغلاق على الذات.
وتبقى المدينة بمبانيها الشامخة المكدسة، وجسورها المعلقة، وخطوط التليفريك حيث ينتقل الاب طوال الفيلم، من مكان إلى آخر، يبحث وينقب ويجري المحاورات التفصيلية الدقيقة مع كل ما يلقاهم من الشهود، فيما هو يبحث في الأساس، عن نفسه المفقودة، وعن زمنه الضائع. عما بديع، بإيقاعه البطيء الخاص، وموسيقاه المعبرة، وصوره الأخاذة للمدينة التي يغلفها الضباب، وتصطبغ باللون الأزرق الخفيف الذي يضفي عليها مسحة من الحزن، والكاميرا المهتزة التي تعكس اهتزاز الواقع، وذلك الانفصال القائم بين الأجيال، بعد أن انفصلت الأحلام عن الواقع تماما بل وسحقت تحت وطأته.
أما فيلم "دراكيلا: إيطاليا تهتز" الذي يسخر من رئيس الحكومة الإيطالية سيلفيو بيرلسكوني والذي أثار ضجة قبل عرضه في المهرجان، فهو نموذج ممتاز للفيلم الوثائقي العصري، ويستحق بالتالي وقفة خاصة فيما بعد.
ولاشك أيضا أن فيلم "الخادمة" من كوريا الجنوبية يستحق وقفة أخرى تفصيلية نظرا لما يتمتع به هذا العمل، من زاوية مبتكرة في معالجة موضوع كان دائما يقدم من خلال الأسلوب الميلودرامي، وكيف ينجح مخرجه من الارتقاء بموضوعه ليجعل منه عملا شاعريا يفيض بالتأملات في العلاقة بين السادة والخدم، وبين المرأة والرجل في مجتمع ذكوري، وبين الخدم والخدم في داخل مجتمعهم الخاص، وبين الذات والآخر أيضا.

وقد أتيحت لنا اليوم أيضا فرصة ذهبية لمشاهدة المخرج البرتغالي الأسطوري مانويل دي أوليفيرا الذي يبلغ من العمر 102 سنة، وهو يصعد على منصة المسرح في افتتاح قسم "نظرة خاصة" لكي يقدم لنا فيلما جديدا هو فيلم الافتتاح لهذا القسم البالغ الأهمية. وقد أخذ الحشد الكبير الحاضر من النقاد والصحفيين، في التصفيق والترحيب بالمخرج الكبير، لمدة عشر دقائق كاملة. والغريب أن أوليفيرا لايزال يتمتع بالتماسك الذهني والقوة البدنية مما يجعله يمتلك السيطرة الكاملة على أفلامه التي يخرجها بانتظام، ودون توقف منذ عام 1990، بمعدل يصل أحيانا إلى 3 أفلام سنويا، علما بأنه بدأ الإخراج عام 1931 وأخرج حتى الآن 49 فيلما.
أما فيلمه "حالة أنجليكا الغامضة" ففيه يعالج بأسلوبه المميز الذي يقترب من التجريد، والتخلص من المشاعر الجارفة، والتعليق الاجتماعي، موضوع الموت، وكيف يمكن أن يكون خلاصا من الحياة الأرضية الضيقة، وتحقيقا لشيء أسمى وأجمل، يتمثل في الحب المطلق، الحب الأبدي. وطبيعي أن ينشغل مخرج في عمر أوليفيرا بموضوع الموت، الذي يقدمه ببراعته ودقته المعهودتين دون أن تفلت منه لقطة واحدة أو ينحرف عن الطريق ولو لثانية واحدة، ولا أفهم أبدا كيف يمكن أن يضع المسؤولون عن اختيار الأفلام مبرمجتها فيلما مثل هذا لمخر ج بمستوى وتاريخ أوليفيرا، في قسم تتسابق فيه الأفلام على جوائز موازية للجوائز الرئيسية تمنحها لجنة تحكيم مستقلة. لقد كان حري بأوليفيرا أن يرفض المشاركة في اي مسابقة، وكذلك الأمر بالنسبة للمخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار.
غدا صباحا (الجمعة) سنشاهد العرض الصحفي لفيلم "وول ستريت: المال لا ينام" للمخرج المثير للجدل أوليفر ستون، وهو معروض خارج المسابقة. لننتظر ونرى.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger