الاثنين، 26 أبريل 2010

عن النائمين فى الأفلام!

((تعرفت على الناقد والصحفي الأستاذ محمود عبد الشكور عندما كنت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين، وكنت أقدم وأناقش مجموعة من الأفلام الوثائقية البارزة في تاريخ السينما ضمن حلقة خاصة نظمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في ربيع 2002. وقد لفت نظري ذلك الشاب الذي كان يقف بين الحين والآخر، ليبدي رأيه في الأفلام بحصافة شديدة ومعرفة ودراية بتاريخ السينما وأدبياتها. ولم يكن كثيرون من أعضاء جمعية النقاد يعرفون من هو، وأين يكتب. وبعد أن تعرفت عليه دعوته للكتابة في المجلة المتواضعة الشهرية التي كنا نصدرها وقتذاك عن الجمعية باسم "السينما الجديدة". وكتب محمود بالفعل سلسلة من المقالات النقدية التي كنت أعجب بها كثير،ا بل وأعتبر ان "السينما الجديدة" لو استطاعت فقط أن تكتشف أو تعيد اكتشاف قلم واعد مثل قلم محمود لكفاها هذا فخرا. لقد اكتشفت فيه قلما مثقفا موهوبا، يملك المعرفة والأسلوب السلس الجميل. وكنت دائما أسال عنه عندما ازور القاهرة، لكن محمود لم يكن من النوع الذي يغشى كثيرا المنتديات والجلسات الثقافية، وكان مشغولا معظم الوقت، في عمله بمجلة "أكتوبر" الأسبوعية، إلى أن فوجئت أخيرا رسالة منه بعد أن عرف طريقه إلى مدونتي هذه، وقال وإنه ينشر مقالاته في النقد السينمائي بانتظام في صحيفة "روز اليوسف". ولولا أن الوسط الصحفي في مصر تسيطر عليه عصابات فكر، وتتحكم فيه الشللية ودوائر العلاقات العامة، لكان محمود عبد الشكور قد أصبح أحد نقاد السينما البارزين، ولدعي إلى لجان التحكيم التي تقام في الداخل والخارج. و سوف أتشرف هنا بنشر عدد من مقالاته استهلها بهذا المقال الطريف الذي يكشف لنا عن اسلوبه وما يتمتع به من روح مرح ودعابة- أمير العمري))

بقلم: محمود عبد الشكور

لم يحدث أبداً – حتى الآن – أن سقطت صريع النوم فى أحد الأفلام رغم أن كثيراً من الأفلام التى شاهدتها وأشاهدها يمكن – بلا مبالغة – أن توصف كعلاج رائع للأرق . ولكنى كنت فى مناسبات كثيرة شاهداً عما تفعله الأفلام فى بنى البشر المسالمين . للأمانة لم تكن كل حالات النوم أثناء المشاهدة فى أفلام رديئة ، الأمر يعتمد فيما أعتقد على ظروف المتفرج ، وعلى حالته المزاجية وليس على مستوى الفيلم فى كل الأحوال والظروف.
كنت فى قصر السينما أشاهد للمرة الأولى تحفة المخرج الأمريكى " ستانلى كوبريك " ( أوديسا الفضاء 2001 )، وكان بجوارى شاب عائد لتوّه من الجيش فى إجازة قصيرة ، ولأنه " غاوى " مشاهدة أفلام اختار أن يشغل وقته بالذهاب الى نادى السينما . لم يمر الكثير من زمن الفيلم البديع إلا وسمعت صوت شخير عميق صادر من المقعد المجاور . كان ذلك تحديداً فى مشهد سفينة الفضاء المذهلة وهى تغوص وسط فضاء أزرق لانهائى وعلى شريط الصوت " فالس " ( الدانوب الأزرق ) البديع . أما العجيب حقاً فهو ضبط إيقاع " الفالس" على إيقاع شخير صاحبنا ، وكأن ّ ( شتراوس ) كتب مقطوعته الخالدة لينام عليها شاب مصرى مجهد جاء ليتسلّى فقهره النوم الذى نصفه دائما بأنه" سلطان".
فى مواقف مباغته مثل الموقف سالف الذكر تهاجمنى نوبة من الضحك لاسبيل لدفعها ، ربما لأن الشخير يقطع الجدية التى أشاهد بها الأفلام ، وربما لأن التشويش الذى يحدث يدمر أى محاولة للفرجة، ولكنى كنت أشعر أحياناً بالرثاء لحال النائمين، بل وربما شعرت فى بعض الحالات بتأنيب الضمير مثل هذه الحالة التى لم أنسها أبداً رغم مرور السنين: كنتُ أقف أمام سينما مترو) مُتردداً فى حسم قرارى بدخول فيلم " اسكندرية كمان وكمان " للمرة الخامسة أو السادسة. بالطبع كنت أريد قطع تذكرة دخول ولكنى كنت أفكر فى "توابع" هذا القرار المتهوّر على ميزانيتى الضئيلة . أمام " فاترينة " الصور لمحته يصارع تردده لأسباب مختلفة . كان رجلاً فى العقد الرابع من عمره يحمل كيساً ضخماً من " البوب كورن" أو الفيشار ، ويمتد أمامه كرش صغير . رحت أراقب حيرته بفضول إذ كان يتنقل بين صورة لمشهد عصرى جداً من الفيلم ومشهد آخر يعود الى زمن الإسكندر . بدا المسكين يسأل نفسه :" هل هذا فيلم تاريخى أم معاصر ؟! هل هذا فيلم واحد أم عدة أفلام " فى بعض "؟! ولأننى كنت وقتها قريباً منه وجد أنه من المناسب أن يسألنى دون أن يتوقف عن التهام "الفيشار" : " هوة الفيلم ده تا ريخى ياكابتن؟" . دون تفكير، ومدفوعاً بحماسي للفيلم ، ورغبتي فى أن يشاهده أكبر عدد من الجمهور حسمت لصاحبنا الأمر مؤكداً وجود مشاهد تاريخية ، وزدتُ فى الحماس بأن قطعت تذكرة لنفسي ، وهكذا دخلنا معاً الى صالة العرض. اختار الرجل أن يجلس فى الصفوف الأولى ومعه الكيس العملاق. بعد ربع الساعة تقريباً حانت منى التفاتة فوجدت صاحبنا غارقاً فى النعاس ، وكيس "الفيشار" فى يده مثل طفل صغير . وظل على هذا الوضع حتى ما قبل النهاية بخمس دقائق . شعرت بالإشفاق عليه ، وانتظرت خروجه أولاً تحسباً لغضبه المتوقع رغم مظهره المسالم ، وكان عزائى الوحيد أننى أردت أن يتذوّق سينما مختلفة ، ولكن يبدو أنها كانت خطوة سابقة كثيراً لأوانها !
في حالة أخرى أكثر غرابة ، تمنيت أن ينام المتفرج حتى يتخلص مما يعانيه أثناء المشاهدة. كنا فى أحد أيام الصيف القائظة . الصالة خاوية تقريباً إلا منّى ومعى اثنان من المتفرجين : أنا بحكم الشديد القوى ، أى بحكم اضطرارى لمشاهدة الأفلام والكتابة عنها ، والآخران جلسا على مسافات متباعدة يتفرجان بصبر وصمود مشهود على أحد أفلام المقاولات التى تستخدم – فيما أظن – فى عمليات التأديب والتهذيب والإصلاح فى السجون . بعد ما لا يزيد عن ثلث الساعة كان أحد المشاهدين ينتفض من مكانه لاعنا ً مايشاهده من (......) ، واتجه ( لايلوى على شئ ) كما يقولون ناحية باب الخروج . أدهشنى هذا التمرد المفاجئ ، وسعدت لمتابعة شئ آخر بخلاف الأشياء التى تتراقص على الشاشة ، وكانت أفلام المقاولات لاصوت ولاصورة ولاأى شئ . لم يستغرق الرجل وقتاً ليهنأ بهروبه ، فقد عاد من جديد مخفوراً برجلين من الأمن لم يكن يعنيهم مستوى الأفلام المعروضة بقدر ما كان يعنيهم تطبيق التعليمات التى تمنع الخروج من دار العرض أثناء المشاهدة وقبل انتهاء الفيلم لأسباب أمنية ، وكانت الأحداث الإرهابية وقتها فى ذروتها . ولكن المتفرج الهارب الممسوك لم يستسلم، ولم يتوقف عن الاحتجاج والمطالبة بحق بسيط من حقوق الإنسان وهو حقه فى الهرب من فيلم ردئ يعذّب مشاهده ، ولم يتوقف أيضاً عن كيل الشتائم لصناع هذا الـ(.....) والأهم من ذلك أنه لم يتوقف عن إعادة محاولة الهرب كل عدة دقائق ليعود فى كل مرة مخفوراً برجال الأمن ! فى نهاية الفيلم / العلقة، حصلنا جميعا علي الإفراج ، ولكنى تمنيت أكثر من مرة أثناء هذا الشد والجذب أن ينام المتفرج المسكين كحل مثالى للمأساة : لقد كان مستحيلاً أن يصمد لمشاهدة هذا ال(.....) ، وكان مستحيلاً أيضاً أن يسمح له أمن السينما بالخروج لأن أمن الوطن أهم من عذاب الجمهور أثناء مشاهدة الافلام الرديئة ، أو لعلهم اعتبروها ضريبة هيّنة يمكن دفعها بهدوء ودون ضجيج "علشان مصر "!
على الباب قلت للرجل : "طب انا ظروفى بتخلّينى أشوف الأفلام دي .. إنت أيه اللى رماك ع المر ؟! "قال الرجل بتلقائية أولاد البلد : " اللى أمرّ منه .. الجو زيّ النار برة .. وعندى معاد بعد ساعتين .. قلت أضيّع وقت واشوف فيلم فى التكييف .. كنت عايز أضيّع وقت كنت حاضيع وح ارتكب جريمة !"رددت على الرجل الحكيم الظريف وسط الضحك الممتزج بالدموع :" كفّارة يا راجل .. بس اوعي تعمل كدة تانى ف نفسك ". من يومها تأكدت أن العبارة التى تقال عن أن بعض الأفلام تذكرة دخولها بعشرة جنيهات والخروج منها بعشرين ليست نكتة على الإطلاق ، لقد كان المسكين مستعداً أن يفتدى نفسه بأىّ مبلغ من المال لكى يطلقوا سراحه ، وأظنه تعلّم درساّ لن ينساه بأن نار الفيلم الردئ أقوى من صهد الشوارع فى عز الصيف، وأن دخول الأفلام مش زي الخروج منها."
على أن أعجب ما شاهدت من طرائف النائمين فى الأفلام ذلك الصديق الذى يدخل مسرعاً ومهرولاً ليلحق بالفيلم بعد بدايته ، وبعد دقائق معدودة نتراهن على أنه الآن فى سابع نومة ، ولم يحدث أبداً أن خيّب رهاننا . المُذهل أنه من عشاق مشاهدة الأفلام كما يؤكد فى كل مناسبة ، وله أيضاً محاولات فى النقد تعادل – ربما – محاولاته فى النوم ،الأرجح أنه اكتشف أن أحسن منوّم هو مشاهدة الأفلام مثلما اكتشف عم " حسنين " بتاع الكشرى أن أحسن معلّم هو الزمن فكتب حكمته الخالدة على عربته الصغيرة ليلخّص تجربة الحياة فى طبق واحد مركّز !

السبت، 24 أبريل 2010

"كلمني شكرا": كوميديا اجتماعية بعيدة عن الادعاءات

لا أعرف لماذا يصر "البعض"، أي بعض من يكتبون عن الأفلام ويمارسون "الانتقاد" السياسي، ويفتشون دائما عن قيمة سياسية كبرى في هذا الفيلم أو ذاك، على فرض رأيهم المسبق العقائدي الجاهز على مخرج موهوب مثل خالد يوسف، يريدونه أن يصبح بطلهم المنشود في السينما؟ يخوض لهم معاركهم، ويصنع لهم بطولاتهم، على الشاشة، فهم يمجدون كل "انتقاد" يوجهه في أفلامه للسطة، كما لو كان انتقاد السلطة في حد ذاته يكفل تحقيق عمل فني خارق، في حين انه أصبح مهمة كل من يكتبون في الصحف المصرية، الحكومية والموازية للحكومية.
إن آفة فيلم خالد يوسف السابق "دكان شحاتة" كانت تكمن تحديدا في هذا "الهاجس" الملح بتسييس ما لا يمكن تسييه بالضرورة، أي الانتقال من دراما تشيكوفية بكل ما يمكن أن تعكسه من دلالات كبيرة (نفسية واجتماعية، وسياسية أيضا بلاشك) إلى جعل فيلمه حقيبة ضخمة منتفخة بكل ما يمكن وما لا يمكن تصوره من مواضيع و"مانشيتات" سياسية، عن الانفتاح الاقتصادي وما جلبه من فقر وتناقضات طبقية واسعة، ومشكلة القهر الذي تمارسه السلطة، وأزمة المياه والرغيف والتلوث والعشوائية وانتشار العنف.. وغير ذلك، عشرات الأشياء التي أضرت بالدراما الأصلية التي كان يمكن أن تكون كافية بدلالاتها الداخلية الخاصة، دون حاجة إلى الإحالة إلى كل هذه الأشياء.
ولاشك أن خالد يوسف تعلم أن يتجنب هذا الحشو والخلط والادعاء في فيلمه الأحدث "كلمني شكرا" الذي يعتمد على سيناريو كتبه باقتدار وتركيز، سيد فؤاد، مستمدا عناصره من الواقع دون أن يكون بالضرورة فيلما "واقعيا"، ففيه بالتأكيد من المبالغات كل ما يلزم لتوليفة كوميدية (لا أراها أبدا هزلية) بل فيها الكثير من الجوانب الإنسانية التي تتعلق بشخصية الإنسان البسيط الذي يسعى بشتى الطرق، وحتى أكثرها تدنيا، ربما من وجهة نظرنا، إلى التواجد والاستمرار في الحياة، والقدرة على تحقيق الذات وسط واقع شديد القسوة والتوحش.
ويمكنني أن أؤكد هنا، دون أن أخشى بالاتهام بالوقوع في غرام المشاهدة في حد ذاتها (أي الفُرجة المجردة) أنني استمتعت كثيرا بالفيلم، وضحكت كثيرا وأنا أشاهد تلك الشخصيات المكتوبة جيدا وهي تتحرك في بيئة مرسومة ومجسدة بشكل أكثر من ممتاز، ليس فقط من خلال الديكورات التي تنبض بالحياة بكل تفاصيلها، بل وأيضا بسلوكياتها وأنماطها وتناقضاتها واستخداماتها الخاصة للغة الشائعة، وصراعاتها الصغيرة التي يمكن أن تكبر، وارتداداتها إلى الخير رغم امكانية انحرافها في اتجاه الشر، وقبل هذا كله، وجودها المحسوس في قلب عصر الاتصالات الحديثة: الهاتف المحمول (الموبيل)- الذي يستمد منه عنوان الفيلم نفسه، والأطباق اللاقطة، والتليفزيون الفضائي، وشبكة الانترنت.
هذه العناصر كلها موجودة في الفيلم، ليس كديكورات خلفية أو كأدوات تعبر سريعا في فضاء الفيلم، بل في أساس وقلب الكوميديا، التي فيها الكثير بلاشك، كما ذكرت، من المبالغات بل والمواقف الميلودرامية التي تتصف أيضا بالمبالغات كما هو معروف، وهذا ليس عيبا كما قد يتصور البعض، بل مقبول تماما في فيلم يلمس الواقع بطريقته الخاصة التي تميل إلى السخرية منه، دون "تحليله" تحليلا سياسيا، وتوجيه الإدانات المباشرة كما يطالب البعض.
بطل الفيلم "ابراهيم توشكى" (الذي يقوم بدوره عمرو عبد الجليل) يعتبر في حد ذاته نموذجا يجمع كل صفات الإنسان الحائر، الذي يحاول باستماتة الاستفادة من التغيرات العشوائية التي طغت على مجتمع الحارة الشعبية التي يعيش فيها مع أمه التي كافحت من أجل تربيته (تقوم بالدور شويكار)، يريد أن يتزوج من "عبلة"، لكنه مرتبط بشكل ما، بـ"أشجان". والنموذجان مختلفان تمام الاختلاف، ما بين الفتاة التي تصلح كزوجة تقليدية، والمرأة المقتحمة المغوية اللعوب التي فرضت عليها ظروفها الشخصية أيضا استغلال امكانياتها الممكنة من أجل البقاء.
و"توشكى" نموذج كوميدي فذ للبطل المضاد المهزوم باستمرار الذي يفشل في التمثيل فيتحول إلى مجرد "كومبارس"، ويفشل في التجارة، فيلجأ إلى الاحتيال على شركات الهاتف المحمول لكي يبيع خدمة تناسب زبائنه العاجزين عن الاستخدام الحقيقي لهذه السلعة الحديثة لأنهم بساطة، لا يمتلكون ثمن المكالمات، فيكتفون عادة بإرسال رسائل قصيرة للطرف الآخر تقول له "كلمني.. شكرا".
واسم ابراهيم توشكى يحيلنا مباشرة إلى المشروع العملاق المعروف الذي انتهى إلى الفشل، في تعليق ساخر على فكرة الطموح الذي هو في الحقيقة، أكبر كثيرا من الواقع.
هناك بالطبع شخصيات أخرى تدور في فلك الفكرة الأصلية للفيلم، أي التحايل من أجل الاستمرار في الحياة في مجتمع مأزوم، أصبح الكثيرون فيه مهمشين، رغم علاقتهم بوسائل الاتصال الحديثة: شقيقة أشجان مثلا تتحايل من أجل استخدام شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) للحصول على ثمن مكالمات اضافية تقوم ببيعها لصاحب دكان تأجير الهواتف المحمولة، فهي أيضا تبيع نوعا من "الوهم" المثير أو الخيال، بطريقتها الخاصة، لكنها تنجرف وراء عالمها الالكتروني الذي يصبح بديلا عن العالم الحقيقي، فتجري وراء سراب الهجرة إلى الخارج والزواج من رجل ثري، وسرعان ما تعود مهزومة مرتين بعد أن اتضح ان الأمر كله لم يكن سوى نوع من الاحتيال!
وهناك صاحب المخبز الذي يطلق لحيته ويدعي التقوى لكي يستغل الناس، ويبيع الدقيق المدعوم في السوق السوداء، لكنه أيضا جزء من الشلة القديمة التي تجمعه مع ابراهيم منذ أيام الطفولة، ويتمتع بالتالي بالقدرة على مواجهة الذات، وعندما تواجهه كارثة شخصية بوفاة ابنه، يثوب إلى رشده ويقرر العودة عن أفعاله السيئة، تأكيدا لفكرة الشر الطاريء الذي يفرضه الواقع الصعب، على أناس طيبين في قرارة قلوبهم.
وهناك ضابط الشرطة الذي يتصور أنه يطبق القانون بينما هو في الحقيقة يقمع محاولات البسطاء في الحصول على القليل من التسلية حتى من خلال اختراقهم لمباريات البطولة الدولية لكرة القدم التي بيعت حقوقها لمحطة فضائية.
هناك إذن نوع من "الكوكتيل" الذي يلمس الكثير مما يدور في واقع هذه الفئة من الهامشيين في المناطق العشوائية المصرية، ولكن دون اقحام للسياسي على حساب الإنساني، ودون أن يصبح الفيلم محاضرة مملة عن سلبيات الانفتاح الاقتصادي العشوائي وسياسات الدولة.
هناك براعة في الأداء من جانب كل الممثلين الذين شاركوا في الفيلم، وتمكن خالد يوسف كعادته، من السيطرة عليهم وتوظيفهم، وهو ما يجب أن يحسب له بينما ينكره عليه دائما المناهضون لأفلامه، فقط لأنها لا تحقق لهم من يطلبونه مسبقا من تغلييب الأيديولوجي على الفني. ويجب ألا ننسى أن في هذا الفيلم وجوها جديدة سيكون لها شأن في السينما المصرية مثل حورية وصبري فواز. وهناك براعة في نسج الأحداث، والانتقال فيما بينها، والقدرة على تحقيق إيقاع سريع متدفق ملائم تماما لفيلم كوميدي، واستخدام جيد لشريط الصوت بأغانيه الشائعة، وموسيقاه، وفي قلب ذلك، الاعتماد الأساسي البارز على بطل- لابطل (يقوم بدوره ببراعة الممثل الذي ولد مجددا عمرو عبد الجليل) يربط بين الشخصيات والأحداث، ويتداخل في كل مشهد، ويبدو عفويا في استخدامه للغة واشتباكه التلقائي مع غيره من الشخصيات، وفي قدرته على إشاعة جو من البهجة حتى في أحلك اللحظات. ويستخدم خالد يوسف ببراعة كل تفاصل الديكورات الجيدة الخارجية للحي الشعبي، مثل المواسير الضخمة التي يجتمع عندها أفراد الشلة، والبيوت المتجاورة والدكاكين والأسطح، كما يجيد تحريك واستخدام الأطفال والمجاميع الكبيرة من الممثلين الثانويين.
ربما يكون هناك بعض المغالاة في استخدام تعبيرات ذات مغزى خاص في سياق الحوار، أو بعض الإفراط في استخدام التعليقات اللفظية. لكن من المؤكد أن هذه التعليقات تبدو ملائمة تماما لهذه الشخصيات القريبة - الغريبة التي تتحرك أمامنا والتي لا نملك سوى التعاطف معها جميعها، وحبها وفهم ظروفها، والاشتراك معها في محاولاتها الحصول على بعض لحظات السعادة الضائعة.
"كلمني شكرا" فيلم بسيط لا يتحذلق ولا يدعي كثيرا، يصور ويعرض، يسخر ويعلق على ما يجري في الواقع اليوم، ولكنه أيضا يُمتع ويُضحك ويُصبح تجربة مثيرة في المشاهدة تحقق التفاعل بين المتفرج والشاشة، وهذا هو أساس السينما. وليس مطلوبا منه أكثر من ذلك.

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

فيلم "بالألوان الطبيعية": عين على الفن وأخرى على شباك التذاكر!

لاشك أن أسامة فوزي أحد أهم السينمائيين العاملين في السينما المصرية اليوم. ولعل أفلامه الثلاثة السابقة تكفيه لأن ينضم بجدارة، إلى نادي كبار السينمائيين أصحاب الرؤية السينمائية المتميزة، ذات الدلالات والأفكار الكبيرة، دون أن يعني هذا أنه كان يحشو أفلامه تلك، بالكلمات الكبيرة، أو يقحم عليها إقحاما، المعاني الاجتماعية والسياسية ويفرضها فرضا على المشاهدين.
إن تأمل أفلام أسامة فوزي السابقة "جنة الشياطين"، و"عفاريت الأسفلت"، و"بحب السيما"، لا تجعلنا نتوقف فقط أمام "الجرأة" في المعالجة، بل وطرق أبواب الكثير من "المحرمات" والقضايا "المسكوت عنها" في السينما المصرية عموما، بل وأمام أسلوب فني واثق ومتميز، يمزج بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، وبين حدود الموضوع كعالم في حد ذاته، وبينه كنموذج مجازي لعالمنا الكبير. وقد بلغ أسامة فوزي ذروة النجاح في التعبير عن عالمه السينمائي، من خلال لغته الخاصة في التعبير، واستنادا إلى الأفكار التي ساهم في صياغتها سينمائيا رفيقه كاتب السيناريو هاني فوزي، في فيلم "بحب السيما" وهو الفيلم الذي يتجاوز فيه الإثنان معا، ما قدمه بعض كبار السينمائيين في تاريخ السينما المصرية طوال مسارهم الفني.
غير أن إغواء الدخول إلى المناطق "المحرمة"، أو الاجتراء على طرق دروب المسكوت عنه، قاد الثنائي هاني- أسامة، أخيرا إلى صنع فيلم "بالألوان الطبيعية"، فانزلقا فيما تمكنا من تجنبه ببراعة في فيلمهما السابق، أي في "المباشر" و"الخطابي"، وإقحام الكلمات الكبيرة، ومحاولة فرضها فرضا في سياق قسري يسير في اتجاه الوعظ، وينتهي بشكل مفروض من الخارج، مهووس بـ "الرسالة" المحددة، وهو ما يجعلنا نأسف كثيرا، لضياع كل ما بذل من جهد في هذا الفيلم الذي يفتقد كثيرا إلى الإقناع، ويميل إلى المبالغة الكاريكاتورية، والتكرار، والضغط طوال الوقت، على الفكرة الواحدة، والاعتماد على الحوارات الطويلة المرهقة، التي يحاول المخرج التخفيف منها، فيلجأ إلى الاستعانة بالأغاني والموسيقى الراقصة المفروضة فرضا، والتي تبدو في كثير من الأحيان، اقرب إلى ما يعرف بـ"الفيديو كليب"، أي تلك الأغاني الشائعة المصورة، ربما رغبة في مخاطبة قطاع الشباب تحت تصور وهمي أن هذه هي "السينما الشبابية" على غرار "الأغاني الشبابية" الشائعة.
الدين والدنيا
من ناحية، يريد أسامة فوزي أن يطرق مجددا موضوع العلاقة بين الدين والدنيا، وبين الفن والدين، وبين الإنسان والله، لكن سيناريو هاني فوزي (والعيب لاشك كامن في الأصل والأساس، أي في السيناريو السطحي) لا يمنح تلك الفكرة ما تحتاجه من جدية، ولا يعالجها على المستوى الوجودي أو الفلسفي أو الذهني مثلا، بل يميل إلى الاستخفاف بها ولمسها من الخارج بطريقة تبدو أحيانا كما لو كانت "هزلية" أو طفولية تفتقد إلى الإقناع.
ليس مهما أن توجد فكرة جيدة يسعى اي فيلم من بدايته إلى سبر أغوارها، ولكن المهم في كيفية معالجتها وتطويرها وتحويلها إلى بناء وسرد وشكل مقنع فنيا. وليس مهما أن يكون الفيلم معتمد على ما يدور في الواقع من تناقضات، بل المهم في تناوله لهذه التناقضات والتعبير عنها بلغة السينما الفنية، وليس بلغة الاسكتشات المسرحية الهزلية، أو المونولوجات الطويلة التي لا تكشف بقدر ما تنمط (هناك دليلا على ذلك شخصية زميل يوسف في كلية الفنون ويدعى "علي" الانتهازي عن وعي الذي يقيم علاقة جسدية مع "ليلى" تكون نتيجتها الانجاب).

مشكلة فيلم "بالألوان الطبيعية" أن العلاقات بين الشخصيات داخل فيلمه هي علاقات "شبه آلية".. شبه نمطية:

هناك أولا الشاب "يوسف" (كان العنوان الأصلي للسيناريو "يوسف والأشباح")، الباحث عن تحقيق ذاته من خلال الرسم، والذي يتمرد على رغبات والدته التي قامت بتربيته وحدها، فيلتحق بكلية الفنون الجميلة، بدلا من كلية الطب كما أرادت له والدته، لكنه يلتحق بقسم الديكور في حين أن موهبته الحقيقية هي في الرسم. وهو حائر بين مفهوم التعبير الحر عن الخيال من خلال الرسم حتى لو تمثل هذا في رسم الجسد البشري العاري، وبين مفهوم "الحرام" الذي امتد ليشمل كل ما له صلة بالفنون الحديثة وغيرها في المجتمع المصري اليوم، وبروز فكر "التحريم" الذي يجعل بطلنا يرى أشباحا تجسد هذه الفكرة طيلة الوقت: فكرة الخوف من الحرام والوقوع في الخطيئة. هذه المعاناة (الهاملتية) الواقعة داخل منطقة الصراع بين التعبير الفني الحر، والخوف في الوقوع في ارتكاب الحرام، نراها في الفيلم، ليس من خلال علاقات اجتماعية متشابكة ومتداخلة بين شخصيات من لحم ودم، تتصارع وتتجادل، تعيش في محيطها الطبيعي، حتى لو كانت تستعين على الواقع بالخيال، بل من خلال بناء هش سطحي لشخصيات من ورق، وسليتنا الوحيدة لمعرفة اي شيء عنها، الثرثرة والأعمال الطفولية.
طلاب الكلية مثلا يرغبون في الانتقام من أحد أساتذتهم بسبب تعاليه عليهم وإهماله لهم، فماذا يفعلون؟ يقدمون له هدية داخل علبة ملفوفة بشريط يفتحها فيجد داخلها كمية لا بأس بها من "البراز".. هل تصدقون أن هذا الذوق الغليظ الذي يمثل اعتداء فظا على البصر، هو ما تجود به قريحة مخرج مرهف الحس مثل أسامة فوزي؟ وهل كان هذا المشهد الذي مهد له بمشهد آخر، تجلس فيه إحدى الطالبات داخل دورة المياه، وباقي الطالبات والطلاب يصطفون في الخارج امام الحمام، يسألونها: هل انتهيت؟ فتجيبهم: ليس بعد، هل كان هذا المشهد هو التعبير الوحيد المتاح أمام أسامة فوزي وكاتبه الموهوب، للتعبير عن القبح والتطرف، وهل المباشرة الفجة هي الوسيلة الفنية الأفضل للتعبير عن الانتقام في أقبح صوره!
"يوسف" يسقط في "الخطيئة" مع إلهام- يسرا للوزي، الفتاة البريئة الخاضعة للقيم السائدة، التي لا يمكنها أن تقاتل من أجل الارتباط بمن تحب، وتنتهي إلهام تحت وطأة الشعور بالذنب إلى التحجب ثم ارتداء النقاب، والاحتجاب وراء أسوار سميكة من العزلة، فمفهومها للدين وقناعتها بضرورة الابتعاد عن "الحرام" تجعلها تنتهي هذه النهاية.

أما "ليلى"(فريال يوسف) فهي نموذج الشيطان، تحرض وتوسوس وتدفع إلى الانحراف في طريق الانتهازية، وتغوي بالجسد والمال والوظيفة، لكن يوسف بقناعاته التي يصل إليها وحده، يعود إلى رشده في النهاية، رافضا الانصياع لها أو للفساد المستشري في الكلية (كل الأساتذة تقريبا ضالعون في الفساد حتى النخاع، يستغلون مناصبهم لتحقيق المكاسب الشخصية على حساب أي قيمة) وهو يصل إلى ذلك "الحل الوسط" السحري الذي يتمثل في تحقيق التوازن بين الدين والفن، بين إرضاء الذات، وإرضاء الخالق، دون أن نعرف لماذا ينجح هو فيما فشل فيه الآخرون.

عن الأسلوب
أسلوب السرد في الفيلم يسير في اتجاه تقليدي، صاعدا إلى الأمام، لكن هذا المسار تقطعه الكثير من الخيالات والهواجس والكوابيس، التي لا تفلح كثيرا في تطوير الموضوع وتعميقه، بل تتلخص مهمتها في تقديم التأكيد على الفكرة التي كان من الممكن أن تصنع فيلما في نصف ساعة على الأكثر، ولم تكن تحتاج إلى كل هذا الحشو والتكرار والخطب الرنانة والمونولوجات والحوارات العقيمة والشخصيات النمطية التي تفتقر حتى لخفة الظل.
والمشكلة أن أسلوب الإخراج يفتقد إلى الوحدة، فهو يتراوح بين أسلوب الفيلم الذي يسعى لمحاكاة الواقع (ولا نقول الواقعي)، وأسلوب الفيلم الخيالي الذي يدور خارج الواقع، مع رغبة واضحة في التخفيف من وطأة الفكرة بالميل في اتجاه أفلام "التهريج" (التي يطلق عليها البعض الكوميديا الجديدة) من خلال تلك المبالغات اللفظية، والانماط الكاريكاتورية المبالغ فيها التي يقدمها مثلا لأساتذة الكلية، بأشكالهم الغريبة، وطريقتهم في الملبس والحركة والكلام. ونموذجا على الانسياق وراء "التهريج" المجاني، يختلق الفيلم شخصية "موديل" رجل، يقوم بها الممثل سعيد صالح، ربما توجد بين الواقع والخيال، ويجعله يسقط فجأة ميتا، ثم يجعل أحد الأساتذة (الفاسدين) يقوم بمساعدته على العودة مجددا إلى الحياة، في مشهد طويل لا يضيف أي جديد إلى الفيلم، تماما مثل ذلك المشهد الآخر الذي أغوى اسامة فوزي بتنفيذه وبدا مقحما على الفيلم، وهو مشهد الحفل التنكري الذي يدور داخل أركان الكلية، يريد أن يؤكد لنا من خلاله على فكرة "التدهور" والشهوة التي لا تعرف العاطفة. وكان من الممكن قبول كل ما يقدمه أسامة فوزي في فيلمه هذا الذي يحمل عنوانا رديئا على أي حال، لولا المشكلة الخطيرة التي تفسد الفيلم وتجعلنا نعجز عن متابعته، وهي تنتج عن ذلك الفقدان الملحوظ للقدرة على التحكم في الإيقاع الخاص بكل مشهد على حدة، وبالتالي في الإيقاع العام للفيلم.إن معظم مشاهد الفيلم تعاني من الترهل، أي الانسياق طويلا وراء الحدث المحدود الذي يدور داخل المشهد، والإطالة المذهلة التي تجعل المشهد يخرج عن كل ما يمكن احتماله، فالمخرج لا يعرف أين يقطع تحديدا لينهي المشهد وينتقل إلى ما بعده، حتى لو كانت النتيجة الاستغناء عن الكثير من الحوارات أو تقصيرها، والتخفيف من مشاهد مناجاة البطل للخالق، وهي مشاهد أصبحت عبئا على الفيلم بسبب مباشرتها ورداءة الحوار المكتوب لها، ودورانها حول الفكرة نفسها.
من المؤسف أن يسقط مخرج موهوب مثل أسامة فوزي، في هذا العمل المرتبك، الذي يفشل في التعبير عن الفكرة كما ينبغي، أي باقتصاد، وسلاسة، ولمسات فنية مبتكرة، ولغة سينمائية رفيعة، كما كان منتظرا. والسبب الأساسي في كل هذا الاضطراب يكمن في التردد الشائع، بين السينما الفنية، وسينما الشباك. أي بين الإخلاص للذات المبدعة وإحكام السيطرة على الفيلم بكل قوة، وبين الرغبة في مغازلة جمهور لن يبقى في ذاكرته، بعد كل هذه الخطب العصماء، سوى بعض مشاهد الإيحاء بالجنس.. وهو أمر مثير للحسرة بكل تأكيد!
عن التمثيل في هذا الفيلم أقول إن فريال يوسف في دور المعيدة الانتهازية، تبدو صاحبة موهبة لاشك فيها، بل إنها هي التي تحمل معظم الفيلم على كتفها، لكنها في حاجة إلى صقل هذه الموهبة بمزيد من التدريب على أداء أمام الكاميرا.
أما كريم قاسم في دور يوسف، فقد بدا ضئيلا في أدائه للشخصية، بل إن ترهل الشخصية وتكرار الفكرة التي تدور حولها، جعله يكرر أداءه بطريقة آلية، وعندما يريد أن يجعل أداءه اكثر إقناعا، نراه يبالغ ويغالي ويصرخ بصوته الذي لاشك انه في حاج إلى تدريبات مكثفة على استخدامه في الأداء. لايزال أمامه في الحقيقة، طريق طويل.
يسرا اللوزي: الفتاة الرقيقة الجميلة التي تحاول إقناعنا بوجودها فتبالغ في البكاء والانفعالات قبل أن تخرج من الفيلم مبكرا.
فرح يوسف (في دور ليلى) هي الاكثر رسوخا وقوة في التعبير والأداء، وثقة في استخدام تعبيرات الوجه وتبدو وهي تسيطر على الشخصية وليس العكس، وربما يرجع الفضل في ذلك إلى المسرح.

الجمعة، 16 أبريل 2010

"5 دقائق عن بيتي": البحث عن الحرية

يؤكد فيلم "5 دقائق عن بيتي" للمخرجة الفلسطينية ناهد عواد أن الفيلم التسجيلي ليس مجرد "تسجيل" لوقائع، بصورة جامدة، تدعي الإخلاص الحرفي للواقع كما هو، بل إنه فضلا عن التسجيل الأمين للواقع وللأحداث التاريخية، فإنه يمكن أن يكون أيضا "رؤية فنية" مثله في ذلك مثل الفيلم الروائي، وأن يكتسب جماله من ذلك النسيج الدقيق الذي يصنع رؤيته، وهو نسيج من الشخصيات والقصص والأحداث التي تصنع لها "دراماها" الخاصة، ومفارقاتها الشعرية المكثفة التي تبوح من بين الصور، بالكثير.
كان المكان دائما مولدا للكثير من الأفكار الكبيرة، سواء في الفيلم التسجيلي، الوثائقي، أم الفيلم الروائي.
وقد التقطت ناهد عواد بذكاء، قصة كاملة يمكن القول إنها قصة البحث الشاق عن الحرية، من خلال صورة فوتوغرافية لمطار القدس القديم الذي أغلقته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد احتلالها للضفة الغربية في 1967، وأصبح اليوم مجرد أطلال، أو منطقة عسكرية إسرائيلية تجول فيها الدوريات العسكرية، وامتلأت المنطقة المحيطة به بالمباني السكنية.
لكن الذكريات بقيت راسخة ومحفورة في عقول وأذهان وقلوب الكثيرين، الذين ارتبطوا بالمكان، كمكان للعمل، وكرمز للحرية، للقدرة على السفر، والتواصل مع العالم. واليوم انتهى زمن مطار القدس، وأصبحت السلطات الاسرائيلية تحظر على فلسطينيي الضفة اسخدام مطار بن جوريون في القدس، القريب منهم، وترغمهم على اللجوء إلى مطار عمان بكل ما يقتضيه هذا من تصاريح للعبور والسفر وغير ذلك.
لكن لعل أهمية فيلم ناهد عواد، تكمن أيضا في الشكل الفني الذي تصوغ من خلاله موضوعها، أي تلك "الرؤية" التي نضجت ونمت تدريجيا حتى بلغت مرحلة الاكتمال.
يتكون نسيج الفيلم من عشرات الذكريات التي يروها الكثير من الأشخاص، من الطبقة الوسطى، ومن البسطاء، من النساء ومن الرجال، من الذين ارتبطت ذاكرتهم بالمطار في مرحلة زمنية سابقة تبدو الآن كحلم بعيد زائل، كما ارتبطت بتاريخ طاغ بقسوته، تاريخ احتلال غاشم، لكن هذه الذكريات تنتقل أيضا وتنقلنا معها، عبر الصور الفوتوغرافية العديدة التي تستخدمها المخرجة، وشهادات الشهود الذين عاصروا الماضي، إلى تأمل ما وقع من تغير أيضا على صعيد البنية الاجتماعية الفلسطينية نفسها: كيف كانت صورة المرأة وكيف أصبحت، كيف تراجعت الحداثة، وكيف أصبح الناس اكثر تشككا، وأكثر انغلاقا وانعداما للثقة فيما يجري حولهم.
هذا الفيلم البديع يعيدنا إلى منطقة ظلت طويلا مهمشة أو متغاضى عنها، إلى جوهر الحياة الاجتماعية الفلسطينية: كيف كانت وكيف أصبحت، إلى علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بالمكان ومدى إدراكه لمغزاه ومعناه وافتقاده له، وإلى الماضي في علاقته الوثيقة بالحاضر مهما كان قاسيا.
في هذا الفيلم عشرات الصور والمقابلات، اللقاءات والافتراقات، منها ما هو عفوي، التقطته كاميرا ناهد عواد لحظة وقوعه، كما التقطت الكثير من وثائق الفترة المصورة وشهادات الشهود عليها، وهذا هو العنصر الوثائقي. ومنها ما أعيد تجسيده وتوليفه باستخدام مفردات شعرية: النسيج الذي تحمل لقطاته الكثير من الدلالات: الطيور التي تحلق في السماء، وهي "موتيفة" متكررة عبر الفيلم، اللقطات المصورة من مسافة، للمطار حاليا والأسلاك الشائكة تحيط بها، بما يشي بفكرة "المحظور"، وبفكرة غياب الحرية.. القدرة على المحافظة على الذكريات من خلال الاحتفاظ بصور وأغاني الفترة، من الخمسينيات والستينيات عندما كان الوضع مختلفا.
وتربط ناهد عواد ببراعة في فيلمها، بين الخاص والعام، أي بين القصص الشخصية لأبطال فيلمها الذين يتذكرون، ومنهم من كانوا يعملون كطيارين أو كمضيفات، أو موظفين أرضيين أو في وكالات للسفر، بما في ذلك استعادة لحظات السعادة الشخصية، في الحب والزواج وقضاء شهر العسل في الخارج (عبر مطار القدس الذي كان)، وبين المغزى العام للوضع الحالي بعد إغلاق المطار (وتدمير إسرائيل مطار غزة في 2002) اي زوال فكرة التنفس، أو القدرة على النفاذ إلى العالم الخارجي بسبب غياب أبسط شكل من أشكال التواصل مع العالم أي المطار، الذي يتوفر في كل بلدان العالم فيما عدا الأراضي الفلسطينية التي يقولون إنها تتمتع بالحكم الذاتي الفلسطيني!
ورغم أننا في فيلم كهذا لا يمكننا إغفال البعد السياسي الواضح بطبيعة الموضوع نفسه، إلا أن الفيلم يبتعد عن النمطية، وعن الكليشيهات السياسية، وعن الشعارات، وعن فكرة الإدانة المباشرة بالكلمات، فمخرجته بحساسيتها الخاصة، تفضل التركيز على الجانب الإنساني، وتتعامل مع الشخصية الإنسانية الفلسطينية، من مختلف الفئات والطبقات والأديان، لكي تجعل البعد الإنساني هو البعد الأكثر برزوا، الذي يروي لنا، دون شعارات، كيف كان الحال وكيف أصبح، كيف كان السائقون يشقون طريق المطار بحرية، وكيف أصبحوا يخشون الاقتراب منه بسبب التوقيف والتفتيش وضرورة استخراج التصاريح، بل إن هناك تفكيرا من جانب السلطات الإسرائيلية حاليا في وضع بوابات على الطريق تعمل ببطاقات ممغنطة، كما تفكر في بناء مستوطنة إسرائيلية محل المطار.
وتعتمد المخرجة في بناء رؤيتها أيضا على شريط صوت يتمتع بالحيوية والجاذبية ويعيدنا إلى الماضي الذي تروي عنه شخصيات الفيلم، إلى زمن فريد الأطرش وعمرالشريف وفاتن حمامة، وسميرة توفيق ونجوى فؤاد، وكل هذه الشخصيات كما نعرف من الفيلم، كانت تأتي إلى مطار القدس، وكان عمرالشريف يشارك وقتها، بالتمثيل في فيلم "لورنس العرب" أول أفلامه خارج مصر، وكان لايزال متزوجا من فاتن حمامة. وكان الملك حسين ملك الأردن، يستخدم المطار أيضا "وكان شابا يرتدي الملابس العسكرية". وهناك الكثير من الصور لهذه الشخصيات يستعرضها الفيلم من خلال استعراض أرشيف "يوسف جحار" الذي كان يعمل ضابطا من ضباط المراقبة في المطار (كان يتأكد من المسافرين ومن توفر الوقود للطائرة ومن كل ما يتعلق بالشحن الجوي ومن سلامة الطائرة وغير ذلك.
وكانت "هانية ياسمينة" مضيفة بشركة عالية الأردنية (حينما كانت الضفة تابعة للأردن)، وقد تركت العمل بالمطار عام 1964. ومن خلال مثل هذه الشخصيات المتعددة التي تظهر في الفيلم، نعود إلى ذكريات الماضي، من خلال حكاياتها أو صورها الشخصية، دون أن يخرج الفيلم عن مساره، أي عن موضوعه الأساسي، أي بعيدا عن الوضع العام، أي المشكلة الإنسانية العامة القائمة.
"5 دقائق عن بيتي".. كان هذا الاكتشاف هو الذي دفع المخرجة إلى صنع الفيلم، فكرة كيف كان السفر للخارج بمثل هذه البساطة، مسافة 5 دقائق من حيث تقطن إلى المطار، ومنه إلى العالم.
الصور في الفيلم ليست مجرد طرق وبيوت وشخصيات تروح وتجيء، وشخصيات تروي للمخرجة التي تقف وراء الكاميرا توجه الأسئلة أحيانا، بل نسيج متكامل من الصور والأصوات والموسيقى والأغاني التي تعيدنا إلى أجواء الماضي: أغاني فريد الاطرش وفيروز، ثم نقفز إلى الحاضر القريب، كيف أقام الكويتيون مسجدا في المنطقة أصبح يعرف بمسجد المطار، ثم نصل إلى الجدار الفاصل الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية، والذي أصبح يغطي اليوم على منظر المطار.
وتختتم المخرجة فيلمها فتقول إنها لا تريد أن تراه، لأن من الأفضل أن تظل صورة المطار في ذهنها رغم أنها لا تستطيع أن تسافر منه!
والفيلم الذي تبلغ مدة عرضه 52 دقيقة، يتجاوز طابع الريبورتاج التليفزيوني المعروف، الذي يعرض ويقارن، إلى الفيلم التسجيلي الحديث الذي يحلل، ويناقش وينقب ويبحث ويعرض ويتوقف أمام الكثير من النقاط والشخصيات، يمزج بين الشخصي وغير الشخصي، وبين التاريخ والحاضر، ويعبر أيضا عن الرؤية الذاتية لمخرجته، همومها وأحلامها وتطلعاتها الخاصة، في الحرية، كمعادل لتطلعات شعبها كله. وهو ما يجعل الفيلم يصل برسالته إلى مشاهديه، دون أن تكون الرسالة مقحمة.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger