الثلاثاء، 9 فبراير 2010

نموذجان من سنيما الحساسية الجديدة


هناك بلا أي شك، نوع مما يمكن تسميته بـ"الحساسية السينمائية الجديدة"، تعود إلى السينما المصرية القصيرة، أي الأفلام الروائية التي تقل عن 30 دقيقة. وهي لا تعد مجرد تجارب تقصر في طولها عن الفيلم الروائي الطويل، بل تشكل لغة خاصة للتعبير، ترغب في الحصول على مكانتها الخاصة كما هي، أي باعتبارها شكلا خاصا من أشكال التعبير، مثله في ذلك مثل القصة القصيرة على صعيد الأدب.
المخرجة الشابة أيتين أمين قدمت لنا نموذجين للفيلم القصير كما ينبغي أن يكون. الفيلم الأول هو "راجلها" (10 دقائق) من عام 2006 ، والفيلم الثاني "ربيع 89" من عام 2009 وحصل على شهادة تنويه في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير.
ماذا يقدم هذان الفيلمان من سمات ما نطلق عليها "الحساسية السينمائية الجديدة"؟
أولا هناك السيناريو المكتوب بحيث يراعي تماما فكرة الفيلم القصير، أي الاقتصاد في السرد، وعدم الدخول في متاهات الكتابة المنسابة التي تتطرق إلى الاستطرادات والثرثرة، ثم تختتم الفكرة فجأة بطريقة مبتسرة، بل نلاحظ في الفيلمين، التركيز على الفكرة، والتعبير عن الشخصيات من خلال استخدام اللقطات المنفردة وحركة الكاميرا والانتقال من مشهد إلى آخر، والمزج بين الواقع والخيال، وبين الماضي والحاضر، والانتقال بينهما في سلاسة ووضوح، ومن خلال لغة بلاغية، تميل إلى تكثيف المشاعر وليس إلى التوقف عند حدود الملامح الخارجية.
السمة الثانية أننا بعد مشاهدة الفيلمين لا نلاحظ أن أيا منهما يبدو مضغوطا، أو موجزا، أو مجرد "ملخص" مختصر وكتابة مقتصدة، لمشروع فيلم طويل تعجز الإمكانيات المتوفرة عن تحقيقه، بل هناك إخلاص تام لمحتوى الفيلم القصير ومداه الزمني. ولاشك أن التحكم هنا يعود إلى مهارة المخرجة وهي نفسها كاتبة سيناريو الفيلم الأول عن قصة قصيرة لأهداف سويف، وإلى كاتبة سيناريو الفيلم الثاني وسام سليمان.
هناك أيضا تلك النكهة الحداثية الخاصة في الفيلمين، ليس من حيث التلاعب بالشكل على نحو مفتعل، بل من خلال ذلك الإيقاع الداخلي الخاص، والقدرة على التعبير عن الموضوع باستخدام الممثلين، الصورة، اختيار زوايا التصوير، توليف اللقطات والمشاهد واختيار طريقة الانتقال فيما بينها، بحيث تتجاوز التقليدي، وتخلق عالما جديدا له جاذبيته ورونقه بدون افتعال أو ادعاءات خارجية تأتي من خلال التلاعب المراهق بالصورة والمونتاج.
بساطة الفكرة
ولعل بساطة الفكرة في كلا الفيلمين، مع عمق المضمون، تتوافق مع أهم شروط الفيلم الروائي القصير.
في الفيلم الأول "راجلها" شكل من أشكال التعبير عن محنة المرأة في مجتمع ذكوري متخلف، بعيدا عن الصراخ، وباستخدام الصور واللقطات والتحكم الرائع في الأداء التمثيلي.
الفكرة: امرأة بسيطة من بيئة شعبية تزوج زوجها عليها بامرأة أخرى، لكنها لا تستسلم للأمر الواقع بل ترد الضربة له، فهي تضربه في "رجولته" عندما توحي له بأن الزوجة الشابة الثانية تخونه لكي يطلقها.
ومن المشهد الأول في الفيلم لا تضيع المخرجة وقتا فتلجأ مباشرة للتعبير عن قوة الشخصية الأساسية، وهي الزوجة الأولى، وعن تجربتها في العلاقة مع الرجل- الزوج، بأقل قدر من الكلمات، ومن خلال تكوين الصورة في المشهد، فتصور المرأة وهي جالسة، تغسل بعض الملابس في وعاء تقليدي بينما تمد ساقها ناحية الكاميرا، وقد وضعت في أسفل ساقها المكشوفة في اللقطة، حلية ذهبية، وتتطلع المرأة إلى أعلى، إلى خارج الكادر، وكأنها تتحدث إلى شخصية غريبة عنها قد تكون المخرجة نفسها، في أسلوب أقرب إلى التسجيلي، تروي لها ببساطة ملخص حكايتها مع "راجلها": "كنت في الخامسة عشرة عندما تزوجته، وقالت لي جدتي إنني أستطيع أن أكون مسؤولة عن بيت ورجل، ووقتها شعرت أنني أهم من كل البنات".
وتروي المرأة بعد ذلك كيف تأقلمت مع حياتها كزوجة، تمارس حياتها مع رجل لم تكن تعرفه، وكيف ظلت تتجنبه لأشهر قبل أن تعتاد عليه، ويصبح "راجلها"!
هناك إحساس بـ"التملك" في نظراتها، في طريقتها في التعبير، أو هذا ما ندركه ونحن نتابع نظرات عينيها، ونغمة القوة والثقة في حديثها. إنها ليست من النوع الذي يمكن أن يستسلم بسهولة.
وعندما تتطلع صبيحة اليوم التالي داخل غرفة "ضرتها".. تلك المراة الأخرى التي أتى بها زوجها للعيش معها، تتركز نظراتها على الفراش، الذي تبدو عليه آثار ليلة الأمس. وتعكس نظراتها بوضوح، غيرة وتصميم على أن تفعل شيئا تستعيد به "رجلها".
وهي لا تفوت الوقت، فتفتعل في مشهد شديد الجرأة سينمائيا، ولعله الأول من نوعه في السينما العربية، فعلا حسيا يكون كفيلا بأن يترك على جسد الزوجة الثانية، علامات تشي للزوج فيما بعد بما يوحي بأن الزوجة الثانية تخونه، وهو ما يدفعه إلى التخلص منها.
الجميل في هذا الفيلم أنه يوجز تعقد العلاقة بين الرجل والمرأة على مستوى الشريحة السفلى في المجتمع، دون كلمات كبيرة، ودون استطرادات أو حشو، بل من خلال سيناريو بسيط ولكن بليغ، لا يكرر الأفكار القديمة المستهلكة: فالزوج-رجل مثلا شبه غائب عن الفيلم، لا يظهر سوى في مشهد واحد أو اثنين ، دون أن يتكلم، فهو الحاضر الغائب، فشبح وجوده قائم في تفكير المرأتين: كلتاهما ترغبان في إرضائه، تتحسبان لعودته.. لكن الزوجة الأولى تملك الشخصية القوية للتعامل معه، لدفعه إلى القيام بما ترمي إليه، أي التخلص من الزوجة الثانية رغم شعور خفي لديها بالشفقة نحوها. إلا أنه الزوج أيضا خارج إطار الحياة الزوجية، فمهمته كزوج تتلخص فقط فيما يقوم به في الخارج، ثم القيام بوظيفته كذكر في الداخل.
لكن هذا ليس فيلما عما يعرف بـ"كيد النساء"، رغم أن هذه "التيمة" موجودة تحت سطحه بالطبع، بل هو أساسا، عن القوة التي تكتبسها المرأة من ضعفها الاجتماعي العام، وكيف تستطيع أن تلتف على موقفها، وتتلاعب بالرجل. لكن أساس هذا الفعل (الذي هو في الحقيقة رد فعل) يعكس بوضوح إحساسا واضحا ايضا بالضعف، بالهشاشة، بعدم الأمان.
ويظهر رجل غريب مرة واحدة في الفيلم كطامع في الزوجة الأولى تحت تصور أن زوجها هجرها بزواجه من الثانية، وأنها يمكن بالتالي أن تستسلم له بسهولة، لكنها تظهر له قوة شكيمتها وتتكفل بطرده بقسوة، فهدفها ليس الإشباع الجنسي قط وبأي وسيلة، بل استعادة مكانتها كزوجة، وصاحبة بيت.
تستخدم المخرجة الانتقال من اللقطات المتوسطة إلى القريبة، للتعبير عن الحالة الذهنية للشخصيات (بيان انفعالاتها وردود فعلها).. كما تستخدم زوايا التصوير المعبرة، كأن تصور الزوجة الثانية من زاوية مرتفعة حتى توحي بضعفها أمام الاخرى. كما تعرف أيضا أين تدخل الموسقى دون أن تجعلها تبدو مقحمة، بل تنساب بسلاسة تحت جلد الصورة. وهي تجيد أيضا استخدام مساحات الصمت، والتعبير بالصورة، والتخلص من الحوارات الزائدة التي تشرح، ولا تستطرد في اسختدامها للتعليق الصوتي، بل تستغني عنه في معظم لقطات الفيلم اعتمادا على المنطق الداخلي للقطات والمشاهد.
ولعل من الملامح الجيدة في الفيلم استخدام المخرجة للموسيقى (العود أساسا) بما تولده نغماته من حزن وشجن وأسى، كما تنجح الممثلة الرئيسية في الفيلم سلمى غريب في تجسيد الشخصية بقدرتها على الأداء بطريقة طبيعية إلى درجة التطابق.
ربيع 89
أما الفيلم الثاني "ربيع 89" فيبدو أكثر طموحا، سواء من حيث الشكل، وطريقة السرد، والتعامل مع الشخصيات، وأيضا الموضوع.
هنا تطور المخرجة أدواتها كثيرا، وتحاول أن تمد تجربتها في فيلمها الأول على استقامتها. فهذا أيضا موضوع يدور أساسا، في عالم الأنثى، الفتاة، من خلال الخيانات والأكاذيب الصغيرة والصور الرومانسية الخيالية التي تسيطر على الفتيات في سن المراهقة أو وهن على أعتاب اجتياز عالم الانوثة، تلك الفترة المضطربة بأحاسيسها ومشاعرها وعلاقتها بالأسرار الداخلية للشخصية، بعالمها الخاص، ونظرتها الخاصة أيضا للعالم، خاصة إذا كانت من تلك الشخصيات التي تخلق لها علاقة بعالم الخيال، الأدب، والقراءة عموما.
وقد اختارت الكاتبة أن تدور أحدث الفيلم في أواخر الثمانينيات، 1989، ربما في إحالة مباشرة إلى ذكرياتها الشخصية، أو إلى عالم انقضى، بأزيائه، وصوره، وأنماطه، بل وذاكرته.
وكما كان الفيلم الأول يدور حول امرأتين، يدور الفيلم الثاني حول فتاتين- طالبتين في الثانوية العامة "كاميليا" و"سارة"، كيف تروي الثانية للأولى حكايات وقصصا عن علاقة حب خيالية لها بشاب تغرم به كما تغرم به كل فتيات المدرسة، وكيف تحاول الفتاة الأولى استمالة هذا الشاب تجاهها وانتزاعه من تلك العلاقة مع صديقتها، ثم تبدأ في الشعور بتأنيب الضمير لخيانتها لصديقتها كما تتصور، بينما تبدأ صديقتها "سارة" في المبالغة باختلاق قصص وتفاصيل مختلقة عن تطور علاقتها بالشب "يحيى إلى أن تبدأ في الشعور بتأنيب بالضمير لكونها جعلت صديقتها تعيش في الخيال من خلال تفاصيل قصة لم تحدث!
من عالم الطبقة الوسطى
الفكرة دون شك، مبتكرة وجريئة أيضا، وتتسلل بصدق إلى ذلك العالم الذي لم يقدم من قبل في السينما كما ينبغي، عالم المراهقات من بنات الطبقة الوسطى، أي قبل تدهورها السريع خلال العشرين عاما الأخيرة، وكيف كانت أفكارها، وأشكالها، وازياؤها، وصورها، وطريقة فتياتها في الحديث، مختلفة، وبشكل لافت هنا، الحوار في الفيلم الذي يبدو أعلى بالتأكيد من لغة الحوار السائدة اليوم، في السينما والواقع.
وكما كانت هناك جرأة خاصة في تصوير العلاقات في الفيلم الأول، هنا أيضا تجتاز المخرجة العتبات التقليدية لتقدم مشاهدها بجرأة ولكن برونق وأناقة كبيرتين، في التعبير بالكاميرا والأداء الصامت على خلفية التعليق الصوتي الذي يأتي من خارج الصورة، فهي مثلا تستخدم الكاميرا لخلق علاقة حميمية مع المكان، ومع الأشياء الاستكمالية في الصورة، بين شخصية كاميليا ذات الأحلام الخاصة، التي تطرح تساؤلات تكشف عن حساسيتها الخاصة، كما تتوقف أمام علامات لا يمكنها استيعابها: حول الأم التي تعيش في عالمها الخاص، في هواجسها، تحدث نفسها بينما تقوم بتنظيف زجاج نافذة، وكاميليا تتأمل في أوراقها ومجلاتها وكتبها المبعثرة، تحاول أن تمسك القلم لتكتب لكنها تعجز، وتتراجع الكاميرا من لقطة قريبة إلى لقطة متوسطة، وتنزل الموسيقى التي تشي بالتوتر الداخلي، بعدم الثقة، بالاهتزازة النفسية، وضربات البيانو، تضرب على الألم المكتوم، مع التطلع إلى التحقق في عالم يبدو مغلقا.
فتاة مضطربة لكن هذا الاضطراب يجسد اختلافها عن المحيط، احساسها الشخصي بالعالم أن كل يوم يمر يبقى منه شيء ما، كلمة معينة، صوت، أو رائحة، وردة أو ورقة. إيقاع المشهد يأتي من حركة الكاميرا التي تتجول في لقطة قريبة متحركة تمسح الأشياء الحميمة لكاميليا، ثم تصعد في اضطراب ووجل إلى وجهها الذي تبدو عليه المعاناة من أجل الفهم، فهم مشاعرها.. قبل أن تعود الكاميرا إليها في لقطة متوسطة من ظهرها، ثم تبتعد تدريجيا مع نزول الموسيقى وتصاعدها حتى تختفي الصورة تدريجيا في اظلام تدريجي..
ولاشك أن المخرجة تجيد استخدام مساحات الصمت مع تحرك الكاميرا، أو تستعين بالمونولوج الداخلي ببراعة واقتصاد، وبدون ثرثرة، أو وصف لما نراه في الصورة، بل لتكثيف اللحظة، وكأنما الفتاة تسترجع لحظات من الماضي أيضا. مفردات لغة الواقعية الشعرية.
وتستخدم أيتين المونتاج بطريقة تثري السرد وتتسق تماما مع طابع الفيلم، بتجسيد التناقض بين شريط الصوت وشريط الصورة، عندما نرى، على سبيل المثال، سارة تروي لكاميليا تفاصيل عن علاقتها بـ "يحيى": كيف تمسك يده وتسير معه في الشارع، غير مبالية بنظرات الآخرين، وكيف تذهب معه إلى السينما، بينما نرى من خلال شريط الصورة كاميليا تتخيل مع يحيى، أي على مستوى خيالها الشخصي، تسير معه ثم تتوقف معه أمام باب منزل تفتحه صاحبته وتنظر للإثنين في استنكار، ثم كيف تغادر معه مصعدا، غير مبالية بنظرة الاستنكار في عيني امرأة تتأهب لركوب المصعد، ثم كيف تجلس معه في السينما، تستند بكتفها على جسده، وهكذا.
وبعد أن تكتشف سارة أن كاميليا هي التي سرقت حافظتها لكي تأخذ منها صورة حبيبها يحيى، تقرر سارة بعد أن يبتعد يحيى عنها أن تنسج لكاميليا حكايات وهمية عن تعمق علاقة الحب بينهما، وتستمتع بانعكاس حكاياتها وأكاذيبها الصغيرة على وجه كاميليا.
والفيلم يبدا بسرقة الصورة، ولا نعرف سر الصورة، وهل الإهداء المكتوب عليها حقيقي أم مختلق، إلا فيما بعد في الثلث الأخير من الفيلم.
إنها صورة لعالم المراهقات في أدق تفاصيله، بأسلوب فني رصين، يبتعد عن النمطية والمباشرة، فهناك على سبيل المثال، تصوير لبداية تفتح المشاعر الجنسية، ولكن بدون أدنى إحساس بالغلظة، بل من خلال لقطات موحية، تركز أساسا على حركة اليد، على ارتجافة العين، على النظرات، والارتخاء الجسدي، ثم الإظلام التدريجي وهكذا.
هناك أيضا ذلك الإيقاع الرقيق المنساب في تدفق وسلاسة، والاستخدام المحكم والدقيق دون أي إفراط، للتعليق الصوتي، الذي ينتقل في القسم الأخير من الفيلم ليصبح من وجهة نظر سارة، بعد أن انتقلت اللعبة إلى يدها لتتحكم هي في مشاعر الطرف الثاني.
هل هي لعبة تدميرية؟ هل هي محاولة من جانب طرف من الطرفين لإحكام سيطرته على الطرف الثاني؟
الواضح أن الفيلم لا يكترث كثيرا بالإجابة عن أسئلة من هذا النوع، فلا يوجد هنا صراع بالمعنى المباشر السائد، بل صراع داخلي، ينشأ داخل الشخصية ويتطور في علاقتها بالآخر، وبالعالم، خلال مرورها بتجربة العبور من الطفولة إلى الأنوثة، إلى الإحساس بأنوثتها، وانعكاس أدب الخيال الذي تقرأه على طريقتها في الإحساس بالدنيا أيضا.
هنا بلاشك مزيج من التجربة الشخصية، والتأملات في عالم كان متميزا بتفاصيله، عالم 89 الذي ربما لم يعد قائما اليوم.
أخيرا، لاشك أن أيتين أمين يمكن أن تثري السينما الروائية المصرية بأسلوبها المتميز، ودقة اختيارها لمواضيع أفلامها، في مجال الفيلم الروائي الطويل، والمهم أن تحافظ على عالمها الخاص، وألا تتنازل أمام ضغوط السينما التجارية السائدة بشروطها الضارية، وهو أمر ليس سهلا لو تعلمون!

الجمعة، 5 فبراير 2010

حياة فى السينما: أوراق شخصية ولمحات من ذاكرة جمعية


 بقلم: حسين بيومى



فى وقت واحد تقريبا، وقرب نهاية عام 2009، صدرت للصديق الناقد الكبير أمير العمرى ثلاثة كتب على فترات قصيرة، أثناء زيارته نصف السنوية للقاهرة. ووفق عادة لم تنقطع بيننا، وهى تبادل إهداء الكتب، أهدانى نسخة من كل كتاب من الكتب الثلاثة وهى "حياة فى السينما" و"الشيخ إمام فى عصر الثورة و الغضب" و"إتجاهات فى السينما العربية".
وقد فرحت بطاقة صديقى على العمل ودأبه على الكتابة، كما أسعدنى نشاط ذاكرته التى اعتبرها بلا شك، رغم هجرته الطويلة، جزءاً من ذاكرة الثقافة المصرية عموماً وذاكرة الثقافة السينمائية خصوصاً.
ولأسباب عديدة، بدأت بقراءة كتاب "حياة فى السينما"، وكنت قد قرأت بعضاً منه من مدونته التى تحمل الاسم ذاته، ولهذا وجدتنى استغرق فى قرائته بشغف، ربما لأننى شعرت بأنه أشبه برسالة خاصة، وفى بعض أجزائه، موجهة إلى شخصياً وإلى عشرات من أبناء جيلنا، تذكرنا بأحداث ومواقف ولحظات، ربما نكون نسيناها أو توارت فى الذاكرة الجمعية فبعثها أمير العمرى من جديد. والكتاب موجه أيضاً – حسب المؤلف– إلى فئات من بين أجيال جديدة، وعلاوة على ذلك فأنا أعتبر هذا النوع من الكتب، التى تحمل طابع الذكريات وتحفل باليوميات، أشبه الى حد ما بالأعمال الأدبية من حيث التأثير، وخصوصاً إذا كانت تتضمن خبرات وتأملات ناتجة عن إحتكاك بالواقع واشتباك معه بدرجة قابلة للتعميم
بعض ما كتبه أمير العمرى يأتى من الذاكرة عن وقائع جرت منذ ما يقرب من أربعة عقود، وإن كانت الذاكرة أحياناً قد لا تسعف المرء بكل التفاصيل. كما إنه يكتب من مهجره فى بريطانيا. ومهما كان الأمر، فجوهر ما يكتبه ينم عن إنه يحيا فى مصر بقلبه وعقله وإن كان غائبا عنها بجسده، كما أن ما يتناوله يفصح عن رغبه عارمة فى دوام التواصل مع أبناء وطنه الاول. وهى رغبة واضحة لكل من يقرأ الكتاب، ورغم ذلك فقد حمل أمير العمرى كتابه أحياناً ما لسنا فى حاجه اليه من محاذير وتحسبات، تشكل فى رأيى إعتذارات مسبقة، لن تغنى القارئ المتحيز عن إصدار أحكامه الخاصة على ما يرد فى الكتاب من مواقف واحكام.
يبدأ "حياة فى السينما" بتجربة أمير العمرى، كطالب طب هاوٍ للسينما، وتنتهى بتجاربه كناقد سينمائى محترف يشارك فى، ويكتب عن المهرجانات السينمائية العالمية فى أوروبا وغيرها وفى العالم العربى. وما بين البداية والنهاية، يعرض الكتاب تجارب كثيرة، يتداخل فيها غالبا الخاص و العام، فى جمعيه نقاد السينما المصريين، وجمعية سينما الغد، ومشروع جماعة السينما الثالثة، كما يتناول جوانب من عوالم سينمائية وصحفية وثقافية عامة. ويحتوى الكتاب على ملحقين أحدهما خاص بصور أصدقاء وشخصيات سينمائية ومناسبات، وقد فاجأنى وجود صورة لصديقنا المشترك الراحل نديم ميشيل الذى افتقدت الحديث عنه فى متن الكتاب، إلا بكلمات قليلة، والحق أن "نديم" كان يستحق صفحات وحده، بحكم علاقة الصداقة القديمة والممتدة التى تربطه بالمؤلف، وأيضا بحكم دوره كناشط ثقافى صاحب موقف تقدمى وإنسانى، كان بيته مفتوحا دائماً لإستقبال عشرات المثقفين المصريين.
فى فصل البداية يسهب الكاتب فى توضيح كيف ساهم فيلم لإيليا كازان فى تشكيل وعيه بالسينما والعالم، واللافت للنظر فى هذا الفصل هو اعتراف أمير العمرى بأنه كان ينتمى إلى جيل الغضب، فنحن نراه يتحدث بضمير الجمع: "كنا نرغب فى تغيير السينما وجعلها وسيلة للتعبير الذاتى والشخصى عن موقفنا من العالم، و"كنا نود الإنطلاق من السينما لتغيير العالم نفسه". وهذا الإعتراف الذى يطلع أجيالاً جديدة على مواقف بعض الشباب الثائر والمحتج فى سبعينيات القرن الماضى، هو مفتاح شخصية الناقد والكاتب والباحث أمير العمرى، فإذا كان العمرى قد بدأ حياته العامة داخل "تيار الغضب والتمرد" الذى أعلن عن نفسه بوضوح عام 1968، فإنه الآن ما يزال غاضباً ومتمرداً على الأوضاع المترديه التى آل إليها حال المجتمع المصرى تحت حكم العسكر، وإن كان غضبه وتمرده أصبحا أكثر صقلاً من منطلقات أكثر خبره ونضجاً من ما كان فى سنوات شبابه الأولى، وإن ظل الغضب و التمرد على المستوى الفردى فقط وبعيدا عن الممارسات السياسية التى اعترف بأنه نأى بنفسه عن الإنخراط فيها منذ كان طالباً فى الجامعة.
يشغل عقد السبعينيات مساحة كبيرة من الكتاب، وهو بالفعل أحد أهم عقود جيلنا، فبقدر ما كان إمتداداً للصحوة الجماهيرية التى أعقبت هزيمة 1967 ورفعت شعارات الحرية السياسية
وتحرير الأرض المحتلة من الكيان الصهيونى، والتوجه نحو الديمقراطية وحرية التعبير، كان العقد أيضاً عقد انكسار الحلم، حيث راحت السلطة تبيع الأوهام وتنشر الاكاذيب، ورأينا المصريين لأول مرة فى التاريخ يتشتتون فى أرجاء الأرض حاملين معهم خيبات آمالهم. وفى هذه الظروف وفى منتصف العقد تقريباً نشأت ونمت صداقتى بأمير العمرى. كنت قد سرحت من الخدمة العسكرية بعد حربين، وبعد ست سنوات فى ميدان القتال، وبدأت فى كتابه النقد السينمائى والإنخراط فى أنشطة الجمعيات السينمائية والحياة الثقافية. تعرفت على أمير العمرى فى نادى سينما القاهرة. ومن اللقاء الأول كان هناك الكثير مما يجمعنا معاً: التفاؤل والتمسك بالحلم والتنزه عن الأغراض الشخصية، والصراحة المطلقة فى قول ما نؤمن به.
كنا نلتقى فى عروض جمعيات سينمائية مثل جمعية الفيلم ونادى سينما القاهرة وجمعية نقاد السينما المصريين ونجلس على المقاهى نتناقش حتى ساعات متأخرة من الليل مع أخرين. وعن هذه الفترة التى لم تدم إلا نحو عامين كتب أمير العمرى عن تجربتنا المشتركة فى جمعية سينما الغد. غادرت إلى ليبيا للعمل فى نهاية عام 1976 وعدت عام 1980، وغادر أمير إلى الجزائر عام 1980 للعمل كطبيب ومنها إلى بريطانيا 1984 للعمل والدراسة والاقامة. لكن أواصر الصداقة بيننا لم تنقطع أبداً رغم سنوات الهجرة الطويلة. وحين عاد أمير إلى مصر نهاية عام 2000، محاولاً إنهاء الهجرة والعودة من جديد للوطن، وهى محاولة باءت للأسف بالفشل، وتركت فى نفسى جرحاً عميقاً، أعدنا رباط السبعينيات القوى، وبذلنا جهداً مشتركاً مع أخرين متحمسين، وبقدر استطاعتنا، لتنشيط دور جمعية نقاد السينما المصريين والمساهمة فى تطوير النقد السينمائى فى مصر.
ما كتبه أمير العمرى عن تجربة الشباب داخل جمعية سينما الغد فى السبعينيات، هو وفى حدود علمى أول ما كتب عن هذه الجمعية حتى الآن، وهي بلا شك إحدى إضافات هذا الكتاب إلى الأدبيات السينمائية فى مصر.
وتكشف تجربة لجنه تحكيم مهرجان أوبرهاوزن بألمانيا عن كواليس المهرجانات الدولية، حيث المفارقات وإفتقاد العدالة فى النتائج أحياناً، كما تبين إلى إى مدى يمكن للأهواء والحسابات السياسية وحتى الإنحياز لبعض التفضيلات الجمالية، أن تطيح بأفلام ذات قيمة لحساب أفلام أخرى. وهذه التجربة قد تكون ذات فائدة، لا للنقاد السينمائيين فقط، بل للمشاهدين والقراء العاديين أيضاً.
يضم الكتاب ملحقاً يتضمن تسجيلاً لندوة عقدتها جمعية نقاد السينما المصريين عام 1976 حول الدورة الأولى لمهرجان القاهرة السينمائى. ولأن كتاب "حياة فى السينما" ليس كتاب معلومات وإنما كتاب يغلب عليه الفكر النقدى، أى إصدار الأحكام وتقييم المعلومات بعد تحليلها، ورغم التوضيح الذى وضع الندوة فى سياق أحداث السبعينيات، إلا أن المؤلف كان ينبغى أن يلقى مزيدا من الأضواء على مهرجان القاهرة السينمائى، خصوصاً أن له موقفاً معروفاً ومعلناً من المهرجان حتى فى أحدث دوراته. وربما كان نشر صفحات من "الكتاب الأسود" الذى جاء ذكره فى تقديم الندوه كافياً بالغرض.
يتحدث فتحى فرج الناقد الكبير الراحل فى هذه الندوة عن سينما رخيصة وسينما رجعية وسينما متخلفه، ولم يبق فى زمن العولمة، رغم إنتشار الصحافة الواسع والصحف التى لا تعد ولا تحصى، إلا القلائل جداً من النقاد والصحفيين الذين يستخدمون تلك التوصيفات. فالعولمة وما بعد الحداثة وإفتقاد العلمانية واعتبار الدين هو كل الثقافة، عوامل شكلت الحجج الواهية لمروجى الفن الرخيص والرجعى والمتخلف من مدعى النقد، وكالعادة فإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق.

الخميس، 4 فبراير 2010

يوميات مهرجان روتردام 6

أنطوان خليفي المسؤول عن المهرجانات السينمائية والأفلام في مؤسسة يونيفرانس المختصة بالترويج للسينما الفرنسية في العالم، ترك هذه المؤسسة أخيرا، بتليفزيون العرب (إيه آر تي) التي تتخذ من القاهرة مقرا لها، والتي تردد أن صاحبها الشيخ صالح كامل قد باعها أو في طريقه إلى تصفيتها بشكل كامل.
أنطوان أصبح مستشارا للشركة لشؤون التوزيع،ولكنه باق في باريس. وهو يصرح لصحيفة المهرجان الومية بأن إيه آرتي تريد حاليا أن تكثف من استثماراتها في الأفلام العربية التي يمكن أن تحمل في مشاريعها آفاقا لاختراق أسواق التوزيع العالمية.
ويعلن أيضا أن الشركة ستقدم تمويلا جزئيا للفيلم الجديد للمخرجة اللبنانية نادين لبكي (صاحبة فيلم سكر بنات) التي أوشكت على الانتهاء من كتابة النسخة النهائية من سيناريو الفيلم الجديد، دون أن تختار له عنوانا بعد. ويتوقع أن تقدم المنتجة الفرنسية آن ماري توسان من شركة "ليه فيلم ديه تورنيل" أكثر من نصف ميزانيته.
أما مشاركة إيه آرتي فهي ستأتي على أساس الحصول على حقوق توزيع الفيلم في عموم بلدان الشرق الأوسط.
خليفي موجود في مهرجان روتردام الذي سبق أن تردد عليه كثيرا عندما كان مسؤولا عن التسويق في يونيفرانس.
بالمناسبة، منصبه في يونيفرانس لايزال خاليا، ليت أحد أصدقائنا، خبراء السينما العرب المقيمين في العاصمة الفرنسية، يتقدم له.. ولم لا؟
حتى ما بعد منتصف الليل قضيت نحو ساعتين في مشاهدة الفيلم التركي "10 إلى 11" للمخرجة بيلين اسمر، وهو أول أفلامها الروائية الطويلة بعد عدد من الأفلام التسجيلية.
الفيلم نفسه لم يبهرني كما بهر آخرين، وأظن ان مخرجته أكثر جاذبية منه بكثير، فهي تجيد الحديث عن نفسها وعن فيلمها الذي قالت لي إنها استوحته من قصة حياة عمها العجوز المسن (83 سنة).. والقصة تدور حول هذا الرجل العجوز المغرم إلى حد الهاجس أو الوسواس القهري الملح، بجمع واقتناء الصحف والمجلات والمطبوعات والدوريات، بل وكل ما يتعلق بما هو مطبوع بما في ذلك الاعلانات، بل وبكل ما هو قديم. وهو يضع تواريخ وعلامات معينة على كل من تلك المقتنيات. وقد كدس أكواما من تلك المقتنيات كما يسميها، في مسكنه في ذلك المنزل القديم الذي أصبح آيلا للسقوط بفعل زلزال ضرب استانبول أخيرا. سكان المنزل يرغبون في بيعه والحصول على مبالغ مالية كبيرة تتيح لهم الانتقال إلى مسكن أكبر وأحدث، لكن صاحبنا لا يريد أبدا أن يتزحزح ويهجر تاريخه الشخصي وكل حياته القائمة في تنلك الشقة، مصرا على البقاء بها رغم التهديدات والتحذيرات التي يتلقاها من البلدية.
أما الجانب الآخر الذي يحدث نوعا من التوازن مع تلك الشخصية في الفيلم فهو بواب المنزل (علي) الذي يختلف كلية في طموحاته وتطلعاته وخلفيته وإحساسه بأهمية تلك الكتب والمطبوعات والمقتنيات عن صاحبنا. فهو شاب قادم من الريف إلى المدينة، لا يشعر ابدا بالمدينة وتاريخها كما يشعر الرجل العجوز (مدحت بك) الذي يكلفه بقضاء بعض الأشياء له، لكن البواب يستغل الفرصة لتحقيق بعض المكاسب التي قد تكفل له الخروج من الشقة الرطبة الخانقة الكائنة في الطابق الأرضي.
الفكرة، دون شك، جديدة، ولكنها تروى من خلال أسلوب سينمائي ، يبدو أن صاحبته تسير بالمسطرة، على الكتاب، سواء في استخدام الكاميرا، أو في المونتاج، أو في استخدامها المكثف للحوارات الطويلة المرهقة للتعبير عن التناقض بين الشخصيتين، دون طموحات كبيرة لاختراق الشكل الكلاسيكي، بل إنه بدا في الكثير من المشاهد، وكانه جزء من مسلسل تليفزيوني أو تمثيلية سهرة تليفزيونية.
هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن اخراج لفيلم من الشرق الأوسط في مهرجان أبو ظبي الأخير، وكان رأيي الذي قلته لانتشال التميمي بعد أن شاهدت الفيلم في روتردام، إنني لا أتفق مع تلك الجائزة، بل أمنحه جائزة التمثيل لبطله العجوز الذي أبدع وبرع، بل إنه صنع بحق، معجزة حقيقية بأدائه البسيط التلقائي الذي جعله يحمل الفيلم على كتفه. انتشال قال لي: عليك أن تسأل صديقك محمد خان في ذلك فقد كان عضوا في لجنة التحكيم واعجب كثيرا بالفيلم!
الطريف أن مخرجة الفيلم فاجأتني عندما قالت لي إن الممثل الذي أدى دور (مدحت بك) هو عمها الحقيقي، وإنه لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا قط، وأن الكثير من السينمائيين والنقاد في تركيا كان رأيهم من رأيي، أي أنه يجب منحه جائزة التمثيل في المهرجان السنوي الوطني، لكن الفكرة استبعدت بدعوى أنه ممثل غير محترف، وهو في رأيي، أسخف تبرير، فأداء هذا الرجل، واسمه مدحت أسمر، أداء عبقري شديد الإقناع والتأثير والجمال، بكل تصلبه ورقته وهمساته الحالمة التي تجعله يبدو غائبا عن الدنيا وعن ما يحدث فيها، مستغرقا في عالمه الخاص. لقد بدا مقنعا أكثر من أي ممثل محترف في القيام بدوره الحقيقي في الحياة.
ولعل من أفضل ما في هذا الفيلم أيضا، المشاهد العديدة التي تظهر لمعالم مدينة استانبول غير السياحية، مما يجعله أيضا، فيلم عن المدينة، عن ذاكرتها، وعن ماضيها وحاضرها، خاصة واننا نستمع مع الرجل، إلى بعض شرائط التسجيل القديمة، منها ما يبثه بيان للجيش التركي في الراديو، يعلن فيه استيلائه على السلطة عام 1960، في انقلاب عسكري شهير.
أما أفضل الأفلام التي شاهدتها في المهرجان فهو دون أدنى شك، الفيلم الصيني "مدينة الحياة والموت" City of Life and Death للمخرج الكبير لو شون الذي يعيد تجسيد الأحداث الرهيبة التي صاحبت غزو الجيش الياباني لمدينة نانجنج التي كانت تعتبر العاصمة المتقدمة للصين، عام 1937، وما أعقب استيلاء اليابانيين على المدينة، من قتل جماعي واغتصاب منهجي، لنسائها، وكيف قاومت النساء، وكيف كان هناك شهود على تلك المشاهد التي تقدم هنا باستخدام كاميرا حرة محمولة على اليد، وبالأبيض والأسود، بكل تفاصيلها ودقائقها، دون أن يخلو هذا العمل الكبير من حس شاعري نبيل، وإحساس عذب بضرورة انتصار الحياة.
سيناريو مكتوب ببراعة، يحتوي على كل التفاصيل والشخصيات المتباينة، من الخائن الذي يتعامل مع الغزاة، إلى الجندي الياباني ذي النزعة الإنسانية الذي يرفض الانسياق وراء القتل، ويدفع الثمن، إلى المرأة التي تحاول مساعدة السجناء الذين يساقون إلى الاعدام وغيرها.
وليس من الممكن هنا الاكتفاء بهذه العجالة التي تهدف إلى التعريف العام بالفيلم، بل إنه دون شك، يستحق مقالا قائما بذاته في المستقبل.

الاثنين، 1 فبراير 2010

يوميات مهرجان روتردام 5


لا أعرف ماذا حدث للسينما اليابانية ذات التاريخ العظيم؟ أين أيام أوزو وكيروساوا وميزوجوشي وكوباياشي وأوشيما، وأين ذهبت تلك السينما ذات التقاليد الراسخة التي بهرت الدنيا كلها طوال ثلاثة عقود على الأقل في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات؟
لم أعد أرحب كثيرا بمشاهدة أي فيلم ياباني معروض في أي مهرجان، فمن تكرار التجربة اكتشفت أن هذه الأفلام عادة ما تدرج في برامج المهرجانات من أجل عيون اليابان، وليس إيمانا بأنها أفلام ذات أهمية خاصة، فالاهتمام هنا جغرافي وسياسي أكثر منه فني. وربما باستثناء فيلم أو فيلمين، خلا العقد الماضي كله تقريبا من أي أفلام يابانية عظيمة يمكن اعتبارها علامات. واصبح اهتمام مشاهدي الأفلام اليابانية ينحصر حاليا في أفلام الرسوم اليابانية المميزة، وأفلام المخرج الوحيد ذائع الصيت عالميا، تاكيشي كيتانو Kitano، وهو مخرج أراه متواضعا، يصنع أفلاما تفتقر كثيرا إلى التعبير عن الثقافة اليابانية في جوهرها وتناقضاتها.
شاهدت اليوم فيلما يابانيا في مسابقة المهرجان وهو بعنوان "ميوكو" Miyoko للمخرج تسوبوتا يوشيلومي، وهو فيلم ممل، شديد الفقر والادعاء، أقرب إلى ما أطلق عليه "إلى التجريب في الهواء"، وهو يصور كيف يستدعي رسام للمجلات الملونة ذكرياته مع زوجته التي كان مهووسا برسم جسدها عارية خلال السبعينيات، وكيف كان هوسه الجنسي بها يدفعه إلى تجربة أشياء غريبة معها، حتى ولو تبادل الجنس مع عشيقة صديق له أمامها. ولو كان هذا الفيلم قادما من السويد لكان معقولا، أما أن يأتي تحديدا من اليابان، فلا أدري أي ثقافة تلك التي يعبر عنها هذا الفيلم صاحب الرؤية العدمية، وما كل هذا الخواء في المواضيع، وهل عقم التاريخ الياباني بل والواقع الياباني المعاصر، عن توليد القضايا الكبرى في الفن!
يردنا هذا الفيلم إلى فيلم ياباني آخر معروض هنا خارج المسابقة، هو فيلم "دمية الجنس" (وهذا اجتهاد شخصي في ترجمة عنوانه الأصلي وهو Air Doll أي العروس البلاستيكية العارية المصنوعة على شكل امرأة مثيرة جنسيا والتي يشتريها بعض الرجال غير المتوازنين نفسيا، لمضاجعتها!
وقد سبق أن شاهدت هذا الفيلم في مهرجان كان، وهو يناقش من زاوية فلسفية متحذلقة كثيرا، فكرة المشاعر الانسانية: ما هي، وما الذي يميز الانسان عن الجماد والحيوان، وهنا نرى كيف تحول الدمية لتصبح كائنا حيا، تكتسب تدريجيا صفات إنسانية وتشعر أيضا بالحب، بعد أن تقع في غرام سيدها!
* شاهدت أيضا فيلم Northless المكسيكي الذي يمكن ترجمته إلى "وهم الشمال"، وقد حصل هذا الفيلم على عدد من الجوائز منها الجائزة الكبرى في المهرجان الأمريكي- الفرنسي الذي يقام لأسباب "شخصية" غير معلنة، في مدينة مراكش المغربية بإدارة أجنبية. وكان عضو لجنة التحكيم هناك المخرج الإيراني عباس كياروستامي، كما حصل على تنويه خاص في مهرجان أبو ظبي (الشرق الأوسط)، وكان كياروستامي أيضا رئيسا للجنة التحكيم.

والفيلم من اخراج ريجوبيرتو بيرزكانو Rigoberto Pérezcano ويصور بأسلوب محكم، وأداء رصين واثق، كيف يصر عاطل مكسيكي على عبور الحدود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه يفشل فيقضي بعض الوقت مع صاحبة دكان لبيع الفواكه والخضراوات، تستضيفه كما تستضيف امرأة أخرى عبر زوجها الحدود منذ أكثر من ثلاث سنوات ولم يسأل عنها منذ ذلك الحين، تماما كحالة صاحبة الدكان التي تخلى عنها زوجها بعد عبوره إلى الشمال. وبطل الفيلم "أندرياس" متزوج أيضا ولديه ولد وبنت، لكنه يصر على مواصلة المشوار رغم أنه بات يعرف جيدا المصير الذي ينتظره في نهاية الطريق، ورغم إغراء البقاء والاستمتاع بمعاشرة المرأة الجميلة التي تبدي نحوه الكثير من المشاع، أو ربما أيضا المرأتين اللتين لم تتوانيا عن اغوائه واغرائه للبقاء بشتى الطرق.
ميزة الفيلم أنه مصنوع برقة وبساطة، ورونق، ساعد عليه ابتعاده عن كل ما يتوقع عادة في هذا النوع من الأفلام، فلا توجد هنا مطاردات، ولا كلاب متوحشة على الحدود، ولا مشاهد جنسية، رغم أن الجنس كامن ولكن من خلال الإيحاءات فقط، كما أن الحوار في الفيلم بسيط وقليل. وأسلوب الاخراج محكوم تماما، فالقطع من لقطة إلى أخرى في مكانه بالضبط، والأداء يعبر عن طريق النظرات والإيحاءات أكثر من الحوار والحركات الجسدية المباشرة، ويبتعد الفيلم عن تصوير المبالغات في المشاعر، بل على ما يتولد من داخل المشهد من معان لا حاجة بها للكلمات، كما يستغني عن الموسيقى في معظم مشاهد الفيلم باستثناء مرتين نستمع إليها من مصادرها الطبيعية، وهو بذلك، ربما كان يذكرنا على نحو ما، بأسلوب المخر ج البولندي الراحل كريستوف كيشلوفسكي.
* في المهرجان فيلم بعنوان "الحمار" Donkey وفيلم آخر بعنوان "القرد" The Ape والغريب أن العرض، الصحفي للفيلمين امتلأ عن آخره بالصحفيين والنقاد على غير العادة، لأن هناك 6 قاعات تعرض لضيوف المهرجان بالاضافة إلى عروض أخرى في 14 قاعة للجمهور.
لم أشاهد "الحمار"، لكني شاهدت "القرد"، وهو فيلم سويدي من اخراج جانسر جانسلادت.
ومرة أخرى ذكرني هذا الفيلم أيضا بأفلام الراحل الكبير كيشلوفسكي صاحب ثلاثية الألوان (الأبيض والأزرق والأحمر) في ابتعاده عن المبالغات وتركيزه على الفرد بعيدا الجماعة والمجتمع، وبعيدا أيضا عن الشروح والتفسيرات النفسية والاجتماعية والخلفيات العديدة التي يمكن أن يغري بها موضوع كهذا الذي يتناوله الفيلم. ما الموضوع إذن؟

رجل يعمل مدرسا لتعليم قيادة السيارات، يقتل زوجته ويطعن ولده الوحيد، ويخرج إلى العمل، لكنه يعجز عن مواصلة الدرس مع تلميذته، فيعود لكي ينقذ ابنه قبل أن يموت وينقله إلى المستشفى، ثم يعود لكي يلعب التنس مع صديق له، ويزداد هستيرية في تصرفاته، ثم يحاول العودة إلى منزله لكنه يجد الشرطة عند المدخل، فيذهب إلى منزل أمه لكي يقتلها بعد أنتكون قد أعدت له طعام العشاء.
نحن لا نرى أبدأ مشاهد القتل، لكننا نستنتج فقط ما حدث، لأننا نرى آثار القتل، جثة الزوجة على أرضية الغرفة، الطفل تحيط به الدماء، الرجل نفسه يستيقظ في أول مشاهد الفيلم وملابسه ملطخة بالدماء.
فيلم سويدي تماما، يعبر عن الوحدة القاتلة، والاكتئاب الذي يدفع، إما إلى القتل، أو إلى الانتحار، وبالمناسبة يحاول الرجل الانتحار بالوقوف أمام قطار مسرع لكنه يجبن في اللحظة الأخيرة. والأجواء في الفيلم الذي تحدث قصته في يوم واحد فقط، تبدو مجردة، خارج مجال التحليل النفسي والاجتماعي، لكننا ندرك من البداية، كما يدرك أصدقاء الرجل، أنه في حالة خلل نفسي خطير، ولكن دون أي تفسيرات فرويدية أو غيرها، اكتفاء فقط بتقديم وصف مورفولوجي للحالة الفردية الإنسانية بعد ارتكاب الفعل.
الطفل يروي في النهاية لأبيه الحلم الذي حلم به ليلة أمس (أي ليلة القتل)، فيقول له إنه حلم بأن الجميع حيوانات فيما الأب.. فيسأله أبوه: وماذا كنت أنا في الحلم؟ فيجيبه الولد: كنت نفسك فقط!
وينتهي واحد من أكثر الأفلام التي شاهدتها هنا إثارة للذهن والعين والفكر. وإلى اللقاء.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger