الخميس، 13 أغسطس 2009

الكاتبون للآخرين والأخريات: بين بطش الحكام وإغراء السلطة الناعمة

لا يكتب كبار القادة والحكام والمسؤولين خطاباتهم أو كلماتهم الموجهة لعموم الناس، بل دائما هناك كتاب متخصصون في هذا النوع من الكتابة، توكل إليهم مهمة متابعة الشخصية الكبيرة أينما ذهبت، والاستعداد للحدث الذي ستحضره بتدبيج الكلمات والخطابات التي سيلقيها المسؤول أو الحاكم بل والرسائل التي يبعث بها إلى رؤساء الدول الأخرى في مختلف المناسبات.
هذه هي طبيعة الأمور، فالكتابة ليست مهنة الحكام ولا المسؤولين، خاصة اذا كانوا مثل معظم الحكام العرب أي: إما شبه أميين، ورثوا الحكم في غفوة من التاريخ، أو مجموعة من "الأومباشية" – على حد تعبير الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم- يقصد مجموعة من العسكر غير المؤهلين للاشتغال بالفكر أو بالسياسة ناهيك بالطبع عن فن الكتابة!
وحتى جمال عبد الناصر الذي كان عسكريا متميزا عن أقرانه دون شك بما كان يبذله من جهد منذ شبابه لتثيقف نفسه عن طريق البحث والقراءة ومقابلة شخصيات لها وزنها السياسي وتدوين الملاحظات، كان يعرف حدود قدراته، وأنها لم تكن تشمل القدرة على الكتابة فكان يعهد بكتابة رسائله وبياناته وخطاباته إلى الكاتب والصحفي المعروف محمد حسنين هيكل.
أما خليفته أنور السادات فقد لجأ إلى صحفي من نوعية أدنى هو موسى صبري بعد خلافه مع هيكل. وعندما كان السادات "يخرج عن النص" أي يرتجل في الخطابة، كان يقول أشياء يموت الناس ضحكا عليها وسخرية منها، بل سرعان ما كان الكثير منها يتحول في اليوم التالي إلى نكات يرددها العامة!
مفهوم طبعا أن الحاكم يملك أن "يكلف" كاتبا بكتابة خطاباته، سواء بأمر تكليف مباشر، تحت تهديد الدبابات، أو تحت سطوة "الإغراء" بحكم ما يمكن أن يعود من فوائد على الصحفي أو الكاتب المكلف بكتابة خطابات "الريس" مثلا. ولكن الطريف أيضا أن الحاكم يحب دائما أن يتظاهر أمام الجميع بأنه هو الذي يكتب خطاباته بنفسه، وأن الكلمات الواردة فيها هي كلماته، رغم أنه يبدو أحيانا وكأنه لا يفهم الكثير مما يرد في سياق تلك الخطابات. ومن تلك مثلا أن السادات أخذ يردد في أحد خطاباته التي كتبها له هيكل في بدايات عهده قبل أن يفترق الرجلان، كلمة انجليزية هي catalyst وأخذ يعيد ويزيد فيها كثيرا.. وكلما حاول أن يشرحها ارتج عليه الأمر، وقال كلاما لا يبدو أنه يفهمه تماما فكان يقول إن الكلمة معناها "العامل المساعد واحنا ما في عندنا عامل مساعد ولا catalyst".. وكانت الكلمة قد وردت على لسان مسؤول أمريكي هو وليم سكرانتون مساعد وزير الخارجية روجرز، عندما كان يعرض استعداد بلاده للتوسط أو القيام بدور الـ catalyst في حل أزمة الشرق الأوسط عام 1971!
والطريف أيضا أن خطاب عبد الناصر الشهير الذي أعلن فيه تنحيه عن الحكم بعد هزيمة 1967 أصبح مقررا في العام التالي 1968 على طلاب الثانوية العامة، يدرسونه كلمة كلمة، كمثال على البلاغة اللغوية، باعتبار أن عبد الناصر هو كاتبه، أي صاحب أسلوبه البليغ.. فهل كان أحد يملك الاعتراض!
في المجال السينمائي هناك الكثير من "الناقدات السينمائيات" اللاتي ظهرن فجأة خلال السنوات الأخيرة وأصبحن يرغبن بشدة في الظهور، دون أن تكون "الموهبة" ناهيك عن القدرات، موجودة أصلا لديهن. أليست السينما كتابة عن النجوم والممثلين والمخرجين المشاهير، وتتيح الفرصة لمجالسة هؤلاء والحديث معهم؟
المشكلة أن القدرات أقل كثيرا من الطموحات.. وهنا ظهر من هو على استعداد لأن يكتب لهذه أو لتلك وينشر لها ويساهم في تلميع صورتها خضوعا لتلك "السلطة الناعمة" التي يمكن اعتبارها أحيانا أقوى من بطش كل السلطات!
ولكن لأن الكتابة اليومية والأسبوعية إلى جانب الكثير من الأعباء الأخرى قد تستغرق الكثير من الجهد والوقت، فقد أصبح أولئك الذين يكتبون لبعض الكاتبات في الصحافة المصرية، حكومية كانت أم معارضة، يلجأون أحيانا، بغرض اختصار الوقت، إلى سرقة ما ينشر من مقالات الآخرين أو اقتباس عبارات مما نشر في مقابلات صحفية مرتبة ومنظمة مع كاتب أو ناقد يعرف عادة ما يقول ويحسبه بالكلمة والمسطرة!
وعندما تواجه الكاتبة المسكينة وهي متلبسة بهذا الفعل الفاضح الفادح، تبكي وتنوح، وربما تقسم لك أيضا، أنها لا تعرف كيف وقع ما وقع، وإنها لم تكن تقصد سرقة أي شيء.. وهذا كله مفهوم وواضح، فقد فوجئت المسكينة على ما يبدو بانفضاح الأمر، في حين أنها لم تكتب شيئا بالفعل، بل وأغلب الظن أنها أيضا، لم تقرأ ما كتب باسمها، فيكفي ظهور الإسم لكي تزداد هي نفوذا وحضورا في الساحة ويرتفع سعرها!
زميلنا الكاتب اللامع الساخر سليم عزوز له قول بديع أعجبني كثيرا في هذا المقام. فهو يقول: "عهدي بمن يكتبون للآخرين، أنهم لا يكتبون بجودة عالية، حتي وان كانوا كتابا كبارا يكتبون لكتاب كبار، فضلا عن أن من يكتب للغير سرعان ما يصاب بالملل، لاسيما اذا كانت "المكتوب لها" ليست لها سلطة، ربما سلطة واحدة، إن وجدت، ونحن قوم نتميز بالملل".
صدق سليم عزوز وصدق.. وسنراهن على حدوث هذا الملل فربما توقفوا عن سرقة ما نكتبه لحساب "السلطة الناعمة" على الأقل لحين العثور على غيرها!

الثلاثاء، 11 أغسطس 2009

"جرائم الشرف" وغياب العقل: جماعة قتل الزوجات



بقلم: أمير العمري

في الأدب العربي الكثير من النماذج البارزة المحفورة في الذاكرة عن الهوس بالمرأة كهدف للجنس فقط، عن اعتبارها نوعا من الملكية الخاصة للرجل، يفعل بها ما يشاء، يبقيها دائما تحت رحمته، يختار لها كيف ومن تتزوج، ويحدد لها الطريق الذي يجب أن تسلكه، بل ويلقي على عاتقها أيضا بضرورة تحمل ما لا تطيق من أجل إنقاذ العائلة، والحفاظ على "شرف العائلة"، فهذا "الشرف" يرتبط أساسا بتصرفات المرأة، وتقييد هذه التصرفات هو الضمان للحفاظ على هذا الشرف، أما الرجل فله مطلق الحرية بالطبع.
وعندما يبلغ شك الرجل في المرأة مبلغه، يكون قتلها عقابا عادلا لا يحاسب عليه الرجل ولا يجب أن يحاسب، فهو "غسل للعار"، واسترداد للكرامة وشرف العائلة.
هل هو "ميكانيزم" دفاعي موروث، عن نظام القبيلة، أو مداراة ضعف أصيل في هذا النظام الذي انتقل إلى الأسرة في المجتمعات الشرقية، حتى أصبح ذلك العدوان على النساء يتم أيضا بمبادرة وأوامر عليا من المرأة- الأم أحيانا، وليس فقط من الأب- البطريرك.

في الثقافة الأخرى
أعمال أدبية مثل رواية "البوسطجي" ليحيى حقي، و"حادثة شرف" ليوسف إدريس، و"دعاء الكروان" لطه حسين وغيرها، تناولت جوانب من هذا الموروث وصورته.
غير أن الأمر لا يقتصر على ثقافة ذات ملامح محددة هي الثقافة العربية أو الإسلامية كما يشاع، بل تمتد أيضا إلى الثقافة الأخرى، المسيحية، فمن المعروف أن الروائي الكولومبي الشهير جابرييل جارثيا ماركيث، استمد روايته ذائعة الصيت "وقائع موت معلن" من حادثة حقيقية وقعت لصديق له هو جايتيانو جنتيلي في بوليفيا عام 1951. وكان هذا الرجل قد أقام علاقة مع فتاة تدعى مرجريتا شيكا سالاس ثم هجرها. وفي يوم زفافها إلى رجل آخر علم الأخير أن الفتاة التي يوشك على الزواج منها فقدت "عذريتها"، فأعادها إلى أسرتها حيث قام أشقاؤها بتدبير قتل جنتيلي وتمزيق جسده. وقد أرجع ماركيث الجريمة البشعة إلى تسلط الكنيسة الكاثوليكية بمفاهيمها الأخلاقية المتزمتة على مقدرات الناس في تلك البلدان.
سلسلة الجرائم التي تقع وتعرف بـ "جرائم الشرف" لا تعرف حدودا، لا في الزمان ولا في المكان. ففي بريطانيا العظمى، في منطقة ساري القريبة من لندن، وقعت قبل بضع سنوات، جريمة قتل بشعة راحت ضحيتها فتاة كردية شابة تدعى بناز محمد، بعد أن رفضت قبول الزوج الذي أرادت أسرتها فرضه عليها، وأرادت أن ترتبط برجل آخر (كردي، مسلم ايضا) في حين رأت أسرتها ان هذا الرجل "ليس مناسبا". وكان أن أصدر الأب (البطريرك) أوامره بالتخلص منها فقتلها ثلاثة من شباب العائلة.
أما يشو يونس، وهي فتاة باكستانية (16 سنة) كانت تقطن في غرب العاصمة لندن، فقد لقيت مصيرها على يدي والدها بعد ان أقامت علاقة عاطفية بشاب من خارج المجتمع الكردي في بريطانيا، وكان عليها أن تدفع الثمن: حياتها، فقد طعنها والدها 11 طعنة ثم أراد أن ينتحر.
وقضت نوزيات خان، وهي امرأة متزوجة في جنوب لندن، مصرعها على يدي زوجها بعد أن خنقها، لا لسبب إلا لأنها طلبت منه الطلاق بعد أن أصبحت حياتها معه مستحيلة. وقد فر الزوج بعد ارتكابه الجريمة إلى باكستان ولايزال مطلوبا.
وتقدر السلطات البريطانية عدد النساء اللاتي يقتلن في إطار ما يعرف بـ "جرائم الشرف" بأكثر من 5 آلاف امرأة سنويا، أو بمعدل 13 امرأة في اليوم الواحد. هنا يجب أن نعرف أن مجرد أن ترغب المرأة في الحصول على الطلاق لدى معظم الأسر الباكستانية، يعتبر من الأمور الماسة بالشرف.
أما الشك في حمل الفتاة نتيجة علاقة عاطفية خارج نطاق الزواج فهو بالطبع كبرى الخطايا، هنا ربما تكون الأم هي التي تصدر الأمر بالخلاص من العار، أو تشترك بنفسها في الجريمة.
وتقضي شاكيلا ناز حاليا عقوبة السجن المؤبد في باكستان بعد أن اشتركت مع ابنها في قتل ابنتها المراهقة الصغيرة شازاد بعد الشك في أنها أصبحت حامل من علاقة جنسية.
أفكار طارق علي
المفكر اليساري الشهير طارق علي، وهو بريطاني من أصل باكستاني، والذي كان زعيما للحركة الطلابية في بريطانيا في اواخر الستينيات وأوائل السبعينيات والمنتمي لعائلة "أرستقراطية" باكستانية مسلمة، كتب مؤخرا يروي كيف أن حفيدة عمه "زينب" (18 سنة) قتلت بطريقة وحشية في أكتوبر الماضي على أيدي أشقائها بسبب ارتباطها بشاب أرادت أن تتزوجه، رغم معارضة أهلها ولما استمرت في علاقتها به، أطلقوا عليها سبع رصاصات.
يقول طارق علي إن هناك 1262 جريمة من جرائم "الشرف" ارتكبت في باكستان عام 2006 فقط، إلا أن العدد الحقيقي يتجاوز ذلك لأن الكثير من الجرائم لا يتم رصدها أصلا.
ويضيف طارق علي في عرضه للموضوع بالتفصيل على صفحات "لندن ريفيو أوف بوكس": "تخيل المشهد التالي: يحلم رجل بأن زوجته تخونه، ثم يستيقظ من النوم فيجدها نائمة إلى جواره. وفي فورة غضبه يقوم بقتلها. لقد وقع هذا فعلا في باكستان ولم ينل الزوج القاتل أي عقاب".
ويتساءل: "إذا كان الحلم يمكن أن يصبح مبررا لجرائم الشرف فمن من النساء بمنأى عن الاتهام؟ وطالما أن الشرطة والنظام القضائي يعتبران الجرائم التي تقع داخل الأسرة شأنا خاصا فمعظم حالات القتل لا تنظر أمام القضاء حتى بعد أن يتم التحقيق فيها وتسجيلها".
تقرير مركز الأرض الذي نشر في مارس الماضي عن العنف ضد المرأة المصرية تلفت الفقرة التالية فيه النظر:"كشف التقرير عن مقتل 384 امرأة خلال العام الماضي الذي شهد 478 حادث عنف ضد المرأة، ورصد التقرير تنامي ظاهرة جرائم الاختطاف والاغتصاب. وقال التقرير الذي صدر بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، إن 145 سيدة لقين مصرعهن نتيجة العنف، و48 تعرضن لحوادث اختطاف واغتصاب، وإن 34 سيدة توفين بسبب العنف داخل الأسرة، فيما توفيت 11 سيدة بسبب الإهمال الطبي، وأضاف أن العام الماضي شهد 23 محاولة انتحار أسفرت عن وفاة 16 سيدة، وأن 23 امرأة لقين مصرعهن في حوادث طرق، ولفت إلي أن 56 حالة وفاة نتجت عن جرائم قتل عمد بينها 33 حالة داخل محيط الأسرة".
كذلك يجب التوقف أمام الفقرة التالية من التقرير: "وتصدرت ربات المنازل قائمة الضحايا بعدد 38 سيدة ثم الموظفات والخادمات والطالبات والعاملات، وكان الجناة في غالبية الجرائم من الأزواج، أو المطلقين أو ممن تم تحريضهم من جانب الزوج، وهذه الجرائم شهدت استخدام وسائل الذبح أو التشويه بمواد حارقة أو الماء المغلي أو الحرق بالكيروسين حتي داخل الأسرة، وشهدت الجرائم كذلك الضرب المبرح أو تهشيم الرأس أو الخنق".

في الغرب
ولا يجب ان يعتقد البعض أن "جرائم الشرف" قاصرة على الشرق فقط، بل إنها منتشرة أيضا بكثرة في الغرب رغم كل ما يقال عن الحريات واللامبالاة الاجتماعية وانعدام فكرة "الغيرة" أصلا في عقل الرجل الغربي.
القانون البريطاني مثلا لايزال يتسامح كثيرا في حالة ما يسمى بـ"جرائم الشرف". وفي 2003 مثلا صدر حكم بالسجن لسبع سنوات على رجل قتل زوجته بعد أن اعترفت بأنها على علاقة بمدرب الكاراتيه الخاص بها، وقد وقعت الجريمة أمام ابنتيهما الصبية عندما أخذ الزوج بوجه لزوجته طعنات متكررة. وقال الرجل في المحكمة إنه أصيب بنوع من العمى من شدة شعوره بالغضب.
ويعتبر القانون البريطاني جريمة الشرف قتلا على سبيل الخطأ، ولا ينال مرتبكها أحكاما مشددة مثل السجن المؤبد مثلا، كما يمكن أن يبرؤه القاضي تماما ويلتمس له العذر.

جرائم العار


في الأدب الغربي الكثير من الأعمال عن "جرائم الشرف" أو العاطفة، والتي يرى المستنيرون أنها تجلب "العار" لا الشرف، وأن الحل الأمثل لما يمكن أن يعتبر مساسا بالشرف في هذه الحالة هو الطلاق.
أما فيلسوف الوجودية الفرنسي الراحل جان بول سارتر فلم يكن يعترف بشيء يدعى "جرائم العاطفة". وفي مسرحية له بهذا العنوان يحول الموضوع من قضية تتعلق بالغيرة الشخصية بسبب الخيانة الزوجية مثلا، إلى الغيرة " السياسية، إذا جاز التعبير، بسبب الانحراف عن الهدف الأيديولوجي. فهو يصور كيف يٌكلف شاب باغتيال زعيم الحزب الشيوعي بعد أن انحرف عن الخط السياسي للحزب. لكن الشاب يصادق الزعيم، ويقترب منه، ويتفهم طبيعة أفكاره، ويتردد يالتالي في تنفيذ ما كلف به، ويصبح مثل "هاملت" حائر بين الواجب والمشاعر. ولكنه يحسم أمره عندما يدخل ذات يوم على الزعيم في مكتبه فيجد زوجته في أحضان الزعيم، فيجذب المسدس ويقتله. ويقضي القاتل فترة في السجن ثم يخرج ويختبيء في منزل عشيقته، ويرسل الرفاق رجلا لتصفيته، وتطلب منه الفتاة أن يفصل بين الشخصي والسياسي، أي أن يعترف بأنه قتل الزعيم انتقاما لشرفه المهدور، لكنه يرفض ويصر على اعتبار ما قام به عملا سياسيا ويخرج لملاقاة القاتل الذي يتربص به وينال منه بالفعل فيموت معتقدا أنه بطل من أبطال الحزب، في حين أن رؤساءه في الحزب يقومون باعتماد الرواية التي يريدون ترويجها والتي تتلاءم مع التوجه الجديد الذي يقضي بتبني الخط السياسي للزعيم الراحل أي يتبنون قصة أنه قتل انتقاما لشرفه.
سارتر يرى أن المغتال لا يحقق شيئا من وراء بطولته الزائفة الانتحارية، وأنه كان مسؤولا عن اختياره وقد دفع ثمن هذا الاختيار، فهو يرى عموما، أن الإنسان مسؤول بالكامل عما يفعل، وليس هناك مجال لتبرير ما يفعله بأنه كان واقعا تحت تأثير الانفعال أو الغضب، كما لا يعترف بتأثير الأحلام على الإنسان لأن الأحلام من خارج الواقع. وكان سارتر يستخدم المسرحية لتجسيد ذلك المأزق الوجودي.
وقد أصر سارتر على أن القصد من المسرحية، التي أغضبت في البداية الحزب الشيوعي الفرنسي، لم يكن إدانة الحزب، بل وحظر سارتر عرضها في أعقاب ما وجه إليه في صحف الحزب من انتقادات، على ألا تعرض إلا بعد موافقة الحزب.
جرائم الشرف كارثة اجتماعية بلاشك، لأنها تلغي الدولة والقانون، وتحكم شريعة القبيلة، وتكتفي عادة بمعاقبة طرف واحد. إنها جريمة لا تخضع أساسا لأي منطق أو عقل. وكما قال ألبير كامي فهناك "جرائم الشرف، وجرائم المنطق".

الجمعة، 7 أغسطس 2009

من ذاكرة السينما: فيلم "زائر الفجر" لممدوح شكري

عرض فيلم "زائر الفجر" للمخرج الراحل ممدوح شكري في عرض أول قبل العرض التجاري العام في يناير 1973 في جمعية الفيلم ثم عرض في نادي القاهرة للسينما.
في ذلك الزمان، كانت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما أيضا.
في الخارج، أي خارج جمعية الفيلم ونادي السينما، وكانا من أكثر المنابر السينمائية احتراما، وكانا يقدمان التحف السينمائية وفيهما تعلم هواة السينما التفكير والتأمل في السينما وفهم آلياتها ولغتها، كانت الحركة الطلابية في قمة المواجهة مع نظام السادات الذي يتراخى ويتعلل بشتى العلل للتهرب من المواجهة المحتومة مع الإسرائيليين لتحرير سيناء المحتلة. وكانت الحركة الوطنية وقتها، تسعى في الوقت نفسه، إلى الضغط على النظام من أجل تحقيق التحول الديمقراطي المنشود بعد أن ثبت أن سنوات الكبت والحرمان السياسي لم تجلب سوى الهزيمة والتراجع.
وقد ظهر فيلم "زائر الفجر" في تلك الأجواء، وكان يعبر أفضل ما يمكن، عنها، وفيه يصور ممدوح شكري ببراعة وحساسية خاصة، مجتمع الهزيمة من خلال دراما معقدة مدخلها هو التحقيق في مقتل صحفية شابة متمردة – ماجدة الخطيب- كانت تحاول أن تفهم لماذا حدث ما حدث ومن المسؤول عما وصلت إليه البلاد من تدهور على مستوى البنية التحتية، وأصبحت أجهزة الأمن تلقي بوطأتها الثقيلة على حياة الناس، تتجسس عليهم، وتصفي حساباتها وصولا إلى القتل، مع كل من لا يعجبها سلوكه، أو بالأحرى مع كل من يغرد خارج السرب، ويسعى لمعرفة الحقيقة.
وكان المحقق الشريف- عزت العلايلي- يسعى بكل ما يمكنه من جهد، للوصول إلى الحقيقة وراء مقتل الصحفية، رافضا الاتصياع للضغوط التي تمارس عليه من أعلى الجهات.
كان يفترض أن الفيلم يدور في مجتمع ما بعد الهزيمة مباشرة أي في العهد الناصري، وكان يدعو بوضوح إلى التغيير، ويتساءل عن المسؤولين عما جرى، بل ويبدي تعاطفا واضحا مع القوى الثائرة التي تحمل الهم الوطني على عاتقها. وفي الفيلم يقوم شكري سرحان بدور لا يمكن نسيانه أبدا، هو دور المناضل الوطني الذي يعيد إحياء خلية نضالية مع رفاق الماضي من أجل استئناف النضال بعد أن أدرك أن منطق "تفويض الزعيم" نيابة عن الشعب قد فشل ولم يؤد سوى إلى الكارثة التي وقعت.
ولاشك أن الفيلم في بنائه الذي يعتمد على اعادة رواية ما وقع (أي ما وقع للبطلة القتيلة) من وجهات نظر متعددة، كان متأثرا على نحو كبير، ببناء فيلم "زد" Z الذي كان قد ظهر قبل ذلك بفترة قصيرة وحقق أًصداء هائلة ومنعته الرقابة من العرض في مصر تخوفا من تأثيره الكبير على طلاب الجامعة الثائرين.
ولاشك أيضا أن الأصل في هذه البناء المركب، الذي اقتبسه كاتب سيناريو الفيلم رفيق الصبان، واستعادة الرواية من وجهات نظر عدة، هو فيلم "راشومون" Rashmon العظيم للمخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا.
وقد منع عرض "زائر الفجر" من العرض العام بعد أيام من عرضه بسبب قوة تأثيره وحساسية الفترة واهتزاز الوضع السياسي.
ولم تسمح الرقابة بعرضه إلا عام 1975 أي بعد أكثر من ثلاث سنوات وبعد ان استبعدت منه عشرات اللقطات التي لم يتم أبدا استعادتها بعد ذلك، بل إن الفيلم لايزال ممنوعا من العرض بالتليفزيون المصري حتى يومنا هذا.
ولاشك أن منع عرضه ثم تشويهه، كان ضربة شديدة الوطأة لمنتجته ماجدة الخطيب. وقد تعرض ممثلوه أيضا لنوع من "التحذير" من جانب الأجهزة الأمنية، لأن الفيلم في مضمونه كان "ساخنا" بالفعل، وكانت تتردد فيه عبارات تقول على سبيل المثال: البلد دي ريحتها فاحت.. عفنت.. بقت عاملة زي صفيحة الزبالة.. لازم تتحرق"!
وكان الفيلم ينتهي على طريقة الأفلام السياسية الايطالية التي كانت في قمتها في تلك الفترة، خاصة فيلم "انتهى التحقيق.. إنس الموضوع" للمخرج داميانو دامياني، الذي كان قد عرض في القاهرة ضمن اسبوع الفيلم الايطالي، وأثار اهتماما نقديا كبيرا. وكان ينتهي بصدور أوامر عليا من أعلى مستوى، بنقل ضابط التحقيق وإغلاق الملف، والافراج عن المشتبه فيهم، دلالة على أن النظام أقوى من الأفراد مهما كانوا، وأن محاولة الإصلاح من داخل النظام نفسه لا تجدي.
وكان "زائرالفجر" هو الفيلم الثاني لمخرجه ممدوح شكري بعد فيلمه الأول "أوهام الحب" (1970)، وبعد اشتراكه في اخراج فيلم مكون من ثلاث قصص أخرج منها واحدة أي "ثلث" فيلم. وكان "زائرالفجر" قفزة نوعية كبيرة في الأسلوب واللغة والبراعة الحرفية في تنفيذ المشاهد والسيطرة على أداء مجموعة كبيرة من الممثلين شاركت في الفيلم منهم سعيد صالح ورجاء الجدواي وتحية كاريوكا ويوسف شعبان وعايدة رياض ومديحة كامل وزيزي مصطفى وجلال عيسى بالاضافة بالطبع إلى شكري سرحان وماجدة الخطيب وعزت العلايلي.
كان فيلم "زائر الفجر" أحد الأفلام "الثورية" السياسية النادرة في تاريخ السينما المصرية، وكان منطقه من القوة بحيث خشت السلطات من تأثيره الكبير على الجماهير، بل ولاتزال تخشاه حتى اليوم.
وقد أصاب الاكتئاب ممدوح شكري لفترة جعلته يهمل في صحته مما أدى إلى إصابته بمرض حاد نقل على اثره إلى مستشفى الحميات حيث صعدت روحه إلى بارئها هناك قبل أن يشهد التصريح بعرض فيلمه ولو مبتورا.
وهكذا.. ورغم أن النظام كان يرفع شعارات الحرية والديمقراطية ويدين مجتمع القهر السابق (في عهد عبد الناصر) إلا أن الفيلم كان أقوى كثيرا من أن يمكن استخدامه لدعم مثل هذه الشعارات البراقة التافهة التي لاتزال تتردد.. ويصدقها البعض أيضا!

الأحد، 2 أغسطس 2009

عام على "حياة في السينما"

لقطة من فيلم "1900" لبرتولوتشي


بقلم: أمير العمري


وُجدت المدونات على شبكة الانترنت لكي يعبر أصحابها عن آرائهم بكل حرية وصراحة وجرأة، ويذكروا الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وعندما يكون صاحب المدونة، كاتبا وناقدا محترفا، فهو ينشر كتاباته عادة، في جهات عدة، أو من خلال الجهة التي يعمل لها، وباستخدام كل الأشكال المطبوعة والمسموعة والمرئية المتاحة له. لكن المدونة تظل شيئا آخر، فهي فضاء إضافي للتنفس بعيد عن قيود العمل الصحفي التقليدي وحساباته الخاصة، وخارج حدود المسموح والممنوع في كتابة النقد السينمائي والثقافي عموما.
ولذا أصدرت هذه المدونة قبل عام، لأنني باختصار شديد، لا يمكنني نشر كل ما أريده بالطريقة التي أريدها وعلى المساحة التي أتطلع إليها في الصحف والمطبوعات والمواقع الأخرى التي أعمل أو أكتب لها بشكل احترافي، رغم ما أتمتع به أنا شخصيا من حرية أوسع كثيرا من غيري كوني أعمل لمؤسسة لا تتحكم فيها الرقابة العربية أو الحكومات العربية التي لا تطيق أي معارضة تتجاوز نطاق المسموح من طرف أجهزتها.
ومنذ أن صدرت هذه المدونة قبل عام على وجه التحديد (أي في الثاني من أغسطس 2008) وقد أخذت على عاتقي التطرق، بكل حرية، إلى قضايا الفن والفكر والسياسة والمجتمع والسينما، بعيدا عن إرهاب كل من يلوحون لنا بسيوف القهر كونهم نشأوا وتربوا في مجتمعات القهر، ولم يتخلصوا بعد من عقدة "الرقيب" ورجل الأمن.

وقد نشرت في هذه المدونة ومازلت أنشر، مقالات نقدية، ودراسات، وآراء وتعليقات، ونقد للأفلام العربية والأجنبية، كما نشرت مذكرات وذكريات وتأملات شخصية، بحرية تامة، كما كتبت عن رحلاتي ويومياتي من مهرجانات مختلفة، ونشرت انطباعاتي الخاصة، وصوري وصور أصدقائي من أرشيفي الخاص، وهو ما أرى أنه في صلب فكرة التدوين التي تختلف، كما قلت، عن الصحافة "الموضوعية" العامة المقيدة، سواء أعجب هذا البعض أم أثار غيظه!
وقد تناولنا هنا قضايا السينما والنقد، وتعاملنا نقديا مع عشرات الأفلام والقضايا والظواهر، من تاريخ السينما، ومن حاضرها، من مهرجاناتها الدولية والعربية، ومع كتابها ونقادها وذاكرتها وكتبها وصحفها. ولكننا في الوقت نفسه تطرقنا إلى المؤسسات الثقافية والقائمين عليها مثل الرقابة ووزارات الثقافة والمؤسسات السينمائية وبعض المهرجانات الهزلية التي تسيء إلى السينما في رأيي، أكثر مما تفيدها.
وبكل أسف أقول إن هذه المؤسسات الفاسدة، والتظاهرات المتعفنة، يديرها بالضرورة أشخاص، يتحملون مسؤولية أو وزر ما تجود به علينا، وبالتالي ليس هناك مناص من التعرض لهؤلاء الأشخاص، وذلك في إطار نقد الظاهرة الأشمل وليس اهتماما بالاشخاص في حد ذاتهم. فليست هناك قضية مع أشخاص، وفي اليوم التالي الذي يتخلون فيه عن مسؤولية ما يديرون من مواقع، تنتهي قضيتنا معهم لتبدأ مع من يتولون بعدهم مواقع المسؤولية، فالبحث عن الحق والخير لا يجب أن يتوقف، ومقاومة الاستغلال والانتهازية والتخريب والفساد لا يجب أن تنتهي بل إنها مهمة كل كاتب حقيقي ومثقف حقيقي.
لقد كنا نذكر الأسماء صراحة لكي يعرف كل من يريد أن يعرف، من المسؤول عن تدهور الثقافة واضمحلال السينما، وتفشي الفكر الرقابي البشع، وأيضا انتشار الكتابات التي تدعي التعامل مع النقد في حين أنها لمرتزفة ولصوص مقالات ومزورين، يغذون التخلف القائم بكتاباتهم الهزيلة ويتعيشون عليه، وهؤلاء جميعا، نماذج للمفاهيم والأفكار التي نحاربها منذ أن بدأنا نعي ونكتب وننشر قبل أكثر من ثلاثين عاما.
وربما تكون كتابات نقدية من هذا النوع قد أزعجت بعض من يقرأون هذه المدونة، دون أن تجعلهم يتوقفون عن التردد عليها يوميا، مرات عدة أيضا كما نعرف جيدا، فهؤلاء يعتبرون "الجرأة" في النقد خروجا عن الحدود التقليدية التي درجوا عليها.. حدود الموالاة والانصياع والتبعية لكل مسؤول حتى يتغير ويأتي غيره فيلحقون بذيل القادم الجديد.
وهذه تحديدا هي مشكلة هذا النفر من البشر وليس مشكلتنا، فكما قلت، فإن المدونات والكتابة فيها، وجدت أصلا لتجاوز الأعراف السائدة في التعبير الصريح الجريء عن المواقف والأفكار وليس لمجرد ادعاء القدرة على "تثقيف" الآخرين، فمن حق ناشر المدونة أن يكتب لكي يعبر عن أفكاره ومواقفه وآرائه بكل حرية، ودون أي حجر من أحد حتى لو أزعجت هذه الكتابات البعض وأقلقت مضاجعهم.. بل إن إزعاج هؤلاء وإقلاق مضاجعهم واجب مقدس.
وهنا أود القول إنني لم آت أصلا إلى عالم الكتابة والنقد لكي أرضي المؤسسات السينمائية وغير السينمائية والقائمين عليها، أو الباحثين عن التذيل لها والارتزاق منها، وابتزازها حينا، ثم الممالئة معها حينا آخر. وجزء من مهمتنا تتلخص في فضح مثل هذه المؤسسات والأفراد لذلك كان من الطبيعي أن يغضب علينا هذا الصنف من الكائنات. وغضبهم علينا شهادة لنا بأننا نسير في الاتجاه الصحيح.
لماذا أكتب؟
إنني لم آت إلى عالم الكتابة والفكر لتدليل المخرجين وصناع الأفلام السينمائية وامتداحهم بمناسبة وبدون مناسبة، ولا لكي أكسب رضا وحب منتجي الأفلام في المشرق أو في المغرب، ولا مديري المهرجانات الذين يتصورون أن نقاد السينما يموتون بعيدا عن مهرجاناتهم، في حين أن المهرجانات لا يمكنها الوجود أصلا بدون النقاد كما يجب أن يعرف كل النقاد الذين يحترمون أنفسهم فلا يهينون أنفسهم ويتهافتون ويقدمون من التنازلات ما لا يليق.
لقد جئت أساسا إلى عالم الكتابة، لكي أقلق، وأزعج، وأدعو إلى نسف القديم السائد المتخلف، وإلى تغيير الدنيا والعالم عن طريق الفكر الجديد المتحرر من الأفكار المتعفة الاقطاعية البالية السائدة، وإلى مواكبة التقدم الثقافي الموجود على الساحة العالمية، وإعادة النظر في المسلمات المتخلفة القائمة التي تحكم نظرتنا الثقافية منذ قرون، وتقيدنا وتحول بيننا وبين الانطلاق لكي نصبح جزءا فاعلا من العالم، لا نكتفي بدور المستهلك، أو المتباكي على تاريخه المفقود، والملتحف دائما بلحاف المؤامرة المستمرة ضده وضد وجوده منذ فجر التاريخ حتى الآن.
ومن يريد أن يتفهم هذا ويتعامل معه، فأهلا به إلى هذه المدونة، وسنواصل معا ما بدأناه. أما من يجد نفسه سعيدا في استسلامه للثقافة السائدة، فلديه الكثير جدا من المنابر القائمة التي يمكنه أن يذوب في أحضانها وتذوب هي فيه، فيسعدان ببعضهما البعض.. بعيدا عنا بالطبع.

وأخيرا.. إذا كانت السينما عند البعض، وسيلة للارتزاق والغش والوصولية، فنحن على استعداد لأن نترك لهم تلك السينما.. شريطة.. أن يتركوا لنا الحياة!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger