عرض فيلم "زائر الفجر" للمخرج الراحل ممدوح شكري في عرض أول قبل العرض التجاري العام في يناير 1973 في جمعية الفيلم ثم عرض في نادي القاهرة للسينما.
في ذلك الزمان، كانت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما أيضا.
في الخارج، أي خارج جمعية الفيلم ونادي السينما، وكانا من أكثر المنابر السينمائية احتراما، وكانا يقدمان التحف السينمائية وفيهما تعلم هواة السينما التفكير والتأمل في السينما وفهم آلياتها ولغتها، كانت الحركة الطلابية في قمة المواجهة مع نظام السادات الذي يتراخى ويتعلل بشتى العلل للتهرب من المواجهة المحتومة مع الإسرائيليين لتحرير سيناء المحتلة. وكانت الحركة الوطنية وقتها، تسعى في الوقت نفسه، إلى الضغط على النظام من أجل تحقيق التحول الديمقراطي المنشود بعد أن ثبت أن سنوات الكبت والحرمان السياسي لم تجلب سوى الهزيمة والتراجع.
وقد ظهر فيلم "زائر الفجر" في تلك الأجواء، وكان يعبر أفضل ما يمكن، عنها، وفيه يصور ممدوح شكري ببراعة وحساسية خاصة، مجتمع الهزيمة من خلال دراما معقدة مدخلها هو التحقيق في مقتل صحفية شابة متمردة – ماجدة الخطيب- كانت تحاول أن تفهم لماذا حدث ما حدث ومن المسؤول عما وصلت إليه البلاد من تدهور على مستوى البنية التحتية، وأصبحت أجهزة الأمن تلقي بوطأتها الثقيلة على حياة الناس، تتجسس عليهم، وتصفي حساباتها وصولا إلى القتل، مع كل من لا يعجبها سلوكه، أو بالأحرى مع كل من يغرد خارج السرب، ويسعى لمعرفة الحقيقة.
وكان المحقق الشريف- عزت العلايلي- يسعى بكل ما يمكنه من جهد، للوصول إلى الحقيقة وراء مقتل الصحفية، رافضا الاتصياع للضغوط التي تمارس عليه من أعلى الجهات.
كان يفترض أن الفيلم يدور في مجتمع ما بعد الهزيمة مباشرة أي في العهد الناصري، وكان يدعو بوضوح إلى التغيير، ويتساءل عن المسؤولين عما جرى، بل ويبدي تعاطفا واضحا مع القوى الثائرة التي تحمل الهم الوطني على عاتقها. وفي الفيلم يقوم شكري سرحان بدور لا يمكن نسيانه أبدا، هو دور المناضل الوطني الذي يعيد إحياء خلية نضالية مع رفاق الماضي من أجل استئناف النضال بعد أن أدرك أن منطق "تفويض الزعيم" نيابة عن الشعب قد فشل ولم يؤد سوى إلى الكارثة التي وقعت.
ولاشك أن الفيلم في بنائه الذي يعتمد على اعادة رواية ما وقع (أي ما وقع للبطلة القتيلة) من وجهات نظر متعددة، كان متأثرا على نحو كبير، ببناء فيلم "زد" Z الذي كان قد ظهر قبل ذلك بفترة قصيرة وحقق أًصداء هائلة ومنعته الرقابة من العرض في مصر تخوفا من تأثيره الكبير على طلاب الجامعة الثائرين.
ولاشك أيضا أن الأصل في هذه البناء المركب، الذي اقتبسه كاتب سيناريو الفيلم رفيق الصبان، واستعادة الرواية من وجهات نظر عدة، هو فيلم "راشومون" Rashmon العظيم للمخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا.
وقد منع عرض "زائر الفجر" من العرض العام بعد أيام من عرضه بسبب قوة تأثيره وحساسية الفترة واهتزاز الوضع السياسي.
ولم تسمح الرقابة بعرضه إلا عام 1975 أي بعد أكثر من ثلاث سنوات وبعد ان استبعدت منه عشرات اللقطات التي لم يتم أبدا استعادتها بعد ذلك، بل إن الفيلم لايزال ممنوعا من العرض بالتليفزيون المصري حتى يومنا هذا.
ولاشك أن منع عرضه ثم تشويهه، كان ضربة شديدة الوطأة لمنتجته ماجدة الخطيب. وقد تعرض ممثلوه أيضا لنوع من "التحذير" من جانب الأجهزة الأمنية، لأن الفيلم في مضمونه كان "ساخنا" بالفعل، وكانت تتردد فيه عبارات تقول على سبيل المثال: البلد دي ريحتها فاحت.. عفنت.. بقت عاملة زي صفيحة الزبالة.. لازم تتحرق"!
وكان الفيلم ينتهي على طريقة الأفلام السياسية الايطالية التي كانت في قمتها في تلك الفترة، خاصة فيلم "انتهى التحقيق.. إنس الموضوع" للمخرج داميانو دامياني، الذي كان قد عرض في القاهرة ضمن اسبوع الفيلم الايطالي، وأثار اهتماما نقديا كبيرا. وكان ينتهي بصدور أوامر عليا من أعلى مستوى، بنقل ضابط التحقيق وإغلاق الملف، والافراج عن المشتبه فيهم، دلالة على أن النظام أقوى من الأفراد مهما كانوا، وأن محاولة الإصلاح من داخل النظام نفسه لا تجدي.
وكان "زائرالفجر" هو الفيلم الثاني لمخرجه ممدوح شكري بعد فيلمه الأول "أوهام الحب" (1970)، وبعد اشتراكه في اخراج فيلم مكون من ثلاث قصص أخرج منها واحدة أي "ثلث" فيلم. وكان "زائرالفجر" قفزة نوعية كبيرة في الأسلوب واللغة والبراعة الحرفية في تنفيذ المشاهد والسيطرة على أداء مجموعة كبيرة من الممثلين شاركت في الفيلم منهم سعيد صالح ورجاء الجدواي وتحية كاريوكا ويوسف شعبان وعايدة رياض ومديحة كامل وزيزي مصطفى وجلال عيسى بالاضافة بالطبع إلى شكري سرحان وماجدة الخطيب وعزت العلايلي.
كان فيلم "زائر الفجر" أحد الأفلام "الثورية" السياسية النادرة في تاريخ السينما المصرية، وكان منطقه من القوة بحيث خشت السلطات من تأثيره الكبير على الجماهير، بل ولاتزال تخشاه حتى اليوم.
وقد أصاب الاكتئاب ممدوح شكري لفترة جعلته يهمل في صحته مما أدى إلى إصابته بمرض حاد نقل على اثره إلى مستشفى الحميات حيث صعدت روحه إلى بارئها هناك قبل أن يشهد التصريح بعرض فيلمه ولو مبتورا.
وهكذا.. ورغم أن النظام كان يرفع شعارات الحرية والديمقراطية ويدين مجتمع القهر السابق (في عهد عبد الناصر) إلا أن الفيلم كان أقوى كثيرا من أن يمكن استخدامه لدعم مثل هذه الشعارات البراقة التافهة التي لاتزال تتردد.. ويصدقها البعض أيضا!
في ذلك الزمان، كانت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما أيضا.
في الخارج، أي خارج جمعية الفيلم ونادي السينما، وكانا من أكثر المنابر السينمائية احتراما، وكانا يقدمان التحف السينمائية وفيهما تعلم هواة السينما التفكير والتأمل في السينما وفهم آلياتها ولغتها، كانت الحركة الطلابية في قمة المواجهة مع نظام السادات الذي يتراخى ويتعلل بشتى العلل للتهرب من المواجهة المحتومة مع الإسرائيليين لتحرير سيناء المحتلة. وكانت الحركة الوطنية وقتها، تسعى في الوقت نفسه، إلى الضغط على النظام من أجل تحقيق التحول الديمقراطي المنشود بعد أن ثبت أن سنوات الكبت والحرمان السياسي لم تجلب سوى الهزيمة والتراجع.
وقد ظهر فيلم "زائر الفجر" في تلك الأجواء، وكان يعبر أفضل ما يمكن، عنها، وفيه يصور ممدوح شكري ببراعة وحساسية خاصة، مجتمع الهزيمة من خلال دراما معقدة مدخلها هو التحقيق في مقتل صحفية شابة متمردة – ماجدة الخطيب- كانت تحاول أن تفهم لماذا حدث ما حدث ومن المسؤول عما وصلت إليه البلاد من تدهور على مستوى البنية التحتية، وأصبحت أجهزة الأمن تلقي بوطأتها الثقيلة على حياة الناس، تتجسس عليهم، وتصفي حساباتها وصولا إلى القتل، مع كل من لا يعجبها سلوكه، أو بالأحرى مع كل من يغرد خارج السرب، ويسعى لمعرفة الحقيقة.
وكان المحقق الشريف- عزت العلايلي- يسعى بكل ما يمكنه من جهد، للوصول إلى الحقيقة وراء مقتل الصحفية، رافضا الاتصياع للضغوط التي تمارس عليه من أعلى الجهات.
كان يفترض أن الفيلم يدور في مجتمع ما بعد الهزيمة مباشرة أي في العهد الناصري، وكان يدعو بوضوح إلى التغيير، ويتساءل عن المسؤولين عما جرى، بل ويبدي تعاطفا واضحا مع القوى الثائرة التي تحمل الهم الوطني على عاتقها. وفي الفيلم يقوم شكري سرحان بدور لا يمكن نسيانه أبدا، هو دور المناضل الوطني الذي يعيد إحياء خلية نضالية مع رفاق الماضي من أجل استئناف النضال بعد أن أدرك أن منطق "تفويض الزعيم" نيابة عن الشعب قد فشل ولم يؤد سوى إلى الكارثة التي وقعت.
ولاشك أن الفيلم في بنائه الذي يعتمد على اعادة رواية ما وقع (أي ما وقع للبطلة القتيلة) من وجهات نظر متعددة، كان متأثرا على نحو كبير، ببناء فيلم "زد" Z الذي كان قد ظهر قبل ذلك بفترة قصيرة وحقق أًصداء هائلة ومنعته الرقابة من العرض في مصر تخوفا من تأثيره الكبير على طلاب الجامعة الثائرين.
ولاشك أيضا أن الأصل في هذه البناء المركب، الذي اقتبسه كاتب سيناريو الفيلم رفيق الصبان، واستعادة الرواية من وجهات نظر عدة، هو فيلم "راشومون" Rashmon العظيم للمخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا.
وقد منع عرض "زائر الفجر" من العرض العام بعد أيام من عرضه بسبب قوة تأثيره وحساسية الفترة واهتزاز الوضع السياسي.
ولم تسمح الرقابة بعرضه إلا عام 1975 أي بعد أكثر من ثلاث سنوات وبعد ان استبعدت منه عشرات اللقطات التي لم يتم أبدا استعادتها بعد ذلك، بل إن الفيلم لايزال ممنوعا من العرض بالتليفزيون المصري حتى يومنا هذا.
ولاشك أن منع عرضه ثم تشويهه، كان ضربة شديدة الوطأة لمنتجته ماجدة الخطيب. وقد تعرض ممثلوه أيضا لنوع من "التحذير" من جانب الأجهزة الأمنية، لأن الفيلم في مضمونه كان "ساخنا" بالفعل، وكانت تتردد فيه عبارات تقول على سبيل المثال: البلد دي ريحتها فاحت.. عفنت.. بقت عاملة زي صفيحة الزبالة.. لازم تتحرق"!
وكان الفيلم ينتهي على طريقة الأفلام السياسية الايطالية التي كانت في قمتها في تلك الفترة، خاصة فيلم "انتهى التحقيق.. إنس الموضوع" للمخرج داميانو دامياني، الذي كان قد عرض في القاهرة ضمن اسبوع الفيلم الايطالي، وأثار اهتماما نقديا كبيرا. وكان ينتهي بصدور أوامر عليا من أعلى مستوى، بنقل ضابط التحقيق وإغلاق الملف، والافراج عن المشتبه فيهم، دلالة على أن النظام أقوى من الأفراد مهما كانوا، وأن محاولة الإصلاح من داخل النظام نفسه لا تجدي.
وكان "زائرالفجر" هو الفيلم الثاني لمخرجه ممدوح شكري بعد فيلمه الأول "أوهام الحب" (1970)، وبعد اشتراكه في اخراج فيلم مكون من ثلاث قصص أخرج منها واحدة أي "ثلث" فيلم. وكان "زائرالفجر" قفزة نوعية كبيرة في الأسلوب واللغة والبراعة الحرفية في تنفيذ المشاهد والسيطرة على أداء مجموعة كبيرة من الممثلين شاركت في الفيلم منهم سعيد صالح ورجاء الجدواي وتحية كاريوكا ويوسف شعبان وعايدة رياض ومديحة كامل وزيزي مصطفى وجلال عيسى بالاضافة بالطبع إلى شكري سرحان وماجدة الخطيب وعزت العلايلي.
كان فيلم "زائر الفجر" أحد الأفلام "الثورية" السياسية النادرة في تاريخ السينما المصرية، وكان منطقه من القوة بحيث خشت السلطات من تأثيره الكبير على الجماهير، بل ولاتزال تخشاه حتى اليوم.
وقد أصاب الاكتئاب ممدوح شكري لفترة جعلته يهمل في صحته مما أدى إلى إصابته بمرض حاد نقل على اثره إلى مستشفى الحميات حيث صعدت روحه إلى بارئها هناك قبل أن يشهد التصريح بعرض فيلمه ولو مبتورا.
وهكذا.. ورغم أن النظام كان يرفع شعارات الحرية والديمقراطية ويدين مجتمع القهر السابق (في عهد عبد الناصر) إلا أن الفيلم كان أقوى كثيرا من أن يمكن استخدامه لدعم مثل هذه الشعارات البراقة التافهة التي لاتزال تتردد.. ويصدقها البعض أيضا!
2 comments:
المشكلة يا استاذ امير انت قلتها في ان الناس بقت غير الناس,الفيلم ده لما بيتعرض علي مواقع تحميل الافلام بيتعرض علي انه للكبار فقط عشان فيه حاجات جنسية!!,تخيل حضرتك وصل التفكير حاليا لأن الافلام المهمة زي دي بتتعرض انها جنسية وعشان كده ممنوعة.
its a beautiful movie indeed :)
إرسال تعليق