الاثنين، 18 مايو 2009

فيلمان من بريطانيا: "نجمة ساطعة" و"حوض الأسماك"


حتى الآن عرضت ستة أفلام في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي هي فيلم يمثل الصين هو "حمى الربيع"، وفيلمان من بريطانيا هما "حوض الأسماك" Fish Tank و"نجمة ساطعة" Bright Star، وفيلم "عطش" Thirst من كوريا الجنوبية والفيلم الأمريكي "الاستيلاء على وودستوك" Taking Woodstock، والفيلم الفرنسي "نبي" A Prophet.
فيلم "نجمة ساطعة" للمخرجة النيوزيلاندية المتميزة جين كامبيون التي حصلت على السعفة الذهبية في 1993 عن "البيانو" The Piano، جاء في نظر الكثير من النقاد هنا، مخيبا لآمال.

نجمة ساطعة
التساؤل الأولي الذي يخطر على البال بعد مشاهدة هذا الفيلم الذي كتبته مخرجته بنفسها هو: ما هي الحدود الفاصلة بين عالمي الأدب والسينما؟ أو بالأحرى، هل يكفل الارتكان في السيناريو على شخصية مرموقة في عالم الشعر مثل بطل فيلمنا هذا الشاعر الانجليزي من القرن التاسع عشر جون كيتس، التوصل إلى فيلم جيد، ممتع، معاصر، يشبع أغوار الشخصية كما يمتع جمهور سينما اليوم؟
والسؤال التالي المنطقي هو: هل من الممكن أن تعتمد معالجة فيلم من هذا النوع على ترجمة الشعر الذي يكتبه جون جيتس أو التعبير عنه بالكلمات أو الحديث عنه كما في الحوارات الطويلة المرهقة بين بطلي الفيلم؟
الرأي السائد أن السينما لها عالمها الخاص الذي ينسج أساسا من الصور، ومن اللقطات، ويعتمد على التكثيف أكثر من الإسهاب والشرح، كما أن المخرج- المؤلف عادة ما يسعى لتقديم "رؤية" شخصية معاصرة لوقائع وأحداث أصبحت الآن في ذمة التاريخ، وهي مدونة في كتب التاريخ الأدبي بتفاصيلها، ولا يوجد مبرر لتقديمها في السينما سوى من خلال "رؤية" جديدة أو سباحة سينمائية حرة داخل عالم الشخصية الرئيسية المراد الحديث عنها، وليس من خلال "ترجمة" الشعر أو تلخيصه أو تقديمه للمشاهدين عبر علاقة الحب التي ربطت الشاعر بجارته المقدامة الجريئة "فاني بروان" التي كانت تصمم ملابسها بنفسها.
مشكلة هذا الفيلم أنه يكتفي بالالتزام الحرفي بالمنهج القديم في معالجة هذا النوع من الأفلام، أي منهج الدراما التاريخية التي تهتم كثيرا جدا بالأزياء، وبمطابقة الديكورات والاكسسوارات، نمط الإضاء، وطريقة الحركة والأداء، أي باختصار، مراعاة المقاييس "الكلاسيكية" حرفيا.
هذا الجانب لاشك أن مخرجة الفيلم نجحت فيه، ولكن السؤال الذي لا يفتأ يطرح نفسه عليك: وماذا بعد، وأين رؤيتك الخاصة للموضوع ومغزاه؟ وما الجديد الذي يمكن اضافته إلى أفلام أخرى بريطانية كلاسيكية اكتسبت سمعة عالمية كبيرة لعل أشهرها من هذا النوع نفسه "حجرة تطل على منظر طبيعي" لجيمس إيفوري (1985).
الفيلم لا ينجح في تجاوز قصة الحب الجميلة المأساوية بين الشاعر كيتس وجارته فاني التي تبدأ أولا على استحياء شديد في ظل التقاليد المتزمتة في الريف الانجليزي ومع رفض وتهكم بل ومحاولة تمييع من جانب رفيق كيتس وراعيه على نحو ما، الاسكتلندي الساخر المتهكم دائما الذي يتورط هو نفسه في اقامة علاقة مع خادمة في منزل براون تحمل منه وتنجب له ولدا يضطر للاعتراف به.
علاقة الحب بين كيتس وفاني يتم التعبير عنها من خلال لمسات اليد والتهامس والأحضان المتباعدة وليس من خلال العلاقاة المكشوفة الملتهبة التي قد يتوقعها مشاهدو اليوم.
أما المشكلة الرئيسية هنا فهي أن الفيلم نفسه، بايقاعه البطيء وخلو حبكته من أي مفاجآت أو مشاهد خاصة تثير الخيال، تجعل من قصته التي تنتهي بموت الشاعر وتألم الحبيبة، قصة معروف سلفا ما ستنتهي إليه.
وأخيرا "نجمة ساطعة" هو بالمناسبة عنوان قصيدة شهيرة كتبها جون كيتس لحبيبته في اطار تغزله فيها، وقد كانت لها أيض اهتماماتها بالشعر ورغبة عميقة في فهم عالم الشعر والاقتراب الحسي منه. وقد حاول هو أن يصف لها إحساسه بالشعر على صعيد يختلف تماما عن "الحسي" ويقرب من "الروحاني".

حوض الأسماك
أما فيلم "حوض الأسماك" للمخرجة الانجليزية أندريا أرنولد فهو شديد الاختلاف في موضوعه ومعالجته عن "نجمة لامعة" فهو يدور في بريطانيا المعاصرة، في أوساط الأسر المهمشة المنبوذة اجتماعيا التي تقطن مساكن الدولة التي تدنت وبلغت حالة من التدهور تعبر عما وصل إليه المجتمع نفسه حاليا.
بطلة الفيلم فتاة مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها: مقتحمة، جريئة، تمتليء في داخلها بكل ذلك التوتر الذي يشوب فترة المراهقة والبحث عن الذات، كما يملؤها أيضا غضب على الواقع، ورفضا عنيفا لمحيطها الخالي.
إنها "ميا" التي تعيش مع أمها المنفصلة منذ زمن عن والدها، وشقيقتها الصغيرة "تيلر". لكن أمها لا تبدي أي اهتمام حقيقي بالاقتراب من ابنتها، بل تعيش أسيرة رغبة مستمرة في الاستمتاع بالحياة، بالشراب، بالحفلات، بالصحبة، وبالجنس مع رفيقها الجديد "كونور" الذي يعمل حارسا في شركة للنقل.
"ميا" تبدو وقد سئمت الحياة نفسها حتى قبل أن تبدأ النفاذ إليها بشكل جدي. إنها ترفض امها، ومحيط علاقاتها، كما ترفض الاختلاط بغيرها من الفتيات اللاتي تجد أنهن فارغات لا يصلحن لشيء، وترفض المدرسة التي انقطعت عنها وتقاون بكل السبل العودة إليها تحت كل الضغوط.
وهي تذهب بنفسها، تقتحم شقة خالية في إحدى البنيايات المجاورة، لكي ترقص على أنغام الموسقى التي تحبها. ويصبح رقصها الانفرادي هنا مرادفا للرغبة في التحرر والانطلاق بعيدا عن كل القيود.
لكن حياة ميا تنقلب عندما تجد لدى كونور، صديق أمها، كل تفهم ولطف، فهو يعاملها برقة، يتحاور معها، يبدي اهتماما بأمرها ويناقشها فيما تريد أن تفعل مستقبلا دون أي محاولة للقيام بدور الأب.
في البداية تقاوم ميا الاقتراب منه، لكنها تجد نفسها تدريجيا مشدودة إليه، ليس فقط كنموذج للأب البديل، بل وتبدأ في الإحساس نحوه بمشاعر أخرى أقوى وأكثر حسية.
وذات يوم، يقع المحظور بين الاثنين، وصاحبنا تحت تأثير الخمر، وتكون النتيجة أن يختفي كونور تماما خشية من عواقب تلك العلاقة "الخطيرة" مع فتاة في الخامسة عشرة من عمرها.
تطارده ميا، وتذهب إلى منزله، وتتسلل أثنياء غيابه لتكتشف أنه متزوج ومنفصل وإن لديه ابنة صغيرة، بل وتشاهد الأسرة الصغيرة التي تعود فجأة إلى المنزل أثناء وجود ميا فيه، فتهرب الفتاة وتكمن ثم تستدرج ابنته الصغيرة، وتحاول الانتقام من أبيها في شخصها وتكاد تقتلها غرقا في النهر القريب.

المخرجة اندريا ارنولد

هذا فيلم ينتمي حرفيا للمدرسة الواقعية البريطانية الأصيلة، إلى أفلام عالم أفلام المخرج مايك لي: دقة السيناريو، تلقائية الأداء التمثيلي، السيطرة المدهشة على الإيقاع العام، التحرر في استخدام الكاميرا (المحمولة المتحركة المهتزة في الكثير من المشاهد)، والاختيار العبقري لمواقع التصوير بحيث تكون العلاقة حاضرة دوما بين الشخصية والمكان.
إنه على نحو ما، دراسة بالكاميرا في نمو وعي "فتاة تحت السن" بالعالم والدنيا، وبموقعها الذي ترفضه داخل الهامش: هامش المعزولين اجتماعيا، والمهمشين اقتصاديا في بريطانيا المعاصرة: البطالة، الفراغ، تشرد الشباب، المخدرات، التكدس في مجمعات سكنية عتيقة بنيت بفلسفة ورؤية أخرى فيما بعد الحرب العالمية الثانية ، أصبحت اليوم مرتعا لكل الأدران الاجتماعية دون حسيب أو رقيب.
وتتعمد المخرجة تجنب تصوير وجه الأم كثيرا بل تتجنب مواجهتها بالكاميرا، فهي شخصية تعيش في عالمها المغلق الحزين بسبب الوحدة رغم جمالها الذي يوشك على الزوال وخشيتها بالتالي من الزمن. الأم موجودة في الصورة وغير موجودة في الفيلم إلا للتعبير عن ضعف تأثيرها الإيجابي القوي على الابنة -البطلة- المتمدة، التي تبحث عن عالم أكثر رحابة ربما لن تتمكن من الوصول إليه إلا بعد أن تترك تلك الضواحي الصغيرة وترحل مع صديقها المتشرد الحائر مثلها وإن كان لا يتمتع بنفس قوة الشخصية.
اهتزاز الكاميرا يعكس الاهتزاز القائم في الواقع، والاستخدام المتميز للاضاءة غير المباشرة طوال الفيلم يخلق ظلالا قاتمة حول الوجوه أحيانا، أو يجعل الصورة ضبابية كما هي أمام بطلتنا الصغيرة "ميا".
أما ميا نفسها فلعل أبرز عنصر في الفيلم هو تمثيل الممثلة الجديدة كاتي جارفيس التي اكتشفتها المخرجة من خارج عالم التمثيل الاحترافي- التي تناسب الشخصية تماما، تبتعد عن الافتعال والمبالغة، وتمزج السخرية والتهكم، بالرقة المفاجئة، قبل أن ترتد إلى توحشها الذي يخفي قلقها وخوفها من الدنيا كثر مما يظهر رغبة في الامتثال للعنف.
المخرجة أندريا أرنولد التي حققت مفاجأة بفوزها بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمها الأول "الطريق الأحمر" في كان 2006، ربما تعود هذا العام فتحصل على جائزة رئيسية في كان 2009.. فمن يدري!

الأحد، 17 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 4


عرض مساء اليوم الخامس من المهرجان في احدى القاعات الصغيرة المخصصة لعروض السوق الدولية لأفلام الفيلم المصري "دكان شحاتة" للمخرج خالد يوسف.
قابلت المخرج خالد يوسف بالصدفة مع الصديق محمود حميدة والمنتج كامل أبو علي والزميل أحمد فايق وبطلي الفيلم عمرو سعد ومحمد كريم. ودعاني خالد يوسف على العرض الخاص الذي لم أكن أعتزم حضوره ليس كموقف على الاطلاق بل لأنني عرفت مسبقا أن القاعة لا تستوعب أكثر من 35 مقعدا وأعرف أن عرب كان سيتوافدون ويزدحمون، وبالتالي سأصبح عرضة لما يسمى بالعامية الرشيقة "البهدلة"، وسبق أن قلت وكررت أنني لا أجد أي مبرر لأن "يتبهدل" أي ناقد في الدنيا حتى يشاهد أي فيلم، فهو سينتهي وقد أصبح منهكا ولا يستطيع بالتالي الاستمتاع بالفيلم أو حتى ابداء رأي سليم فيه. وقد أخذت أؤكد على خالد يوسف أن يضمن لي مقعدا بشكل كريم مقدما، ولا أدري ما الذي اعتقده خالد الذي ألتقيه للمرة الأولى دون معرفة سابقة بالمناسبة، لكنه على أي حال فهم موقفي ووعد بادخالي بنفسه القاعة.
عدت في الموعد فوجدته مع النجمة الشهيرة هيفاء وهبي التي تقوم بدور رئيسي في الفيلم للمرة الأولى في السينما على الاطلاق. وتبادلت حديثا رقيقا مع هيفاء التي كانت تبدي أيضا اهتماما بالتعرف على الجميع والانصات لهم جميعا بل وتلبية طلب كل من يطلب التصوير معها أيضا وهم كثيرون وكثيرات. وقابلت أيضا رئيس المركز القومي للسينما في مصر خالد عبد الجليل وكنا قد تعرفنا قبل ثماني سنوات أثناء رئاستي جمعية نقاد السينما المصريين، وقبل أن أغادر مصر مرة ثانية إلى بريطانيا.
شاهدت الفيلم في البداية من مقعد على الممر لأنني أكره المقاعد الداخلية، وكنت أجلس بجوار الصديق القديم سعد المسعودي الذي يعمل لقناة العربية الاخبارية ويقوم بتغطية المهرجان للعام الخامس على التوالي لهذه القناة. وسرعان ما توافدت الوفود والأفراد واندفع الجميع حتى ضاقت بهم القاعة، ورأيت الصحفية هدى ابراهيم تضطر للجلوس على الأرض ومعها عدد من علية القوم. وبدأ الخبط والشد والجذب، وملت على أذن سعد أقول متسائلا كيف سيمكننا التحمل. لحسن الحظ خلا مقعد داخلي في الصف نفسه فانتقلت إليه وأكملت مشاهدة الفيلم وأنا أتساءل لماذا لم يستأجر كامل أبو علي قاعة أكبر ونحن جميعا نعرف أن حدثا كهذا يستقطب جميع المهتمين من الصحفيين والنقاد العرب إلى جانب الضيوف من الموزعين أو المشترين المحتملين. وقد فشل نجوم الفيلم في العثور على مقاعد لهم فانسحبوا وأولهم هيفاء وهبي التي بدت أكثر نحافة بكثير عما تبدو في الصور.
رأيت يوسف شريف وزوجته ميرفت الابياري وكانا من أوائل القادمين، ثم حضر فجأة صديقنا انتشال التميمي المدير الفني لمهرجان روتردام العربي، وجاءت الممثلة لبلبة، وحضر ابراهيم العريس وأيضا نقاد آخرون ومهتمون ومرافقون ومرافقات وأشخاص لا علم لي بما يفعلونه بل ولم أكن أعلم بوجودهم في كان إلا في هذه اللحظة!
أما "دكان شحاتة" نفسه، فالدخول إليه ليس كالخروج منه بطبيعة الحال، والتفاصيل في مقال قادم!
* أستطيع الآن أن أقول وأنا مرتاح الضمير أنني شاهدت تحفتين سينمائيتين تتميزان كثيرا على معظم ما شاهدته من أفلام داخل المسابقة هما الفيلم الاسباني الناطق بالانجليزية "أجورا" Agora (عروض خاصة خارج المسابقة)، والفيلم الروسي للمعلم الكبير بافل لونجين "قيصر" (نظرة خاصة). والتفاصيل أيضا في مقال قادم.
* فاجأني صحفي من الذين التقيتهم في كان بقوله إنه اكتشف أخيرا أن السينما يمكن أن تكون "ثقافة" أيضا!
أفضل الأفلام حتى الآن:
* الفيلم البريطاني "حوض الأسماك" لأندريا أرنولد، والفيلم الفرنسي "نبي" لجاك أوديار وكلاهما في المسابقة الرسمية، والفيلم الروماني "الشرطة: صفة" الذي عرض في إطار قسم "نظرة خاصة".
أما أسوأ الأفلام التي شاهدها كاتب هذه السطور حتى الآن فلقب يستحقه عن جدرة الفيلم الأمريكي السخيف جدا "بريشس" أي (ثمين) لكنه اسم فتاة سوداء مصابة بداء السمنة وقدر من البلاهة والكوميديا التي شاهدناها تسخر من تلك الفتاة ومأساتها أو هذا هو ما وصلني!

السبت، 16 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 3


على صعيد التجارة السينمائية أي السوق كان أغرب ما وقع أمس أن صدر تهديد عن المشترين الروس أثناء جلسة مناقشة في الخيمة الروسية بسوق كان، لموزعي الأفلام الأمريكية تحديدا.
هذا التهديد مؤداه أنه ما لم يخفض الموزعون الأمريكيون أسعار الصفقات التي تم التعاقد عليها بالفعل قبل وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية القائمة، فإن الروس يقولون إنهم لن يحترموا الاتفاقات الموقعة على شراء أفلام لم تكن قد انتهت بعد.
الروس يطالبون الموزعين الأمريكيين بخفض يصل إلى 90 في المائة في قيمة التعاقدات، ويقولون إن مبيعات الاسطوانات الرقمية (دي في ي) انخفضت بنسبة 60 في المائة بسبب القرصنة، كما تناقص الاقبال على دور السينما بسبب القرصنة أيضا، وتناقص شراء محطات التليفزيون للأفلام الجديدة.
الموزعون الأمريكيون قالوا إن الأمر ليس قاصرا على الروس فقط بل يشمل الجميع، أي أن الأزمة تشمل الكل فلم يطالب الروس بمعاملة خاصة هنا، كما أشاروا على الروس بالمساومة للحصول على أسعار أفضل بالنسبة للأفلام التي انتهت فعلا وأصبحت جاهزة، لأنها في تلك الحالة تكون ملكا للمنتج ولا يكون قد تبقى عليها قروض للبنوك. أنا شخصيا لا أفهم كثيرا في عمليات التمويل وتعقيداتها والدروب الخاصة بعالم الصفقات، لكني أشم رائحة أزمة ما!
في عالم المشاهدة السينمائية كان أغرب ما وقع معي خلال الأيام الماضية أن جاء شابان أمريكيان بينهما واحد من أصول صينية واضحة، يفترض ان الاثنين ناقدان، وقد جلسا بجواري مباشرة في قاعة ديبوسيه المخصصة للعروض الصحفية. وبمجرد أن بدأ عرض الفيلم أخذ الأخ الصيني الأمريكي يسعل باستمرار، وبين آونة وأخرى، يصدر صوتا حادا من أنفه كما لو كان يسلك أنفه بقوة. وتكرر هذا الأمر عشرات المرات دون أن يشغل بال الأمريكي الآخر (الأصلي) الجالس بجواره و القادم بصحبته. ولكن الموضوع كله عكر علي كثيرا جدا صفو المشاهدة، فما هذا؟ وما معنى هذه الأصوات والسعال؟ كنت أود أن أهمس في أذنه ببساطة: أنت في حاجة إلى رؤية طبيب ياعزيزي.. فارحم نفسك وارحمنا فنحن في زمن أنفلونزا الخنازير!
ولو فعلت لقامت القيامة طبعا، فستكون تهمة الاعتداء العنصري على الحرية الشخصية جاهزة على الفور. ما حدث أنني أصبحت أراقب نفسي جيدا ولحسن الحظ لم تظهر علي أي أعراض بعد. هل كانت هذه حالة عصبية التي أصيب بها الناقد الصيني-الأمريكي ربما من فرط الهلع في التسابق على مشاهدة الأفلام في كان؟ ربما!
أخيرا تمكنت من مشاهدة الفيلم اليوناني "زمن الغبار" للمخرج الكبير ثيو أنجلوبولوس ضمن عروض السوق الدولية للأفلام وهو ما كان يسألني عنه باهتمام صديقنا محمد هاشم الذي ترجم كتابا كاملا عن أنجلوبولوس وسينماه الشاعرية ذات البصمة الخاصة، وهو أساسا أيضا من المهتمين بالسينما الفنية. لكن لعل محمد لا يشعر بنوع من الاحباط إذا ما قل له إنني وجدت- لدهشتي الشديدة- أن الفيلم أقل أفلام مخرجه تألقا حتى الآن. نعم هناك الحركة البطيئة المميزة للكاميرا، والإيقاع التأملي البطيء، والاعتماد على التداخل بين الماضي والحاضر، وعلى استدعاء الذاكرة، والبطل الذي يرغب في تصفية حساباته الشخصية مع ماضيه ومع عالمه، لكن أنجلوبولوس فقد شيئا مهما هنا ربما يكون المدخل الخاص الجديد للموضوع، وغرق في الانتقال بين عدد كبير من الشخصيات، ومزج بين الانجليزية واليونانية، واستخدم طاقما تمثيليا "دوليا" متنافرا مثل وليم دافوي وميشيل بيكولي وايرين جاكوب وبرونو جانز وغيرهم.
الأحداث أيضا كثيرة ومتلاحقة، والشخصيات تتحرك كالعادة في التاريخ، من وفاة ستالين حتى استقالة نيكسون. وتنتقل بين أماكن ومدن مختلفة. فيلم محير ومربك بل ومرتبك في بنائه، واعتماده على الحوار التقليدي بين شخصين في لقطات قريبة ومتوسط وعلى القطع المتبادل، يحد كثيرا من استمتاعك به.
ماذا يحدث للسينمائيين الكبار عندما يشيخون أو يكبرون؟ هذا السؤال أيضا يراودك وأنت تشاهد فيلم "نجمة لامعة" لمخرجة جين كامبيون التي أتحفتنا هنا في كان بفيلم "البيانو" عام 1993. هذا الفيلم أثار سخط الجميع بسبب بطئه ولغته الأدبية العقيمة، حتى بدا أنه يعكس تراجعا إلى سينما عفا عليها الدهر خاصة وأنه يتناول موضوعا لا جديد فيه من أي ناحية، يدور حول العلاقة العاطفية بين الشاعر الانجليزي جون كيتس وفاني براون، وكيف انتهت حياة الشاعر مبكرا، وترك فاني التي أحبته بصدق وحيدة تبكي حبها المفقود.
فيلم رومانسي يعتمد أساسا على الحوار واستخدام القصائد الشهيرة للشاعر، ولكن ليست وظيفة السينما قراءة الشعر ولا ترجمة قسم من حياة أي إنسان، بل البحث في قيمة جديدة ورؤية خاصة معاصرة لما يكمن في الماضي.. أليس كذلك!

الخميس، 14 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 2

لقطة من فيلم "حوض الأسماك"


الغرق في "حوض الأسماك" والخروج من "دمية الجنس"

المسابقة الرسمية بدأت تقوى وتشتد مع عرض الفيلم البريطاني المنتظر "حوض الأسماك" The Fish Tank للمخرجة أندريا أرنولد، وهو فيلم يستلهم أجواء المخرج مايك لي الواقعية. أعجبني الفيلم أكثر كثيرا مما أعجبني فيلمها الأول الذي عرض في دورة 2006 "الطريق الأحمر" The Red Road.
فيلم شديد القسوة والقتامة لكنه صادق تماما في تناول موضوعه المعاصر الذي يعكس صورة لما يحدث في المجتمع الانجليزي اليوم في أوساط الطبقة الهامشية اتي تعيش خارج دورة المجتمع، من خلال فتاة مراهقة ضائعة لا تجد من يأخذ بيدها.
ممثلة جديدة شابة جدا (17 عاما) ربما ستتفوق على كيرا نايتلي بأدائها الواثق. كيتي جارفيس إسم سيبقى طويلا في الذاكرة لإحدى نجمات المستقبل.
فيلمي الثاني اليوم كان الفيلم الإيراني للمخرج الكردي بهمن قبادي (صاحب "زمن الجياد السكرانة" The Time of the Drunken Horses و"نصف القمر") لكنه هذه المرة يخرج من جلده أي يتخلى عن التصوير في كردستان ويصور للمرة الأولى في طهران فيلما سيرضي الكثيرين في الغرب سياسيا لأنه يدين بقسوة وبلا أي مواربة، لكن هل نجح قبادي في نسج موضوع فيلمه دون أن يأتي ممطوطا؟ وهل نجح في جعل فيلم عن موسيقيين شباب يريدون الخروج من ايران لتقديم الطبعة الايرانية من أغاني وموسيقى الروك والراب، عملا يتسم أيضا بروح امرح كما أراد؟ الإجابة على هذاالسؤال تستلزم العودة إلى تحليل الفيلم فيما بعد.
شاهدت أيضا فيلم "دمية الجنس" Air DOLL الياباني الذي يدور حول فكرة الخلق والتمرد على حدود الخليقة، والبحث عن مغزى للحياة من خلال حكاية الدمية التي تتخذ لنفسها مسارا "إنسانيا" وتشعر بطعم الاشياء، فيكون هذا بداية لدمارها.
أما فيلمي الرابع اليوم الخميس فكان فيلم "تيترو" Tetro لفرنسيس فورد كوبولا الذي استقبل استقبالا حافلا في افتتاح تظاهرة "نصف شهر المخرجين" وإن تأخر عرض الفيلم عن موعده المقرر نحو 40 دقيقة، فالافتتاح عادة مثل العرس، تتوه فيه أم العروسة بل وتنسى نفسها أيضا. ولنا عودة للفيلم بالتفصيل قريبا. لكن أكتفي بالقول أن عشاق كوبولا المبهورين بأفلامه القديمة سوف لن يعثروا هنا على بغيتهم، فهذا عمل جديد تماما لا علاقة له بأفلامه الأخرى بل ويمكن القول إنه أيضا أقرب إلى التجريب في الشكل وإن كان في إطار الميلودراما الكاملة التي تسير حسب الكتاب!
توجهت في العاشرة مساء لمشاهدة فيلم "ابراهيم الأبيض" ثاني أفلام مروان حامد الروائية الطويلة في السوق الدولية للأفلام. وقابلت الصديق أحمد عاطف الذي تكرم يالحصول لي على بطاقة دعوة لكننا اضطررنا للانتظار طويلا، ثم سمح لنا بالصعود لكي أجد أنني أقف على منتصف السلم بعد أن امتلأت القاعة عن آخرها وأصبح الاحتمال الأكبر أن أشاهد الفيلم واقفا في نهاية يوم طويل حافل ومرهق للغاية.. أعدت بطاقة الدعوة إلى أصحابها شاكرا، ثم غادرت وأنا أردد لنفسي"الحق على كوبولا أكيد"!

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger