الخميس، 7 مايو 2009

"خربوشة" المرأة الأسطورة التي هزمتها المعالجة السينمائية

من الأفلام المغربية التي أتيح لي مشاهدتها في مهرجان تطوان السينمائي الأخير فيلم "خربوشة" عن سيناريو الزميل والصديق الناقد السينمائي خالد الخضري مع شقيقه عبد الباسط الخضري، وأول أفلام المخرج حميد الزوغي.
هذا الفيلم يدور أساسا حول شخصية المغنية الشعبية والشاعرة "حادة الزيدية" التي تحدت القائد أو الحاكم المستبد الطاغية في التاريخ المغربي الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وجعلت سلاحها الوحيد في مواجهة بطشه هو الكلمة والغناء. وقد عرفت أشعار حادة، أو "خربوشة"، بالعيطة، وهو نوع من الغناء التحريضي المشوب بنغمة حزينة، فقد قتل الطاغية المستبد كل أفراد أسرتها ونجت هي لكي تحقق انتقامها وتصبح سلاح الضعفاء في مواجهة الاستبداد، وذلك كله في اطار الصراع القبلي الذي كان سائدا في تلك الفترة قبل تأسيس المغرب كدولة حديثة.
هناك جانب "أسطوري" لاشك فيه، في حكاية "خربوشة"، رغم أنها رواية حقيقية. وقد تطورت الأسطورة واستقرت في ضمائر المنشدين والمغنين من الأدب الشعبي أو الشفوي المغربي، عبر العصور، لأن الشخصية المتمردة هنا التي تمكنت من قهر القائد الظالم وتحطيمه نفسيا وأصبحت رمزا للبطولة هي شخصية امرأة.
وهو يحاول إسكاتها بشتى الطرق: بالتهديد والوعيد والإيذاء والاعتقال، ثم لا يجد سوى سلاح القهر الذي يستخدمه الرجل ضد المرأة في مجتمعات القبيلة، أي بالزواج كوسيلة للإخضاع. فيعرض عليها القائد عيسى بن عمر أن تتزوجه، لكي يضمن بالتالي سكوتها بعد أن تصبح حريصة على مصالح القبيلة التي تندمج فيها. لكنها توافق، بينما تخفي بالطبع "أجندتها" الخاصة، وهي تحطيمه وفضحه على الملأ من منابر السلطة.
لا تكف خربوشة عن الغناء، وتبتكر كلمات جديدة تتسق مع التطور الذي وقع لها، وتصر على المضي قدما في فضح "الزوج" الديكتاتور أمام الأعيان والكبراء، وتهينه بل وتحرض على الثورة ضده.
وفي النهاية لا يجد "القائد" سوى أن يأمر بدفنها حية، فيقوم رجاله بوضعها داخل فجوة في جدار ثم يشيدون جدارا عازلا آخر حولها لكي تلقى مصيرها، اختناقا على الأغلب كما حدث في الرواية الحقيقية. لكن الثورة تكون قد قامت ضد الحاكم المستبد، وجاء وقت سقوطه في نفس اللحظة التي تدفع هي حياتها ثمنا لشجاعتها وجرأتها لكنها تفقد حياتها وتكون قد تحولت بالفعل إلى أسطورة حية ملهمة في أوساط الناس، وتظل الأجيال تتناقلها.
هذا الموضوع الشائك ذو الدلالات المعاصرة الجريئة كان يقتضي معالجة تستنهض الطاقة الشعرية الكامنة في الكلمات والأشعار، في المعاني والأفكار، وتحركها وتجسدها في صور ولقطات، يختلط فيها الحلم بالواقع ربما، والحقيقة بالأسطورة، ويضفي عليها السيناريو وأسلوب ولغة الإخراج نوعا من الشاعرية والرونق الداخلي.
أما ما شاهدناه، سواء من خلال المعالجة الدرامية أم الإخراج، فهو شيء أقرب إلى أسلوب المسلسلات التليفزيونية التقليدية: الأداء المسرحي الساكن، اللقطات الطويلة، الاعتماد على الحوارات الطويلة في شرح الأحداث، الدوران حول الفكرة، التركيز على ما يحدث على مستوى البنية العليا وإهمال ما يقع هناك، على الجانب الآخر، على مستوى البنية السفلى، أي على مستوى الناس، أصحاب المصلحة الحقيقية، والشركاء الطبيعيين لخربوشة في تمردها.
هناك دون أدنى شك، جهد كبير واضح في إدارة التصوير في المواقع الطبيعية، ومطابقة جيدة للكثير من الأجواء التي كانت سائدة في تلك الفترة، وتحكم كبير في أداء الممثلين وعلى الأخص الممثل الذي قام بدور القائد عيسى (عباس كمال) رغم أنني لن أنبهر بأداء الممثلة هدى صدقي الذي وجدته نمطيا وعلى وتيرة واحدة ووجدتها تميل أيضا إلى المبالغة المسرحية رغم حصولها على جائزة التمثيل في مهرجان الفيلم المغربي في طنجة.
وهناك أيضا اهتمام بتوزيع الإضاءة وبتصميم الملابس وخلق التكوينات الموحية. لكن الفيلم، الذي يسير في قالب تقليدي، لا يتجاوز كثيرا، رغم مما بذل فيه من جهد، الطابع المسرحي في الحركة والأداء والاعتماد الأساسي في توصيل الفكرة على الحوار. وبدا الفيلم أيضا خطابيا زاعقا يخلو من اللحظات الشعرية المكثفة التي توحي أكثر مما تشرح أو تفسر.

لهذا كله جاء فيلم "خربوشة" رغم شجاعته، فيلما فاقدا لروح الأسطورة، بينما هو يعتمد اعتمادا أساسيا على شخصية أسطورية رغم واقعيتها، وعلى الرغم من حقيقة أنها كانت موجودة في الماضي الذي كان.
ربما تكون كلمات الأغاني والأشعار القريبة من روح أشعار "العيطة" قد نجحت في تكثيف المعاني العديدة التي يارد إيصالها إلينا من وراء تجسيد تلك الشخصية بما ترمز إليه. ولكن الفيلم أقل موسيقية بشكل عام مما كان ينتظر من فيلم أساسه اللحن والكلمة الملحونة.
مؤلف الموسيقى أراد تضخيم الشخصية فلجأ إلى الطابع الكلاسيكي الموسيقي الصارخ أحيانا، وأفرط المخرج في استخدامه للموسيقى التصويرية أي المصاحبة للمشاهد عبر أجزاء فيلمه، وأصيب الفيلم أيضا بحالة من الترهل بسبب الإطالة في المشاهد التي تعتمد على الحوارات الطويلة كما أسلفت.
يقول خالد الحضري في كتاب "خربوشة" الذي أصدره عن تجربته في الفيلم وعن الشخصية التي قام بتحقيقها إن "حادة" كانت "امرأة حادة اللسان زائدة الذكاء، لم تكن جميلة بقدر ما كانت جريئة صريحة تواجه الظلم والظالم وجها لوجه" كما كانت "شاعرة جعلها دمامة وجهها وقبحه تنزح إلى هذا اللون لتخلق لنفسها فضاء شعريا من خلاله".
وفي رأيي أن الفيلم هنا لم يكن في حاجة إلى الالتزام الحرفي بحقيقة أنها كانت "دميمة" أو غير جميلة، بل كان من الأفضل كثيرا للمشاهد أن تكون خربوشة شخصية محببة رقيقة تتمتع بالجمال والسحر العامض الذي يليق حقا بصورة "الأسطورة".. فالصوت الجميل والكلمات المعبرة الموحية التي لاشك أن خالد الخضري اجتهد في صياغتها، لا تكفي وحدها في السينما.
((بهذا المقال عن فيلم "خربوشة" أتوقف مؤقتا عن تناول مجموعة الأفلام المصرية والمغربية التي وعدت بتقديمها لقراء هذه المدونة، وأنتقل للتركيز على الحدث الأهم الذي سيفرض نفسه علينا خلال الفترة القادمة أي مهرجان كان السينمائي الذي أنتقل إليه يوم 12 مايو الجاري والذي سيفتتح رسميا في اليوم التالي 13 مايو.. أي الأربعاء القادم فإلى اللقاء، وفي انتظار تعليقاتكم ورسائلكم - أمير العمري)).

الأحد، 3 مايو 2009

فيلم "زمن الرفاق" سينما سياسية في زمن ما بعد السقوط

الفيلم المغربي "زمن الرفاق" للمخرج الطموح محمد الشريف الطريبق، يعود بنا إلى زمن السينما السياسية المباشرة بمفهومها اليساري "المؤدلج" التقليدي ولكن من خلال "رؤية" تمزج الواقع بالخيال، والدراما السياسية بالكوميديا السوداء.
الزمن بداية التسعينيات في الجامعة المغربية.. عندما كان الاتحاد السوفيتي على وشك السقوط، وكان المد اليساري الكاسح في الجامعات المغربية، يكاد ينحسر مفسحا الطريق أمامه لزحف التيارات التي تسمى بـ"الإسلامية" أو بالأحرى التيارات التي يطلق عليها الفيلم عن حق "التيارات الظلامية" التي نجحت باستشرائها في المجتمع وتغلغلها بل ونفاذها عبر أنظمة الشرطة والقضاء والتعليم في مجتمعاتنا عموما، في العودة بنا إلى الوراء عشرات السنين، لكي نبدأ مجددا في مناقشة الكثير من الأمور التي كنا نتصور أنها حسمت في بداية القرن العشرين.
طبيعي أن يكون فيلم "زمن الرفاق" منحازا وليس موضوعيا تماما، فهو يتكلم من منظور رؤية شخصية أو تجربة خاصة بمؤلفه عزيز قنجاع الذي كتب المذكرات التي بني عليها سيناريو الفيلم. وطبيعي أن تكون هذه الرؤية متسقة مع تصورات ومفاهيم وأفكار المخرج وكاتب السيناريو (الطريبق) في رغبته في التعبير عما كان يشغل رفاق جيله حتى لو لم يكن قد قضى هو شخصيا في الجامعة كل تلك السنوات التي يكثفها في فيلمه. فهو منحاز للتيار الذي ارتبط به سواء داخل الجامعة أم خارجها، وهو وإن لم ينجح تماما في التعبير عن تلك الرؤية السياسية بطريقة فنية تخلو من المباشرة، إلا أنه يحسب له كونه أحد تلك الأفلام العربية القليلة بل والنادرة التي تتجرأ على التطرق لهذه الفترة ولهذا الموضوع.

وقد شهدت مثلا الجامعات المصرية سجالا طاحنا قبل الفترة التي يعالجها الفيلم المغربي بنحو خمسة عشر عاما، أي في منتصف السبعينيات بعد أن بدأت الدولة للمرة الأولى في تاريخها تتبنى الجماعات "الإسلامية"، فأخرجت رموزها من المعتقلات وبدأت تمدها بالدعم بل وتزودها بالسكاكين والسلاسل الحديدية لكي ينقض "أزلامها" (ومنهم من أصبح اليوم في موقع القيادة لا يكف عن التشدق بكلام أجوف عن إيمانه الديمقراطية.. ديمقراطية السكاكين للمعارضين لهم بالطبع!) على قوى اليسار لضربهم وتحطيم اراداتهم بل وتعاونوا مع قوى الأمن في مطاردتهم وتشريدهم والقبض عليهم في حملات مشهودة تحفظها أجهزة أمن نظام السادات جيدا. ومن بين أدران تلك الفترة المظلمة خرج أيمن الظواهري وأتباعه وولد فيما بعد التنظيم الدولي المعروف بـ"القاعدة".
موضوغ فيلم "زمن الرفاق" سياسي في المقام الأول، وهو ما دفعني هنا للعودة إلى تلك التداعيات لكي أشير فقط إلى أهمية فتح تلك الملفات الملتبسة على الكثيرين، ولأشير أيضا إلى أنه رغم كل ما كتب في مصر من مذكرات وكتب حول فترة الحراك الطلابي وما واجهه من قمع في السبعينيات إلا أن السينما المصرية لم تتجاسر على تناول هذا الموضوع حتى الآن، فالرقابة المفروضة لن تسمح، والمنتجون المهيمنون يرغبون أساسا في اتقاء شر جماعات الشر!

عودة إلى "زمن الرفاق" الذي بدا لي أنه أقرب في بنيانه وأرضيته إلى الفيلم السياسي "الرومانسي" ليس فقط لأنه يعتمد على المزج بين قصة حب بين طالب جامعي (سعيد) وطالبة حسناء (رحيل) وبين المواجهات بين من يطلق عليهم في الفيلم "القوى الظلامية" وعناصر اليسار من أجل السيطرة على الاتحاد العام لطلاب المغرب، بل لأنه يتبنى أيضا تصورا شديد التبسيط أي يخلو من التعقيدات الدرامية الضرورية لتكثيف العمل الفني، في تعامله مع الموضوع من كل زواياه وجوانبه، أي من زاوية حركة المجتمع ككل بما في ذلك موقف السلطة أيضا.
يقوم البناء كما أشرت، على المزج بين العام والخاص، وبين العاطفي والثوري، لكنه إذا كان قد نجح في تقديم الجانب الرومانسي العاطفي (ثلاثة شبان يتصارعون على قلب فتاة تميل هي إلى سعيد) لكنه لم يوفق في التعبير عن تطور شخصية سعيد لكي يسير في طريق الانتماء الكامل ويصبح أحد زعماء الحركة الطلابية. فقد اعتمد على تصوير مشاهد طويلة تسودها الخطابة والاستخدام الانشائي للعبارات اللفظية، وتعاني من محدودية المكان وعدم القدرة على الانتقال في الزمن بحيث يكتفي المخرج بالإيحاء أكثر من الافصاح، وبالاشارات أكثر من الوعظ المباشر. وهذه هي آفة الفيلم السياسي "المؤدلج" رغم كل ما يتمتع به من حسن نوايا.
هناك الكثير من مشاهد الاضرابات والمسيرات التي تؤرخ لأحداث سياسية شهدتها الساحة العربية في تلك الفترة، وتجاوب طلاب الجامعة معها. وهناك إشارة إلى عدم اكتمال الأشياء بل وانحسار الفكر الثوري الغاضب من خلال عدم اكتمال العلاقة نفسها أو جعل الفتاة تغادر الجامعة وتتخلى عن الحلم الرومانسي.. في اشارة إلى نهايته، لكن موضوع زحف التيار البديل (الظلامي) كان يقتضي التعامل السينمائي معه بطريقة أكثر جدية، وأكثر إيجازا في الوصف، وكثافة في الصور السينمائية واستخدام لغة التعبير المرئي.
لكن الفيلم بشكل عام يكشف عن ثقة مخرجه في التعامل مع الممثلين، وفي كونه التزم بالبناء الكلاسيكي ولم يشطح في ترهات تحطيم الشكل كثيرا في أولى تجاربه في السينما الروائية الطويلة، فربما يكون من المطلوب أن يتعلم السينمائي أولا كيف يسيطر على أدواته التقليدية قبل أن يتطلع إلى تحطيمها وتجاوزها.
ولاشك أنه يستطيع عن طريق التحرر أكثر عند ترجمة المعاني إلى لغة سينمائية مستقبلا، أن يمد تلك التجربة على استقامتها وأن يقدم لنا عملا أكثر جمالا.

الجمعة، 1 مايو 2009

فيلم "العطش": سينما جميلة ولكن بدون روح


((المقال التالي لم يأخذ حظه في النشر عند كتابته قبل سنوات لأسباب كثيرة، فأحيانا ما تسبب السباحة عكس التيار الكثير من المتاعب لأصحابها، أنشره هنا كوثيقة رأي في فيلم لقي من الاشادة أكثر كثيرا مما يستحق في رأيي واستنادا إلى آراء النقاد الغربيين)).
فيلم "العطش" هو اول الأفلام الطويلة للمخرج توفيق أبو وائل، ابن بلدة أم الفحم الفلسطينية الذي أراد أن يسبح عكس التيار، أي بعيدا عن الأفلام الفلسطينية التقليدية التي تناقش الحصار الاسرائيلي والتوغلات العسكرية ومظاهر المعاناة اليومية والصمود (أفلام رشيد المشهراوي مثلا)، كما أراد الابتعاد عن سينما ميشيل خليفي التي تنتقد الواقع الفلسطيني دون ان تبتعد عن قضيته الرئيسية أي الاحتلال، كما تهتم بالجماليات دون ادعاء وتعال وصراخ بين اللقطات.
لقد أراد توفيق أبو وائل أن يقتفي أثر ثيو انجلوبولوس اليوناني صاحب الأعمال التي تحمل الكثير من الدلالات الكامنة، تكشف عنها بحساب شديد، وتعتمد أكثر على التأمل الفلسفي في مصائر الشخصيات وربطها بمصير العالم ومعنى الوجود فيه.
ولا عيب في ذلك بالطبع، بل إن المحك هو: هل نجح- مع تأثره هذا- في أن يحتفظ بهوية خاصة له؟
أمر مشروع تماما من الناحية الفنية أن يرغب توفيق أبو وائل في تحطيم الشكل السردي التقليدي، وأن يكتشف مكانا جديدا في أرض فلسطين ويكشف لنا عنه (هو هنا منطقة جافة تمتلئ بالفحم). وجميل أنه يريد أن يعبر عن غياب التواصل بين البشر، ربما داخل الأسرة الواحدة، وأن يفضح علاقة الحب – الكراهية بين الأب والإبنة، وجميل أن يقول لنا كلاما كبيرا على شاكلة أن الكبت بكل أشكاله هو الذي يقمع الرغبة في التحرر، فهذه كلها أشياء قد تبدو جذابة في التصريحات الصحفية التي تنشرها صحف الغرب التي تهتم كثيرا بهذا النوع من المقابلات مع السينمائيين غير الأوروبيين. لكن الواقع يظل أقوى من كل التصريحات. والواقع هو أن فيلم توفيق أبو وائل ليس من الممكن اعتباره فيلما فلسطينيا لأسباب عديدة:
أولا: لا يوجد فلسطيني يعيش في الفراغ، بل هناك أرض وشعب وماء ونبات وحياة وقضايا محددة الملامح لها جذور وتاريخ. أما أن يأتي أبو وائل فيصور كيف يهجر الفلسطيني أرضه الخضراء المزدهرة بالنباتات إلى الصحراء المجدبة التي تنعدم فيها أوليات الحياة بسبب وقوع ابنته المراهقة الشابة في الخطيئة، فهو يعكس نوعا من المراهقة الفكرية، فالفلسطيني لم يهجر أرضه لأسباب من هذا النوع كما يعرف كل المشاهدين في العالم. وهو من خلال هذا يريد بالطبع أن يقول لنا أن الفلسطينيين أسرى لتقاليد الماضي البالية العتيقة الاقطاعية، وهي نفس ما يردده الصهاينة عن الفلسطينيين أمام العالم منذ أكر من 60 عاما، سواء كان أبو وائل يدري أو لا يدري.
ثانيا: لا توجد أزمة في التركيبة النفسية الفلسطينية يمكن تناولها على نحو مجرد يعزلها بالكامل عن واقع الاحتلال والإرث العربي المتخلف المتراكم، كما عبر عن ذلك بصورة شاعرية رائعة ميشيل خليفي في "عرس الجليل" على مستوى تقليدي، أو كما عبر عنه إيليا سليمان في فيلمه الكبير "يد إلهية" على مستوى ما بعد حداثي.
إن مشكلة فيلم " العطش" ليست في اهتمام مخرجه بالتراجيديا كشكل درامي، فهذا اختيار مشروع، بل المشكلة هي أن هذه التراجيديا لا تتميز بملامح خاصة فلسطينية، بل هي تراجيديا مجردة، أو تجريدية أي تحدث في الفراغ، في منطقة أقرب إلى المناطق المحايدة التي لا تنتمي لأي طرف على الحدود بين دولتين، تماما مثل فيلمه الذي لا تعرف إن كان فلسطينيا أم أوروبيا استشراقيا!
والموضوع حول رجل اقطاعي مستبد وابنته الشابة التي ارتكبت فيما يبدو إثما، يأخذ أسرته ويرحل بعيدا عن قريته إلى منطقة صحراوية قاحلة، يقيم منزلا من لا شئ ويزوده بالماء عن طريق توصيل أنبوب طويل ملتف، يصعد جبلا لكي يزود الأسرة باحتياجاتها من الماء، هذا الأنبوب يتعرض بانتظام للتخريب من قبل مجهولين، فيلجأ الرجل مع ابنه إلى تناوب حراسة الأنبوب ليلا ونهارا، غير أنه لا يستطيع قمع الفتاة والسيطرة عليها إلا بعد ان يحبسها داخل كهف معتم وراء قضبان، ويحاول الفتى- الإبن- الشقيق- تحطيم بابه دون جدوى لأنه أيضا عاجز شأنه شأن والده.
نحن هنا أمام تكوينات مصطنعة لا علاقة لها بالبيئة الفلسطينية كما نعرفها (يمكن للمخرج القول إنه أكثر معرفة بها منا بالطبع!)، ودلالات رمزية مفتعلة للماء الذي يفجر الصراعات بدلا من أن يساهم في تبريدها، ومشاهد بالغة القسوة للقمع البدني من جانب الأب لابنته، والخلاصة أن "العطش" يمكنه أن يحقق نجاحا في بعض المهرجانات ولكن دون أن يتخذ له أي موقع في تاريخ سينما بلده، فهو أقرب إلى الأفلام "الريفية" الإيرانية التي سببت هوسا لدى بعض النقاد ومتعهدي المهرجانات في العالم، ولكن دون أي شئ يبقى في الذاكرة.
ولعل تبني جهات إنتاج إسرائيلية له (انتج بدعم إسرائيلي وشارك بالعمل فيه طاقم إسرائيلي) يعود إلى معرفتهم بأنه لا يمثل أي خطر عليهم فهو فيلم فاقد للهوية بل إنه يروج للفلسطيني التائه في مقابل أسطورة اليهودي التائه.. الذي عثر على وطن له أخيرا.

الخميس، 30 أبريل 2009

"العيون المسروقة": البحث عن جسر للتواصل دون التخلي عن الهوية

من الأفلام الممتعة التي تناولت العلاقة بين الأديان البلغاري "العيون المسروقة" Stolen Eyes من إخراج رادوسلاف سباسوف Spassov.
هذا ليس فيلما كسائر الأفلام، ليس فقط لأنه يتجرأ فيناقش قضية كانت تعد، حتى وقت قريب، من الممنوعات في بلغاريا، بل لأنه يعرض لموضوعه بكثير من الرونق، ويبرز فيه الحس الجمالي العالي، ويتميز الأداء التمثلي الذي يستولي على المشاعر.
فيلم "العيون المسروقة" (2005) لا يتوقف عند حدود الرؤية الاجتماعية بل يثير – وإن على نحو خافت يجري تحت جلد الصورة- تساؤلات فلسفية حول معنى الوجود من خلال العقيدة والعلاقة مع الآخر، وما هو أصل الأشياء كما خلقها الله.
وإضافة إلى هذه التساؤلات، يثير الفيلم قضية العلاقة بين الدولة والأقليات العرقية، وبين الفكر الشمولي وتعامله مع الموروث الديني حتى لو لم يكن يمثل أدنى خطورة على وجود الدولة.
ولكي نلم بأبعاد الموضوع علينا أن نعود قليلا إلى الوراء، إلى التاريخ الحديث القريب، لنرى ماذا حدث في بلغاريا.

الخروج القسري
مع تداعي ثم انهيار الإمبراطورية العثمانية، ظلت هناك أقليات مسلمة من أصول تركية، تعيش في بعض البلدان التي كانت تحت هيمنة تلك الإمبراطورية الغابرة. ومن أكبر هذه الأقليات تلك التي كانت – وربما لا تزال – تعيش في بلغاريا.
ورغم هجرة الملايين من بلغاريا إلى تركيا خلال القرن العشرين فقد ظلت هناك أقلية مسلمة في بلغاريا كانت تقدر بنحو مليون شخص في ثمانينيات القرن العشرين.
وفي بداية الثمانينيات بدأت في بلغاريا أكبر عملية لتبديل هوية الأقلية المسلمة. فقد صدرت قوانين تحظر ارتداء الأزياء الإسلامية، كما تفرض على البلغاريين من أصول تركية اتخاذ أسماء بلغارية لهم، وإعادة تسجيل أنفسهم ونقلهم من أماكن إقامتهم قرب الحدود مع تركيا إلى أماكن أخرى.
وفي عام 1989، دعا الزعيم البلغاري الشيوعي تيودور جيفكوف تركيا إلى فتح حدودها كما فعلت بلغاريا أمام البلغاريين المسلمين، بعد أن كانت قد بدأت أكبر عملية ترحيل قسري شملت 350 ألف بلغاري من أصول تركية لدفعهم للهجرة إلى تركيا. في أجواء تلك الفترة تحديدا تدور أحداث هذا الفيلم البلغاري المدهش.

حفظ الأختام
هناك أولا الشاب البلغاري "إيفان" الذي يجند في الجيش، ونظرا لإجادته لعبة الشطرنج يتم تكليفه بمهمة حفظ الأختام الجديدة التي تحمل أسماء الأماكن الجديدة التي يتم نقل الأتراك البلغار إليها.
ويصور الفيلم كيف كانت السلطات ترغم الناس على التخلي عن أسمائهم وتمنحهم أسماء جديدة، وتقوم بإزالة عشرات القرى الجبلية من الوجود أو تغيير أسمائها ونقل سكانها وترحيل من يرفض الانصياع إلى الجنب الآخر من الحدود التركية.
وسط هذا كله تبرز من بين الأقلية المسلمة المعلمة الشابة الأرملة "آيتان" التي ترفض تحت كل الظروف التخلي عن هويتها، وتقود أهالي قريتها لاستعادة المسجد الذي دمرت القوات الحكومية جزءا منه، وتحاول سرقة الأختام الرسمية التي تستخدمها الجهة الإدارية لختم أوراق الهوية الجديدة للسكان الأتراك. وهنا يقع احتكاكها الأول بالمجند الشاب إيفان الذي تعجبه شجاعتها وتمسكها بقضيتها.
وفي مواجهة بين قوات الجيش وأهالي قرية مسلمة – ومن بينهم آيتان- يقع حادث بشع عندما يقود إيفان عربة مدرعة استجابة لأوامر قائده، مباشرة في اتجاه تجمع احتجاجي لنساء القرية مما يؤدي إلى مقتل ابنة آيتان الصغيرة. ويتسبب الحادث في أزمة نفسية عميقة لدى كل من إيفان والأم الشابة، ويُلحق كلاهما بمستشفى للعلاج النفسي.
ولا يكف إيفان منذ تلك اللحظة عن متابعة آيتان، يريد أن يكفر بكل طريقة ممكنة عن خطيئته، بينما لا تستطيع هي رغم انجذابها الواضح له، أن تسامحه أو تغفر له، فقد حرمها من أعز ما تملك في لحظة انصياع أحمق لبطش السلطة.
ويسعى شقيق الفتاة إلى إقناعها بمغادرة بلغاريا إلى تركيا، حيث يرى أنها ستصبح بمأمن هناك. إلا أنها تفضل البقاء في بيت قديم بالقرية. يطاردها إيفان ويبوح لها بالحب، ويقول بأنه متمسك بها وأنه يحترم عقيدتها بل ويعرض على جدها الشيخ، أن يصبح واحدا من الأسرة، ينتمي إلى عقيدتها.
التمسك بالهوية
وفي مشاهد تشيع فيها الشاعرية والرقة، يتغنى الفيلم بتمسك المرء بهويته، فالدين هنا جزء من الهوية، وليس مرادفا للتعصب الفكري.
ويعد "العيون المسروقة" الفيلم الروائي الثاني للمخرج سباسوف، الذي درس التصوير السينمائي وعمل مصورا في أكثر من 20 فيلما بلغاريا، قبل أن يتحول للإخراج.
ولا شك أن تجربته في التصوير تنعكس هنا كأفضل ما يكون، وتتبدى في اهتمامه الكبير بالتكوين والتشكيل والاستفادة الكبيرة من مواقع التصوير التي اختارها بعناية كبيرة، ونجح في استغلالها في تأكيد العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الماضي والحاضر، تأكيدا على فكرة التمسك بالهوية.
ولا شك أيضا أن من أكثر الجوانب بروزا في هذا الفيلم، الأداء الرفيع المتميز للممثلة فاسيلا كازاكوفا في دور آيتان (التي ترفض تغيير اسمها إلى آن)، بتعبيرها الدقيق عن التطور الذي يطرأ تدريجيا على الشخصية. فهي تبدو في البداية شديدة التمسك بجذورها، أقرب إلى العناد الطفولي في مواقفها ورفضها للآخر والتشكك فيه لمجرد انتمائه للطرف الثاني. وبعد وقوع الحادث وفقدانها ابنتها تمر بمرحلة صعبة، بين الجنون والعقل، وهنا تتألق الممثلة كثيرا وتجيد التعبير بالعينين والحركة الرصينة والصمت.

نهاية سعيدة
ولا يتخذ الفيلم مسارا منطقيا في خط صاعد نحو الذروة ثم الهبوط نحو الانفراجة الأخيرة، بل يبدأ من حيث تأزم الموقف بين أبناء الأقلية المسلمة والسلطات، ثم يعود إلى متابعة نمو العلاقة بين الشاب والفتاة، قبل أن يعود أخيرا إلى تأكيد فكرة الارتباط القدري بين الطرفين: آيتان وإيفان.
تمر فترة اختبار طويلة وشاقة، لتهيئة إيفان للانضمام إلى الأسرة المسلمة، وتحت رعاية ومراقبة الجد الشيخ، ينجح إيفان أخيرا في كل ما تعرض له من اختبارات، فهو يتخلى عن شرب الخمر، وينصاع لفكرة الانتظار لممارسة الحب بعد الزواج، ويبذل كل ما يمكنه من جهد في ترميم المسجد، وأخيرا يتزوج الاثنان ويقوم إيفان بترميم المنزل القديم في البلدة الحدودية المدمرة التي يقرر الاثنان البقاء فيها رغم كل ما يحدث.
هذه النهاية السعيدة التي يختتم بها الفيلم تحمل هنا معنى رمزيا: فهي ترمز إلى إمكانية التعايش بين البشر، وانتصار إرادة التسامح على روح التعصب والبغضاء.
وتعبر اللقطة المتكررة في الفيلم لدقات جرس الكنيسة القديمة في القرية التي تختلط – على شريط الصوت- بصوت المؤذن أعلى مئذنة المسجد، عن التعايش بين الأديان والعقائد، وعن الروح المشتركة التي تواجه معا الظلم.
ولعل من أكثر ما يؤكد تلك الروح التي يشيع فيها الحس بالتسامح والرغبة في التكفير عن الماضي، والتطلع المشترك إلى المستقبل، أن هذا الفيلم جاء ثمرة للإنتاج المشترك بين بلغاريا وتركيا، وإن كانت الفكرة والنص والإخراج لمخرجه البلغاري.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger