الخميس، 9 أبريل 2009

"خلطة فوزية": إطلالة على سحر الدنيا من داخل الهامش

يبدو فيلم "خلطة فوزية" للمخرج مجدي أحمد علي متميزا كثيرا بلغته التي تقترب من عالم السينما الفنية، رغم أنه مصنوع في إطار السينما السائدة، فمجدي أحمد علي يطور في إطار ما هو سائد، ويلعب، بقدر ما تسمح به شروط السوق، في المساحة الواقعة بين السينما الشعبية والسينما الفنية، وطبيعة موضوعات أفلامه قد تفرض عليه احيانا بعض الأنماط في الأداء التمثيلي أو القوالب التي يقصد من وراءها عادة الإضحاك أو التأثير الكوميدي الخفيف، وهو ما يبدو وقد أصبح أحد شروط هذه السوق السينمائية بتضاريسها القاسية.
ولعل أهم ما يميز الفيلم ليس واقعيته في رسم ملامح الشخصية الرئيسية وما يقع لها في حياتها الصاخبة التي تتميز بالجمع بين أزواجها السابقين كل أسبوع، والاعتناء بهم، والاهتمام بأولادها منهم.، بل تعبيره عن الواقع بلغته الخاصة، ومن خلال رؤية للواقع قد لا تحاكي الواقع نفسه بالضرورة.
فوزية المرأة من قاع المجتمع، التي تقطن حيا هامشيا فقيرا وإن كان يتمتع بجمال خاص كونه يقع في بقعة ساحرة تطل مباشرة على النيل، تتزوج رجلا وراء الآخر، وهي تتزوج في لحظة احتياج إنساني ونتيجة لشعورها الدائم ربما بـ"انعدام الآمان" والرغبة في الاحتماء بالرجل، لكنها سرعان ما تكتشف أن الرجل الذي تتشبث بالبقاء في ظله يخذلها، ويفصح عن شخصية أكثر ضعفا منها، بل إنها أقوى كثيرا في الواقع بكل ما تملكه من قدرة على الابتكار (في إعداد وجبة عذائية خاصة تثير الشهية والشعور بالمتعة يطلقون عليها خلطة فوزية بل هي خلطة السعادة) إلى جانب نجاحها في العمل على ترويج منتجها هذا، وتطويره، والعناية أيضا بالأطفال الكثيرين الذين تنجبهم من أزواجها الأربعة الذين تتلاشى أحلامها معهم بالحصول على "الستر" واحدا وراء الآخر، أساسا بسبب خيانتهم لها أو عدم تحقق إحساسها المنشود بالسعادة و"غياب البسمة من البيت".
لكن عند فوزية يجتمع الأزواج الأربعة كل اسبوع لتناول الوجبة المفضلة من يديها، والائتناس معا وزيارة أبنائهم منها، الذين لا تهمل تربيتهم أو العناية بهم جميعا.. إلى أن تلتقي بشاب يصغرها سنا، هو السائق "حودة" الذي سرعان ما يصبح الزوج الخامس والذي يبدو أن زواجها منه سيستمر هذه المرة.
لا أهمية كبيرة لرواية تفاصيل قصة الفيلم، فالأفلام تصنع لكي تُشاهد لا لكي تٌقرأ ملخصاتها، لكن من المهم رصد هذا الخيط الرئيسي في الفيلم لأنه المدخل إلى الموضوع بأسره: حكاية هؤلاء الناس الذين يعيشون على الهامش، يرتبون حياتهم بحيث تتجاور مصائرهم وتتشابك، يملكون القدرة على خلق الإحساس بالسعادة، كما يعرفون كيف يحزنون ويتضامنون معا في المصائب، وصحيح أنهم يخالفون القانون، لكن هذا أولا نتاج لإحساسهم بالظلم الاجتماعي وقسوة الحياة، ورمز في الوقت نفسه للتمرد على السلطة، سلطة الدولة القمعية التي لا تعرف سوى التهديد والوعيد. هنا مثلا يجعل سيناريو الفيلم من فكرة تضامن السكان من أجل بناء حمام عام يليق بإنسانية الإنسان ودون أن يتعرض لتلصص الآخرين حتى عند ممارسة الاحتياج الجسدي الطبيعي بين الزوج والزوجة (كما نرى في مشهد غير مسبوق في السنيما المصرية بين فوزية وحودة) رمزا ما للرغبة في التحرر، في الحصول على المبادرة الفردية دون انتظار لتدخل الدولة، بل إن الدولة ممثلة في القضاء والشرطة، تريد هدم البناء يدعوى أنه يقوم على أرض مملوكة للدولة، وضع الفقراء الهامشيين أيدهم عليها.


ميزة السيناريو
لاشك هنا أن سيناريو هناء عطية يتميز بأجوائه الخاصة الحميمية التي تشع منها عشرات الإسقاطات على ما يجري في الواقع ولكن من خلال رؤية ما "سحرية"، تلمس المألوف مما يجري يوميا في حياة المهمشين، جنبا إلى جنب مع لحظات تأمل في مسار الحياة وهي تفضي إلى الموت. فالموت حاضر في الفيلم بقوة. "سيد" السباك، الزوج الرابع السابق لفوزية يرغب في الزواج من صديقتها "نوسة" (غادة عبد الرازق) وفوزية التي تقيم وزنا كبيرا للصداقة والعِشرة والجيرة بل والتضامن بين النساء، ترحب وتساعد وتذهب بنفسها لكي تشتري للعريس ملابس الزفاف، وتقدم النصائح لصديقتها أيضا في كيفية استمالة الزوج وكسب وده، لكن سيد يلقى نهايته بالموت في موقف عبثي تماما ليلة زفافه عندما يصاب برصاصة طائشة.
والموت الذي يجاور الحياة ويبدو لصيقا بها حاضر بقوة أيضا من خلال شخصية الراقصة العجوز (نجوى فؤاد) التي تتشبث بالحياة بل وتتطلع إلى علاقة عاطفية مع البقال، في الوقت الذي اشترت فيه قبرها، بل وأخذت ترقد فيه لكي ترى ما إذا كان حجمه سيناسب حجم جسدها بعد أن تموت وتدفن هناك، وهي تموت بالفعل بعد قليل، دون أن نشعر بالطابع المأساوي لموتها، بقدر بل نشعر بحتمية مسار الأشياء، هنا يتجاور الحب والموت.. الراقصة كانت قد اشترت بما تبقى معها من مال هاتفا محمولا لكي تتحدث يوميا مع البقال الذي لا يبعد دكانه سوى خطوات عن منزلها. بل إن الفيلم أيضا يصور لنا الكثير من المظاهر الشعبية المرتبطة بالموت مثل تغسيل الميت ودق المسامير في النعش وزيارة المقابر وتوزيع شطائر "الرحمة" على الفقراء وغير ذلك، ومع تجاور مظاهر الحياة مع تقاليد الموت، ففي الطريق أثناء نقل النعش لدفن الميت، تلتقي عربة نقل النعش بسيارة رجال الاطفاء التي يعمل عليها أحد أزواج فوزية السابقين، وتتصاعد الضحكات والتعليقات التي تعكس التشبث بالحياة والسخرية من عبثيتها.
والموت أيضا يتجسد ويتوقف الفيلم أمامه كثيرا من خلال الميتة العبثية الأخرى للإبن المعاق لفوزية الذي يلقى نهايته بعد أن تصدمه سيارة وهو يعبر الطريق بعربة المعاقين.
ومن أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها جرأة المشهد الذي يدور بعد العودة من دفن الإبن المعاق، حيث تجلس فوزية في صمت بينما يتناول الجميع الطعام ويضحكون ويتبادلون الحكايات، ومع تصاعد شعورها بالحزن تقلب المائدة وتطرد الجميع وتنفجر فيهم غاضبة بعد أن ظلت تكتم مشاعرها منذ أن تلقت خبر وفاة الإبن. وفي طقس يعود إلى بداية العلاقة بين الإنسان والكون، تتجه نحو شجرة في الفضاء، ترفع رأسها إلى أعلى وتناجي الله، وتساءل لماذا كتب عليها أن تفقد ابنها على هذا النحو!

مفهوم الواقعية
وربما كان من المهم التأكيد هنا على أن محاسبة الفيلم على مقدار واقعيته من حيث ما تتمتع به الشخصية الرئيسية من "صدق" هو مدخل يظلم العمل كثيرا، فالعبرة ليست بمدى مطابقة شخصية "فوزية" للواقع، أو مدى تطابق شخصيات الأزواج السابقين الذين يتقابلون أسبوعيا عندها بل ويتطرقون أحيانا إلى نوع من الإشارات اللفظية الواضحة التي تلمح إلى الجنس والتغزل في قدرات فوزية الخاصة ومفاتنها في هذا المجال، بل بما يكمن وراء تلك "الرؤية" السينمائية الخالصة التي قد تتجاوز كثيرا فكرة مطابقة الشخصيات أو حتى الأحداث لما يوجد بالفعل في قلب الواقع، وبما إذا كانت هذه الرؤية مقنعة وتتمتع بالحرارة سينمائيا، وهو ما يتوفر في الفيلم على نحو يتأكد من خلال اللغة السينمائية المستخدمة وأسلوب الإخراج والمزج بين صراحة الواقع ومباشرته، وبين ما يتولد من الشخصيات من مشاعر تأخذنا بعيدا عن الواقع إلى داخل النفس البشرية بتعقيداتها وعلاقتها بالكون وبالناس، بالحياة وبالحب والموت.
الأسلوب هنا يعتمد على السيناريو المتقن الذي يمنح مساحات كافية لكل شخصية: الأزواج الخمسة، فوزية وصديقتها نوسة والراقصة، والأم، ويجعل هذه الشخصيات تتمتع بالحرارة والحياة، ويضعها في مساحة ما بين الواقع الصلب والخيال السينمائي الجميل. وما المانع، فالسينما ليست فن مطابقة الواقع ولا حتى محاكاته مهما بالغ السينمائي في التوغل في تصوير المشاهد التسجيلية الطابع، كما يفعل مجدي أحمد علي هنا في لقطاته ومشاهده العديدة التي تدور داخل الحي "العشوائي" الشعبي بتفاصيله الحقيقية وديكوراته الطبيعية التي طوعها مصمم الديكور بحيث تصبح صالحة للتصوير مع تمتعها أيضا بجمال خاص رغم مظاهر الفقر الواضحة التي تتبثدى في جنباتها.
السينما تعتمد أساسا، على سينمائي يقدم "رؤيته" الخاصة للواقع وللدنيا والحياة والبشر كما يراها هو (يعبر عنها المؤلف ويجسدها المخرج) ومهما حاول أن يحاكي الواقع فإنه لا يمكنه أبدا مطابقته، لأنه يستخدم أدوات فنية مثل زوايا التصوير والمونتاج وأحجام اللقطات والإيقاع الخاص داخل المشهد الواحد، أو داخل الفيلم ككل.
في هذا الإطار يمكن فهم شخصية فوزية وأزواجها الخمسة، علاقاتها مع صديقاتها وجيرانها ودورها المحوري في المنطقة التي تسكن فيها، وعلاقتنا نحن كمشاهدين للعمل، نتلقى ما نراه ربما "خارجا عن المألوف" أو بعيدا عما نعرفه، غير أن استقبالنا له يعتمد على الصدق في التعبير، في الرؤية، في الأداء والتجسيد مهما بلغ من شطط بعيد عن المألوف.. فهل ما نشاهده في النهاية ممكن الحدوث دراميا أم لا، وما هي قدرة السينمائي وخياله الخاص على التعبير عنه بصدق.

رؤية متفائلة
مجدي يميل بالطبع إلى تغليب رؤية تفاؤلية تشيع بالمرح والتداخل بين الحكايات الشخصية الكثيرة المرتبطة بالشخصيات المتعددة: السباك الذي كان يراقب والده وهو طفل صغير كعامل للعرض السينمائي وولعه بالأفلام والخيال السينمائي ورشدي أباظة، السائق الرومانسي الذي يعرف كيف يقدم الورود لامرأة حتى لو كانت فوزية، والذي لايزال يمكنه أن يتذكر كيف كان يشم رائحة الفانيليا في فتاة صغيرة كان متيما بها قبل عشر سنوات. وهكذا.
ويجتهد مجدي كثيرا في اختيار أماكن التصوير وفي دفع الحركة داخل فيلمه: إنه مثلا يصور مشهد تذكر "حودة" وهو صغير فتاة الفانيليا، على ظهر قارب مع فوزية، ويجعل المشهد ينتهي برقص فوزية في حركة دائرية، وعلى خلفية موسيقية بحيث تساهم الموسيقى والحركة والحوار الشاعري البسيط ونظرات الحزن في عيني فتحي عبد الوهاب في إضفاء طابع غنائي خاص على المشهد.
إنه يستخدم مثلا الحركة الحرة للكاميرا في المشهد الذي يدور بين فوزية والراقصة العجوز، ويصل بالمشهد إلى لحظة شاعرية خاصة تمزج بين الحسي والروحي، وبين الماضي والحاضر، بين الجسد الذي كان (في ذاكرتنا لنجوى فؤاد) والقادم الذي لا محالة منه أي الضمور الجسدي ثم الموت.
وتتصاعد الشاعرية المشبعة بحزن كامن في المشهد الذي تروي فيه نجوى فؤاد، على خلفية لأغنية قديمة، موت طفلها الوحيد وهو بعد رضيع، وكيف ظل الحليب ينساب من ثديها.. وفي لحظة تسليم جميل بالقدر تستطرد قائلة "الحمد لله اللي ساب لي الفردة اللي ناحية القلب" مما يفهم منه أنها مرت بتجربة إزالة صدرها الأيمن بعد اصابتها بسرطان الثدي.. هكذا ببساطة ومن خلال حوار آسر ومقتصد، ولعل مشهد رقصها المشترك مع فوزية من المشاهد الموحية الجميلة التي لا تنسى خاصة وأنه يبدو ملاءما تماما لشخصية نجوى فؤاد نفسها حتى ليبدو وكأنه كتب لها خصيصا.
ويصور المخرج الكثير من مظاهر الاحتفال الجماعي بالحياة: الأفراح وموائد الرحمن التي تقام في شهر رمضان، وصور الإفطار الجماعي على الرصيف، واللقاءات الاسبوعية حول مائدة فوزية، كما يمزج بين الفرح والحزن، والسعادة والشقاء، والمأساة والجرأة الشديدة التي تجعل أهل الحي لا يتوانون حتى عن اختلاس النظر إلى حودة وفوزية وهما يمارسات الجنس داخل الحمام. وينجح أيضا في تجسيد العلاقة الخاصة المليئة بالحب والتمرد بين فوزية ووالدتها التي تُستدرج وراء عواطفها وتتوهم امكانية الحصول على قطرات أخيرة من السعادة لكي تجد نفسها ضحية لاحتيال الرجال، ويصور كيف تسعى فوزية إلى التسرية عن امها بالاغتسال معها داخل الحمام، والأخذ بيدها كما لو كانت الأدوار قد انعكست فأصبحت الإبنة تقوم بدور الأم.
ولاشك أن الفيلم بطابعه الخاص فيلم "أنثوي" تماما بمعنى اهتمامه الكبير بمشاعر المرأة وتناقضات العلاقة بين النساء في الأحياء الشعبية (الشروع في الخيانة الذي يتمثل في رغبة "نوسة" في مقاسمة فوزية زوجها "سيد" ثم محاولتها إغواء حودة الزوج الأخير لفوزية، ورغم ذلك تساعدها فوزية عند زواجها من طليقها الذي ينتهي قبل أن يبدأ بالموت، ثم عندما تتزوج من شاب آخر في النهاية.
ورغم تعامل الفيلم مع شخصياته بحب ونعومة شديدة إلا أنه لا يتجاوز عن رصد الملامح السلبية فيهم: السرقة والاحتيال والكذب والطمع وإهمال الأبناء والتورط في الخيانات أو الشروع فيها.
وكعادته يهتم مجدي أحمد علي كثيرا بشريط الصوت الذي يجعله يعلق من خلال الأغاني الرومانسية التي تنتمي إلى الماضي، على الكثير من الأحداث، أو لإبراز السمات المختلفة للشخصيات (لحن أغنية أهواك مثلا) أو تجسيد التناقض الكامن في الواقع، ويستخدم أيضا الأُغاني الشائعة التي تعكس الذوق السائد (أغاني الأفراح المتدنية)، كما يصل أيضا إلى التعليق المباشر من خلال الصورة في اللقطة التي نرى فيها صورة الرئيس مبارك أعلى خرائب الحي العشوائي فيما اللافتة المكتوبة تقول: "معا نصنع المستقبل"!
مشاهد زائدة
ومع ذلك، يبدو مشهد سيد السباك (عزت أبو عوف) وهو يروي في "مونولوج" عن ماضيه لنوسة (غادة عبد الرازق) ويحدثها عن أمه وأبيه وعن زواجه من فوزية، مشهدا زائدا في الفيلم، كما يبدو أن هناك افراطا في تكرار ظهور شخصية سيد بعد وفاته حينما يتبدى شبحه لفوزية في المواقف العديدة التي تمر بها (وفاة الإبن المعاق، الزواج من حودة.. إلخ) وهو تكرار ربما يكون قد أخل بالإيقاع، كما بدا أنه ليس من المنطقي أن تنسحب فوزية من حفل زفافها بحودة وتتجه شاردة نحو شبح سيد الذي يتبدى لها في صورة رومانسية وهو ويناولها وردة حمراء ويرتدي بذلة أنيقة (بالبابيون أيضا)!
ومن الشخصيات الزائدة في الفيلم وكان يمكن ببساطة الاستغناء عنها لربما أصبح الفيلم اكثر إحكاما، شخصية "ليلى" شقيقة حودة التي تقوم بدورها هالة صدقي، وهي ممرضة فضلت العيش مع المجانين داخل مصحة للأمراض العقلية على صحبة البشر في الحياة العادية التي تراها شديدة القسوة في الخارج.. وهي شخصية زائدة لأنها لا تلعب دورا أساسيا في تطوير رؤية الفيلم أو الإضافة إليها، وبدا أنها كتبت خصيصا لكي تؤديها هالة، أو أنها شخصية ثانوية "أدبية" أغوت الكاتبة بضمها إلى السيناريو. وربما يكون مشهد الفتاة الثرية التي تهبط من سيارة فاخرة في المقابر لوضع الزهور فوق قبر والدها أيضا من المشاهد الزائدة عن الحاجة، والمباشرة في تعبيرها عن التناقض بين تعامل كل من الطبقتين مع الموت.. وهو موضوع تم لمسه بشكل عابر لا يضيف للفيلم.
وربما يبدو أسلوب إخراج المشهد الافتتاحي في الفيلم الذي نعود فيه من خلال "فوتومونتاج" إلى زواج فوزية وطلاقها عدة مرات، مشهدا كاريكاتوريا في الأداء والحركة والأسلوب، ولاشك أنه صنع هكذا بقصد الاضحاك، وتصوير المدخل إلى "الحكاية" بطريقة تبدو "هزلية"، وهو ما يتناقض بالكامل مع الطابع العام الأكثر رصانة للفيلم.
ولعل من أجمل مشاهد الفيلم المشاهد ذات الطابع الايروتيكي التي تدور في الحمام بين فوزية وزوجها الشاب، وإن كانت مقتضيات الرقابة فرضت الاكتفاء بتصويرها من زاوية قريبة حتى تبدو الأجزاء العليا من جسديها فقط في الصورة. ويقترب الحوار في الكثير من المشاهد من مناطق محظورة على صعيد الإيحاءات الجنسية خاصة في الحوارات التي تدور بين النساء (بين فوزية ونوسة مثلا) وهي تتمتع بالمصداقية والحرارة والجرأة معا.
وربما يعاني الفيلم من غياب مساحات كافية للتنفس، للصمت، للتأمل، فتراكمت المشاهد واللقطات وغلب الحوار الطويل على البعض منها، وهو ما دفع مجدي لتنويع زاويا الصورة (كأن يلجأ للتصوير من زاوية عالية دون ضرورة درامية للتغلب على طول الحوارات).


أكثر من نهاية
وربما يكون من عيوب الفيلم أيضا وجود أكثر من نهاية لأحداثه: أكمل أهل المنطقة بناء الحمام بعد أن تضامنوا في شراء قطعة الأرض او حصلوا عليها بالتبرع من صاحبها.. وأكملوا وضع بلاطاته ومتعلقاته وأصبح لهم أخيرا حمام يحمي خصوصيتهم، وتتحرك الكاميرا خارج الحمام من اليمين إلى اليسار، في الفضاء الخارجي ملقية نظرة وداع رصينة على المنظر العام.. للنيل الجميل الحاضر بقوة في الخلفية، ونتخيل أن الفيلم بهذا بلغ نهايته الطبيعية من دون أي حاجة إلى شرح أو تعليق، ولكن مجدي يختار العودة إلى شخصيات الفيلم: الأزواج السابقون وفوزية معهم وتبدأ كل شخصية في الحديث كما لو كانوا يلقون "مونولوجات" فردية على خشبة مسرح، ثم يعيد إلينا لقطة ظهور عزت أبو عوف وهو يلوح بالوردة الحمراء ويضحك بسعادة.. ويختم على لقطة للجميع أمام مرآة الحمام وهم يضحكون بينما تظهر صورتهم مشوهة على سطح المرآة.. دون أن نعرف لماذا التركيز على لقطة بهذا الشكل وماذا تخدم!
هذه النهاية في رأيي تنتقص كثيرا من الفيلم، وتجعلنا نأسف لأن ينتهي عمل كبير فيه كل هذا الجهد هذه النهاية الضعيفة بينما النهاية الرصينة الجميلة الموحية كانت هناك، وكانت ستترك تأثيرا أكبر.. لكنه اختيار المخرج. وهو بالطبع حر في اخياراته.
تأثير مجدي على الممثلين وقدرته على التحكم في أدائهم وضبط ايقاعهم واضح في الفيلم الذي يعد أفضل أفلام الهام شاهين وفتحي عبد الوهاب وغادة عبد الرازق دون شك، بل إن نجوى فؤاد تختتم مسيرتها في السينما بدور سيبقى طويلا في الذاكرة.
ولعل أبرز ما يميز الأداء هو الانسجام التام وروح التعاون الواضحة بين الممثلين، والحماسة الجلية في المشاهد الخارجية التي يلعب فيها المكان دورا واضحا أيضا ويساعد الممثلين على تجسيد أدوارهم بإخلاص كبير دون أي افتعال، باستثناء دور عزت أبو عوف الذي انتزع مساحة أكبر مما تقتضي الأحوال داخل الفيلم، بل وتخرج عن نطاق القدرة على التلاحم مع باقي الشخصيات رغم إجادة أبو عوف لدوره في حدود المطلوب. ولكن مرة أخرى.. هذا اختيار المخرج، وكلنا مسؤول عن اختياراته. أليس كذلك!

((حقوق النشر محفوظة ويحظر تماما إعادة النشر بدون تصريح من الناشر))

الثلاثاء، 7 أبريل 2009

دليل السينمائيين المغاربة

الزميل الناقد السينمائي المغربي خالد الخضري طاقة من الحركة والنشاط، فهو لا يعرف التقوقع أو التجمد أو يكتفي بالحديث عن أمجاد الماضي كما يفعل البعض، بل يقدم على تقديم الجديد من دراسات وكتب عاما وراء عام. وقد صدر له أخيرا كتابان الاول "خربوشة" عن الأسطورة المغربية الشهيرة التي تحولت مؤخرا إلى فيلم سينمائي كتب له الخضري السيناريو، والثاني وهو موضوعنا هنا، فهو قاموس أو بالأحرى "دليل المخرجين المغاربة" باللغة الفرنسية، وهذا الكتاب هو الطبعة الثانية من الدليل الذي كان قد أصدره على نفقته الخاصة عام 2000 وتمكن بنشاطه وقدرته الكبيرة على الحركة من توزيعه بالكامل.
الدليل مرجع لا غنى عنه أمام الدارسين للسينما المغربية والمهتمين بالاتجاهات والتيارات المختلفة داخل هذه السينما التي تزداد ثراء وتنوعا يوما بعد يوم. وليت خالد الخضري يصدر طبعة عربية منه، يوزعها عن طريق شبكة الانترنت.
يضيف الخضري إلى الطبعة الجديدة أسماء جيدة للمخرجين المغاربة الذين ظهروا منذ اصدار الطبعة الأولى مما يصل بالعدد الكلي للمخرجين الذين يقدم معلومات وافية عنهم هنا إلى 274 مخرجا. وتتضمن المواد المنشورة عن المخرجين معلومات شخصية عن كل مخرج مثل تاريخ ومحل الميلاد، والشهادات الدراسية التي حصل عليها، والخبرات المتعددة في العمل السينمائي ثم قائمة كاملة بالأفلام التي أخرجها والجوائز التي قد يكون حصل عليها ثم العنوان البريدي للمخرج أو المخرجة. ويحرص على وضع صورة فوتوغرافية لكل مخرج.
وفي القسم الثاني من الكتاب يقدم الخضري قائمة بالأفلام المعربية التي أنتجت من عام 1958 إلى 2008 أي عبر 50 عاما، ويقدم معلومات وافية عن كل الأفلام: أسماء العاملين وموجز لموضوع الفيلم، ويحرص على نشر صورة من الفيلم أو لملصق الفيلم بشكل فني جدير بالتقدير.
ويقدم المؤلف كتابه بمقدمة وافية يشرح فيها الاتجاهات المختلفة في السينما المغربية ويشير إلى الأسماء الجديدة التي برزت في عالم الاخراج السينمائي في المغرب ويقدم يقسم المواضيع التي تتناولها الأفلام المغربية التي ظهرت خلال السنوات الخمس (من 2001 إلى 2005) إلى أفلام تهتم بقضايا المرأة، وأفلام ركزت على الماضي أي على حقبة القمع والذاكرة المستمدة من سنوات المعتقل وفيها نوع من السيرة الذاتية أيضا كما في أفلام جيلالي فرحاتي "الذاكرة المعتقلة". وهناك أيضا الأفلام التي تتناول قضايا اجتماعية مثل "كازابلانكا في الليل" و"طرفاية" و"طنجة"، ثم الأفلام التي تتناول قضية الهجرة، والأفلام الكوميدية، والأفلام المغربية التي اقتبست من أعمال أدبية.
ويتناول الخضري أيضا ما يطلق عليه "مسألة المهرجانات" يسلط فيها الضوء على ما يقام في المغرب من مهرجانات تتكاثر باستمرار، كما يسلط الضوء تفصيلا على تناقص عدد قاعات العرض السينمائي في المغرب خلال خمس سنوات أي منذ صدور الطبعة الأولى من الدليل.
ولاشك أن الكتاب يوفر مادة مفيدة للغاية أمام دارسي السينما المغربية خصوصا النقاد الفرنسيين أو الناطقين بالفرنسية أو دارسي سينما المغرب العربي والسينما العربية عموما من الطلاب في فرنسا وبلجيكا تحديدا، وهو هدف جيد غير أنه يجعل الكتاب بعيدا عن متناول الدارسين والمهتمين في العالم العربية الذين لا يقرأون بالفرنسية، وليت الخضري يبادر بجهده الكبير وطاقته الهائلة، إلى ترجمة هذا المرجع المهم إلى اللغة العربية حتى يكتمل جهده ويكلل باعتباره ناقدا "عربيا" في الأساس، بل هو أيضا من النقاد المغاربة الذين يكتبون وينشرون أساسا باللغة العربية.

الكتاب يقع في 358 صفحة من القطع المتوسط وقد أصدره المؤلف على نفقته الشخصية.
للاتصال بالمؤلف:
khalid.elkhodari@gmail.com

الاثنين، 6 أبريل 2009

لماذا نكره الجنس؟

يشعر كثيرون بالغضب من تناول السينما العربية لقضايا الجنس، فالمفاهيم "الأخلاقية" او تلك التي تتلحف بالأخلاق القويمة وتتشدق بالحديث عن "القيم" و"التقاليد" و"الثوابت"، ترى أن الجنس "حرام"، وتصويره يثير الغرائز، ويحض على الرذيلة بالضرورة كما لو أن الجنس فعل سري يجب إستنكاره، ويتعين علينا إنكاره أو تغييبه من تناولنا الأدبي والفني.
هؤلاء يذكرونني بالنعامة التي لا تريد أن ترى وتفضل أن تدفن رأسها في الرمال.نحن جميعا نعرف أن الشباب، وأعني كل الشباب في العالم بما في ذلك العالم العربي، مهتم كثيرا بالجنس، ويريد أن يفهم العلاقة بين الجنس والحياة، وبين المجتمع والجنس، وبين الفن وتصوير الجنس. وفي فهم الجنس فهم للعلاقة الصحية بين الرجل والمرأة، وكيف يمكن أن تصب في اتجاه صحيح وتبتعد عن الانحرافات والتشوهات النفسية الخطيرة، وفي فهم طبيعة الجنس فهم للحياة، ولا يمكن للسينما أن تنعزل عن الحياة. وأي إنكار لأهمية تناول الجنس على الشاشة وغير الشاشة، هو إنكار لأهمية التعلم والتنوير والفهم بل وإنكار للحياة نفسها.
وقد أثار الكثير من الأفلام العربية غضب الكثيرين واستنكارهم بعد أن أصبحت المجتمعات العربية تعود إلى الوراء بل وترتد، إلى مناقشة ما كنا نتصور أنه حسم من قضايا في بدايات القرن العشرين، وذلك تارة باسم "الصحوة" في حين أنها في الواقع "غفوة" جلبها تجار "الأفيون الفكري" معهم من جبال أفغانستان ووزيرستان وحطوا بها على مجتمعاتنا التي كانت مهيئة لاستقبال كل تلك الأفكار المتخلفة العتيقة البالية بعد هزيمة مشروع التحرر على أيدي الطبقات الحاكمة التي ارتضت حاليا بالتبعية (للغرب على الصعيد السياسي عموما، ولأكثر الأفكار البالية تخلفا على الصعيد الفكري خصوصا - وأنظر قناة الجزيرة الفضائية نموذجا بينا واضحا لتلك الازدواجية المرضية!).
لقد أثار فيلم "سميرة في الضيعة" للمخرج المغربي لطيف الحلو، مناقشات صاخبة بسبب تصويره لمشكلة الجنس في اطار اجتماعي واضح. وكان فيلم "حين ميسرة" قد قوبل من البعض بنوع من الهجوم غير المسبوق إعلاميا بدعوى تناوله البين للجنس، وقبل هذا وذاك، تعرض الكثير من السينمائيين لهجمات من أشخاص لا يحبون السينما أصلا بل يكرهونها ويعتبرونها شرا مستطيرا.
وسوف أتطرق قريبا إلى هذا الموضوع بالتفصيل من خلال التناول النقدي لفيلم "سميرة في الضيعة" لكي نرى حقا ما إذا كنا "جماعة بشرية" محصنة ضد إغواء الجنس بل ضد ضرورته، أم أننا نكذب على أنفسنا وعلى غيرنا ونريد أن يصدق الآخرون أكاذيبنا!

السبت، 4 أبريل 2009

"طرفاية" نداء السفر إلى البلاد البعيدة القريبة


من أهم وأفضل ما أنتجته السينما المغربية من أفلام خلال السنوات الأخيرة فيلم "طرفاية" (أو "باب البحر) ثالث الأفلام الروائية الطويلة للمخرج داود أولاد السيد. وقد لقي هذا الفيلم اهتماما نقديا وجماهيريا كبيرا حيثما عرض، وفاز بجائزة النقاد في مهرجان تطوان السينمائي 2005، وكان كاتب هذا المقال عضوا في لجنة التحكيم التي منحت الجائزة للفيلم.
ويستمد الفيلم مادته الرئيسية من إحدى القضايا التي تتناولها، بشكل شبه يومي، عناوين الأحداث الجارية، وهي قضية تتعلق بالعلاقة المعقدة بين ضفتي المتوسط، بين أوروبا الغربية وبلدان شمال أفريقيا أو المغرب العربي.
يصور الفيلم كيف يستبد الحلم بالهجرة، من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، بالشباب ويقض مضاجعهم، وينتهي عادة إلى كارثة يدفع ثمنها الفقراء الحالمون. إلا أن الفيلم لا يقتصر فقط على البعد السياسي الضيق للموضوع، بل يوسع إطاره، ويجعل من الحلم الدائم بالهجرة عند بطلته الشابة البريئة "مريم"، حلما تغذيه عشرات الإحباطات الاجتماعية المرتبطة بالفقر والتخلف والقهر والكبت: الجنسي والسياسي والاقتصادي.
الحلم والواقع
يبدو هذا الحلم - الذي يصل إلى مرتبة الهاجس القهري الذي يفرض سيطرته على الخيال والوعي - مرتبطا أيضا ومنذ زمن طويل، بأسطورة قريبة من أسطورة "النداهة" أو جنية البحر التي ترقد تحت الماء، تدغدغ مشاعر الحالمين، وتغوي الضائعين وتغريهم بقدرتها السحرية على انتشالهم من وهدة الفقر والوحدة والتشرد والضياع.
شخصيات الفيلم "الذكورية" من الرجال لا تقل ضياعا عن بطلتنا مريم: عبد السلام ضابط شرطة حراس الحدود الذي أوشك على التقاعد وبدأ يفقد توازنه بفعل ما يشاهده يوميا منذ سنوات من محاولات متكررة للفرار ينتهي معظمها بمأساة، وزميله الضابط الشاب الذي يبحث عن فرصة للتسلق الاجتماعي ولو عن طريق الارتباط مؤقتا بعاهرة، وحسن.. الصعلوك المغامر الذي أراد الإفلات من واقعه الاجتماعي القاسي بالسطو على البؤساء وحرمانهم من كل ما يملكون من مال يريدون أن يدفعونه ثمنا للحرية أي للذهاب إلى البلاد القريبة- البعيدة.
وهناك أيضا الضالعون في عمليات تهريب البشر بحرا، ومنهم "ريكي" الذي يمارس مهنته البشعة متسترا بثقوب في النظام، ويدفع ضحاياه ثمنا باهظا مقابل القيام برحلة تنتهي عادة إلى كارثة محققة، والصبي "نوح" الذي يعمل وسيطا بين الراغبين في السفر ومحترفي تهريب المسافرين.
هذه الشخصيات كلها تدور بشكل أو بآخر حول شخصية مريم.. الخادمة التي تسعى للفرار من مصيرها المحتوم، تراودها أحلام الثراء والحرية في أسبانيا، لا يستطيع أحد أن يثنيها عن المحاولة رغم أنها فقدت ثلاثة من أخوتها في محاولات مماثلة، إلا أنها تنتهي أكثر ضياعا وشعورا بالوحدة.
وهناك أيضا فاطمة: تلك المرأة المتبرجة، مخدومة مريم، التي جاءت إلى هذه المنطقة النائية للبحث عن مريم، تتهمها بسرقة بعض المال من مسكنها قبل هروبها.
وتثير "فاطمة" المطلقة اللعوب، بدلالها والحلي الذهبية التي تتدلى من ذراعيها، شهية ضابط حراس الحدود الشاب وتولد في داخله أحلامه الخاصة وتدفعه إلى رسم خططه الواهية لمستقبل قد لا يأتي أبدا.

نوح يقود مريم إلى "الحاجة" التي تمتلك منزلا غريبا في البلدة الساحلية، تؤجر غرفه للنساء الراغبات في الفرار من مصيرهن. محركها الأول كما نرى - هو المال، ورغم إلحاحها في الحصول عليه بشتى الطرق لا تعدم بعضا من طيبة قلب وإحساس خفي بالتضامن مع نزلاء منزلها.
أهمية المكان
المكان في الفيلم يكتسب أهمية خاصة. طرفاية هي تلك البلدة الساحلية في جنوب المغرب قبالة جزيرة "فيورا فنتورا" الأسبانية التي عرفت كمدخل إلى الأراضي الأسبانية والأوروبية عموما بالنسبة للكثير من الحالمين بالهجرة.
وفي البلدة التي يطلق عليها أيضا "باب البحر" تنتعش تجارة تهريب البشر، وإيواء الراغبين في أماكن هي أقرب إلى أقبية وكهوف تنعدم فيها أي وسيلة إنسانية، تمهيدا للمغامرة التي قد تنتهي بالهلاك.
مريم تتعرض للسرقة من جانب حسن مباشرة بعد أن تطأ قدماها أرض البلدة. عبد السلام الضابط ينجح في إعادة المسروقات إليها. حسن الضائع الضعيف يعاني بعد ذلك مباشرة من عقدة الإحساس بالذنب تجاه مريم، فيحاول أن يثبت لها أنه يصلح رجلا لها فيسرق أموال العصابة التي يعمل لحسابها لكي يعطيها لها علها تتراجع عن رغبتها في السفر.
الشرطي العجوز يسيطر عليه أيضا هاجس إنقاذ مريم. والحاجة تحاول أن تزين لمريم استغلال ما يبديه هو تجاهها من اهتمام دون ان تمنحه نفسها، لعله يساعدها في تحقيق حلمها بالسفر. ونكتشف أن مصدر اهتمام الشرطى العجوز بميرم لا ينبع من رغبة في مضاجعتها بل يرى فيها ابنته التي يخشى أن تلقى مصيرا مشابها.
عمل ملحمي
يصنع داود أولاد السيد عملا ملحميا كبيرا دون تزويق ودون ادعاءات، من خلال أسلوب سينمائي رقيق وحساس، وسيناريو مدروس بدقة. وهو يلمس بمبضع حاد الكثير من المناطق الحساسة: الازدواجية التي يكشف عنها التناقض بين مظاهر التدين الجوفاء وامتهان مهن أقرب إلى القوادة، ممارسة الشعوذة والاحتيال وادعاء الطهارة والرجولة والتجرؤ على إسداء النصح للآخرين، الاشتغال بمهنة حماية المجتمع (الشرطة) بينما الفساد الداخلي يعشش داخل الرؤس والقلوب، وهكذا. إنها ثنائيات يطرق عليها الفيلم دون أن ينجرف إلى الخطابة أو المباشرة الزاعقة.
مخرج الفيلم داود أولاد السيد

ويستخدم المخرج أسلوبا سينمائيا أقرب إلى الواقعية السحرية التي تميز الأدب الأمريكي اللاتيني، فهو يخفي أكثر مما يكشف، يتناول الواقع لكن بلمسة تأمل روحي عميق. وينجح في شد أنظار المشاهدين إلى فيلمه المتميز بلقطاته الموحية، من خلال الاهتمام الكبير بالتكوين وحركة الكاميرا واختيار زوايا التصوير والاستغلال البارع للمواقع الطبيعية.
ويتميز الفيلم أيضا بالمزج بين التسجيلي والروائي، فهناك رصد دقيق بالكاميرا لواقع البلدة: مظاهر الجفاف والفقر والتخلف والقهر والعزلة السرمدية والانتظار اللانهائي.
لحظات صمت
وهناك لحظات المراقبة والترقب التي تسيطر على الجميع، يتم التعبير عنها من خلال اللقطات الطويلة التي تتركز على سيارة الشرطة الكامنة في الانتظار أو على شخصيات النساء اللاتي يقبعن في منزل "الحاجة" في انتظار الخلاص، بعد أن هجرهن الأزواج أو تخلى عنهن الدهر.
وهناك أيضا التصوير الدقيق للحظات المطاردة بين المهربين والشرطة، والتواطؤ بين الشرطة الأسبانية وبعض رجال الشرطة المغربية، حيث يبدو الجميع كما لو كانوا يشتركون في لعبة مشتركة مستمرة طيلة الوقت.
في النهاية تنجح مريم في إقناع الشرطي بتقديم يد المساعدة لها، وتجد نفسها في سفينة صغيرة وسط عشرات البائسين الفارين، إلا أن مشاجرة بين الرجال تنشب في القارب بسببها، فتهرب إلى قارب صغير يتأرجح بها في عرض البحر. وينتهي الفيلم دون أن نعرف كيف يكون مصيرها.
تروي فاطمة للشرطي الشاب حكاية قصيرة ذات مغزى فتقول إنها أتت من بلدة تدعى "لاجارا" وهي مملكة ضاق ملكها ذرعا بشعبه فقرر بيعها للفرنسيين. هل يعني هذا أن شعب هذه المملكة أصبح عبيدا عند "الآخر"، أو أن شعبا بدون ملك أصبح شعبا ضائعا عليه البحث عن وطن آخر يحكمه ملك، أم أن "لاجارا" معادل مجازي للمغرب بأسره!
أخيرا ربما كانت "طرفاية" بأطلالها الباقية، تعبر بحق، كما يقول المخرج، عن قارة أفريقيا المفقودة التي يبدو أن الجميع قد أصبحوا يرغبون في الفرار منها. ولعل هذا هو مغزى المكان والزمن.. بطلا هذا الفيلم البديع حقا.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger