الثلاثاء، 31 مارس 2009

تحرير الروح والجسد بالرقص والغناء والحب


لا أعرف لماذا توقف المخرج المغربي أحمد المعنوني عن الإخراج السينمائي طوال تلك السنوات، فمنذ عام 1993 ، أي منذ أن أخرج فيلما تسجيليا قصيرا لم يقدم المعنوني عملا جديدا.
وبعد فيلمه الأول الكبير "الأيام.. الأيام" (1978) الذي كان بمثابة بداية قوية للسينما المغربية الحديثة ثم فيلم "الحال" (1981) عن فرقة ناس الغيوان الموسيقية الشعبية الشهيرة، شاء المعنوني الابتعاد عن السينما بشكل أو بآخر، بل والابتعاد أيضا عن محيطه الطبيعي في المغرب، إلى فرنسا حيث انشغل بالعمل في أشياء أخرى بعيدة عن السينما.
والمؤكد بعد ذلك أن عودة المعنوني إلى الإخراج بفيلمه الجديد "القلوب المحترقة" تعتبر بمثابة عودة الروح إلى السينما المغربية، ففيلمه يكشف، ليس فقط عما حققه من نضج كبير في معارفه السينمائية، بل عن ازدياد رؤيته عمقا، وأنه لايزال لديه الكثير الذي يمكن أن يضيفه إلى السينما في بلاده. وربما يكون الفيلم أيضا إعادة كشف عن موهبته السينمائية الجامحة المشتعلة التي لا تعرف حدودا.
إن المعنوني يجعل من فيلمه قصيدة بصرية بليغة، فيها من الذات بقدر ما فيها من الواقع، لكنه ليس شاعرا من شعراء زمن البطولات والآمال الكبيرة والجموع الصاعدة المتطلعة إلى الكلمة الرنانة، بل شاعر الانكسار الفردي، والإحباطات التي استولت على حياتنا فحفرت الحزن في داخلنا، لكن دون أن تفقدنا القدرة على الاحتفال بالحياة والحب.
إنه يعبر بمفردات اللقطة وبزاوية التصوير، بالظلال والألوان، وبالأبيض والأسود، وموسيقى الروح، ويتلاعب كما يشاء بالإيقاع في فيلمه البديع لكي يعبر عن رؤية جريئة تقتحم الكثير من المحظورات في السينما المغربية والعربية عموما: محظورات الجنس والتعبير عن الجسد، ولكن أساسا، الإفضاء بمكنون الذات وتقديم نوع من "سينما الاعترافات" على غرار أدب الاعترافات الذي لم تعرفه بلادنا إلا لماما.
المعنوني يتلاعب في فيلمه بالشكل لكي يطوعه لأفكاره ومنهاجه، كما يلعب على توليد التداعيات الحرة، والانتقال بين الأزمنة ببراعة وسلاسة، في إطار عمل ملحمي كبير حقا هو "القلوب المحترقة".
بناء الفيلم
عن أي شئ يحكي المعنوني في فيلمه، وماذا يقول إذن؟
إن السينما الحداثية التي يقدمها المعنوني في فيلمه لا علاقة لها بالوصفات الدرامية الجاهزة التي تُحبك من أجل توصيل "رسالة" ما، أو مضمون أخلاقي أو سياسي محدد. ومن الممكن القول إن فيلم المعنوني لا يقول اي شئ على الإطلاق، لكنه في الوقت نفسه يتحدث عن كل شئ: عن الحياة والموت، عن الحب والقيمة، عن الفن والجمال، عن الماضي والحاضر وتأثير الأول على الأخير، وعن الرغبة في الانعتاق، من قسوة الواقع ومن ضراوة الماضي، عن الأحلام الزائلة، وعن القدرة على التسامي فوق الجروح.
إن بطله "أمين" العائد من الخارج بعد غياب أكثر من عشر سنوات عن بلاده، يعود إلى مدينته التي اضطر للرحيل عنها مكسورا مهزوما مدمرا، بعد أن فقد أباه، ولم ير أمه، وبعد أن عانى في زمانه الأول، أي طفولته، من القهر والعذاب والاضطهاد الجسدي في أعمال أقرب إلى السخرة على يدي خاله المتعجرف الفظ، الذي كأنه له كالقدر العاتي الذي لا يرحم.
لكن خاله يرقد الآن على فراش المرض، فقد القدرة على الكلام، ينتظر النهاية بالموت.
أمين يعود لكي يواجه الماضي الذي كان، كما يواجه الواقع المتغير في مدينته "فاس"، غير قادر على إقامة أي علاقة حقيقية مع المكان، تطارده الذكريات، بحلوها ومرها، وكلما أراد الانطلاق متحررا من أسر الماضي بقتامته وسواده، وجد نفسه مشدودا مرة أخرى إليه.
أمين الذي خبر كل حجر في المدينة، وهو المعماري الذي "يمكن أن تروي هذه الجدران عن طفولته" كما يقول له الشيخ، حائر حيرة هاملت، هل يقبل على الحياة التي يحبها بين أسوار مدينته وينسى الماضي أو يصفي حسابه معه، وكيف؟ أم يعود من حيث أتى، أي مهاجرا كما كان في الغرب وهو الذي يشعر بالغربة في موطنه. ولكنه إذا عاد "فسيصبح كل الناس هنا عائدين " كما يقول لحبيبته حورية عندما تسأله لم لا يعود من حيث أتى.
إنه عاجز عن اقامة علاقة عاطفية حقيقية مع حورية التي تتطلع إليه باعتباره المنقذ من الاضطهاد الاجتماعي الذي تناله على يدي شقيقها الذي يعارض في ذهابها إلى فرنسا للبحث عن فرصة عمل. أمها تقول لها: "إنه لا يشأ أن يجعلك تزورين خالتك في الدار البيضاء".
على العكس تماما من أمين.. هناك صديقه "عزيز" فنان الرسم والنحت على الخشب، الذي يصنع لوحات جميلة، ويبيع أعمالا فنية له ولأصدقائه، وهو مقبل على الحياة، يريد أن يعانق الدنيا، ويتطلع إلى اقامة علاقة جسدية ساخنة مع امرأة تنتمي لطبقة أخرى.. سيدة أعمال، فاتها قطار الشباب، تسعى لانتزاع قطرات من السعادة الأخيرة قبل فوات الأوان مع عزيز. وعزيز بتكوينه المغامر المندفع المتدفق بالحيوية لا يمانع، ولا يرى ما يمنع، من ارتشاف قطرات الحب حتى الثمالة.
عزيز يتوسط لحورية لدى صديقته الثرية، لكي تلحق الفتاة بالعمل في مصنع النسيج الصغير الذي تمتلكه، لكن حورية التي تختنق في واقع لا يمكنه استيعاب طموحاتها ويحد من حريتها في الحركة والفعل، تواصل الحلم بالهجرة إلى فرنسا وتتشبث به.
أما أمين فهو عاجز عن منحها بصيص من الأمل في مستقبل أفضل معه رغم حبه لها، بسبب عجزه عن الهرب من أسر الماضي وذكرياته التي تطارده أثناء جولاته في كل أركان المدينة: في الحارات والأزقة والأسواق والحوانيت بل وتلحق به في منامه أيضا.


من السيرة الذاتية
لاشك أن فيلم "القلوب المحترقة" فيه الكثير من الحياة الشخصية لمبدعه ومؤلفه أحمد المعنوني نفسه. إنه يغزل وينسج خيوط فيلمه ببراعة وبمعرفة تامة بالصور المحفورة في ذاكرته والتي يعيد ترتيبها بطريقته الفنية التي تتخلص تماما من أسلوب السرد القائم على المنطق التقليدي، فليست هناك عقدة تدفع الأحداث إلى الأمام، ولا حبكة تدور من حولها الأحداث إلى أن تنتهي نهاياتها الطبيعية أو الدرامية المنطقية.
إنه يصنع بناء سرديا يدور حول عدد من التداعيات التي تنبت في الذاكرة وتتصل بالحاضر بحيث لا يمكن التفرقة بين الزمنين.
ويستخدم الراوي، الشيخ الذي كان شاهدا على مأساة البطل الشخصية في طفولته، ويجعله يتوقف ويقطع تدفق الذكريات ويعلق بل ويتحاور مع بطله في الحاضر أيضا، كما يستخدم التعليق الموسيقي والغنائي من خلال شريط صوت شديد الثراء والجمال والإمتاع.
إن الموسيقى والغناء الشعبي الصوفي المغربي في فيلم المعنوني لا يمكن فصلهما عن الفيلم كصور، كلقطات، كلوحات بصرية مذهلة يُشيع فيها التصوير بالأبيض والأسود نوعا من التغريب فتدفعنا أيضا إلى تأمل ما تحتويه الصور وما تعكسه من أحاسيس ومعان، رغم كل ما تمتلئ به من مشاعر.

متاهة
ويكاد بناء الفيلم يشبه متاهة كبيرة يجد البطل نفسه في داخلها: متاهة من الصور واللوحات والأماكن والشخصيات، تمتلئ بالانتقالات السريعة بين الأسواق والمقابر (زيارة قبرالأم التي لم يعرفها صغيرا)، وبين المنازل التي تتسم بالثراء والفخامة، وتلك التي تشبه زنازين خانقة، من الشيخ الذي يحرس الجامع إلى مدمن المخدرات الذي ينعزل عن الدنيا ويعيش في خياله الخاص، من أجواء الغناء الشعبي في الأزقة والحارات إلى أجواء الرقص الاحتفالي داخل منزل المرأة الثرية.

ثنائيات
ويدور الفيلم حول ثنائيات من نوع: القهر والحرية، والقديم والجديد، والغنى والفقير، والتقليدي والحداثي، والحب، العذاب، الماضي والحاضر، الألم والفرح، التحرر والعبودية.. وينتصر في النهاية لضرورة التصالح مع الذات عن طريق تحرير الروح والجسد بالرقص والغناء.
يستخدم المعنوني حركة الكاميرا الدائرية في بداية الفيلم في لقطة طويلة تدور فيها الكاميرا حول وجه أمين، وينتهي، في المشهد قبل الأخير من الفيلم، بالحركة نفسها ولكن ونحن نرى أمين بعد دفن الخال، يقوم بحرق صوره ودفنها في الصحراء.. لعله يدفن الماضي الحزين.. لكنه أيضا يبكي.. ولا نعرف ما إذا كان بكاؤه فرحا أم توديعا لماض هو في النهاية جزء من حياته.
لكن المعنوني ينهي فيلمه بالتفاؤل والأمل، على لقطة لطائر في السماء، ثم أطفال يصعدون التل وهم يلوحون بفرح، على دقات دفوف ونغمات أغنية عن الحرية والتحرر، ويرتفع صوت الغناء حتى النهاية.


براعة الصورة
ولاشك أن المعنوني تمكن من تحقيق ذلك الطابع البصري الخاص المتميز الثري لفيلمه بفضل ذكاء وبراعة وقدرة مدير التصوير الفرنسي بيير بوفتي على التقاط التفاصيل، والإلمام بالمكان، والإحاطة به، وتوفير إضاءة مناسبة ذات نغمة خافتة تتناسب مع لقطات الأبيض والأسود، وتضفي بشحوبها أحيانا، أجواء الحلم أو الكابوس على الفيلم.
ولاشك أيضا أن من أبرز العوامل التي لعبت دورا أساسيا في نجاح الفيلم فنيا، سيطرة المعنوني المدهشة على فريق الممثلين والممثلات وإجادة تحريكهم واستخراج أقصى ما عندهم من إمكانيات في التعبير والأداء. ولعل الأداء في "قلوب محترقة" هو الأفضل في كل ما شاهدناه من أفلام مغربية من قبل.
وقد برع بوجه خاص هنا ممثل الدور الرئيسي هشام بهلول، وكذلك باقي الممثلين الذين قاموا بالأدوار الرئيسية: عبد العزيز الطاهري وعز العرب الكغات ونادية العلمي وخلود ومحمد درهم وأمل الستة.
إن فيلم "القلوب المحترقة" مغامرة في السينما كانت تستحق أن يخوضها المعنوني الحاضر بعد غياب.. وأظن أنها مغامرة أثمرت، ولعل المعنوني بعدها يبقى ويصر على مواصلة العطاء والعمل والإضافة.

الجمعة، 27 مارس 2009

نساء وودي ألين حسب مزاجه الشخصي!

أعترف بداية أنني لم أعجب على الإطلاق بفيلم وودي ألين (73 سنة) الأخير الذي يحمل اسما سخيفا للغاية هو "فيكي كريستينا برشلونة" Vicky Cristina Barcelona.
وودي ألين الذي يخرج فيلما كل تسعة أشهر تقريبا منذ أكثر من ثلاثين عاما، لا يتمكن دائما من العثور على موضوع جيد يثير الخيال والفكر، فهو يبدو مدفوعا بنوع من الهاجس الشخصي العنيف لإخراج الأفلام، بل ويخرج أحيانا أكثر من فيلم في العام الواحد، كما لو كان الإخراج السينمائي يتيح له فرصة التنفيس عن مشاعره المكبوتة الكائنة تحت السطح، أو كنوع من "العلاج" النفسي.
في حالة فيلمنا هذا، الذي أعجب البعض من عشاق وودي ألين، يمكن القول إنه لم يوفق أساسا في بناء الموضوع في حين أن الفكرة نفسها طريفة بل ومبتكرة.
ما هي الفكرة؟ الحب والجنس.. أو بالأحرى، العلاقة بين الرجل والمرأة، ولكن من خلال المقارنة بين ثقافتين يراهما مختلفتين تماما: الثقافة الأمريكية (الأنجلو ساكسونية عموما) والثقافة الإسبانية- اللاتينية: الأولى يراها باردة لا تحوي الكثير من المشاعر، وعادة ما تنتهي العلاقات بين الجنسين فيها بشكل مفاجيء وغير مفهوم بعد أن تستنفذ أغراضها التي تتمثل في الانجذاب نحو الغرابة والطرافة والجموح. أما الثانية فهي مشتعلة بالمشاعر الجامحة التي قد تصل حد الق أو الانتحار ولا تنتهي العلاقات فيها حتى بعد الفراق الحتمي بل تمتد وقد تصل إلى ذروتها الدرامية العنيفة أيضا.
هنا نحن أمام ثلاث شخصيات رئيسية: فتاتان هما سكارليت جوهانسون وربيكا هول، ورجل هو الممثل الاسباني خافيير بارديم. الفتاتان الأمريكيتان تزوران مدينة برشلونة في رحلة مظهرها سياحي وجوهرها البحث عن التحقق أو التحرر والانطلاق بعيدا عن برودة الحياة وما يكتنفها من احباطات. أما الرجل فهو رسام إسباني بوهيمي يكاد يكون مدفوعا بقوة خفية إلى إغواء النساء، كل النساء. وهو يتمكن من إقامة علاقة مع كل من الفتاتين، ثم تظهر زوجته السابقة: بنيلوب كروز، التي نجت أخيرا من محاولة انتحار بسبب عدم استطاعتها البقاء بعيدة عنه، وتفرض نفسها عليه وعلى صديقته الجديدة. ويقبل هو بالعيش المشترك مع الاثنتين، بكل ما تكتنفه من توتر وهياج عصبي وتكاد تنتهي بجريمة قتل عندما تطلق طليقته النار عليه بسبب احساسها بالغيرة.
وليس من المفيد هنا الاستطراد في رواية أحداث الفيلم لأن الفكرة الرئيسية التي تسيطر على وودي ألين واضحة، وهي تتجسد كالعادة من خلال المقارنة بين الشخصيات، والحوارات الطويلة المجهدة التي تفتقد هنا بالمناسبة، إلى أي نوع من خفة الظل، بل إنني وجدت أيضا أن شخصية خافيير بارديم شخصية تدعو للنفور، ولم أفهم كيف تولع فتاتان على كل هذه الدرجة من الجمال بهذا الشخص الذي يمكنك أن تشم رائحته وأنت تتفرج على الفيلم!
لكن هكذا يشاء وودي ألين، بل إنه يجعل إحدى الفتاتين تتزوج من خطيبها الأمريكي في برشلونة ثم تخدعه وهي لاتزال في بداية شهر العسل، وتخونه مع باديم الذي تجد أن سحره لا يقاوم حقا!
أعترف أن نظرة وودي ألين للمرأة في هذا الفيلم أزعجتني كثيرا، فالنساء الثلاث يغرمن بالأخ بارديم بدرجة مثيرة للدهشة، وتبديان على استعداد للمضي قدما في العلاقة معه حتى النهاية الدموية، وإن كانت إحداهن تنهي علاقتها معه بدون مبرر، ربما بعد أن تكون قد شبعت من التجربة، أما الثانية التي يتخلص منها هو بعد الليلة الوحيدة التي يقضيها معها في البداية، فتعود إليه مشدودة بسحر التجربة مع الغريب، أو لخوض ما لا تستطيع تجربته مع زوجها!
وبصراحة شديدة، فقد رأيت أن نظرة وودي ألين للمرأة في فيلمه هذا نظرة تحمل الكثير من الازدراء وتجعلها تبدو مثل الحيوان الذي ينجذب إلى الجنس فقط من أجل الجنس بعيدا عن أي مشاعر، وعندما توجد هذه المشاعر (في حالة بنيلوب كروز) فإنها تصل إلى حافة الهاوية وتصبح شديدة التدمير.
والخلاصة أن وودي ألين في فيلمه هذا يستدعي من خياله الشخصي عن المرأة ويفصل منه حسب مزاجه الشخصي، ربما تعبيرا عن انتقامه الخاص من المرأة التي سببت له الكثير من المتاعب في حياته، وربما أيضا تعبيرا عن تجربته الشخصية مع عشرات النساء بعد أن أصبح "فنانا" مرموقا تسعى إليه الممثلات.. لكي يدفعهن إلى طريق الحصول على جوائز العم أوسكار.
وبصراحة أيضا لا أجد أن أداء بنيلوب كروز (وأنا من المعجبين بها تاريخيا) يستحق أصلا الترشح للأوسكار ناهيك عن حصولها على جائزة أحسن ممثلة، فهو أداء "نمطي" للمرأة العصبية يمتلئ بالمبالغات والصياح والاكثار من تحريك اليدين. ولكن الدنيا حظوظ.. ولاشك أن حظ وودي ألين مع النساء أكبر كثيرا من حظي!

الاثنين، 23 مارس 2009

من مخزن الذاكرة: فالنسيا وأيام فالنسيا



الصورة العليا في مهرجان فالنسيا السينمائي مع المخرجة المصرية الشهيرة عطيات الأبنودي وكانت في تلك السنة (أظن أنها في 1988) رئيسة لجنة التحكيم للأفلام التسجيلية والقصيرة، يليها طلعت شاهين وكان وقتذاك مقيما في اسبانيا يحضر لرسالة الدكتوراه التي نالها بعد سنوات في الأدب المقارن، وكان أيضا مراسلا لجريدة "الحياة" اللندنية.
أما الصورة الثانية (الوسطى) فهي من نفس المهرجان عام 1991 مع الناقد محمد رضا والممثل الفلسطيني سهيل حداد. وكان حداد قد لعب دورا في فيلم "نهائي كأس العالم" الاسرائيلي الشهير للمخرج عيران ريكليس (مخرج العروس السورية) الذي اعتبره الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي في تلك الفترة، نموذجا للعمل المشترك بين التقدميين الاسرائيليين والفلسطينيين، خصوصا وان بعض رجال الأعمال الفلسطينيين شاركوا في تمويله، حسب تصورات وأفكار حبيبي التي كنت أعترض عليها بالطبع. وقد كتبت عن الفيلم بعد ذلك في كتابي "سينما الهلاك" وأوضحت تفصيلا كيف أنه من نفس فصيلة الأفلام الاسرائيلية "الناقدة" لبعض الممارسات لكنها لا تنفي الولاء للصهيونية.
المهم أن مهرجان فالنسيا كان في تلك الفترة يجمع الكثير من النقاد والسينمائيين العرب بحكم اهتمامه الكبير بالسينما العربية التي كانت في أوجها في تلك الفترة. وأذكر أنه في عام واحد فقط هو 1988 فازت ثلاثة أفلام عربية بالجوائز الرئيسية الثلاث في المهرجان. وكان الصحفيون والنقاد والسينمائيون العرب يستقبلون هناك استقبالا حافلا وقت أن كانت إدارة المهرجان تمثل اليسار أو أتى بها الحزب الاشتراكي الذي كان يسيطر على البلدية وعلى الدولة كلها، أما بعد الانتخابات التي أتت بعد ذلك بالبلدية اليمينية فقد وقعت بالطبع تغييرات في إدارة المهرجان شملت مديره واتت تلك الإدارة بممثل محدود الموهبة وإن كان يملك الملامح الخارجية الجذابة فقد كان يشبه إلى حد ما، الممثل الفرنسي آلان ديلون. وربما من فالنسيا جاءت فكرة تعيين حسين فهمي مديرا لمهرجان القاهرة السينمائي فيما بعد.
وكان هناك في فالنسيا، شخص عربي يدعى زهير الدواليبي، يعمل مترجما في البلدية، أتوا به للمهرجان لكي يسهل ترجمة الرسائل والمكاتبات ويترجم لهم نبذة عن الأفلام العربية التي كانوا يعرضونها. وكان زهير هذا شابا متواضعا مهذبا جدا، يعرف جيدا حجم دوره ومكانه، ويتعامل مع الجميع باحترام وأدب جمين.
وبعد تغير الأحوال وجدت الإدارة اليمينية نفسها تعاني من فراغ في الكوادر القادرة على فهم السينما العربية والتعامل مع السينمائيين العرب بعد أن استغنوا عن خدمات هؤلاء الخبراء الذين كانوا أيضا يتميزون بمعرفتهم وإلمامهم الكبير بالسينما العربية والسينما العالمية وبأهمية التواصل الثقافي بين بلدان المتوسط. ولجأت الإدارة في سد الفراغ إلى زهير الدواليبي هذا، فقفز وأصبح مساعدا في إعداد البرنامج ثم المبرمج الرئيسي للأفلام العربية في المهرجان. وتصور الدواليبي انه أصبح بقدرة قادر، خبيرا في السينما، يناقش مستوى الأفلام ويعترض عليها انطلاقا من مفاهيم أشبه بمفاهيم بائعي "الحمص"(مع الاعتذار لهؤلاء الشرقاء بالطبع فليس مطلوبا منهم أن يفتوا في السينما) وكان الدولبيني بكل جرأة، يجادل مع النقاد الذين أفنوا سنوات عمرهم من أجل الإلمام بتاريخ ولغة السينما، وجابوا العالم لمشاهدة الأفلام والاطلاع على أحدث إنجازات السينما. فما المانع، ألا يكلف الأمر أكثر من مكالمة تليفونية مع مخرج ما لدعوته للمشاركة بفيلمه وإحضار النجمة فلانة والنجم فلان معه "من شان خاطر عيون السينما العربية ياعيوني.. وتكرم عيونك". والطريف أيضا أنه بدأ يشكو من عدم توجيه الدعوة إليه من المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي، بل وبدأ ويتهجم على المسؤولين عن تلك المهرجانات ويكاد يقول لنا بصراحة لا مواربة فيها: أنظروا كيف ندعو "نحن" كل هؤلاء السينمائيين من هذه الدولة أو تلك، في حين لا يدعونني هم إلى مهرجاناتهم!
وكان لسان حاله يقول إنه يتوقع الحصول على دعوات مقابل دعوة سينمائيين العرب إلى فالنسيا، وهو أولا منطق غير مقبول، ثانيا هذا هو بعينه ما أصفه دائما بأنه "التأثير العربي" على المهرجانات الأوروبية، فهذه المهرجانات تتبع عادة سياسة علمية موضوعية في العمل، لكن ما أن يصبح واحد من هؤلاء العرب (إياهم) مستشارا لديها أو حتى طرطورا، إلا وينتقل الفساد العربي بأكمله إلى تلك المهرجانات، فأشباه المتثاقفين من العرب هم أسوأ أنواع البشر في هذا المضمار. وكان شيئا مثيرا للنفور بل والاستفزاز حقا أن هذا الشخص كان يعرف جيدا أن من أوليات حرفته الجديدة المكتسبة أنه يتعين عليه أن يضمن حضور ممثلين عن السينمات العربية إلى مهرجان فالنسيا وإلا سقط ما يدعيه المهرجان بأنه لسينما بلدان البحر المتوسط، ولم يكن هناك بالتالي فضل لأحد على أحد، لكنه الفساد المتأصل الذي غذته وزرعته الأنظمة الفاسدة في العالم العربي.

وكانت تلك الكوكبة من الأسماء اللامعة مثل يوسف شاهين ويسرا وعمر الشريف وليلى علوي وأسامة محمد وعبد اللطيف عبد الحميد وأيمن زيدان ومحمد ملص ويسري نصر الله ومحمد خان ومحمد القليوبي ومحمود عبد العزيز وغيرهم، هي التي تخلق لمهرجان فالنسيا قيمة، وتثير حوله الاهتمام الإعلامي في العالم العربي، وكذلك الأمر بالنسبة للإعلاميين على قدم المساواة فمن دونهم لم يكن أحد ليعرف شيئا عن هذا المهرجان.
كان زهير هذا يعبر صراحة عن أفكاره في الجلسات التي كانت تجمعنا أحيانا، ثم بدأ يتحدث بغلظة عن النقاد والصحفيين العرب، وبلغ به الأمر أن قال ذات مرة أمامي أن المهرجان يتكلف الكثير من أجل دعوة هؤلاء وإذا لم يكتبوا مساحات كافية فلماذا ندعوهم، وأشار إلى ناقد بالإسم قائلا إنه لم يكتب سوى مقالتين في صحيفته وإن من الأوفر والأرخص للمهرجان في هذه الحالة تكليف مكتب دعاية لكتابة مواد من هذا النوع، وكان رد فعلي عنيفا إزاء هذا الكلام الفارغ الذي سمعته منه،وقلت له إن قيمة الناقد لا تقاس بعدد ما يكتبه من مقالات، وإن هذا الكلام لا يمكن أن يتردد في أي مهرجان محترم حقا، وإن الناقد ليس مندوب دعاية لأي مهرجان بل ومن حقه أيضا أن ينتقد دون أن يعاقب وإن مبدأ العقاب والثواب الذي يلوح به شيء متخلف، وإن المهرجانات السينمائية لا يمكنها أن تعيش بدون اعلام أو نقد ومن الممكن طبعا أن يستغنى أي مهرجان عن النقاد والصحفيين، ولكن عليه ألا يعتبر نفسه مهرجانا دوليا، ويمكنه الاكتفاء بدعوة حفنة من المطبلاتية من الصحف المحلية او من أصدقاء المدير ومسامري الغفير.
منذ تلك اللحظة أظن أن علاقتي بالمدعو زهير لم تعد أبدا إلى ما كانت عليه، (وأظن أيضا أنه لايزال أحد مسؤولي إعداد برنامج المهرجان، الذي لم تعد له أي قيمة ولا أي ذكر). وكان هو من النوع الذي يعرف حجمه كما أشرت فكان يؤثر أن ينزوي عندما يراني، وطبعا وصلت الأمور إلى أننا التقينا مرة أخيرة في مهرجان القاهرة عام 1995 وأبلغته أنني توقفت من العام الماضي عن الحضور إلى فالنسيا بعد أن فقد معناه، بل إنني رفضت الذهاب إلى عشاء دعانا إليه طلعت شاهين في منزله بالقاهرة (وكان قد انتقل للعيش هناك) لأنني وجدت بصراحة شديدة، أن دعوة شخص كهذا قد تفهم على أنها نوع من التزلف له، وكان هو قد شعر بالزهو وانتفخت أوداجه عندما وجه له طلعت الدعوة. وحتى هذه اللحظة لا يعرف طلعت شاهين السبب الحقيقي الذي دعاني للاعتذار عن عدم الذهاب بل ولا أظن أن العشاء تم في بيت طلعت نفسه الذي اعتذر فيما علمت أو أجل الدعوة أو شيئا من هذا القبيل بعد اعتذاري عن عدم الحضور (والغريب أن طلعت فسر لابن شقيقته الصحفي علي حامد كما علمت بعد سنوات طويلة، أنني تراجعت عن قبول العشاء في بيته بدافع الرغبة المبيتة في إفساد علاقاته الدولية) أو شيئا ساذجا بهذا المعنى!
ما أعرفه أن المهرجان بدأ منذ تلك السنة بالفعل في الهبوط والتضاؤل، وابتعد عنه السينمائيون الكبار، كما آثر النقاد الذين يحترمون أنفسهم الابتعاد عنه ومنهم محمد رضا وأحمد صالح ورءوف توفيق ويوسف شريف رزق الله وفوزي سليمان، وكانوا من المترددين عليه بانتظام.
كنا أنا ومحمد رضا في تلك الفترة قريبين إلى حد ما، فقد كنا نقيم في لندن، وكانت لندن رائعة في تلك الفترة، والحياة فيها أكثر جمالا أو ربما يبدو لنا الماضي دوما أجمل من الحاضر، وكنا نلتقى من حين إلى آخر، نتكلم، نتفق ونختلف ونتبادل الرأي ونضحك ونسخر من عشرات الأشياء، ولكننا لم نتشاجر أبدا. وكان ما يجمعنا أساسا هو حبنا الكبير للسينما وإيماننا بما نفعله، ولا أظن أنه جمعنا أي شيء آخر له علاقة من أي نوع بالاستفادة المادية مثلا، أو المصالح الانتهازية المحدودة، أو أننا حتى تصارعنا من أجل الفوز بعمل ما، فقد كنت أعتبر نفسي دائما أكبر من أي صراع من هذا النوع، أنا الذي ضحيت بالكثير جدا في حياتي الشخصية لكي تتاح لي فرصة دراسة ما أحب والاطلاع عليه عن كثب وممارسة ما أحب أيضا. أما هو فقد كان يصارع في غابة لندن التي كانت مليئة بالتقلبات الصحفية التي كانت دون شك، انعكاسا للصراعات والتقلبات السياسية، ولم يكن هو طرفا في تلك الصراعات، وربما كان بالتالي يدفع الثمن في النهاية، أو أن هذا كان انطباعي.

وكان انطباعي أيضا أن محمد رضا يقضي خارج لندن، بل خارج بريطانيا كلها، وقتا أطول مما يقضيه في لندن، فقد كان دائم الترحال، حتى أنني لا أتذكر أنني شاهدته ولا مرة واحدة يحضر مهرجان لندن السينمائي الذي كنت أداوم على حضوره ومازلت. ويبدو أن الصحف التي كان يكتب لها كانت تفضل أن يقوم هو بتغطية مهرجانات أخرى تقام وقت انعقاد مهرجان لندن. وكان من طبيعته أيضا أننا حين كنا نلتقي كان يقترح أن نذهب إلى السينما، وكان بالتالي يفضل مشاهدة الأفلام على تضييع الوقت في تبادل الحديث مثلا.

وظل كل منا يشق طريقه في هدوء، بعيدا عن صخب هواة الصخب. وكان كلانا يعرف جيدا أن لكل منا أسلوبه وطريقته ومنهجه الخاص المختلف في النظرة إلى السينما والتعامل معها وفهمها، وأن لا أحد يطرح نفسه "شيخا" أو "فقيها" على قبيلة النقاد أو يزعم لنفسه ما ليس منها بالضرورة، بل كنا ندرك أننا نجتهد في مجال صعب يمتليء بالمغامرين والمحتالين والمدعين وهم كثر ولا يمكننا أن نوقف تدفقهم. كنا نجتهد إذن، نصيب أحيانا، وقد نخطيء أحيانا أخرى، دون أن يؤدي هذا إلى الاندفاع للرد والتعليق والتعقيب وتصيد كلمة هنا أو كلمة هناك، بل على العكس، كنا نحترم ما يكتبه بعضنا البعض رغم خلافنا المعلن حول الأفكار بالطبع، وهو خلاف مشروع ويكتسي بالاحترام. وقد كتب محمد رضا مقالا امتدح فيه كتابي الأول "سينما الهلاك" عند صدوره في أوائل 1993. وقد وضعت مقتطفا منه على ظهر غلاف الكتاب عند صدور طبعته الثانية (2006). وكنت قد آثرت أصلا الابتعاد عن أي منافسة في مجال الصحف السعودية والخليجية والممولة خليجيا واخترت العمل في جريدة، فقيرة، لكنها منحتني الحرية، وكانت في تلك الفترة لاتزال تتمتع بمصداقيتها كجريدة "فلسطينية" أساسا، تصدر بمنهج ورؤية واضحتين. وعندما اختلفت تلك "الرؤية" والهدف، اختلفت مع تلك الجريدة وخرجت منها.
الجريدة المقصودة هي "القدس العربي"، التي كنت أعمل بها مسؤولا عن صفحة السينما والفنون اليومية، وكان زميلي وصديقي أمجد ناصر المحرر الأدبي للجريدة، وكانت بيننا علاقة ألفة وصداقة وتعاون، وكنت أتحرك وأسافر وأكتب كما يحلو لي، بحرية كاملة، أحيانا على الصفحة كاملة، مما جعلني أبقى في الجريدة منذ تأسيسها تقريبا عام 1989 إلى أن خرجت منها في منتصف 1994 بعد أن تغيرت الظروف والأحوال وسارت "دماء" كثيرة في الأنهار، والتحقت بالعمل بتجربة تليفزيون بي بي سي العربي الأولى التي لم تستمر طويلا على أي حال.
وقد فكرت مع أمجد في عام 1992 في استضافة ندوة بالجريدة حول "السينما العربية والدولة"، وقمت بإدارة الندوة، وكان من المدعوين الذين سُجلت مناقشاتهم ونُشرت على أكثر من حلقة على صفحة كاملة من الجريدة: الناقد محمد رضا، والسينمائي الفلسطيني أنيس البرغوثي، والروائي والكاتب الصحفي (في جريدة الحياة) جاد الحاج (وكانت له مساهمات بارزة في النقد السينمائي)، والسينمائي المعروف جان شمعون، وطبعا أمجد ناصر.
والصورة الثالثة (السفلية) مأخوذة من تلك الجلسة في مكاتب الجريدة ويظهر فيها إلى جواري أمجد ناصر يتكلم بانفعاله المعروف، ثم أنيس البرغوثي، وجانب من وجه وجسد محمد رضا.
الصور لا يمكن لأحد أن يلغيها أو يعيد النظر فيها، فهي جزء من الذاكرة شئنا أم أبينا.. وهي جزء من حياتنا وشاهد عليها. لقد سرت بالطبع "مياه" كثيرة في الأنهار منذ التقاط تلك الصور، وكبرنا وكبرت معنا همومنا ومشاكلنا وتضاءلت أحلامنا وودعنا الكثير من الأوهام. لم أعد أعرف أين أنيس البرغوثي الآن، وكان قد درس السينما في لندن، ربما يكون قد عاد إلى الضفة وعمل بالتليفزيون الفلسطيني. أعرف أن جاد الحاج عاد إلى بيروت ولايزال يعمل في جريدة "الحياة" بعد أن انتقلت إلى هناك قبل سنوات، وصار يتردد بين استراليا (التي يحمل جنسيتها) ولبنان. طبعا أمجد ناصر لايزال في "القدس العربي" كما هو، وقد التقيته مؤخرا عندما جاء إلى مكاتبنا في بي بي سي. ويواصل جان شمعون إنتاجه السينمائي المتميز مع زوجته ورفيقته السينمائية مي مصري.. أما محمد رضا فهو كعادته، بين الأفلام
!

الخميس، 19 مارس 2009

فيلم "القاريء" والمنظمات اليهودية والأوسكار

لو قدر لي ترشيح ممثلة لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة لكنت قد رشحت كيت بلانشيت عن دورها في فيلم "الحياة الغريبة لبنيامين بوتون". ولكن الغريب أنه رغم ترشيح الفيلم لثلاث عشرة جائزة إلا أن بلانشيت لم ترشح عن دورها فيه لجائزة أحسن ممثلة. ولاشك أن أداء بلانشيت يفوق كثيرا أداء براد بيت الذي رشح لأحسن ممثل عن دوره في الفيلم نفسه، وهو دور لاشك في صعوبته، غير أن التكيف مع الدور المكتوب ببراعة والذي ساهم الماكياج والمؤثرات الخاصة في إبرازه شيء، والإبداع في الدور وإكسابه أبعادا إضافية من عند الممثل شيء آخر، وهو ما أرى أن براد بيت لم يفعله بل قدمته كيت بلانشيت ببراعة.
ولاشك أيضا أن أداء بلانشيت في الفيلم المشار إليه، وهو بالمناسبة أحد الأفلام "الفلسفية" القليلة التي خرجت من هوليوود حديثا، أقوى وأبرز وأهم من أداء كيت ونسليت في فيلم "القاريء" دون أن يعني هذا بأي حال، التقليل من براعة ونسليت في تقمص الدور، وإضفاء مسحة من الحزن الغامض والألم النبيل عليه.
ولكن الغريب أن الفيلم نفسه، الذي رشح لخمس جوائز رئيسية هي أحسن فيلم وإخراج وسيناريو (معد عن أصل أدبي) وتصوير وتمثيل نسائي، لم يحصل سوى على الجائزة الأخيرة، رغم تفوقه في نواح أخرى كثيرة على فيلم "مليونير العشوائيات" الذي حصد ثمانية جوائز رئيسية وفرعية، كذلك الأمر بالنسبة لفيلم "بنيامين بوتون" الذي لاشك أنه يتفوق كثيرا في التصوير والسيناريو على فيلم "المليونير" المقرر له مسبقا الفوز بكل الجوائز الرئيسية لأنه النوع المطلوب تسويقه هذا الموسم.. بعيدا عن الفلسفة والتاريخ ومغزى الحياة ومعنى الموت.
أما فيلم "القاريء" فلاشك أنه يعد من الأفلام الأكثر جرأة التي خرجت من هوليوود عما يسمى بـ"الهولوكوست"، والمقصود أنه يتجاوز كل الأنماط والقوالب المألوفة الشائعة التي صورت الألمان، خصوصا ذوي الماضي المرتبط بالنازية منهم.
هنا نحن أمام سيدة جميلة، حزينة، فيها من الضعف الكثير رغم أنها تتظاهر بالتمسك بقيادة العلاقة العاطفية الملتهبة التي تقيمها مع شاب في عمر ابنها والسيطرة عليها وتوجيهها.
وهي تختلف أيضا عن مثيلاتها من الألمانيات اللاتي تعاون مع النظام النازي في كونها بسيطة، كانت تبحث عن عمل لكي تتعيش منه، وأن علاقتها بمعسكر الاعتقال الجماعي (أوشفتز) الذي عملت به لا تتجاوز أداء وظيفة من أجل التعيش وليس نتيجة لأي دافع أيديولوجي. وهي تحمل أيضا من النبل ما يجعلها ترفض الادعاء بعدم معرفة مصير السجناء الذين كان يتعين عليها اختيار البعض منهم (عشرة أشخاص) كل شهر لكي يذهبوا للإعدام.
هذه الصورة الإنسانية الجديدة تكتمل مع الجانب الآخر، الذي قد يكون الأهم هنا، وهو الرجل.. أي مايكل الذي يرتبط بها وتتغير حياته إلى الأبد نتيجة علاقته بها، ويظل يشعر بنوع من المسؤولية تجاهها حتى بعد أن يحكم عليها بالسجن المؤبد. هذه العلاقة الممتدة في ذاكرته إلى النهاية، قد تكون السبب في فشل زواجه، وفي شعوره المؤرق الدائم الممتد، خاصة بعد أن يتقاعس عن تقديم شهادته التي كان يمكن أن تنقذ المرأة من مصيرها التراجيدي.. حينما تضطر للاعتراف أمام المحكمة التي حاكمتها بعد سنوات طويلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، بمسؤوليتها كتابة أمر بسوق 300 امرأة يهودية إلى داخل كنيسة يتم تفجيرها وقتلهن جميعا، في حين أنها لم تكن في الحقيقة تستطيع أن تكتب أي أمر لأنها ببساطة شديدة "أمية" لا تكتب ولا تقرأ، وهي لم تشأ أن تفضح جهلها أمام المحكمة، إحساسا منها بالعار كونها أمية فأقرت بمسؤوليتها عن كتابة الأمر، وأدانت بالتالي نفسها.
ربما تكون هذه هي المرة الأولى في السينما التي يصبح مسموحا به في فيلم "غربي" من أفلام التيار العريض بأن يقع رجل ألماني في حب امرأة ألمانية ترتبط بالنازية بأي شكال من الأشكال، بل ولا تبدو نادمة على ما صار "فالموتى سيبقون أينما هم" على حد تعبيرها، ولم يعد ينفع التفكير فيما وقع. وعندما يسألها مايكل عند زيارته لها في السجن قبيل الإفراج عنها عما تعلمته من تجربة السجن، تجيب أنها تعلمت القراءة!
إذن هنا نموذج إنساني لامرأة جذابة، تحتضن الفتى وتقيم معه علاقة جسدية مليئة بالمشاعر، ثم تقرر الاختفاء من حياته عندما تدرك أن علاقتها به قد تدمر مستقبله، وتواصل حياتها بعد الحرب دون أي شعور بالندم لأن عملها مع النازيين كان بدافع العيش وليس إيمانا بالنازية شأنها شأن ملايين الألمان، ورغم تضاؤل مسؤوليتها إلا أنها تتحمل بشجاعة المسؤولية كاملة حتى بعد أن يصدر الحكم بسجنها مدى الحياة. ومفهومها للوظيفة والإخلاص لها مفهوم بسيط يتسق مع شخصية امرأة أمية، بل وعندما يسألها القاضي ما إذا كانت تعرف أن السجناء الذين كانت تختارهم سيمضون إلى الموت، ترد عليه بقولها: وماذا كنت ستفعل أنت!
وهي تنتحر قبيل الافراج عنها بعد أكثر من 20 عاما في السجن، بعد أن تدرك أنه لم يعد لديها ما تفعله في الخارج، وأن الهوة واسعة بينها وبين حبيبها السابق الذي ظلت بالنسبة إليه "ذكرى" ولم تعد حقيقة يمكنه التعامل معها.
كان من الطبيعي والفيلم على هذا النحو، أي كعمل سينمائي يتخلص تماما من "التركيبة" النمطية المألوفة لشخصية الألمانية أو الحارسة في معسكر اعتقال بسمعة "أوشفتز" الرهيبة، أن تنبري المنظمات اليهودية للهجوم المنسق عليه.
رون روزنباوم مؤلف كتاب "شرح هتلر"، الذي يحلل فيه كيف تمكن هتلر من كسب تأييد الشعب الألماني، قال إن الفيلم "غير دقيق" ووصفه بأنه "أسوأ فيلم ظهر عن الهولوكوست"، وطالب أعضاء مؤسسة الأوسكار بتجاهله. وأضاف قائلا: إن الفيلم "يطالبنا بالتعاطف مع امرأة مارست القتل الجماعي دون أن تبدي أي شعور بالندم". واتهم الفيلم بأنه يروج أن الألمان العاديين لم يعرفوا شيئا عن سياسة هتلر في الإبادة الجماعية إلى ما بعد الحرب.
وقد أيده في رأيه مارك فايتزمان، رئيس فرع نيويورك للمنظمة التي تعرف باسم "مركز سيمون فيزنثال" على اسم اليهودي النمساوي الذي تخصص في تعقب النازيين السابقين. وقال فايتزمان إن فيلم "القاريء" هو ضمن مجموعة من الأفلام التي أنتجت في هوليوود حديثا وتتسم بخطيئة "التشكيك فى الهولوكوست".
ودعا عدد من المنظمات اليهودية الأمريكية أنصارها إلى الاحتجاج على الفيلم لدى الأكاديمية الأمريكية التي تمنح جوائز الأوسكار، واستغل أنصار الأفلام الأخرى المنافسة الموقف وأرسلوا الآلاف من رسائل البريد الالكتروني إلى "الأكاديمية" طوال الأسبوعين اللذين سبقا إعلان الجوائز، يستنكرون فيها ترشيح الفيلم لجوائز الأوسكار، ويطالبون بإسقاطه. وهكذا خرج "القاريء" من مولد الأوسكار دون جوائز سوى جائزة الممثلة كيت ونسيلت التي سبق أن صرحت بقولها إنها رشحت كثيرا في الماضي دون أن تحصل على الجائزة أبدا ولذا فقد قامت هذه المرة ببطولة فيلم عن الهولوكوست لكي تزيد فرصتها في الحصول على الجائزة، وهو ما يعني أن أفلام الهولوكوست عادة "تكسب".. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة!
من جهة أخرى توقعت صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية أن تؤثر تلك الحملة على مستقبل مخرج الفيلم ستيفن دلدري (مخرج فيلم "بيلي إيليوت" الجميل)، وكاتب السيناريو الشهير ديفيد هير أحد كبار كتاب ومخرجي المسرح الانجليزي.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger