الجمعة، 27 مارس 2009

نساء وودي ألين حسب مزاجه الشخصي!

أعترف بداية أنني لم أعجب على الإطلاق بفيلم وودي ألين (73 سنة) الأخير الذي يحمل اسما سخيفا للغاية هو "فيكي كريستينا برشلونة" Vicky Cristina Barcelona.
وودي ألين الذي يخرج فيلما كل تسعة أشهر تقريبا منذ أكثر من ثلاثين عاما، لا يتمكن دائما من العثور على موضوع جيد يثير الخيال والفكر، فهو يبدو مدفوعا بنوع من الهاجس الشخصي العنيف لإخراج الأفلام، بل ويخرج أحيانا أكثر من فيلم في العام الواحد، كما لو كان الإخراج السينمائي يتيح له فرصة التنفيس عن مشاعره المكبوتة الكائنة تحت السطح، أو كنوع من "العلاج" النفسي.
في حالة فيلمنا هذا، الذي أعجب البعض من عشاق وودي ألين، يمكن القول إنه لم يوفق أساسا في بناء الموضوع في حين أن الفكرة نفسها طريفة بل ومبتكرة.
ما هي الفكرة؟ الحب والجنس.. أو بالأحرى، العلاقة بين الرجل والمرأة، ولكن من خلال المقارنة بين ثقافتين يراهما مختلفتين تماما: الثقافة الأمريكية (الأنجلو ساكسونية عموما) والثقافة الإسبانية- اللاتينية: الأولى يراها باردة لا تحوي الكثير من المشاعر، وعادة ما تنتهي العلاقات بين الجنسين فيها بشكل مفاجيء وغير مفهوم بعد أن تستنفذ أغراضها التي تتمثل في الانجذاب نحو الغرابة والطرافة والجموح. أما الثانية فهي مشتعلة بالمشاعر الجامحة التي قد تصل حد الق أو الانتحار ولا تنتهي العلاقات فيها حتى بعد الفراق الحتمي بل تمتد وقد تصل إلى ذروتها الدرامية العنيفة أيضا.
هنا نحن أمام ثلاث شخصيات رئيسية: فتاتان هما سكارليت جوهانسون وربيكا هول، ورجل هو الممثل الاسباني خافيير بارديم. الفتاتان الأمريكيتان تزوران مدينة برشلونة في رحلة مظهرها سياحي وجوهرها البحث عن التحقق أو التحرر والانطلاق بعيدا عن برودة الحياة وما يكتنفها من احباطات. أما الرجل فهو رسام إسباني بوهيمي يكاد يكون مدفوعا بقوة خفية إلى إغواء النساء، كل النساء. وهو يتمكن من إقامة علاقة مع كل من الفتاتين، ثم تظهر زوجته السابقة: بنيلوب كروز، التي نجت أخيرا من محاولة انتحار بسبب عدم استطاعتها البقاء بعيدة عنه، وتفرض نفسها عليه وعلى صديقته الجديدة. ويقبل هو بالعيش المشترك مع الاثنتين، بكل ما تكتنفه من توتر وهياج عصبي وتكاد تنتهي بجريمة قتل عندما تطلق طليقته النار عليه بسبب احساسها بالغيرة.
وليس من المفيد هنا الاستطراد في رواية أحداث الفيلم لأن الفكرة الرئيسية التي تسيطر على وودي ألين واضحة، وهي تتجسد كالعادة من خلال المقارنة بين الشخصيات، والحوارات الطويلة المجهدة التي تفتقد هنا بالمناسبة، إلى أي نوع من خفة الظل، بل إنني وجدت أيضا أن شخصية خافيير بارديم شخصية تدعو للنفور، ولم أفهم كيف تولع فتاتان على كل هذه الدرجة من الجمال بهذا الشخص الذي يمكنك أن تشم رائحته وأنت تتفرج على الفيلم!
لكن هكذا يشاء وودي ألين، بل إنه يجعل إحدى الفتاتين تتزوج من خطيبها الأمريكي في برشلونة ثم تخدعه وهي لاتزال في بداية شهر العسل، وتخونه مع باديم الذي تجد أن سحره لا يقاوم حقا!
أعترف أن نظرة وودي ألين للمرأة في هذا الفيلم أزعجتني كثيرا، فالنساء الثلاث يغرمن بالأخ بارديم بدرجة مثيرة للدهشة، وتبديان على استعداد للمضي قدما في العلاقة معه حتى النهاية الدموية، وإن كانت إحداهن تنهي علاقتها معه بدون مبرر، ربما بعد أن تكون قد شبعت من التجربة، أما الثانية التي يتخلص منها هو بعد الليلة الوحيدة التي يقضيها معها في البداية، فتعود إليه مشدودة بسحر التجربة مع الغريب، أو لخوض ما لا تستطيع تجربته مع زوجها!
وبصراحة شديدة، فقد رأيت أن نظرة وودي ألين للمرأة في فيلمه هذا نظرة تحمل الكثير من الازدراء وتجعلها تبدو مثل الحيوان الذي ينجذب إلى الجنس فقط من أجل الجنس بعيدا عن أي مشاعر، وعندما توجد هذه المشاعر (في حالة بنيلوب كروز) فإنها تصل إلى حافة الهاوية وتصبح شديدة التدمير.
والخلاصة أن وودي ألين في فيلمه هذا يستدعي من خياله الشخصي عن المرأة ويفصل منه حسب مزاجه الشخصي، ربما تعبيرا عن انتقامه الخاص من المرأة التي سببت له الكثير من المتاعب في حياته، وربما أيضا تعبيرا عن تجربته الشخصية مع عشرات النساء بعد أن أصبح "فنانا" مرموقا تسعى إليه الممثلات.. لكي يدفعهن إلى طريق الحصول على جوائز العم أوسكار.
وبصراحة أيضا لا أجد أن أداء بنيلوب كروز (وأنا من المعجبين بها تاريخيا) يستحق أصلا الترشح للأوسكار ناهيك عن حصولها على جائزة أحسن ممثلة، فهو أداء "نمطي" للمرأة العصبية يمتلئ بالمبالغات والصياح والاكثار من تحريك اليدين. ولكن الدنيا حظوظ.. ولاشك أن حظ وودي ألين مع النساء أكبر كثيرا من حظي!

الاثنين، 23 مارس 2009

من مخزن الذاكرة: فالنسيا وأيام فالنسيا



الصورة العليا في مهرجان فالنسيا السينمائي مع المخرجة المصرية الشهيرة عطيات الأبنودي وكانت في تلك السنة (أظن أنها في 1988) رئيسة لجنة التحكيم للأفلام التسجيلية والقصيرة، يليها طلعت شاهين وكان وقتذاك مقيما في اسبانيا يحضر لرسالة الدكتوراه التي نالها بعد سنوات في الأدب المقارن، وكان أيضا مراسلا لجريدة "الحياة" اللندنية.
أما الصورة الثانية (الوسطى) فهي من نفس المهرجان عام 1991 مع الناقد محمد رضا والممثل الفلسطيني سهيل حداد. وكان حداد قد لعب دورا في فيلم "نهائي كأس العالم" الاسرائيلي الشهير للمخرج عيران ريكليس (مخرج العروس السورية) الذي اعتبره الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي في تلك الفترة، نموذجا للعمل المشترك بين التقدميين الاسرائيليين والفلسطينيين، خصوصا وان بعض رجال الأعمال الفلسطينيين شاركوا في تمويله، حسب تصورات وأفكار حبيبي التي كنت أعترض عليها بالطبع. وقد كتبت عن الفيلم بعد ذلك في كتابي "سينما الهلاك" وأوضحت تفصيلا كيف أنه من نفس فصيلة الأفلام الاسرائيلية "الناقدة" لبعض الممارسات لكنها لا تنفي الولاء للصهيونية.
المهم أن مهرجان فالنسيا كان في تلك الفترة يجمع الكثير من النقاد والسينمائيين العرب بحكم اهتمامه الكبير بالسينما العربية التي كانت في أوجها في تلك الفترة. وأذكر أنه في عام واحد فقط هو 1988 فازت ثلاثة أفلام عربية بالجوائز الرئيسية الثلاث في المهرجان. وكان الصحفيون والنقاد والسينمائيون العرب يستقبلون هناك استقبالا حافلا وقت أن كانت إدارة المهرجان تمثل اليسار أو أتى بها الحزب الاشتراكي الذي كان يسيطر على البلدية وعلى الدولة كلها، أما بعد الانتخابات التي أتت بعد ذلك بالبلدية اليمينية فقد وقعت بالطبع تغييرات في إدارة المهرجان شملت مديره واتت تلك الإدارة بممثل محدود الموهبة وإن كان يملك الملامح الخارجية الجذابة فقد كان يشبه إلى حد ما، الممثل الفرنسي آلان ديلون. وربما من فالنسيا جاءت فكرة تعيين حسين فهمي مديرا لمهرجان القاهرة السينمائي فيما بعد.
وكان هناك في فالنسيا، شخص عربي يدعى زهير الدواليبي، يعمل مترجما في البلدية، أتوا به للمهرجان لكي يسهل ترجمة الرسائل والمكاتبات ويترجم لهم نبذة عن الأفلام العربية التي كانوا يعرضونها. وكان زهير هذا شابا متواضعا مهذبا جدا، يعرف جيدا حجم دوره ومكانه، ويتعامل مع الجميع باحترام وأدب جمين.
وبعد تغير الأحوال وجدت الإدارة اليمينية نفسها تعاني من فراغ في الكوادر القادرة على فهم السينما العربية والتعامل مع السينمائيين العرب بعد أن استغنوا عن خدمات هؤلاء الخبراء الذين كانوا أيضا يتميزون بمعرفتهم وإلمامهم الكبير بالسينما العربية والسينما العالمية وبأهمية التواصل الثقافي بين بلدان المتوسط. ولجأت الإدارة في سد الفراغ إلى زهير الدواليبي هذا، فقفز وأصبح مساعدا في إعداد البرنامج ثم المبرمج الرئيسي للأفلام العربية في المهرجان. وتصور الدواليبي انه أصبح بقدرة قادر، خبيرا في السينما، يناقش مستوى الأفلام ويعترض عليها انطلاقا من مفاهيم أشبه بمفاهيم بائعي "الحمص"(مع الاعتذار لهؤلاء الشرقاء بالطبع فليس مطلوبا منهم أن يفتوا في السينما) وكان الدولبيني بكل جرأة، يجادل مع النقاد الذين أفنوا سنوات عمرهم من أجل الإلمام بتاريخ ولغة السينما، وجابوا العالم لمشاهدة الأفلام والاطلاع على أحدث إنجازات السينما. فما المانع، ألا يكلف الأمر أكثر من مكالمة تليفونية مع مخرج ما لدعوته للمشاركة بفيلمه وإحضار النجمة فلانة والنجم فلان معه "من شان خاطر عيون السينما العربية ياعيوني.. وتكرم عيونك". والطريف أيضا أنه بدأ يشكو من عدم توجيه الدعوة إليه من المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي، بل وبدأ ويتهجم على المسؤولين عن تلك المهرجانات ويكاد يقول لنا بصراحة لا مواربة فيها: أنظروا كيف ندعو "نحن" كل هؤلاء السينمائيين من هذه الدولة أو تلك، في حين لا يدعونني هم إلى مهرجاناتهم!
وكان لسان حاله يقول إنه يتوقع الحصول على دعوات مقابل دعوة سينمائيين العرب إلى فالنسيا، وهو أولا منطق غير مقبول، ثانيا هذا هو بعينه ما أصفه دائما بأنه "التأثير العربي" على المهرجانات الأوروبية، فهذه المهرجانات تتبع عادة سياسة علمية موضوعية في العمل، لكن ما أن يصبح واحد من هؤلاء العرب (إياهم) مستشارا لديها أو حتى طرطورا، إلا وينتقل الفساد العربي بأكمله إلى تلك المهرجانات، فأشباه المتثاقفين من العرب هم أسوأ أنواع البشر في هذا المضمار. وكان شيئا مثيرا للنفور بل والاستفزاز حقا أن هذا الشخص كان يعرف جيدا أن من أوليات حرفته الجديدة المكتسبة أنه يتعين عليه أن يضمن حضور ممثلين عن السينمات العربية إلى مهرجان فالنسيا وإلا سقط ما يدعيه المهرجان بأنه لسينما بلدان البحر المتوسط، ولم يكن هناك بالتالي فضل لأحد على أحد، لكنه الفساد المتأصل الذي غذته وزرعته الأنظمة الفاسدة في العالم العربي.

وكانت تلك الكوكبة من الأسماء اللامعة مثل يوسف شاهين ويسرا وعمر الشريف وليلى علوي وأسامة محمد وعبد اللطيف عبد الحميد وأيمن زيدان ومحمد ملص ويسري نصر الله ومحمد خان ومحمد القليوبي ومحمود عبد العزيز وغيرهم، هي التي تخلق لمهرجان فالنسيا قيمة، وتثير حوله الاهتمام الإعلامي في العالم العربي، وكذلك الأمر بالنسبة للإعلاميين على قدم المساواة فمن دونهم لم يكن أحد ليعرف شيئا عن هذا المهرجان.
كان زهير هذا يعبر صراحة عن أفكاره في الجلسات التي كانت تجمعنا أحيانا، ثم بدأ يتحدث بغلظة عن النقاد والصحفيين العرب، وبلغ به الأمر أن قال ذات مرة أمامي أن المهرجان يتكلف الكثير من أجل دعوة هؤلاء وإذا لم يكتبوا مساحات كافية فلماذا ندعوهم، وأشار إلى ناقد بالإسم قائلا إنه لم يكتب سوى مقالتين في صحيفته وإن من الأوفر والأرخص للمهرجان في هذه الحالة تكليف مكتب دعاية لكتابة مواد من هذا النوع، وكان رد فعلي عنيفا إزاء هذا الكلام الفارغ الذي سمعته منه،وقلت له إن قيمة الناقد لا تقاس بعدد ما يكتبه من مقالات، وإن هذا الكلام لا يمكن أن يتردد في أي مهرجان محترم حقا، وإن الناقد ليس مندوب دعاية لأي مهرجان بل ومن حقه أيضا أن ينتقد دون أن يعاقب وإن مبدأ العقاب والثواب الذي يلوح به شيء متخلف، وإن المهرجانات السينمائية لا يمكنها أن تعيش بدون اعلام أو نقد ومن الممكن طبعا أن يستغنى أي مهرجان عن النقاد والصحفيين، ولكن عليه ألا يعتبر نفسه مهرجانا دوليا، ويمكنه الاكتفاء بدعوة حفنة من المطبلاتية من الصحف المحلية او من أصدقاء المدير ومسامري الغفير.
منذ تلك اللحظة أظن أن علاقتي بالمدعو زهير لم تعد أبدا إلى ما كانت عليه، (وأظن أيضا أنه لايزال أحد مسؤولي إعداد برنامج المهرجان، الذي لم تعد له أي قيمة ولا أي ذكر). وكان هو من النوع الذي يعرف حجمه كما أشرت فكان يؤثر أن ينزوي عندما يراني، وطبعا وصلت الأمور إلى أننا التقينا مرة أخيرة في مهرجان القاهرة عام 1995 وأبلغته أنني توقفت من العام الماضي عن الحضور إلى فالنسيا بعد أن فقد معناه، بل إنني رفضت الذهاب إلى عشاء دعانا إليه طلعت شاهين في منزله بالقاهرة (وكان قد انتقل للعيش هناك) لأنني وجدت بصراحة شديدة، أن دعوة شخص كهذا قد تفهم على أنها نوع من التزلف له، وكان هو قد شعر بالزهو وانتفخت أوداجه عندما وجه له طلعت الدعوة. وحتى هذه اللحظة لا يعرف طلعت شاهين السبب الحقيقي الذي دعاني للاعتذار عن عدم الذهاب بل ولا أظن أن العشاء تم في بيت طلعت نفسه الذي اعتذر فيما علمت أو أجل الدعوة أو شيئا من هذا القبيل بعد اعتذاري عن عدم الحضور (والغريب أن طلعت فسر لابن شقيقته الصحفي علي حامد كما علمت بعد سنوات طويلة، أنني تراجعت عن قبول العشاء في بيته بدافع الرغبة المبيتة في إفساد علاقاته الدولية) أو شيئا ساذجا بهذا المعنى!
ما أعرفه أن المهرجان بدأ منذ تلك السنة بالفعل في الهبوط والتضاؤل، وابتعد عنه السينمائيون الكبار، كما آثر النقاد الذين يحترمون أنفسهم الابتعاد عنه ومنهم محمد رضا وأحمد صالح ورءوف توفيق ويوسف شريف رزق الله وفوزي سليمان، وكانوا من المترددين عليه بانتظام.
كنا أنا ومحمد رضا في تلك الفترة قريبين إلى حد ما، فقد كنا نقيم في لندن، وكانت لندن رائعة في تلك الفترة، والحياة فيها أكثر جمالا أو ربما يبدو لنا الماضي دوما أجمل من الحاضر، وكنا نلتقى من حين إلى آخر، نتكلم، نتفق ونختلف ونتبادل الرأي ونضحك ونسخر من عشرات الأشياء، ولكننا لم نتشاجر أبدا. وكان ما يجمعنا أساسا هو حبنا الكبير للسينما وإيماننا بما نفعله، ولا أظن أنه جمعنا أي شيء آخر له علاقة من أي نوع بالاستفادة المادية مثلا، أو المصالح الانتهازية المحدودة، أو أننا حتى تصارعنا من أجل الفوز بعمل ما، فقد كنت أعتبر نفسي دائما أكبر من أي صراع من هذا النوع، أنا الذي ضحيت بالكثير جدا في حياتي الشخصية لكي تتاح لي فرصة دراسة ما أحب والاطلاع عليه عن كثب وممارسة ما أحب أيضا. أما هو فقد كان يصارع في غابة لندن التي كانت مليئة بالتقلبات الصحفية التي كانت دون شك، انعكاسا للصراعات والتقلبات السياسية، ولم يكن هو طرفا في تلك الصراعات، وربما كان بالتالي يدفع الثمن في النهاية، أو أن هذا كان انطباعي.

وكان انطباعي أيضا أن محمد رضا يقضي خارج لندن، بل خارج بريطانيا كلها، وقتا أطول مما يقضيه في لندن، فقد كان دائم الترحال، حتى أنني لا أتذكر أنني شاهدته ولا مرة واحدة يحضر مهرجان لندن السينمائي الذي كنت أداوم على حضوره ومازلت. ويبدو أن الصحف التي كان يكتب لها كانت تفضل أن يقوم هو بتغطية مهرجانات أخرى تقام وقت انعقاد مهرجان لندن. وكان من طبيعته أيضا أننا حين كنا نلتقي كان يقترح أن نذهب إلى السينما، وكان بالتالي يفضل مشاهدة الأفلام على تضييع الوقت في تبادل الحديث مثلا.

وظل كل منا يشق طريقه في هدوء، بعيدا عن صخب هواة الصخب. وكان كلانا يعرف جيدا أن لكل منا أسلوبه وطريقته ومنهجه الخاص المختلف في النظرة إلى السينما والتعامل معها وفهمها، وأن لا أحد يطرح نفسه "شيخا" أو "فقيها" على قبيلة النقاد أو يزعم لنفسه ما ليس منها بالضرورة، بل كنا ندرك أننا نجتهد في مجال صعب يمتليء بالمغامرين والمحتالين والمدعين وهم كثر ولا يمكننا أن نوقف تدفقهم. كنا نجتهد إذن، نصيب أحيانا، وقد نخطيء أحيانا أخرى، دون أن يؤدي هذا إلى الاندفاع للرد والتعليق والتعقيب وتصيد كلمة هنا أو كلمة هناك، بل على العكس، كنا نحترم ما يكتبه بعضنا البعض رغم خلافنا المعلن حول الأفكار بالطبع، وهو خلاف مشروع ويكتسي بالاحترام. وقد كتب محمد رضا مقالا امتدح فيه كتابي الأول "سينما الهلاك" عند صدوره في أوائل 1993. وقد وضعت مقتطفا منه على ظهر غلاف الكتاب عند صدور طبعته الثانية (2006). وكنت قد آثرت أصلا الابتعاد عن أي منافسة في مجال الصحف السعودية والخليجية والممولة خليجيا واخترت العمل في جريدة، فقيرة، لكنها منحتني الحرية، وكانت في تلك الفترة لاتزال تتمتع بمصداقيتها كجريدة "فلسطينية" أساسا، تصدر بمنهج ورؤية واضحتين. وعندما اختلفت تلك "الرؤية" والهدف، اختلفت مع تلك الجريدة وخرجت منها.
الجريدة المقصودة هي "القدس العربي"، التي كنت أعمل بها مسؤولا عن صفحة السينما والفنون اليومية، وكان زميلي وصديقي أمجد ناصر المحرر الأدبي للجريدة، وكانت بيننا علاقة ألفة وصداقة وتعاون، وكنت أتحرك وأسافر وأكتب كما يحلو لي، بحرية كاملة، أحيانا على الصفحة كاملة، مما جعلني أبقى في الجريدة منذ تأسيسها تقريبا عام 1989 إلى أن خرجت منها في منتصف 1994 بعد أن تغيرت الظروف والأحوال وسارت "دماء" كثيرة في الأنهار، والتحقت بالعمل بتجربة تليفزيون بي بي سي العربي الأولى التي لم تستمر طويلا على أي حال.
وقد فكرت مع أمجد في عام 1992 في استضافة ندوة بالجريدة حول "السينما العربية والدولة"، وقمت بإدارة الندوة، وكان من المدعوين الذين سُجلت مناقشاتهم ونُشرت على أكثر من حلقة على صفحة كاملة من الجريدة: الناقد محمد رضا، والسينمائي الفلسطيني أنيس البرغوثي، والروائي والكاتب الصحفي (في جريدة الحياة) جاد الحاج (وكانت له مساهمات بارزة في النقد السينمائي)، والسينمائي المعروف جان شمعون، وطبعا أمجد ناصر.
والصورة الثالثة (السفلية) مأخوذة من تلك الجلسة في مكاتب الجريدة ويظهر فيها إلى جواري أمجد ناصر يتكلم بانفعاله المعروف، ثم أنيس البرغوثي، وجانب من وجه وجسد محمد رضا.
الصور لا يمكن لأحد أن يلغيها أو يعيد النظر فيها، فهي جزء من الذاكرة شئنا أم أبينا.. وهي جزء من حياتنا وشاهد عليها. لقد سرت بالطبع "مياه" كثيرة في الأنهار منذ التقاط تلك الصور، وكبرنا وكبرت معنا همومنا ومشاكلنا وتضاءلت أحلامنا وودعنا الكثير من الأوهام. لم أعد أعرف أين أنيس البرغوثي الآن، وكان قد درس السينما في لندن، ربما يكون قد عاد إلى الضفة وعمل بالتليفزيون الفلسطيني. أعرف أن جاد الحاج عاد إلى بيروت ولايزال يعمل في جريدة "الحياة" بعد أن انتقلت إلى هناك قبل سنوات، وصار يتردد بين استراليا (التي يحمل جنسيتها) ولبنان. طبعا أمجد ناصر لايزال في "القدس العربي" كما هو، وقد التقيته مؤخرا عندما جاء إلى مكاتبنا في بي بي سي. ويواصل جان شمعون إنتاجه السينمائي المتميز مع زوجته ورفيقته السينمائية مي مصري.. أما محمد رضا فهو كعادته، بين الأفلام
!

الخميس، 19 مارس 2009

فيلم "القاريء" والمنظمات اليهودية والأوسكار

لو قدر لي ترشيح ممثلة لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة لكنت قد رشحت كيت بلانشيت عن دورها في فيلم "الحياة الغريبة لبنيامين بوتون". ولكن الغريب أنه رغم ترشيح الفيلم لثلاث عشرة جائزة إلا أن بلانشيت لم ترشح عن دورها فيه لجائزة أحسن ممثلة. ولاشك أن أداء بلانشيت يفوق كثيرا أداء براد بيت الذي رشح لأحسن ممثل عن دوره في الفيلم نفسه، وهو دور لاشك في صعوبته، غير أن التكيف مع الدور المكتوب ببراعة والذي ساهم الماكياج والمؤثرات الخاصة في إبرازه شيء، والإبداع في الدور وإكسابه أبعادا إضافية من عند الممثل شيء آخر، وهو ما أرى أن براد بيت لم يفعله بل قدمته كيت بلانشيت ببراعة.
ولاشك أيضا أن أداء بلانشيت في الفيلم المشار إليه، وهو بالمناسبة أحد الأفلام "الفلسفية" القليلة التي خرجت من هوليوود حديثا، أقوى وأبرز وأهم من أداء كيت ونسليت في فيلم "القاريء" دون أن يعني هذا بأي حال، التقليل من براعة ونسليت في تقمص الدور، وإضفاء مسحة من الحزن الغامض والألم النبيل عليه.
ولكن الغريب أن الفيلم نفسه، الذي رشح لخمس جوائز رئيسية هي أحسن فيلم وإخراج وسيناريو (معد عن أصل أدبي) وتصوير وتمثيل نسائي، لم يحصل سوى على الجائزة الأخيرة، رغم تفوقه في نواح أخرى كثيرة على فيلم "مليونير العشوائيات" الذي حصد ثمانية جوائز رئيسية وفرعية، كذلك الأمر بالنسبة لفيلم "بنيامين بوتون" الذي لاشك أنه يتفوق كثيرا في التصوير والسيناريو على فيلم "المليونير" المقرر له مسبقا الفوز بكل الجوائز الرئيسية لأنه النوع المطلوب تسويقه هذا الموسم.. بعيدا عن الفلسفة والتاريخ ومغزى الحياة ومعنى الموت.
أما فيلم "القاريء" فلاشك أنه يعد من الأفلام الأكثر جرأة التي خرجت من هوليوود عما يسمى بـ"الهولوكوست"، والمقصود أنه يتجاوز كل الأنماط والقوالب المألوفة الشائعة التي صورت الألمان، خصوصا ذوي الماضي المرتبط بالنازية منهم.
هنا نحن أمام سيدة جميلة، حزينة، فيها من الضعف الكثير رغم أنها تتظاهر بالتمسك بقيادة العلاقة العاطفية الملتهبة التي تقيمها مع شاب في عمر ابنها والسيطرة عليها وتوجيهها.
وهي تختلف أيضا عن مثيلاتها من الألمانيات اللاتي تعاون مع النظام النازي في كونها بسيطة، كانت تبحث عن عمل لكي تتعيش منه، وأن علاقتها بمعسكر الاعتقال الجماعي (أوشفتز) الذي عملت به لا تتجاوز أداء وظيفة من أجل التعيش وليس نتيجة لأي دافع أيديولوجي. وهي تحمل أيضا من النبل ما يجعلها ترفض الادعاء بعدم معرفة مصير السجناء الذين كان يتعين عليها اختيار البعض منهم (عشرة أشخاص) كل شهر لكي يذهبوا للإعدام.
هذه الصورة الإنسانية الجديدة تكتمل مع الجانب الآخر، الذي قد يكون الأهم هنا، وهو الرجل.. أي مايكل الذي يرتبط بها وتتغير حياته إلى الأبد نتيجة علاقته بها، ويظل يشعر بنوع من المسؤولية تجاهها حتى بعد أن يحكم عليها بالسجن المؤبد. هذه العلاقة الممتدة في ذاكرته إلى النهاية، قد تكون السبب في فشل زواجه، وفي شعوره المؤرق الدائم الممتد، خاصة بعد أن يتقاعس عن تقديم شهادته التي كان يمكن أن تنقذ المرأة من مصيرها التراجيدي.. حينما تضطر للاعتراف أمام المحكمة التي حاكمتها بعد سنوات طويلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، بمسؤوليتها كتابة أمر بسوق 300 امرأة يهودية إلى داخل كنيسة يتم تفجيرها وقتلهن جميعا، في حين أنها لم تكن في الحقيقة تستطيع أن تكتب أي أمر لأنها ببساطة شديدة "أمية" لا تكتب ولا تقرأ، وهي لم تشأ أن تفضح جهلها أمام المحكمة، إحساسا منها بالعار كونها أمية فأقرت بمسؤوليتها عن كتابة الأمر، وأدانت بالتالي نفسها.
ربما تكون هذه هي المرة الأولى في السينما التي يصبح مسموحا به في فيلم "غربي" من أفلام التيار العريض بأن يقع رجل ألماني في حب امرأة ألمانية ترتبط بالنازية بأي شكال من الأشكال، بل ولا تبدو نادمة على ما صار "فالموتى سيبقون أينما هم" على حد تعبيرها، ولم يعد ينفع التفكير فيما وقع. وعندما يسألها مايكل عند زيارته لها في السجن قبيل الإفراج عنها عما تعلمته من تجربة السجن، تجيب أنها تعلمت القراءة!
إذن هنا نموذج إنساني لامرأة جذابة، تحتضن الفتى وتقيم معه علاقة جسدية مليئة بالمشاعر، ثم تقرر الاختفاء من حياته عندما تدرك أن علاقتها به قد تدمر مستقبله، وتواصل حياتها بعد الحرب دون أي شعور بالندم لأن عملها مع النازيين كان بدافع العيش وليس إيمانا بالنازية شأنها شأن ملايين الألمان، ورغم تضاؤل مسؤوليتها إلا أنها تتحمل بشجاعة المسؤولية كاملة حتى بعد أن يصدر الحكم بسجنها مدى الحياة. ومفهومها للوظيفة والإخلاص لها مفهوم بسيط يتسق مع شخصية امرأة أمية، بل وعندما يسألها القاضي ما إذا كانت تعرف أن السجناء الذين كانت تختارهم سيمضون إلى الموت، ترد عليه بقولها: وماذا كنت ستفعل أنت!
وهي تنتحر قبيل الافراج عنها بعد أكثر من 20 عاما في السجن، بعد أن تدرك أنه لم يعد لديها ما تفعله في الخارج، وأن الهوة واسعة بينها وبين حبيبها السابق الذي ظلت بالنسبة إليه "ذكرى" ولم تعد حقيقة يمكنه التعامل معها.
كان من الطبيعي والفيلم على هذا النحو، أي كعمل سينمائي يتخلص تماما من "التركيبة" النمطية المألوفة لشخصية الألمانية أو الحارسة في معسكر اعتقال بسمعة "أوشفتز" الرهيبة، أن تنبري المنظمات اليهودية للهجوم المنسق عليه.
رون روزنباوم مؤلف كتاب "شرح هتلر"، الذي يحلل فيه كيف تمكن هتلر من كسب تأييد الشعب الألماني، قال إن الفيلم "غير دقيق" ووصفه بأنه "أسوأ فيلم ظهر عن الهولوكوست"، وطالب أعضاء مؤسسة الأوسكار بتجاهله. وأضاف قائلا: إن الفيلم "يطالبنا بالتعاطف مع امرأة مارست القتل الجماعي دون أن تبدي أي شعور بالندم". واتهم الفيلم بأنه يروج أن الألمان العاديين لم يعرفوا شيئا عن سياسة هتلر في الإبادة الجماعية إلى ما بعد الحرب.
وقد أيده في رأيه مارك فايتزمان، رئيس فرع نيويورك للمنظمة التي تعرف باسم "مركز سيمون فيزنثال" على اسم اليهودي النمساوي الذي تخصص في تعقب النازيين السابقين. وقال فايتزمان إن فيلم "القاريء" هو ضمن مجموعة من الأفلام التي أنتجت في هوليوود حديثا وتتسم بخطيئة "التشكيك فى الهولوكوست".
ودعا عدد من المنظمات اليهودية الأمريكية أنصارها إلى الاحتجاج على الفيلم لدى الأكاديمية الأمريكية التي تمنح جوائز الأوسكار، واستغل أنصار الأفلام الأخرى المنافسة الموقف وأرسلوا الآلاف من رسائل البريد الالكتروني إلى "الأكاديمية" طوال الأسبوعين اللذين سبقا إعلان الجوائز، يستنكرون فيها ترشيح الفيلم لجوائز الأوسكار، ويطالبون بإسقاطه. وهكذا خرج "القاريء" من مولد الأوسكار دون جوائز سوى جائزة الممثلة كيت ونسيلت التي سبق أن صرحت بقولها إنها رشحت كثيرا في الماضي دون أن تحصل على الجائزة أبدا ولذا فقد قامت هذه المرة ببطولة فيلم عن الهولوكوست لكي تزيد فرصتها في الحصول على الجائزة، وهو ما يعني أن أفلام الهولوكوست عادة "تكسب".. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة!
من جهة أخرى توقعت صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية أن تؤثر تلك الحملة على مستقبل مخرج الفيلم ستيفن دلدري (مخرج فيلم "بيلي إيليوت" الجميل)، وكاتب السيناريو الشهير ديفيد هير أحد كبار كتاب ومخرجي المسرح الانجليزي.

السبت، 14 مارس 2009

كلاسيكيات حديثة: "الأرض والحرية" رؤية معاصرة للحرب الأهلية الإسبانية



يعتبر فيلم "الأرض والحرية" Land and Freedom - 1995 أكبر المشاريع السينمائية للمخرج البريطاني الكبير كن لوتش، سواء من حيث الميزانية، أم الطموح الفني لتحقيق فيلم "أوروبي" متكامل يعيد فتح ملف أحد أهم الأحداث الأوروبية والعالمية في القرن العشرين، أي ملف الحرب الأهلية الإسبانية 36- 1939 من خلال منظور يسعى إلى اكتشاف حقيقة ما حدث في ضوء ما يزال يحدث اليوم في قلب القارة الأوروبية من تغليب المصلحة السياسية المحدودة على المبادئ، واعتماد النفاق وازدواجية المعايير منهاجا في التعامل مع القضايا الكبرى التي تمس مستقبل الإنسان، وعلى حساب الإنسان نفسه الذي يدفع الثمن في كل العصور.
وقد اقتضت العودة إلى أحداث الحرب الأهلية الإسبانية في فيلم "الأرض والحرية" من كن لوتش المخرج، وجيم ألن كاتب السيناريو، القيام بدراسة موسعة شملت الانتقال بين العديد من القرى الإسبانية التي شهدت أعنف المواجهات بين أنصار الفاشية، وأنصار الجمهورية من شتى الأطراف، كما اقتضت الاستعانة بعشرات الوثائق والشهادات الحية وقصاصات الصحف والمذكرات.
والنتيجة أننا أمام عمل كبير بكل المقاييس، عمل متماسك صارم يتشرب بالواقعية، ولا يخلو مع ذلك، من اللحظات الشاعرية الرقيقة والمواقف المرحة، شأن الأعمال الكبيرة في الفن عموما.
"الأرض والحرية" هو أكثر أفلام كن لوتش (مخرج "حياة عائلية" و"نظرات وابتسامات" و"المفكرة السرية" و"ريف راف" و"تمطر حجارة" و"الريح التي تهز الشعير") تعبيرا عن موقفه الأيديولوجي الرافض منذ ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، للاشتراكية الستالينية بطابعها الشمولي، فهو ثائر على النظام الرأسمالي في الغرب ولكن دون رفض العمل في أطره القائمة، وهو يعبر في كل أفلامه عن نقده الشديد لمقومات القمع الكامنة داخل هذا النظام.

خلفية الفيلم
تعود بدايات التفكير في مشروع فيلم "الأرض والحرية" إلى أوائل التسعينيات بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، فمنذ ذلك الوقت بدأ جيم الن وكن لوتش البحث المكثف في خلفيات الفترة، واطلعا على الكثير من الوثائق الشخصية ومنها مذكرات العامل البريطاني من ليفربول الذي يبدأ الفيلم بوفاته في الزمن المضارع، وتبدأ ابنته الشابة الاطلاع على المذكرات التي تركها، وعلى قصاصات الصحف التي ظل يحتفظ بها طوال تلك السنوات.
ومن وجهة نظر العامل الراحل يروي الفيلم قصة الحرب الأهلية الإسبانية من زاوية نقدية لها بالتأكيد اسقاطاتها المعاصرة.
يقول كن لوتش: لقد تم قمع الثورة الإسبانية في ذلك الوقت عبر السياسة الدولية للحزب الشيوعي الروسي بمساعدة الغرب الذي تضامن مع الفاشية في إسبانيا. ومن خلال فيلمه يكشف لوتش للمشاهدين في الحاضر أنه كان هناك طريق آخر بديل للاشتراكية يختلف عن طريق الشيوعية الروسية الستالينية في ذلك الوقت. ويصبح الفيلم في الكثير من أبعاده معبرا بدرجة كبيرة عن الواقع الأوروبي الحالي كونه يجيء بعد عودة النزاعات القومية المتعصبة إلى الظهور في زمن انتشار البطالة وانفجار الحروب في أوروبا الوسطى خاصة في البوسنه التي شهدت للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، ما عرف بعمليات "التطهير العرقي". العودة إلى الماضي
تدور أحداث الفيلم حول "ديفيد" الشاب العاطل عن العمل الذي ينضم للحزب الشيوعي البريطاني باعتباره البديل المتاح أمام الطبقة العاملة. ويذهب ديفيد من مدينته ليفربول، إلى برشلونة في بدايات الحرب الأهلية عام 1936 لكي يلتحق بحركة النضال ضد الفاشية تحت راية الحزب الشيوعي. ومن برشلونة إلى جبهة الأراجون حيث ينضم ديفيد إلى مجموعة تنتمي للميليشيات الجمهورية تضم 16 مناضلا من بلدان مختلفة.
ومن خلال تجربة الحرب ينمو وعي ديفيد، ويتفتح على حقيقة الموقف السوفيتي الرسمي من الحرب، وحقيقة التحالف غير المعلن، بين شيوعيي موسكو، وبين الأنظمة الرأسمالية الغربية بغرض احتواء الجمهوريين أولا، ثم التآمر لضربهم والإجهاز عليهم في النهاية لحساب الفاشية.
هنا تسقط كل المبادئ "الديمقراطية" المعلنة، وكل الشعارات "الاشتراكية" الأممية أمام تطور الحرب المناهضة للفاشية في اسبانيا والتي تتجه بالفعل في ذلك الوقت، إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، وسيطرة العمال على المصانع، وتسليح الجماهير من أجل حماية أنفسهم بعد رفض الحكومة الجمهورية تسليحهم خشية من تجذر الحركة وتجاوزها الإطار الستاليني من ناحية، وخوفا من رد فعل الأنظمة الغربية من ناحية اخرى.
لكن هذا التردد، أو بالأحرى التواطؤ غير المباشر الذي يصل، كما نرى في الفيلم، إلى حد خيانة الشيوعيين الرسميين للأجنحة الاشتراكية في حركة المقاومة ضد الفاشية، وهو الذي يؤدي بعد ذلك إلى النهاية التراجيدية الدامية التي تنتهي إليها تجربة الجمهورية الإسبانية.

البناء الدرامي
يتخذ الفيلم، دراميا، من شخصية "ديفيد" الشيوعي التقليدي، مدخلا لتناول الصراع السياسي تفصيلا بقدر كبير من الصدق في تصوير الأحداث وتحليل التناقضات بين الفصائل المختلفة داخل حركة المقاومة: الفوضويون والاشتراكيون الراديكاليون من ناحية، والشيوعيون التقليديون المحافظون من ناحية أخرى.
وخلال تجربته في النضال المشترك مع زملائه المتطوعين في فصيل الميليشيا، يرتبط ديفيد بالحب مع فتاة تدعى "روزانا" تصبح هي الطرف الآخر المحرك للأحداث، فهي شخصية مليئة بالرومانسية العاطفية والثورية معا. إنها تشهد كيف يموت حبيبها الأول غدرا، وتمر بفترة من الحزن والغضب، ثم ترتبط بصداقة مع ديفيد، تتحول فيما بعد إلى علاقة عاطفية مشوبة بالحذر في البداية بسبب موقف ديفيد السياسي، ثم تصبح الفتاة بمثابة المفجر للتساؤلات عنده حول حقيقة ما يجري في الواقع من حوله.
يترك ديفيد المجموعة التي ينتمي إليها تنظيميا، ويعود إلى برشلونة بناء على تعليمات من قيادة الحزب، ويقضي فترة هناك مع فصيل الحزب الشيوعي الذي يرضخ للاوامر الصادرة من موسكو فيحجم عن الاشتراك في النضال المسلح، وهو ما يجعل ديفيد يتمرد ويقرر العودة بقرار شخصي منه، على خط المواجهة مدفوعا بالحب وبالرغبة في المعرفة الحقيقية بعد ان يصبح على يقين من صدق ما حدثته عنه روزانا.
ويصور كن لوتش مناقشات طويلة عديدة تدور بين افراد الميليشيا، كما يصور ما ينشأ بينهم من خلافات، ومغامراتهم الطريفة، ومشاجراتهم ومشاركتهم بالسلاح في الدفاع عن المنطقة الريفية التي يسيطرون عليها، بل إنه يصور أيضا صعوبة التفاهم فيما بينهم من الناحية اللغوية بدافع اختلاف اللغات والثقافات التي ينتمون إليها، وينجح بإقناعنا تماما بواقعية الأحداث وفي إعادة تجسيد أجواء إسبانيا في الثلاثينيات.
في أحد المشاهد الكبيرة في الفيلم يصور لوتش هجوم الفاشيين على إحدى الكنائس واحتجازهم امرأة عجوز رهينة قبل أن يقضي عليهم رجال المقاومة. ويصور في مشهد آخر طويل ينضح بالمأساة قيام الشيوعيين الجمهوريين بنزع سلاح مجموعة الميليشيا.
ويعتبر الفيلم بأسره درسا في أهمية الوعي بالتاريخ، والاستفادة من الأخطاء التي ارتبكت وقابلية تكرارها في أماكن أخرى من عالمنا ولو بطرق وأشكال مختلفة.
يقول جيم ألن كاتب سيناريو الفيلم: "لو كان فرانكو قد هُزم ربما لم تكن الحرب العالمية الثانية قد قامت. لقد استخدم هتلر وموسوليني إسبانيا كحقل تجارب لقواتهم ومعداتهم العسكرية. وعندما طلبت الحكومة الجمهورية المنتخبة في إسبانيا ديمقراطيا من فرنسا وبريطانيا تزويدها بالسلاح للدفاع عن نفسها رفضت الدولتان طلبها، وفضلا عن ذلك فقد تركوها فريسة للذبح. كان السيناريو سيختلف لو كان فرانكو قد هُزم"!

أسلوب الإخراج
يستخدم كن لوتش في تصوير فيلمه طريقته المعهودة في التصوير حسب تسلسل السيناريو، مانحا بذلك الممثلين مساحة كبيرة للإجادة والتجويد. وهو ينجح كثيرا في السيطرة على مجموعة الممثلين الستة عشر الذين ينتمون إلى بلدان مختلفة، ويوحد بينهم في تجربة فريدة مثيرة، جعلت الكثيرين منهم يندمجون في أدوارهم إلى حد التقمص التام.
ويضفي لوتش على فيلمه اللون البني القاتم تعبيرا عن أجواء التراجيديا، كما يستخدم الموسيقى الملحمية التي كتبها جورج فينتون، للتعليق على الأحداث والمشاهد، والتمهيد لظهور الشخصيات. ويعتمد لوتش على المشهد كوحدة بناء في الفيلم وليس على اللقطات المتداعية المنفردة، ويصوغ فيلمه في بناء كلاسيكي يتقدم إلى الأمام دون انتقالات إلى الماضي باستثناء العودة الطويلة، بطول الفيلم كله، إلى الماضي، بعد البداية المعاصرة التي تدور في التسعينيات.
وقد استعان لوتش بعدد كبير من الخبراء والمتخصصين، سواء في تاريخ الفترة التاريخية، أو الخبراء في المنطقة التي أدار فيها التصوير في جبال قطالونيا أي في الاماكن الحقيقية التي شهدت الكثير من المعارك الدامية، كما استعان بعدد من خبراء المتفجرات واستخدام الأسلحة لتدريب الممثلين على أساليب استخدام الأسلحة العتيقة. ويستخدم لوتش حركة الكاميرا في فيلمه بحيث تتناسب مع الطابع التسجيلي للفيلم فهي تبدو كما لو كانت تتابع تحركات أبطاله "الحقيقيين" في تجربتهم المثيرة، وربما لا توجد سوى مشاهد قليلة في الفيلم صورت في الاستديو، وفيما عدا ذلك قدمت وزارة الثقافة الإسبانية وغيرها من المؤسسات المعنية بالتراث مساعدات هامة لإنجاز الفيلم.
وقد جاء الفيلم نموذجا للإنتاج السينمائي "الأوروبي" بمعنى الكلمة، فهو من الإنتاج المشترك بين شركات بريطانية واسبانية وفرنسية وايطالية والمانية، كما تلقى دعما مباشرا من مؤسسة دعم الإنتاج السينمائي التابعة للاتحاد الأوروبي.
ويعد الفيلم نموذجا بارزا للسينما الواقعية التي عرف بها لوتش في معظم أعماله، مع مسحة شاعرية رومانسية. ورغم قوته التعبيرية الهائلة، يعاني الفيلم من بعض نقاط الضعف مثل الإطالة واللقطات الزائدة في بعض المشاهد، والتكرار، والاعتماد معظم الوقت، على اللقطات العامة (البعيدة) على حساب المتوسطة والقريبة (كلوز اب) التي تقل كثيرا في الفيلم، وذلك رغبة منه في إضفاء الواقعية التسجيلية على الفيلم، وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الشخصيات والمكان، إضافة إلى النزعة "النوستالجية" الواضحة في الكثير من مشاهد الفيلم مما يجعله يخرج عن السياق أحيانا ويستطرد.
ولكن على الرغم من أي ملاحظات سلبية على الفيلم وهي قليلة، يظل "الأرض والحرية" أحد أهم أفلام مخرجه، وأحد أكثر الأفلام شجاعة في عصرنا، وتجربة جديرة بالمشاهدة والاهتمام كونها تدفع إلى إعمال العقل وإلى التأمل فيما يدور في عالمنا اليوم.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger