لو قدر لي ترشيح ممثلة لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة لكنت قد رشحت كيت بلانشيت عن دورها في فيلم "الحياة الغريبة لبنيامين بوتون". ولكن الغريب أنه رغم ترشيح الفيلم لثلاث عشرة جائزة إلا أن بلانشيت لم ترشح عن دورها فيه لجائزة أحسن ممثلة. ولاشك أن أداء بلانشيت يفوق كثيرا أداء براد بيت الذي رشح لأحسن ممثل عن دوره في الفيلم نفسه، وهو دور لاشك في صعوبته، غير أن التكيف مع الدور المكتوب ببراعة والذي ساهم الماكياج والمؤثرات الخاصة في إبرازه شيء، والإبداع في الدور وإكسابه أبعادا إضافية من عند الممثل شيء آخر، وهو ما أرى أن براد بيت لم يفعله بل قدمته كيت بلانشيت ببراعة.ولاشك أيضا أن أداء بلانشيت في الفيلم المشار إليه، وهو بالمناسبة أحد الأفلام "الفلسفية" القليلة التي خرجت من هوليوود حديثا، أقوى وأبرز وأهم من أداء كيت ونسليت في فيلم "القاريء" دون أن يعني هذا بأي حال، التقليل من براعة ونسليت في تقمص الدور، وإضفاء مسحة من الحزن الغامض والألم النبيل عليه.
ولكن الغريب أن الفيلم نفسه، الذي رشح لخمس جوائز رئيسية هي أحسن فيلم وإخراج وسيناريو (معد عن أصل أدبي) وتصوير وتمثيل نسائي، لم يحصل سوى على الجائزة الأخيرة، رغم تفوقه في نواح أخرى كثيرة على فيلم "مليونير العشوائيات" الذي حصد ثمانية جوائز رئيسية وفرعية، كذلك الأمر بالنسبة لفيلم "بنيامين بوتون" الذي لاشك أنه يتفوق كثيرا في التصوير والسيناريو على فيلم "المليونير" المقرر له مسبقا الفوز بكل الجوائز الرئيسية لأنه النوع المطلوب تسويقه هذا الموسم.. بعيدا عن الفلسفة والتاريخ ومغزى الحياة ومعنى الموت.
أما فيلم "القاريء" فلاشك أنه يعد من الأفلام الأكثر جرأة التي خرجت من هوليوود عما يسمى بـ"الهولوكوست"، والمقصود أنه يتجاوز كل الأنماط والقوالب المألوفة الشائعة التي صورت الألمان، خصوصا ذوي الماضي المرتبط بالنازية منهم.
هنا نحن أمام سيدة جميلة، حزينة، فيها من الضعف الكثير رغم أنها تتظاهر بالتمسك بقيادة العلاقة العاطفية الملتهبة التي تقيمها مع شاب في عمر ابنها والسيطرة عليها وتوجيهها.وهي تختلف أيضا عن مثيلاتها من الألمانيات اللاتي تعاون مع النظام النازي في كونها بسيطة، كانت تبحث عن عمل لكي تتعيش منه، وأن علاقتها بمعسكر الاعتقال الجماعي (أوشفتز) الذي عملت به لا تتجاوز أداء وظيفة من أجل التعيش وليس نتيجة لأي دافع أيديولوجي. وهي تحمل أيضا من النبل ما يجعلها ترفض الادعاء بعدم معرفة مصير السجناء الذين كان يتعين عليها اختيار البعض منهم (عشرة أشخاص) كل شهر لكي يذهبوا للإعدام.
هذه الصورة الإنسانية الجديدة تكتمل مع الجانب الآخر، الذي قد يكون الأهم هنا، وهو الرجل.. أي مايكل الذي يرتبط بها وتتغير حياته إلى الأبد نتيجة علاقته بها، ويظل يشعر بنوع من المسؤولية تجاهها حتى بعد أن يحكم عليها بالسجن المؤبد. هذه العلاقة الممتدة في ذاكرته إلى النهاية، قد تكون السبب في فشل زواجه، وفي شعوره المؤرق الدائم الممتد، خاصة بعد أن يتقاعس عن تقديم شهادته التي كان يمكن أن تنقذ المرأة من مصيرها التراجيدي.. حينما تضطر للاعتراف أمام المحكمة التي حاكمتها بعد سنوات طويلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، بمسؤوليتها كتابة أمر بسوق 300 امرأة يهودية إلى داخل كنيسة يتم تفجيرها وقتلهن جميعا، في حين أنها لم تكن في الحقيقة تستطيع أن تكتب أي أمر لأنها ببساطة شديدة "أمية" لا تكتب ولا تقرأ، وهي لم تشأ أن تفضح جهلها أمام المحكمة، إحساسا منها بالعار كونها أمية فأقرت بمسؤوليتها عن كتابة الأمر، وأدانت بالتالي نفسها.
ربما تكون هذه هي المرة الأولى في السينما التي يصبح مسموحا به في فيلم "غربي" من أفلام التيار العريض بأن يقع رجل ألماني في حب امرأة ألمانية ترتبط بالنازية بأي شكال من الأشكال، بل ولا تبدو نادمة على ما صار "فالموتى سيبقون أينما هم" على حد تعبيرها، ولم يعد ينفع التفكير فيما وقع. وعندما يسألها مايكل عند زيارته لها في السجن قبيل الإفراج عنها عما تعلمته من تجربة السجن، تجيب أنها تعلمت القراءة!
إذن هنا نموذج إنساني لامرأة جذابة، تحتضن الفتى وتقيم معه علاقة جسدية مليئة بالمشاعر، ثم تقرر الاختفاء من حياته عندما تدرك أن علاقتها به قد تدمر مستقبله، وتواصل حياتها بعد الحرب دون أي شعور بالندم لأن عملها مع النازيين كان بدافع العيش وليس إيمانا بالنازية شأنها شأن ملايين الألمان، ورغم تضاؤل مسؤوليتها إلا أنها تتحمل بشجاعة المسؤولية كاملة حتى بعد أن يصدر الحكم بسجنها مدى الحياة. ومفهومها للوظيفة والإخلاص لها مفهوم بسيط يتسق مع شخصية امرأة أمية، بل وعندما يسألها القاضي ما إذا كانت تعرف أن السجناء الذين كانت تختارهم سيمضون إلى الموت، ترد عليه بقولها: وماذا كنت ستفعل أنت!
وهي تنتحر قبيل الافراج عنها بعد أكثر من 20 عاما في السجن، بعد أن تدرك أنه لم يعد لديها ما تفعله في الخارج، وأن الهوة واسعة بينها وبين حبيبها السابق الذي ظلت بالنسبة إليه "ذكرى" ولم تعد حقيقة يمكنه التعامل معها.كان من الطبيعي والفيلم على هذا النحو، أي كعمل سينمائي يتخلص تماما من "التركيبة" النمطية المألوفة لشخصية الألمانية أو الحارسة في معسكر اعتقال بسمعة "أوشفتز" الرهيبة، أن تنبري المنظمات اليهودية للهجوم المنسق عليه.
رون روزنباوم مؤلف كتاب "شرح هتلر"، الذي يحلل فيه كيف تمكن هتلر من كسب تأييد الشعب الألماني، قال إن الفيلم "غير دقيق" ووصفه بأنه "أسوأ فيلم ظهر عن الهولوكوست"، وطالب أعضاء مؤسسة الأوسكار بتجاهله. وأضاف قائلا: إن الفيلم "يطالبنا بالتعاطف مع امرأة مارست القتل الجماعي دون أن تبدي أي شعور بالندم". واتهم الفيلم بأنه يروج أن الألمان العاديين لم يعرفوا شيئا عن سياسة هتلر في الإبادة الجماعية إلى ما بعد الحرب.
وقد أيده في رأيه مارك فايتزمان، رئيس فرع نيويورك للمنظمة التي تعرف باسم "مركز سيمون فيزنثال" على اسم اليهودي النمساوي الذي تخصص في تعقب النازيين السابقين. وقال فايتزمان إن فيلم "القاريء" هو ضمن مجموعة من الأفلام التي أنتجت في هوليوود حديثا وتتسم بخطيئة "التشكيك فى الهولوكوست".
ودعا عدد من المنظمات اليهودية الأمريكية أنصارها إلى الاحتجاج على الفيلم لدى الأكاديمية الأمريكية التي تمنح جوائز الأوسكار، واستغل أنصار الأفلام الأخرى المنافسة الموقف وأرسلوا الآلاف من رسائل البريد الالكتروني إلى "الأكاديمية" طوال الأسبوعين اللذين سبقا إعلان الجوائز، يستنكرون فيها ترشيح الفيلم لجوائز الأوسكار، ويطالبون بإسقاطه. وهكذا خرج "القاريء" من مولد الأوسكار دون جوائز سوى جائزة الممثلة كيت ونسيلت التي سبق أن صرحت بقولها إنها رشحت كثيرا في الماضي دون أن تحصل على الجائزة أبدا ولذا فقد قامت هذه المرة ببطولة فيلم عن الهولوكوست لكي تزيد فرصتها في الحصول على الجائزة، وهو ما يعني أن أفلام الهولوكوست عادة "تكسب".. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة!
من جهة أخرى توقعت صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية أن تؤثر تلك الحملة على مستقبل مخرج الفيلم ستيفن دلدري (مخرج فيلم "بيلي إيليوت" الجميل)، وكاتب السيناريو الشهير ديفيد هير أحد كبار كتاب ومخرجي المسرح الانجليزي.







