السبت، 14 مارس 2009

كلاسيكيات حديثة: "الأرض والحرية" رؤية معاصرة للحرب الأهلية الإسبانية



يعتبر فيلم "الأرض والحرية" Land and Freedom - 1995 أكبر المشاريع السينمائية للمخرج البريطاني الكبير كن لوتش، سواء من حيث الميزانية، أم الطموح الفني لتحقيق فيلم "أوروبي" متكامل يعيد فتح ملف أحد أهم الأحداث الأوروبية والعالمية في القرن العشرين، أي ملف الحرب الأهلية الإسبانية 36- 1939 من خلال منظور يسعى إلى اكتشاف حقيقة ما حدث في ضوء ما يزال يحدث اليوم في قلب القارة الأوروبية من تغليب المصلحة السياسية المحدودة على المبادئ، واعتماد النفاق وازدواجية المعايير منهاجا في التعامل مع القضايا الكبرى التي تمس مستقبل الإنسان، وعلى حساب الإنسان نفسه الذي يدفع الثمن في كل العصور.
وقد اقتضت العودة إلى أحداث الحرب الأهلية الإسبانية في فيلم "الأرض والحرية" من كن لوتش المخرج، وجيم ألن كاتب السيناريو، القيام بدراسة موسعة شملت الانتقال بين العديد من القرى الإسبانية التي شهدت أعنف المواجهات بين أنصار الفاشية، وأنصار الجمهورية من شتى الأطراف، كما اقتضت الاستعانة بعشرات الوثائق والشهادات الحية وقصاصات الصحف والمذكرات.
والنتيجة أننا أمام عمل كبير بكل المقاييس، عمل متماسك صارم يتشرب بالواقعية، ولا يخلو مع ذلك، من اللحظات الشاعرية الرقيقة والمواقف المرحة، شأن الأعمال الكبيرة في الفن عموما.
"الأرض والحرية" هو أكثر أفلام كن لوتش (مخرج "حياة عائلية" و"نظرات وابتسامات" و"المفكرة السرية" و"ريف راف" و"تمطر حجارة" و"الريح التي تهز الشعير") تعبيرا عن موقفه الأيديولوجي الرافض منذ ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، للاشتراكية الستالينية بطابعها الشمولي، فهو ثائر على النظام الرأسمالي في الغرب ولكن دون رفض العمل في أطره القائمة، وهو يعبر في كل أفلامه عن نقده الشديد لمقومات القمع الكامنة داخل هذا النظام.

خلفية الفيلم
تعود بدايات التفكير في مشروع فيلم "الأرض والحرية" إلى أوائل التسعينيات بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، فمنذ ذلك الوقت بدأ جيم الن وكن لوتش البحث المكثف في خلفيات الفترة، واطلعا على الكثير من الوثائق الشخصية ومنها مذكرات العامل البريطاني من ليفربول الذي يبدأ الفيلم بوفاته في الزمن المضارع، وتبدأ ابنته الشابة الاطلاع على المذكرات التي تركها، وعلى قصاصات الصحف التي ظل يحتفظ بها طوال تلك السنوات.
ومن وجهة نظر العامل الراحل يروي الفيلم قصة الحرب الأهلية الإسبانية من زاوية نقدية لها بالتأكيد اسقاطاتها المعاصرة.
يقول كن لوتش: لقد تم قمع الثورة الإسبانية في ذلك الوقت عبر السياسة الدولية للحزب الشيوعي الروسي بمساعدة الغرب الذي تضامن مع الفاشية في إسبانيا. ومن خلال فيلمه يكشف لوتش للمشاهدين في الحاضر أنه كان هناك طريق آخر بديل للاشتراكية يختلف عن طريق الشيوعية الروسية الستالينية في ذلك الوقت. ويصبح الفيلم في الكثير من أبعاده معبرا بدرجة كبيرة عن الواقع الأوروبي الحالي كونه يجيء بعد عودة النزاعات القومية المتعصبة إلى الظهور في زمن انتشار البطالة وانفجار الحروب في أوروبا الوسطى خاصة في البوسنه التي شهدت للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، ما عرف بعمليات "التطهير العرقي". العودة إلى الماضي
تدور أحداث الفيلم حول "ديفيد" الشاب العاطل عن العمل الذي ينضم للحزب الشيوعي البريطاني باعتباره البديل المتاح أمام الطبقة العاملة. ويذهب ديفيد من مدينته ليفربول، إلى برشلونة في بدايات الحرب الأهلية عام 1936 لكي يلتحق بحركة النضال ضد الفاشية تحت راية الحزب الشيوعي. ومن برشلونة إلى جبهة الأراجون حيث ينضم ديفيد إلى مجموعة تنتمي للميليشيات الجمهورية تضم 16 مناضلا من بلدان مختلفة.
ومن خلال تجربة الحرب ينمو وعي ديفيد، ويتفتح على حقيقة الموقف السوفيتي الرسمي من الحرب، وحقيقة التحالف غير المعلن، بين شيوعيي موسكو، وبين الأنظمة الرأسمالية الغربية بغرض احتواء الجمهوريين أولا، ثم التآمر لضربهم والإجهاز عليهم في النهاية لحساب الفاشية.
هنا تسقط كل المبادئ "الديمقراطية" المعلنة، وكل الشعارات "الاشتراكية" الأممية أمام تطور الحرب المناهضة للفاشية في اسبانيا والتي تتجه بالفعل في ذلك الوقت، إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، وسيطرة العمال على المصانع، وتسليح الجماهير من أجل حماية أنفسهم بعد رفض الحكومة الجمهورية تسليحهم خشية من تجذر الحركة وتجاوزها الإطار الستاليني من ناحية، وخوفا من رد فعل الأنظمة الغربية من ناحية اخرى.
لكن هذا التردد، أو بالأحرى التواطؤ غير المباشر الذي يصل، كما نرى في الفيلم، إلى حد خيانة الشيوعيين الرسميين للأجنحة الاشتراكية في حركة المقاومة ضد الفاشية، وهو الذي يؤدي بعد ذلك إلى النهاية التراجيدية الدامية التي تنتهي إليها تجربة الجمهورية الإسبانية.

البناء الدرامي
يتخذ الفيلم، دراميا، من شخصية "ديفيد" الشيوعي التقليدي، مدخلا لتناول الصراع السياسي تفصيلا بقدر كبير من الصدق في تصوير الأحداث وتحليل التناقضات بين الفصائل المختلفة داخل حركة المقاومة: الفوضويون والاشتراكيون الراديكاليون من ناحية، والشيوعيون التقليديون المحافظون من ناحية أخرى.
وخلال تجربته في النضال المشترك مع زملائه المتطوعين في فصيل الميليشيا، يرتبط ديفيد بالحب مع فتاة تدعى "روزانا" تصبح هي الطرف الآخر المحرك للأحداث، فهي شخصية مليئة بالرومانسية العاطفية والثورية معا. إنها تشهد كيف يموت حبيبها الأول غدرا، وتمر بفترة من الحزن والغضب، ثم ترتبط بصداقة مع ديفيد، تتحول فيما بعد إلى علاقة عاطفية مشوبة بالحذر في البداية بسبب موقف ديفيد السياسي، ثم تصبح الفتاة بمثابة المفجر للتساؤلات عنده حول حقيقة ما يجري في الواقع من حوله.
يترك ديفيد المجموعة التي ينتمي إليها تنظيميا، ويعود إلى برشلونة بناء على تعليمات من قيادة الحزب، ويقضي فترة هناك مع فصيل الحزب الشيوعي الذي يرضخ للاوامر الصادرة من موسكو فيحجم عن الاشتراك في النضال المسلح، وهو ما يجعل ديفيد يتمرد ويقرر العودة بقرار شخصي منه، على خط المواجهة مدفوعا بالحب وبالرغبة في المعرفة الحقيقية بعد ان يصبح على يقين من صدق ما حدثته عنه روزانا.
ويصور كن لوتش مناقشات طويلة عديدة تدور بين افراد الميليشيا، كما يصور ما ينشأ بينهم من خلافات، ومغامراتهم الطريفة، ومشاجراتهم ومشاركتهم بالسلاح في الدفاع عن المنطقة الريفية التي يسيطرون عليها، بل إنه يصور أيضا صعوبة التفاهم فيما بينهم من الناحية اللغوية بدافع اختلاف اللغات والثقافات التي ينتمون إليها، وينجح بإقناعنا تماما بواقعية الأحداث وفي إعادة تجسيد أجواء إسبانيا في الثلاثينيات.
في أحد المشاهد الكبيرة في الفيلم يصور لوتش هجوم الفاشيين على إحدى الكنائس واحتجازهم امرأة عجوز رهينة قبل أن يقضي عليهم رجال المقاومة. ويصور في مشهد آخر طويل ينضح بالمأساة قيام الشيوعيين الجمهوريين بنزع سلاح مجموعة الميليشيا.
ويعتبر الفيلم بأسره درسا في أهمية الوعي بالتاريخ، والاستفادة من الأخطاء التي ارتبكت وقابلية تكرارها في أماكن أخرى من عالمنا ولو بطرق وأشكال مختلفة.
يقول جيم ألن كاتب سيناريو الفيلم: "لو كان فرانكو قد هُزم ربما لم تكن الحرب العالمية الثانية قد قامت. لقد استخدم هتلر وموسوليني إسبانيا كحقل تجارب لقواتهم ومعداتهم العسكرية. وعندما طلبت الحكومة الجمهورية المنتخبة في إسبانيا ديمقراطيا من فرنسا وبريطانيا تزويدها بالسلاح للدفاع عن نفسها رفضت الدولتان طلبها، وفضلا عن ذلك فقد تركوها فريسة للذبح. كان السيناريو سيختلف لو كان فرانكو قد هُزم"!

أسلوب الإخراج
يستخدم كن لوتش في تصوير فيلمه طريقته المعهودة في التصوير حسب تسلسل السيناريو، مانحا بذلك الممثلين مساحة كبيرة للإجادة والتجويد. وهو ينجح كثيرا في السيطرة على مجموعة الممثلين الستة عشر الذين ينتمون إلى بلدان مختلفة، ويوحد بينهم في تجربة فريدة مثيرة، جعلت الكثيرين منهم يندمجون في أدوارهم إلى حد التقمص التام.
ويضفي لوتش على فيلمه اللون البني القاتم تعبيرا عن أجواء التراجيديا، كما يستخدم الموسيقى الملحمية التي كتبها جورج فينتون، للتعليق على الأحداث والمشاهد، والتمهيد لظهور الشخصيات. ويعتمد لوتش على المشهد كوحدة بناء في الفيلم وليس على اللقطات المتداعية المنفردة، ويصوغ فيلمه في بناء كلاسيكي يتقدم إلى الأمام دون انتقالات إلى الماضي باستثناء العودة الطويلة، بطول الفيلم كله، إلى الماضي، بعد البداية المعاصرة التي تدور في التسعينيات.
وقد استعان لوتش بعدد كبير من الخبراء والمتخصصين، سواء في تاريخ الفترة التاريخية، أو الخبراء في المنطقة التي أدار فيها التصوير في جبال قطالونيا أي في الاماكن الحقيقية التي شهدت الكثير من المعارك الدامية، كما استعان بعدد من خبراء المتفجرات واستخدام الأسلحة لتدريب الممثلين على أساليب استخدام الأسلحة العتيقة. ويستخدم لوتش حركة الكاميرا في فيلمه بحيث تتناسب مع الطابع التسجيلي للفيلم فهي تبدو كما لو كانت تتابع تحركات أبطاله "الحقيقيين" في تجربتهم المثيرة، وربما لا توجد سوى مشاهد قليلة في الفيلم صورت في الاستديو، وفيما عدا ذلك قدمت وزارة الثقافة الإسبانية وغيرها من المؤسسات المعنية بالتراث مساعدات هامة لإنجاز الفيلم.
وقد جاء الفيلم نموذجا للإنتاج السينمائي "الأوروبي" بمعنى الكلمة، فهو من الإنتاج المشترك بين شركات بريطانية واسبانية وفرنسية وايطالية والمانية، كما تلقى دعما مباشرا من مؤسسة دعم الإنتاج السينمائي التابعة للاتحاد الأوروبي.
ويعد الفيلم نموذجا بارزا للسينما الواقعية التي عرف بها لوتش في معظم أعماله، مع مسحة شاعرية رومانسية. ورغم قوته التعبيرية الهائلة، يعاني الفيلم من بعض نقاط الضعف مثل الإطالة واللقطات الزائدة في بعض المشاهد، والتكرار، والاعتماد معظم الوقت، على اللقطات العامة (البعيدة) على حساب المتوسطة والقريبة (كلوز اب) التي تقل كثيرا في الفيلم، وذلك رغبة منه في إضفاء الواقعية التسجيلية على الفيلم، وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الشخصيات والمكان، إضافة إلى النزعة "النوستالجية" الواضحة في الكثير من مشاهد الفيلم مما يجعله يخرج عن السياق أحيانا ويستطرد.
ولكن على الرغم من أي ملاحظات سلبية على الفيلم وهي قليلة، يظل "الأرض والحرية" أحد أهم أفلام مخرجه، وأحد أكثر الأفلام شجاعة في عصرنا، وتجربة جديرة بالمشاهدة والاهتمام كونها تدفع إلى إعمال العقل وإلى التأمل فيما يدور في عالمنا اليوم.

الاثنين، 9 مارس 2009

طباخ الريس.. ولتحيا الملوخية!

طبول كثيرة دقت لفيلم "طباخ الريس" للمخرج سعيد حامد، باعتباره فتحا جديدا في عالم الكوميديا أو تحديدا الكوميديا السياسية، ولم أكن لأعير الفيلم أدنى اهتمام إلى أن قرأت أن الفيلم لقي استجابة من جانب بعض "النقاد" أعضاء جمعية نقاد السينما المصريين، التي منحت جائزتها هذا العام، لحسن الحظ، لفيلم "جنينية الأسماك" للمخرج يسري نصر الله. وكان الفيلم من الأفلام التي نوقشت طويلا بين الأعضاء قبل التوصل إلى الفيلم الذي ينال الجائزة، بل إن أحدهم أعتبره أحد أهم عشرة أفلام!
وذكرت بعض التقارير أيضا أن البعض، من نقاد المعارضة الناصرية المتشنجة عادة فيما يتعلق بفهم الأفلام السينمائية، أيدوا الفيلم واعتبروه يقدم نموذجا لما يجب أن يتحلى به رئيس الجمهورية من صفات.
أما الفيلم نفسه فلم يكن هناك أفضل منه للدعاية لمؤسسة الرئاسة في مصر والعالم الثالث بشكل عام، فهو في الحقيقة، يقدم صورة مثالية أسطورية لرئيس الجمهورية: البريء، الذي لا يعرف شيئا عن معاناة الشعب بسبب وجود مجموعة من الفاسدين المحيطين به، بل إنه هو الذي يطلب ويصر على النزول إلى الشعب للاطلاع على ما يعانيه على أرض الواقع، ويقوم بكشف ألاعيب المسؤولين المنافقين.
والحقيقة أنه لم يوجد في مصر حتى الآن رئيس جمهورية (من محمد نجيب إلى حسني مبارك) ولا في غير مصر في المنطقة المتخلفة المحيطة، قام ولو مرة واحدة فقط، بلفت نظر أي منافق من المنافقين الكثيرين الذي يهتفون ويهللون في المؤتمرات الحزبية الرسمية (للحزب الحاكم) ويقف بعضهم أحيانا لكي يقرأ قصيدة مديح مباشر في شخص الرئيس، بل إن هناك من رفعوا لافتات تقول (إن الجنين في بطن أمه يبايع الرئيس) دون أن يتدخل الرئيس، أي رئيس، بل إنه ينتشي على مثل هذه النفاقات المفضوحة، وتنتفخ أوداجه ويريد أن يصدق ويصدقه الجميع، أن مثل هذه المبادرات الحماسية الفاسدة جاءت طبيعية وبدافع من الحب.. أي حب يارجل!
فيلم "طباخ الريس" نموذج لسينما الأنماط النمط الكاريكاتوري التي تقوم بتأليه الرئيس، والسخرية من الشعب في حين يدعي صناع الفيلم الحديث باسم بسطاء الشعب.. فمشكلة الناس كما يعرضها الفيلم، لا تخرج عن نطاق الأكل والجنس: بطل الفيلم الطباخ يغوي كل المحيطين به بل ويرشي المسؤولين في المصالح المختلفة بأطباق الطعام الشهية، ويعاني في الوقت نفس من عدم القدرة على تحقيق الارتواء الجنسي مع زوجته المثيرة جدا داليا مصطفى!
ولا يوجد مشهد واحد في الفيلم، من جهة لغة السينما، مبتكر أو طريف بحق في بنائه وحركته، بل يبدو وكأن الفيلم يتوالد في مشاهده من داخل نفس الأنماط السابقة المتكررة في هذا النوع من الكوميديا المتدنية (التهريج) في السينما المصرية، وإن تلحف برداء النقد السياسي.
لذلك يؤكد بطل الفيلم الممثل طلعت زكريا أن الرقابة لم تعترض على أي حرف في السيناريو، بل أبدت سعادتها بالفيلم قبل وبعد تصويره.
والمؤكد أن الفيلم عرض على الرئيس نفسه وأنه أبدى سعادته به.. وربما يكون قد امر أيضا باستكمال الموضوع من خلال أفلام أخرى مثل"عودة طباخ الريس" و"انتقام طباخ الريس" و"طباخ الريس يقود الحركة الديمقراطية من أجل التغيير".. تغيير طبق البامية إلى طبق القرع الاسطمبولي طبعا.. ولتحيا الملوخية!

ملصقات الفيلم الكلاسيكي" المدمرة بوتيمكين"



سبق أن نشرت ملصقا أصليا من فيلم "المدمرة بوتيمكين" (1925) للمخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين وكان من تصميم الشقيقين جيورجي وفلاديمير شتاينبرج، وهما من المتخصصين في تصميم الملصقات في بدايات السينما في روسيا. وقد انضما إلى جماعة من الفنانين التجريبيين الذين كانوا يجربون في إطار المدرسة الشكلانية الروسية التي كانت تعتمد على التركيب والتجميع (ينتمي إليها بلا شك رائد التجريب في السينما العالمية كوليشوف).
واليوم أنشر ثلاثة ملصقات أخرى من الفيلم نفسه الذي اصبح إحدى الكلاسيكيات الكبيرة في تاريخ السينما.
الملصق العلوي مجهول وقد أصبح من الممكن نشره بعد أن انتهى الحظر على النشر بعد مرور سبعين عاما على ظهوره (عام 1927) وكانت ملكيته لاستديو جوسكينو في موسكو.
والملصق الثاني (في الوسط) هو أيضا من الملصقات الأصلية للفيلم الكلاسيكي وهو مجهول النسب أيضا مثل سابقه وملك لاستديو جوسكينو الذي أنتج الفيلم.
والملصق الثالث (السفلي) من تصميم الفنان الكسندر رودشنكو عام 1926. وقد توفي الفنان في أواخر 1941.
من كتاب "فنون السينما" الذي ترجمه الناقد والمخرج عبد القادر التلمساني أقتبس السطور التالية التي وردت عن فيلم "المدمرة بوتيمكين" (يترجمه المدرعة) في الجزء المعنون "عشرة افلام هزت العالم":
"في عام 1958 في بروكسل - أعلنت لجنة تحكيم من مؤرخي السينما في 62 دولة أن فيلم «المدرعة بوتيمكين» هو «أجمل فيلم في العالم». وقبل ذلك بعشر سنوات - عام 1948- اتفقت آراء النقاد العالميين كذلك على وضع فيلم «المدرعة بوتيمكين» على رأس قائمة أحسن عشرة أفلام أنتجتها السينما في العالم حتى ذلك التاريخ. ولا جدال في أن هذا الفيلم العبقري سيظل إلى آماد بعيدة علامة كبرى من علامات الخلق السينمائي الأصيل. ويعتبر فيلم «المدرعة بوتيمكين» الرسالة الأولى للسينما السوفييتية إلى العالم كله, يؤكد خصوبة وروعة الثورة الاشتراكية الأولى حينما تتفجر هذه الثورة في قلب فنان شاب.
أنتج الفيلم عام 1925، في السنة الأولى لتنظيم السينما في الاتحاد السوفييتي على الطريقة الاشتراكية. والفيلم يدور حول حادث واحد وقع سنة 1905 وهو تمرد بحارة «المدرعة بوتيمكين» واشتعال الثورة في الميناء - وقد جاء هذا الحادث في صفحة واحدة من نص السيناريو المكتوب. وتم تصوير الفيلم على هذه الصورة في ستة أسابيع - من نهاية سبتمبر حتى بداية نوفمبر - وقد ارتجل أيزيشتاين أغلب أجزائه أثناء التصوير .. وانتهى مونتاج الفيلم في صباح يوم عرضه في 21 ديسمبر 1925, في ليلة من ليالي مسرح البولشوي بموسكو. واستقبله الجمهور بحماس بالغ. لم يلبث أن امتد إلى جمهور برلين ولندن وباريس وكل العواصم حتى القاهرة. حيث عرض (بعد إنتاجه بنحو أربعين سنة). وقد كتب أيزينشتاين عام 1939 دراسة قيمة عن الوحدة العضوية والانفعال النفسي في فيلم «المدرعة بوتيمكين» قال عنها:
- يبدو فيلم «المدرعة بوتيمكين» من الظاهر على أنه تاريخ لأحداث . ولكنه يترك تأثيره في المتفرج كدراما. والسر في هذا التأثير يكمن في الخطة التي بنيناها متمشية مع قوانين التكوين الصارم للمأساة. إن العمل الفني لا يصبح عملا عضويا , ولا يصل إلى قمة الانفعال الحقيقي إلا عندما يصبح موضوع ومضمون وفكرة العمل كلا عضويا مستمرا مع أفكار وأحاسيس المؤلف, بل ومع أنفاسه نفسها. ويعود النجاح العالمي الكبير الذي لقيه هذا الفيلم إلى شكله الفني السينمائي الخالص. وإلى مستوى عال من الإتفاق لا مثيل لهما. كما يعود على الخصوص إلى الحرارة الإنسانية".

الجمعة، 6 مارس 2009

فيلم "جران تورينو": تأملات في الحياة والموت

"جران تورينو" Gran Torino هو الفيلم الثاني الذي يخرجه كلينت إيستوود خلال عام واحد بعد "التبديل" (أو المبادلة أو الاستبدال). موضوع يليق بكلينت إيستوود الذي تقدم بع العمر الآن (78 عاما) كما يليق بممثل ومخرج أصبح يميل أكثر إلى التأمل في معنى الحياة والموت بينما يتأهب لاستقبال الموت.
من السطح يبدو هذا الفيلم كما لو كان عملا يدور أساسا حول العنصرية، اختلاف الأجناس والاحتكاك الذي ينشأ بالضرورة خاصة عندما يكون المحور رجل عجوز هو وولتر كوالاسكي (ايستوود).. كان مقاتلا سابقا في الحرب الكورية في أوائل الخمسنيات، وعاملا في مصنع للسيارات يظل مرتبطا بذكراه من خلال الشيء الوحيد العزيز على قلبه وهو سيارة الجراند تورينو من عام 1972.
هذا الرجل يصبح وحيدا تماما في الحياة بعد وفاة زوجته (التي تقام جنازتها في المشهد الاول من الفيلم)، فهو منفصم الصلة بولديه وأحفاده الذين لا هم لهم إلا ترقب أن يرثوا ما لديه بعد وفاته، بل إن حفيدته التي لا تتورع عن حضور الجنازة بلباس يكشف عن بطنها، لا تتورع أيضا عن سؤاله مباشرة عن مصير سيارته العزيزة بعد موته بل وتطالبه بأن يهبها لها، ويسعى ولده وزوجته إلى إيداعه بيتا للعجائز المسنين للاستيلاء على منزله ومتعلقاته.
لكن وولتر ليس ضحية عاجزة بل رجل يمتليء بمشاعر عنيفة في داخله، لا يخفي عنصريته تجاه جيرانه من الصينيين الذين وفدوا إلى تلك البلدة الأمريكية الهادئة، وتنبع نظرته الرافضة لهم من ماضيه حيث قتل الكثير من الكوريين في الحرب ولايزال يحتفظ بمسدس ضخم وبندقية. ولا يكف وولتر عن تعليقاته العنصرية. وهو يرفض جيرانه ويرفض ولديه وأحفاده كما يرفض الكنيسة ومحاولات القس الكاثوليكي دفعه للعودة للكنيسة والاعتراف، بل وعندما يحدثه القس الشاب عن الحياة والموت يتساءل وولتر بحدة: ماذا تعرف أنت عن الحياة والموت. ويروي له جانبا مما خبره خلال الحرب من مآس مازال تأثيرها قائما عليه. وعندما يسأله القس: وماذا عن الحياة؟ لا يعرف كيف يجيب بل إنه يوافق القس على أنه عاش حياة فارغة
فيلم "جران تورينو" إذن يدور في هذا الإطار، في إطار بحث رجل موشك على الموت، خاصة أنه مريض، غالبا بسرطان الرئة، عن التصالح مع نفسه، بل وبحثه عن "الخلاص" ولكن بمفهوم دنيوي مباشر.
إنه كرجل يؤمن بضرورة إحقاق الحق ولو لحد التزمت، يتحول في موقفه من معاداة جيرانه الصينيين إلى مدافع عن ولدهم الشاب الساذج الذي تسعى عصابة من الصينيين الأشقياء لضمه إليها بشتى الطرق، ويعتدون على شقيقته وينتهي الأمر أيضا إلى اغتصابها.
الفيلم يدور حول ثنائيات كامنة مثل الأنا والآخر، الحياة والموت، الحقد والتسامح، الآباء والأبناء، النظرة إلى النفس والنظرة إلى الآخر، هل التطهر بالاعتراف أم بتقديم عمل صالح.. وغير ذلك.
يتصدى وولتر لعصابة الأشقياء كرجل يؤمن بالحق والعدل، بالعنف تارة، وبالتهديد تارة أخرى، ويتبنى الشاب الصيني وشقيقته في نوع من "التعويض" عن افتقاده العلاقة مع ولديه وأحفاده، ويكتشف أن "الآخر".. الجار.. المختلف، لديه ليس أقل أو أدنى بل لديه أيضا حكمته الخاصة وثقافته التي تمتليء بالحب والاحترام.
ما ينتهي إليه الفيلم يكشف عن جوهره: هذا الإنسان الذي يكتشف نفسه من خلال علاقته مع الآخر، ويعرف أخيرا معنى لحياته عندما يقرر أن يهب كل ما يملك للآخرين بل ويهب أيضا حياته عندما يتصدى وحيدا لعصابة الأشقياء، دون سلاح لكي يورطهم في قتله بالرصاص وبالتالي يتم تدمير حياتهم بطريقة قانونية تماما، فهو يفقد حياته، ويقضون هم حياتهم خلف القضبان، ويفوز الجار الصيني الشاب بسيارة الجراند تورينو بعد أن تعلم من وولتر كيف يصبح رجلا، يواجه الحياة.
يختلف الفيلم كثيرا عن أفلام إيستوود الأخرى رغم ما أشار إليه البعض من علاقته بأفلام "هاري القذر" أو بالأحرى بشخصية هاري كالاهان الذي يقوم بتنفيذ القانون بيديه، أي بتصفية خصومه الذين يعرف أنهم مدانون بنفسه. ورغم خشونة الشخصية الرئيسية من الظاهر، إلا أنه يعد هنا تجسيدا لأبناء جيله ولمفاهيم عصره، وأسيرا لتجربته الشخصية القاسية في الحرب أيضا. لكنه أيضا يفتح عينيه على حقيقة أنه لم يعش الحياة كما ينبغي ولم يفهمها على حقيقتها، ويتجه إلى نوع من "التكفير" بالتضحية بالنفس، ليس بالضرورة من أجل الآخر، بل من أجل تقديم "قيمة" عظمى في الحياة قبل أن يودعها.
هذا فيلم بسيط، بديع، رقيق، حافل بالإشارات المرحة رغم قتامة الشخصية الرئيسية وتشددها. ولعل أداء ايستوود هنا يضفي عليها أيضا رونقا خاصا، هذا الأداء السهل البسيط المعبر الواثق. إن إيستوود هو الذي يحمل الفيلم كله على كتفيه، ويبدو كالأستاذ الذي يعلم الممثلين الآخرين في الفيلم كيف يتعاملون معه دون وجل.
كلينت إيستوود أعلن أن هذا الفيلم سيكون الأخير له كممثل. وأقول إنه ربما يصبح أيضا الفيلم الأخير له كمخرج.. ففيه نوع من إعادة اكتشاف الذات دون أن يكون بالضرورة يدور حول "الرؤية الذاتية".
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger